(١-١) تعريفه وأنواعه ومصدره ومحله
اللطف ومقابله المصلحة هو لحظة اختيار الإنسان
الواجب أو تجنب التخلي عن الواجب. فاللطف لا يعبر عن
التوفيق والسداد بقدر ما يعبر عن إزالة الموانع. فهو
تأييدٌ سلبي، أو توفيق بنفي الضد، قضاء على الموانع
بالتمكين. ونقيضه المفسدة أي وقوع الضرر بالإنسان. وقد
يصل حد الضرر إلى إطلاق اللطف وإضافته إلى الكفر؛
فيسمي ما يقع الكفر عنده لطفًا حين توقع مصيبة أعظم،
ثم تجنبها حتى ولو كانت مصيبة الكفر، وهناك مصائب أعظم
منه. وقد يكون اللطف أقرب إلى الاستطاعة التي يخلقها
الله وقت الفعل في نظرية الكسب.
٣
واللطف نوعان: لطفٌ مقرب إن كان مقربًا من الفعل أو
ممكنًا منه، ولطفٌ محصل إن كان آتيًا للمأمور به،
الأوَّل يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية دون حد
الإلجاء والاضطرار حرصًا على الحرية أو على الكسب،
والثاني مثل الآجال والأرزاق والقوى والآلات وإكمال
العقل ونصب الأدلة، أي ما تتوقف عليه الطاعة. الأوَّل
سلبي للتمكين والثاني إيجابي للفعل. الأوَّل لإزالة
الموانع والعقبات والثاني لتهييء الآلات والأسباب.
والأول نوعان: ما يكون من فعل الإنسان ملازمًا له وما
يكون من فعل الله، الأوَّل سواء كان عقليًّا أم
شرعيًّا لدفع الضرر، والثاني لإزاحة العلل وتهيئة سبيل
التكليف؛ فاللطف سابق على التكليف أو مقارن له ولا
يكون متأخرًا عنه وإلا فما الفائدة منه؟ فاللطف هنا
مثل الاستطاعة إمَّا قبل الفعل أو مع الفعل. وإذا كانت
الاستطاعة أيضًا بعد الفعل في التوليد إلا أن اللطف لا
يكون بعد الفعل وكأن اللطف لا يكون مولدًا.
٤ قد يكون اللطف مع التكليف واجبًا وبعد
التكليف غير واجب، ويكون اللطف هنا أيضًا بمعنى
الاستطاعة وكأن اللطف هو شرط التكليف ابتداءً، وبعد
ذلك يترك الإنسان لاستعمال الألطاف الدائمة كالمعارف
النظرية، ومنها النبوة أو التأييدات العملية وإزالة
الموانع والعقبات أمام الأفعال. وفي هذه الحالة يكون
اللطف ضروريًّا واجبًا وإلا لاستحال التكليف؛ لذلك قد
لا يكون اللطف إتيانًا للفعل ابتداءً بل مساعدة على
الفعل بعد أن يحدث حتى لا يقضي على حرية الاختيار.
فإذا لم يحدث لطف ابتداءً فماذا يكون حال التكليف؟ هل
يستحق الثواب والعقاب؟ قد يكون اللطف إذن تفضلًا بعد
التكليف لأن التكليف يقوم على القدرات الذاتية وشرط
الفعل، العقل والقدرة على الاختيار الحر. اللطف إذن
هبة وليس حقًّا، ومِنْ ثَمَّ فهو ليس شرطًا للتكليف بل
قد يقع التكليف بدونه. اللطف لا يحسن ولا يقبح نظرًا،
ولكنه يساعد عملًا، فهو أقرب إلى العقل العلمي منه إلى
العقل النظري.
٥
أمَّا مصدر اللطف فقد يكون من فعل الله أو من غير
فعل الله. قد يكون من فعلنا أو من فعل غيرنا. إن كان
من فعلنا وجب فعله احترازًا من الضرر دون النوافل؛
لأنه لا يحدث ضرر من عدم فعلها. ما يكون من فعل الله
إن كان مفعولًا مع تكليف الفعل الذي هو لطف فيه، فإنه
لا يكون واجبًا، وما يