(١) هل يمكن نفي الصلاح والأصلح؟
يمكن نفي الصلاح والأصلح عن طريق نفي الواجبات؛ فالله لا
يجب عليه شيء من صلاح أو أصلح. هو عدل في أفعاله، بمعنى
أنه متصرف في ملكه، يفعل ما يشاء، لا حاكم عليه، وإلا
استوجب الذم بتركه، وإن تركه يكون ناقص الفضل وهو محال.
٢ وهذا في الحقيقة إرجاع لأصل العدل إلى أصل
التوحيد من جديد بعد أن انبثق منه، وعود للإنسان المتعيَّن
داخل الإنسان الكامل، وبالتالي قضاء على الموضوع من
الأساس؛ فالإنسان المتعين خالق أفعاله، وقادر على العقل
والتمييز، لا يملكه أحد، ولا يملي أحد عليه إرادته. وقد
بلغت ذروة هذا الرجوع إلى بطن التوحيد في إلغاء الخلق
والتكليف، وهو أول الواجبات العقلية في القصة الرمزية
للإخوة الثلاثة. توفى الأوَّل صبيًّا، وبالتالي فلا يُثاب
ولا يُعاقَب، في حين بلغ الثاني والثالث، فآمن الثاني ودخل
الجنة، وكفر الثالث ودخل النار. فإذا سأل الأوَّل لماذا لم
يعش حتى يؤمن ويدخل الجنة في أعلى عليين؟ كان الرد أن
الأصلح له أن يموت صغيرًا فلو عاش لكان قد كفر فعذب في
النار! حينئذٍ يهب الثالث محتجًّا ومتسائلًا ولماذا لم يمت
هو منذ الصغر؟ فقد كان الأصلح له أن يدخل الجنة ولو في
رتبةٍ دنيا أفضل من أن يعذب في النار؟
٣ فهذا عود من جديد إلى أصل التوحيد في سبق
العلم الإلهي لما يحدث وتوجيهه ضد الحرية للقضاء عليها.
ولكن إذا كان العقل والحرية هما السبب في فعل الأصلح،
فالأصلح نتيجةٌ طبيعية لهما وليس ضدهما. تقوم هذه القضية
إذن على خلط بين مستوى الصلاح ومستوى الحرية. فالإنسان
يعمل في إطار العمر والقدرات الفعلية والعقلية. لا يتخلى
عن حريته إذا ما كانت نتائج أفعاله ليست في صالحه. الحرية
هي الأساس في صالح الإنسان. والقصة استدراك ورجوع إلى
الوراء وافتراضٌ خالص يقوم على «لو»، أي إنها حجة افتراضية
وليست واقعية. بالإضافة إلى أن «لو» قضاء على الفعل إلى
اللافعل وإمساك عن التقدم إلى التأخير، وتفضيل لعدم الخلق
والتكليف على الخلق والتكليف. وعلى هذا النحو قد يتعدى نفي
الأصلح من الأفعال إلى الخلق كله، وبالتالي يكون الأصلح
للعاصي ألا يخلق، ورفض الخلق هو كفر بنعمة الحياة أوَّلًا
وتخلٍّ عن الرسالة ونكوص عن المسئولية قبل أن يكون عصيانًا
في فعلٍ معين.
٤ وقد يتعدى أيضًا إلى رفض التكليف وأن يكون
الإنسان مخلوقًا جمادًا أو حيوانًا؛ وبالتالي ينكر الإنسان
نعمة العقل وفضيلة الجهاد. وإنكار حرية الإنسان هو إنكارها
للبشر. وأن الشك في صحة التكليف لعلم الله المسبق بكفر
الكافر، وبالتالي لا يكون تكليفه صلاحًا له وإن كان أصلح
للمؤمن، هو عود لضرب الله بالإنسان، دون استطاعة الإنسان
أن يفلت منه، في حين أن أصل العدل هو إثبات للإنسان الحر
العاقل من داخل الإنسان الكامل، القادر والعالم على
الإطلاق؛ ومِنْ ثَمَّ كان الأصلح للإنسان إثبات الحرية
وكونه مسئولًا عن أفعاله وأن ما يأتيه بحريته واختياره
وليس بفعلٍ آخر أصلح له. وبالتالي تجب ثورة الفقراء
والمعذبين على أوضاعهم التي ليس فيها صلاحهم لأن الأصلح
لهم ممارسة الحرية والغضب وتغيير الوضع القائم إلى وضعٍ
أفضل. الصلاح والأصلح إذن حقيقة إنسانية تحدث في الموقف
الإنساني وليس افتراضًا خياليًّا يبدأ بأداة الشرط «لو»
التي تمحو الخلق والحياة والعقل والتكليف والفعل. وإن جعل
حقائق الحياة افتراضًا قضاء على البواعث وتسكين للأفعال.
والأصلح ليس للفرد بل للجماعة، وإلا فلا معنى للتضحية
والشهادة وإنكار الذات. وهو لا يتغير من فرد إلى فرد، ومن
وقت إلى وقت بل الصلاح حقيقةٌ موضوعية، هو الصالح العام.
قد يحتوي الصالح العام على خسارةٍ فردية ولكنها غير دالة
بالنسبة إلى الصالح العام. ليس الصالح هو الأنفع بالنسبة
إلى الشخص بل إلى النوع، والإنسان قادر على التمييز بين
مستويات الصلاح والأصلح.
٥ الأصلح هو الأنفع بوجهٍ عام، إذ يوصف الفعل
بأنه نفع وسرور وصلاح وأصلح وليس مجرد لذة وألم أو نفع أو
ضرر. هناك مراتب للصلاح والأصلح من حيث المستوى (للفرد أو
للجماعة)، والشدة (اللذة والألم، النفع والضرر، الإصلاح
والإفساد)، والزمن (الفناء والبقاء). ومن ناحيةٍ أخرى قد
يقال إن التقيد بالأصلح يجعل أفعال الله متناهية في حين أن
أفعاله لا متناهية؛ ومِنْ ثَمَّ يؤدي القول بالصلاح
والأصلح إلى الجبر في أفعال الله. وإذا كان الله يفعل
تفضُّلًا وكرمًا ولطفًا، فاللطف بهذا المعنى نفي للصلاح والأصلح.
٦ والحقيقة أن الأصلح هنا بالنسبة إلى الإنسان
وليس بالنسبة إلى الله. وهو صلاحٌ محدود في إطار الموقف
الإنساني ولا يقلل من لا تناهي الصلاح بالنسبة إلى الله
وقدرته عليه. ولو كان الصلاح رفع الموانع وإزاحة العلل
لكان في ذلك قضاء على الحرية الإنسانية من جديد، إعطاء
الصلاح بيد وسلب الحرية باليد الأخرى، خطوة إلى الأمام ثم
خطوة إلى الخلف. وإذا كان الأصلح للناس عدم الحياة
والابتداء من الآخرة مباشرة فإن ذلك إلغاء للدنيا ورفض
للرسالة وترك لنعم الحياة والتحقق والعمل والإبداع
والاستشهاد.
إن نفي الصلاح والأصلح هو هدم للعقل والقدرة على التمييز
وإنكار لصفات الأشياء الموضوعية، وهو إنكار أيضًا للمصلحة
وهي أساس الشرع، وهدم لمصالح الفرد والجماعة وما به حياة
الأمة وقوام الدولة. وبالتالي يترك الفرد والأمة بلا عقلٍ
مستقلٍّ قادر على التمييز وبلا إدراك للصالح العام،
فيستسلم الجميع لإرادة الحاكم الفرد المطلق الذي يقرر بمحض
إرادته ما هو الصلاح وهو بطبيعة الحال الأصلح له والأفسد
للأمة. وقد ظهر ذلك في العقائد المتأخرة الموازية للنظم
السياسية التي تقوم على سلطان الحاكم المطلق. وإذا كان
خالق الأفعال المطلقة الشاملة للعدل خارجًا عن الوجوب
انقضى العدل، فالعدل والوجوب واجهتان لشيءٍ واحد. إن هدم
العقل والشرع هو هدم لكل قانون بما في ذلك قانون الاستحقاق
وبالتالي يعيش الإنسان في عالم من الظلم أو من العبث ولا
يجد أمامه إلا الاستسلام للحاكم المطلق، يفعل له ما يشاء؛
وينتهي الأمر كله عنده إلى الرضا بالأمر الواقع، فيرضى
الفقير بفقره ويسرُّ الغني بغناه، ويتحول العدل الإنساني
إلى ظلمٍ إلهي، ويعود العدل من جديد في بطن التوحيد.
٧
(٢) إثبات الصلاح والأصلح
إن فعل الصلاح والأصلح ليس قانونًا صوريًّا أو فعلًا
مطلقًا لإرادةٍ خارجية، بل قانونٌ ماديٌّ قائم على صلاح
الإنسان والأصلح للأمة. ليس الإنسان هو الفرد الأوحد، بل
الإنسان العام الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان. وليست
مصالح الأمة هي الأمة الفريدة بل هم البشر في كل زمان
ومكان. وهي حقيقةٌ إنسانية تقوم على العقل والطبيعة؛ لذلك
قام الوحي على المصلحة، وأصبح أساس التشريع درء المفاسد
وجلب المصالح. إن اختيار إنسان للأصلح ضرورةٌ مطلقة في
النظر والعمل، في الوحي والتطبيق. المصلحة أساس الشرع، لا
تعبر عن تكوين ذاتٍ مشخصة بقدر ما تعبر عن الحياة
الإنسانية، لا تطبق على الله بل على الإنسان. والله
بإنزاله الوحي يبغي مصلحة الإنسان كما يبغي مصلحته الخاصة.
ولا يبغي الله مصلحة نفسه كما لا يبغي الإنسان مصلحة الله؛
فالمصلحة أساس علم الأصول بشقيه؛ علم أصول الدين وعلم أصول
الفقه. الصلاح والأصلح هما إذن ضمن الواجبات العقلية مثل
الخلق والتكليف وشكر المنعم، وأحد وسائل تنزيه الله عن فعل
القبيح. وهي واجبات يتصوَّرها الإنسان في الطبيعة بصرف
النظر عن الذوات المشخصة، الإنسان أم الله. وإذا ما قيل
إنها واجبات على الله، فإن ذلك يكون قياسًا للغائب على الشاهد.
٨ والشاهد هو التجربة الإنسانية أو تجارب
الجماعة والتاريخ، وهي مصدر الحقيقة الإنسانية وحوامل
المعاني. ولما كان فعل الأصلح مشاهدًا في هذا العالم كان
فعله أيضًا في أي عالمٍ آخر. وأن قسمة الأحكام إلى واجب
ومندوب لا تعني نقصًا في ضرورة الأصلح؛ فالمندوب لا يعني
تمنيًّا وتفضُّلًا، بل هو الأصلح المختار الذي يكشف عن
حرية الإنسان في اختيار الأصلح. فالصلاح متفاوت الدرجات
والإنسان يختار أعلاها لنفسه؛ لذلك كان فعل الصلاح لا
ينافي تكافؤ الفرص لأنه اختيارٌ إنساني. وإذا كان الله من
خلال الوحي قد فعل الصلاح فإن الإنسان له حرية الاختيار في
أن يزيده، وبالتالي يفعل الأصلح أو يقله فيفعل الأقل صلاحًا.
٩ فإن قيل: إن كان الله يفعل الصلاح فهل يفعل
الأصلح؟ وهل يمكن أن يفعل الصلاح وهو قادر على فعل الأصلح؟
وهل هو قادر على فعل الأصلح ولا يفعل إلا الصلاح؟ قيل إن
كل هذه افتراضاتٌ وهميةٌ ناتجة عن افتراض تدخل إرادةٍ
خارجية في الحياة الإنسانية. وإن من المشاهد في الحياة
الإنسانية أن الإنسان لا يدخر وسعًا في فعل الصلاح
والأصلح. وإذا اختار بين الأقل صلاحًا والأكثر صلاحًا فإنه
يختار الأصلح. وإذا اختار الآن الأقل صلاحًا فقد يكون
لصلاحٍ أعظم فيما بعدُ. إن اعتبار الأصلح للإنسان بعد
الخلق والتكليف، كإنسانٍ حر عاقل واعتبار الأصل له نهاية
وكلٌّ وغاية إنما تفضيل للواقع على الممكن، وإيثار للعمل
على النظر. وما الفائدة من أصلح نظري غير محدد ولا يتحقق
منه شيئًا؟
١٠ فإذا ما كان هناك أصلحٌ نظري لا يستعمل فإنه
يصبح لطفًا، وبالتالي يصبح السؤال: هل يقدر الله على خلق
لطيفة لمن علم أنه لا يؤمن كي يؤمن؟ وهنا يقدم العقل
للشعور صفتَين متعارضتَين، هما القدرة والعلم، حتى تكون
فرصة أمام الشعور للتعبير عن عواطف الإجلال والتعظيم.
فالإثبات تأكيد لسلطان القدرة على حساب العلم، مع أنه
أيضًا صفةٌ مطلقة، ولكن يشفع لها أنها تتدخل لصالح
الإنسان. والتدخل في حد ذاته حتى ولو كان لصالح الإنسان
قضاء على استقلال الحرية الإنسانية وحل الشق الثاني من
العدل، أي الحسن والقبح العقليَّين، على حساب الشق الأوَّل
منه، وهو حرية الأفعال. وإذا ما ثبت الوضع القديم إن كان
فيه ضرر على الإنسان فكيف يحدث ذلك والتأليه منبع الخير؟
أمَّا النفي فإنه تأكيد للحرية الإنسانية حتى ولو كانت في
غير مصلحة الإنسان. فالفعل الحر المستقل نابع من إرادة
الإنسان حتى ولو كان ضارًّا له. ويؤثر الإنسان فعلًا حرًّا
ضارًّا على فعلٍ نافع من إرادةٍ خارجية تعمل لصالحه.
١١ وماذا لو رفض العقلاء اللطف ما دام العقل
لديهم قادرًا على الوصول إلى التكليف ومعرفة الصلاح
والأصلح من العقل والسمع معًا؟ إن افتراض أن يكون الله قد
ادَّخر لطفًا لمن علم أنه لا يؤمن حتى لا يؤمن تجويزٌ
للظلم على الله، ونفي لحرية الإنسان واختياره، وقضاء على
عقله واستقلاله. فأفعال الشعور الداخلية مثل الإيمان
والكفر أفعالٌ حرةٌ قائمة على العقل والتمييز.
١٢ فإن كان هناك أصلح وإن كانت لدى الله ألطافٌ
أخرى لا نهاية لها يعطيها للبشر اختيارًا، فلماذا ادخرها
الله ولم يعطها حتى يكون العالم أفضل العوالم الممكنة
وتغليبًا للأصلح على الصلاح؟ ومتى يعطيها الله ومتى يهبها
وطبقًا لأي مقياس ولأي مدًى؟ أليس في ذلك تدخل في الحرية
الإنسانية التي أصبحت من قبلُ أحد مكتسبات العدل، والذي
بدوره خرج من بطن التوحيد؟ وما الفائدة من لطفٍ غير
مستعمل، مجرد إثبات حقٍّ نظري، إثباتًا للقدرة المطلقة؟
وقد تم ذلك من قبلُ في التوحيد، وفي العدل لا تحدث شيئًا.
إن مصلحة الفرد والجماعة ليست نعمة أو إحسانًا أو تفضلًا
أو لطفًا من أحد، بل نتيجة للجهد والمشقة والمعاناة.
والأصل ضرورة موضوعية لا صلة لها بالعواطف المشخصة
والانفعالات الذاتية والإكراميات شكرًا وثناءً، حمدًا
وتبجيلًا. ولما كانت الشريعة تقوم على جلب المصالح ودرء
المفاسد، فقد يأخذ السؤال صيغة الضرر ويكون: هل يقال إن
الله يضر أم لا؟ فالإثبات يبقى إثبات القدرة المطلقة ونفي
أية صفة من صفات العجز، وإلا كان هناك نقص في عواطف
التأليه وبصرف النظر عن حقوق الإنسان وحياته أو ما ينتج عن
إثبات هذه القدرة من طغيان ونفي للعدل وإثبات للطاغوت.
وتكون الإجابة بالنفي دفاعًا عن حقوق الإنسان وإثبات حقه
في دفع الأضرار عن نفسه ومقاومة الظلم.
ولا يؤدي القول بالأصلح إلى رفض الآلام والمشاق الناتجة
عن الأفعال؛ لأن الإنسان يفضل أن يركن إلى الكسل والراحة
وحياة الدعة والسكون والتعب والنصب والجهد والألم والجرح.
كل ذلك لا يمثل نقضًا للصلاح والأصلح؛ فالذات تضع نفسها
بالجهد وتثبت وجودها بالمقاومة. والغاية من بذل الجهد
تحقيق الوجود الإنساني، والإنسان بلا جهدٍ حر يتحول إلى
ظاهرةٍ طبيعيةٍ حتمية. وبالتالي إذا كان الله متفضِّلًا
بالثواب فكيف يجوز الجهد؟ ليس في فعل الأصلح أي جهدٍ زائد
أو كدر لا يتحمل، بل هو تأدية للدعوة وضرورة داخلية وأداء
للرسالة. فعل الأصلح في حد ذاته فعلٌ إيجابي وليس له أي
جزاءٍ آخر، إلا أنه في الحياة العملية كمال للإنسان.
١٣ ولا يُقال أيضًا إن الأصلح ألا يُعاقَب
الإنسان في أفعاله وأن يغفر له ويتوب، وبالتالي يتحول
الأصلح إلى أن يكون دفاعًا عن مصالح الإنسان، ورغباته
وأهوائه، وإلى هدم القانون إن لم يكن هناك مقياسٌ موضوعيٌّ
عام للأصلح دون الوقوع في الفردية والنسبية والمصلحة
الشخصية؛ وبالتالي يتخلَّى الإنسان عن نتائج أفعاله.
١٤ الأصلح ليس بالرجوع إلى الوراء والتمني، بل هو
التقدم إلى الأمام. الأصلح للإنسان أن يكون حرًّا وإلا كان
ظاهرةً طبيعية. الأصلح للإنسان أن يرتبط مصيره بالحرية حتى
يكون مسئولًا عنها محاسَبًا عليها. ليس الأصلح للإنسان رفض
العقل والبلوغ وأن يعيش الإنسان مخلوقًا حيًّا دون أن يكون
له عقلٌ بالغ فيعيش حيوانًا أعجمًا أو طفلًا أو مجنونًا أو
معتوهًا. وكيف يكون هناك أصلح إذا ما اخترم الإنسان قبل
العقل والبلوغ؟ إنما الصلاح يقع في حياة الإنسان الحر وليس
فقط نتيجة هذا الجهد. ودون عقل لا يكون هناك استحقاق مدح
أو ذم.
١٥ وكيف يمكن شكر النعم كواجبٍ عقلي وعلى فعل
الأصلح كواجبٍ حتمي إن لم يكن هناك فعل وإدراك؟
١٦ ولا يقال إن الأصلح للإنسان ألَّا تأتيه
الرسالة وألا يقوم الرسول بالتبليغ وأن يصرف الله إرادته
عنها؛ فالتكليف واجبٌ إنساني. وجهد الإنسان الحر بالنسبة
له عملية تتحقق لا تتحدد نتائجها إلا بعد بذل الجهد.
الرسالة يقين النظر وباعث على العمل؛ وبالتالي لا تتم
عملية التحقق إلا بها، وإلا فكيف يتحول إلى نظامٍ مثالي في
العالم؟ ولا ضير في أن يتغير الوحي كشريعة طبقًا للصلاح
والأصلح على ما هو معروف في الناسخ والمنسوخ حتى تتم عملية
المقياس، قياس الشرع على أهلية الإنسان وقدرته. فالشرع
موضوع لصالح الإنسان، متغير بتغير مصالحه وليس تعبيرًا عن
ثبات الذات الإلهية وشمولها. ويمكن للعقل الإنساني أن يدرك
الحكمة من هذا التغير ويدرك قانونه الثابت؛ وبالتالي يلحق
بالعلم الإلهي الثابت وبإرادة الله المتصلة.
١٧
وإذا كان الأصلح في الدين يمكن الاتفاق عليه والاعتراف
به، فهل الأصلح في الدنيا كذلك؟ والحقيقة أن هذا السؤال
إنما يقوم على تفرقة لا وجود لها، إلا افتراضًا، بين الدين والدنيا.
١٨ فما هو مقياس هذه التفرقة؟ إن الوحي تنظيم
لشئون الدين، والدنيا تحقيق لهذا التنظيم، والدين هو
المثال والدنيا هو الواقع، والمثال يتحقق في الواقع
والواقع تحقق للمثال. الأصلح إذن للدين هو الأصلح للدنيا،
ولا يوجد صلاحان كل منهما على حدة. وإذا كان الأصلح للعباد
فإن مصالح العباد في الدنيا وليس الدين إلا وسيلة لتحقيق
هذه المصالح. إن الأصلح ضرورة في الدنيا والدين معًا،
فالدين هو الدنيا والدنيا هي الدين. وإنَّ جعل الأصلح في
الدين فقط دون الدنيا تناقض وتوهم فصل في شيءٍ واحد، وإن
كان لا بد من التمييز فإن الأصلح في الدنيا أولى، فيها
مصالح العباد مرتبطة بحرية الإنسان وعقله في حين أن الأصلح
في الدين لا يمكن للإنسان إدراكه إلا بقياسه على الأصلح في
الدنيا. الأصلح واقعةٌ داخلة في نطاق حياة الإنسان بفعل
الحرية، لا يوقفها ولا يدفعها أحد، فالأصلح يتحقق من خلال
الحرية وفي نطاقها؛ ومِنْ ثَمَّ كان الأصلح بعد الخلق
والتكليف، ثم اكتشاف الإنسان لنفسه كفعلٍ حر وعقلٍ مستقل
وقدرة على إدراك الآيات والبراهين وتجاوز العقبات في
المواقف والتمييز بين المصالح والمفاسد، بين الغنى والفقر،
بين الصحة والمرض، بين الحياة والموت، بين الحرية والقهر،
بين الوحدة والتجزئة، بين الهوية والاغتراب. والأصلح
ضرورةٌ عقلية، فالعقل والوجود صنوان، وحكم العقل هو حكم
الوجود. والعقل هو شرط الحرية كما أن البلوغ شرط التكليف.
الأصلح ضرورةٌ شرعية، إذ يقوم الشرع على جلب المصالح ودرء
المفاسد، للفرد وللجماعة. والأصلح ضرورة كافية لا تحتاج
إلى ضرورياتٍ لا متناهية، والضرورة الكافية هي سبب وجود
العقل والشرع والطبيعة معًا. والأصلح ضرورة لحياة الإنسان
وليس ضرورة لإثبات قدرةٍ مشخصة لا تخضع لأية ضرورةٍ أخرى
من طبيعة العقل وواجب الحرية أو بناء الكون ذاته، وليس
تشخيصًا للطبيعة إمَّا ذهابًا بإثباتها أو إيابًا
بإنكارها. ليس الأصلح تفضُّلًا وكرمًا، بل هو ضرورةٌ
وجودية في طبيعة الأشياء، كما أن الشرع ضرورةٌ كونية ولا
مجال فيها للتفضل والكرم والإنعام والإحسان. والأصلح
ضرورةٌ دنيويةٌ خالصة وليس أخروية؛ إذ إن الأخرويات كلها
نقل من هذا العالم إلى عالمٍ آخر، إمَّا تعبيرًا عن أمل أو
تعويضًا عن حرمان. وإن قيل إن المانع من فعل القبيح وعدم
القدرة عليه هو رعاية الأصلح في الآخرة، فإنما يكون ذلك
قياسًا للغائب على الشاهد وأدخل في موضوع المعاد، والذي لم
يثبت بعدُ في العقليات طبقًا لبناء العلم.
١٩
إن إثبات الأصلح يعني أن الله يفعل الخير دون الشر، أي
إنه يرعى مصالح العباد ولا يضرهم، فهو من هذه الناحية
تفاؤل وخير وبراءة وطهارة، في حين أن نفيه نظرةٌ شريرة إلى
العالم وتصور لله على أنه شرير يفعل الشر ويضر بالناس؛
لذلك كان النفي أقرب إلى التنزيه. ولا يعني النفي أي نقص
في عواطف التأليه، بل وضعًا لها على أساسٍ إنساني من أجل
الإبقاء على مصالح الإنسان. ويتعدى الأمر أحيانًا إلى فرض
الأصلح على عواطف التنزيه، فتحدد القدرة المطلقة بفعل
الأصلح وهو ما عبر عنه الأصوليون من قيام الشرع على
المصالح العامة دون تشخيص للقدرة، والحديث عن حكمة الشرع
وليس عن شخص الشارع. وما دام الأصلح تعبيرًا عن موقف
الإنسان وممارسته لحريته وعقله، فإنه يكون تعبيرًا عن
قانونٍ عام مثل قانون الاستحقاق. والقانون ثابت من وجهة
نظر الإنسان. ومن حق الإنسان أن يعيش في عالم يوجهه العقل
ويحكمه القانون. أمَّا من وجهة نظر صاحب السلطة والتشريع
فالقانون لديه تعبير عن إرادته، يمكنه أن يغيره ويبدِّله،
بل ويوقفه في أي وقت شاء. ولما كُنَّا بشرًا ولسنا آلهة،
نعبر عن وجهة نظر إنسانيةٍ خالصة، فالقانون بالنسبة لنا
عام وثابت. وكل محاولة لتغييره أو تبديله أو تأويله أو
إيقافه تكون ضد الإنسان ومصالحه. يخضع الإنسان للقانون
العام الذي يعبر عن مصلحته لأنه قانونٌ عقلي، ولكنه لا
يخضع لإرادة أو لسلطةٍ مطلقة وراء القانون يمكن التلاعب به
خاصةً ونحن في جيل يتم وضع القانون فيه لحساب الحكام
وتعبيرًا عن أهوائه ونزواته وليس إثباتًا للصالح
العام.
والحقيقة أن الصلاح والأصلح تعبير عن ضرورة العقل والشرع
معًا، وتعبيرٌ آخر عن ضرورة الحرية والطبيعة. ليس فيهما أي
أثرٍ أجنبي من الخارج، من ثنوية أو غيرها. فالأصلح موضوعٌ
أصيل. وهو أساس الشرع ومصدر التشريع وسبب الوحي.
٢٠ وإن أكبر حجة ضد الخصم هي اتهامه بالعمالة
الحضارية وبأنه منفصل عن تراثه وبأنه تابع لمؤثراتٍ
أجنبية. وليس فيهما أي نقل من العلوم الأخرى مثل علوم
الحكمة أو علوم التصوف، بل هما تعبير عن بنية علم الأصول
بشقَّيه، علم أصول الدين وأصول الفقه، يعيدان إلى العلم
وحدته بتوحيد علم النظر وعلم العمل؛ علم العقيدة وعلم
الشريعة، الوحي والطبيعة على أساسٍ واحد، وهو مصالح الناس
ورعاية البشر.
٢١
إن ما يمكن أن يوجَّه إلى الصلاح والأصلح هو تبرير الشر
في العالم، في الأفعال وفي الطبيعة، واعتبار هذا العالم
أفضل العوالم الممكنة، وأن كل ما فيه خير وصلاح، وأن
الواقع أفضل من الممكن، والحال أفضل من المآل، وأننا لو
علمنا الغيب لاخترنا الواقع، وأن ليس في الإمكان أبدع مما
كان. وقد يسبب ذلك نوعًا من الاستسلام للأمر الواقع والرضا
بكل صنوف الضيم والظلم والهوان، وبالتالي تستحيل قضية
التغير الاجتماعي كما يستحيل العمل السياسي الذي يقوم على
تغيير الوضع القائم إلى وضعٍ أفضل. وينتهي التقدم، ويقضى
على الرغبة في العمل وعلى بذل الجهد، وتنتهي المقاومة
للظلم؛ فالأصلح للظالم أن يكون ظالمًا، وللمظلوم أن يكون
مظلومًا، وللغني أن يكون غنيًّا، وللفقير أن يكون فقيرًا،
وللقاهر أن يكون قاهرًا، وللمقهور أن يكون مقهورًا،
وللمحتل أن يكون محتلًّا، وللذي يقع عليه الاحتلال أن يقبل
الاحتلال. كما يصعب على الإنسان عقلًا وقلبًا أن يفهم أن
الله لا يراعي الصلاح والأصلح، وفي الوقت نفسه يصعب عليه
أن يقبل أن يكون ذلك واجبًا على الله، فالله لا يجب عليه
شيء كحقٍّ نظري. والحقيقة أن كل هذه الاستدراكات على
الصلاح والأصلح إنما تأتي من اعتباره ضد الحرية، وهي في
واقع الأمر تعبير عنه. فقد ثبتت حرية الأفعال في أول شق
لأصل العدل بعد انبثاقه عن التوحيد وخروج الإنسان المتعين
من الإنسان الكامل. كما تقود العقليات كلها إلى السمعيات
وآخرها النظر والعمل ثم الإمامة. فالغاية النهائية هي
التغيير الاجتماعي. إن قبول الأمر الواقع كقضاء لا يمنع من
الخروج عليه كقدر. كما أن اللفظ المزدوج الصلاح والأصلح
يعطيان إمكانيةً لا نهائية للانتقال من أحدهما إلى الآخر.
فلا صالح إلا وله أصلح. فإذا كان الوضع القائم هو الصلاح،
فإن تغييره إلى وضعٍ أفضل هو الأصلح؛ ومِنْ ثَمَّ يكون
التقدم المستمر ممكنًا إلى ما لا نهاية. أمَّا التعبير
بلفظ الوجوب فهو مصطلحٌ إنسانيٌّ خالص يتحدَّد فيه الوجوب
العقلي بالوجوب الطبيعي بالوجوب الأخلاقي. وانبثاق العقل
من التوحيد يجعل الانتقال من الله إلى الإنسان ممكنًا؛
وبالتالي تتوقف لغة الذات والصفات على لغة الأفعال حيث
تبرز مصالح الناس وتظهر حياة البشر؛ لذلك يظهر مع ألفاظ
الصلاح والأصلح ألفاظٌ أخرى مثل الجود والجواد والبخل
والبخيل والاقتصاد والمقتصد، مما يدل على أنها مصطلحاتٍ
إنسانيةٍ خالصة.
والإصلاح في مقابل الإفساد لفظان في أصل الوحي؛ فالصلح
والصلاح للإنسان لنفسه أو لذات البين. وهو إصلاح من
الإنسان الحر وأفعال الشعور الداخلية كالإيمان والتقوى
والتوبة. وإذا كان الإنسان يدعو الله للإصلاح، فإن الله
يأمره به. ويظل الإصلاح فعلًا للإنسان أكثر منه فعلًا لله.
بل يصبح «صالح» اسم علم لما يعطيه الفعل على الشخص من سمة
الصلاح. كما يصبح الأنبياء من الصالحين والأعمال كلها من
الصالحات. والإصلاح أيضًا للعلاقات بين الذوات (الزوجان)
وفي الأرض. وهو فعل الإنسان أكثر من فعل الله. الله يعلم
الإصلاح ولا يضيع أجر المصلحين، ولكن إصلاح الإنسان شرط،
وفعل الله مشروط بفعل الإنسان.
٢٢ أمَّا الفساد فإنه أيضًا فعلٌ إنساني ناتج عن
التشتُّت والتبعثر واتِّباع الهوى دون العقل، وينشأ من
أفعال الملوك والقبائل (الرهط) والناس. وهو أقرب إلى فعل
الجماعة منه إلى فعل الفرد، وكأن الفساد وضعٌ اجتماعي في
حين أن الفرد خيِّر بالفطرة. ويظهر الفساد في الأرض وفي
البر والبحر وفي البلاد بفعل الناس. والله يعلم ولا يحب
الفساد ولا المفسدين. ويرى المفسدون عاقبة الفساد طبقًا
للأفعال ونتائج الأفعال، وينالون الجزاء طبقًا للاستحقاق.
والفساد معنوي ومادي معًا، مثل تبديل الحق والاستعلاء
والطغيان والكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبخس
الناس أشياءهم، وذبح الأبناء واستحياء النساء، وقتل النفس
وهلك الحرث والنسل. وتفصيل الفساد للتنبيه عليه مثل ترك
الإصلاح كقاعدةٍ عامة يتبعها الإنسان طبقًا للفطرة، فدرء
المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح كما هو الحال في الشق
الثاني من علم الأصول.
٢٣
(٣) هل يمكن نفي الغائية والعلية؟
ولما كان الصلاح والأصلح غاية في الأفعال وعلة لها، فقد
ظهر موضوع الغائية والعلية كموضوعٍ أشملَ وأعم حتى استقل
بذاته وأصبح أيضًا موضوعًا للجدل بين النفي والإثبات. كما
أنه ارتبط بموضوع التكليف؛ لأن التكليف أيضًا تحقيق لغاية؛
غاية الإنسان ورسالته في التاريخ.
٢٤ وقد ظهر الموضوع بحدَّة في العقائد المتأخرة،
نفيًا للغائية، تنزيهًا لله عن الغرض، ومستغنيًّا عن كل ما
سواه وافتقار كل ما عداه إليه.
٢٥ فهل يمكن نفي الغائية؟
يقوم نفي الغائية على نفي الغائية والغرض عن الله. فإذا
كان من معاني الواجب ما يلحق بتاركه الضرر وبفاعله النفع،
فإن ذلك يستحيل على الله لانتفاء الأغراض المقصودة وإلا
كان ناقصًا مستكملًا بالغاية، ومِنْ ثَمَّ لا يوجَب شيء
على الله.
٢٦ ولما كان غرض الفعل خارجًا عنه يحصل به
وبتوسطه، فإن الله يفعل ابتداءً دون حاجة إلى توسط أو
تحقيق غايةٍ خارجة عنه وإلا لتسلسلت الأفعال والغايات إلى
ما لا نهاية.
٢٧
والحقيقة أن نفي الغاية يقوم على خلط بين مستوى الله
ومستوى الإنسان. فإذا كانت أفعال الله لا نهاية لها ولا
غاية، فإن أفعال الإنسان لها غاية ونهاية. الغاية في الفعل
الإنساني وفي رسالته في التاريخ وليست في ذات الله. لا
يعني إثبات الغاية أو الغرض إذن أي تجويز لنقص على ذات
الله، فإن المشار إليه هو الإنسان وليس الله. الله ينفع
الإنسان وليس الإنسان هو الذي ينفع الله أو الله هو الذي
ينفع ذاته. ليست الدوافع والأغراض مزعجات ولا تدل على
النقص، وإلا كان ذلك إنكارًا للعالم الإنساني. فالإنسان
مجموعة من البواعث والدوافع والغايات والمقاصد. لا يعني
نقصان الغرض أي جهل أو فوات فرصة أو فشل على الله؛
فالموضوع كله أفعال الله بالنسبة إلى الإنسان وليست أفعال
الله في ذاتها. إن للشرائع غرضًا. فقد أتت لمصالح العباد
وإلا كانت أفعال الله عبثًا بلا قصد. ولما كان الوحي ممكن
الوقوع وكانت الرسالة ممكنة التحقيق تكون أفعال الله كلها
حكمةً وقصدًا. إن الغائية هي محور التفكير الأصولي
والاعتزالي في إقامة الشرع على أساس المصلحة، إنكار العلية
إذن إنكار لأساس الشرع والباعث على وجود الوحي. إنكار
التعليل إنكار لأساس الشرع.
٢٨ إن تنزيه الله عن الأغراض ليس تنزيهًا بل
تجويز للعبث والتناقض والظلم والجور. ولما كانت الغائية هي
الحياة، فإن نفيها يكون موتًا للإله وتناقضًا مع صفات
العلم والقدرة والحياة. وإلا فلماذا يسمع ويتكلم ويبصر
ويريد؟ وكيف تبطل العلة الغائية وهي أسمى العلل، أسمى من
العلة الفاعلة والعلة المادية والعلة الصورية؟ بل إنها هي
العلة الفاعلة الحقة. فالغاية هي الباعث والدافع على
الحركة. هي المستقبل والهدف والمصير. وما الفائدة من إثبات
غاية لا نعلمها؟ إن هذا إثبات للجهل الإنساني ونفي للعقل
أحد مكتسبات العدل. إن وظيفة الغايات معرفتها أوَّلًا من
أجل تحقيقها ثانيًا، المعرفة بالعقل والتحقيق بالحرية.
وإذا كان علم أصول الدين معرفة، فإن علم أصول الفقه تحقيق؛
فغاية النظر العمل.
٢٩ وإذا كان الغرض هو العلة الباعثة للفاعل على
الفعل، فكيف يمكن نفيه؟ وكيف يكون الله منزَّهًا عن العبث
وأفعاله ليس لها أغراض ومقاصد؟ لا يكفي تنزيه القدرة
المشخصة عن العبث لضمان موضوعية القيمة والصفات الذاتية للأفعال.
٣٠ ولا يمكن إثبات الحكمة دون الغائية، وإلا
فماذا تعني الحكمة؟ إن كان الغرض من إنكار الغائية هو
تنزيه الله، فإن تنزيه المؤلَّه عن الغرض والغاية يبطل
الحكمة وينال من التنزيه الكامل. إن إنكار الغائية يؤدي
إلى الفصل التام بين المؤله والعالم، ويجعل المؤله فعالًا
لما يريد دون علة أو غاية أو باعث أو دافع، وهو ما يعادل
الحرية المطلقة بلا باعث أو سبب، حرية العبث.
إن تنزيه الذات المشخص عن الشر لا يعني وقوع الشر في
العالم ولا يجيب عن مصدر علته، بل لا يفعل أكثر من نسبة
الشر إلى النفس والخير إلى الذات المشخص تضحية أو مسكنة أو
نفاقًا أو غرورًا. والغاية ليست نقصًا يلصق بالإنسان
وشرًّا ينزَّه الله منه.
وكما أن الغاية في أفعال الله وفي أفعال الإنسان فإنها
تكون أيضًا في الطبيعة وفي التاريخ؛ فالطبيعة تسير نحو
غاية، والتاريخ أيضًا يسير نحو غاية. لا تعني الغائية في
الطبيعة حاجة طرف وكرم طرفٍ آخر؛ فالطبيعة مستقلة عن
أطرافها. وإن تصور علاقة الطرفين المشخَّصَين على أنها
علاقة احتياج وكرم تصورٌ قائم على استضعاف أو استذلال أو
سؤال أو تملق. الحكمة في الطبيعة وليست في علم مشخص أو
إرادةٍ مشخصة.
٣١ ولا تعني الغائية أي نقص في الطبيعة بل
كمالها؛ فالطبيعة متجهة نحو غاية هي كمالها. الغائية هي
أساس الوجود في الإنسان وفي الطبيعة. واعتبار الطبيعة مجرد
تعبير عن الجود والكرم من وجودٍ مطلقٍ مشخص هو إلغاء لوجود
الطبيعة واستقلالها. كما أن إنكار الغائية من الأفعال
والطبيعة وإرجاعها إلى فاعلٍ حكيم قضاء على موضوعية
الأشياء ووجود العالم المستقل. إن الكون كله بالرغم من أنه
حدث ابتداءً إلا أنه حدوثه كان لغاية وهدف، كما أن خلق
العالم كان لغاية وغرض وليس من خارج الكون أو الخلق، بل من
الداخل في طبيعة الكون والخلق.
٣٢ ليس الغرض توسطًا لوقوع الفعل، بل هو الباعث
والدافع. والله لا يحتاج إلى توسط وإن احتاج كان عاجزًا.
ولا تتسلسل الأغراض إلى ما لا نهاية لأن الغاية تنتهي
بالكمال والتحقق إلى نهاية الزمان؛ فالنهاية إعلان لتحقق
الغاية والكمال؛ لذلك كانت الغائية أيضًا كامنة في التاريخ
باعتباره تطورًا للإنسان والطبيعة والكون والخلق كله.
الغائية في التاريخ كما أنها في الوحي، وتطور التاريخ نحو
غاية مماثل لتطور الوحي حيث تظهر في النهاية نتائج الأفعال
وآثارها. وإذا كانت الغاية قيمة فالله هو هذه القيمة ليس
بشخصه بل بعلمه ومقصده ووحيه. الغائية في التاريخ هي
العناية الإلهية على مستوى حركة التاريخ ومساره. ولا تتحقق
هذه الغائية بقدرةٍ مشخصة أو إرادةٍ خارجية، كما لا تتحقق
تحققًا آليًّا خارج قوانين التاريخ بل تتحقق بفعل الإنسان
وطبقًا لقوانين التاريخ. وإذا لم تتحقق الغائية يكون
الإنسان قد تخلى عن رسالته في الحياة، ويكون هو المسئول عن
عدم تحققها، ولا تقع المسئولية على غياب الغائية وعدمها.
ومع ذلك لو تخلى الإنسان عنها اندثر في التاريخ وانهارت
الأمم وأتى إنسانٌ آخر ونهضت أممٌ أخرى لأداء الرسالة
ولتحقيق الغائية حفاظًا على مصالح الناس والحياة الإنسانية
وإبقاءً على الوجود ذاته.
ولما كانت الغائية هي أحد مظاهر العلية بدليل العلة
الغائية، فلا يمكن نفي العلية أيضًا؛ إذ لا تعني العلة
جواز الضرر والنفع في ذات الله، فالحديث كله إنسانيٌّ خالص
على مستوى الإنسان، كما أن إرجاع العلة الغائية إلى حكمة
الذات المشخص هروب من المشكلة، ومحاولة لمسك الوحي من
الطرفين، إثبات الغائية وإثبات الذات المشخص في آنٍ واحد.
ورفض الطرفين أو إثباتهما معًا تحصيل حاصل.
٣٣ أمَّا الخوف على قِدَم العالم أو حدوث الله
فتلك مسائلُ ميتافيزيقيةٌ خالصة وليس مكانها العلة والغاية
بل دليل الحدوث.
٣٤ وأفعال الله معللة بأغراض وإلا كانت عبثًا.
ولا تعارض بين الحكمة والمصلحة؛ فالحكمة الضارة سفه. ليس
التعليل نقصًا أو حطة أو حاجة ليتعالى الله عن ذلك علوًّا
كبيرًا. بل إن مبحث العلة والمعلول من المبادئ العامة في
نظرية الوجود في علم أصول الدين، وهو أساس مباحث العلة في
علم أصول الفقه.
٣٥ إن رفض التعليل هو هدم للقوانين الإنسانية،
وترك للعالم بلا إدراك وللوقائع بلا أساسٍ نظري. ويُشار
إلى الفلسفة باعتبارها المسئولة عن نفي العلية؛ لأن واجب
الوجود لا يفعل لعلة، في حين أن تصور الفلسفة للعالم تصورٌ
حتميٌّ ضروري ويقوم على إثبات العلل الأربعة وفي مقدمتها
العلة الغائية. نظام العالم نظامٌ عاقل ومعقول ولكن الخلاف
مع علم أصول الدين في صدور العالم لا عن إرادةٍ كعلة بل عن
طبيعةٍ كفيض.
٣٦
(٤) إثبات الغائية والعلية
إذا دل الدليل على كون الله حكيمًا، فإن الحكمة تنفي
العبث وتثبت الغائية. وليست الغائية في شخص الله، في حد
ذاته أو صفاته بل في أفعاله، ليس في أصل التوحيد بل في أصل العدل.
٣٧ ليس الغرض والغاية نقصًا أو عيبًا أو ضررًا أو
منفعةً فحسب. فالغائية جوهر التاريخ والباعث على الحياة.
الوحي له غاية وهو كمال الجنس البشري وإعلان استقلال العقل
والإرادة. ليس القصد والغاية مظهرًا من مظاهر النقص
والحاجة أو جلب المنافع ودرء المضار، فإشباع الحاجات
ورعاية المصالح من أسس الشرع ومن أسباب الوحي.
٣٨ ولا تعني الغاية الملذات والنعيم والسرور دون
مشقة أو تعب أو آلام. فقد يكون في ذلك نفع نتيجة لبذل
الجهد. هي ابتلاء وامتحان وتحقيق لقانون الاستحقاق. وكيف
تكون النعم ابتداءً دون مشقة وآلام فتنتفي الحكمة من
التكليف ويقضى على قانون الاستحقاق؟ ليس المهم هو البداية
أو النهاية بل المسار والتجربة والتعلم عن طريق الخطأ
والصواب. ولا تعني الغاية الشكر، فلا شكر على أداء
الواجبات، والشكر الوحيد هو أداء الواجبات.
٣٩
والغاية تستلزم التعليل، والتعليل قائم في الأحكام بل هو
قلب علم أصول الفقه. والتعليل هو العلة الغائية لا العلة
الفاعلة أو المادية أو الصورية.
٤٠ وليست علة الخلق منفعة الإنسان ومنع الضرر عنه
فقط، فتلك هي علة التشريع والباعث على الرسالة. إنما علة
الخلق تحقيق الرسالة، وأداء الأمانة، والمشاركة في معرفة
الله، وتحقيق غايته المتمثلة في مقاصد الوحي. فيتوحد قصد
الوحي مع قصد الإنسان. فإذا كان الوحي قصدًا من الله إلى
الإنسان كغائية فإن الإنسان بتحقيق هذا القصد يكمل الغائية ويحققها.
٤١ وسواء كان التعليل مجازًا أم حقيقةً فهو قائم
في الذهن الإنساني. والفكر الديني كله مجاز يقوم على قياس
الغائب على الشاهد. الواجبات العقلية إذن أمورٌ ذهنية
وليست في الخارج، أبنيةٌ عقلية تُعبِّر عن مقدار عواطف
التنزيه. ليس هناك صواب أو خطأٌ نظري بل مقدار شدة عواطف
التأليه وتراوحها بين الانفعال وبين اتحادها مع بنية العقل
ذاته. الخلاف إذن ليس لفظيًّا فقط، بل في أبنية العقل
وتعبيرها عن درجة التعظيم والإجلال.
٤٢ الغائية والعلية موجودان في أصل الوحي.
فالحكمة هي الكتاب والملك والموعظة
الحسنة وفعل الخطاب.
حكمة في النظر والعلم، في الوحي والدولة والنصيحة والقول.
وصفة الحكيم ليست للذات وحدها مقرونة بالعزيز والعليم
والخبير والعلي والحميد، بل صفة للوحي وللكتاب والقرآن
والأمر، أي صفة للشرع كغائية في الإنسان والطبيعة والتاريخ.
٤٣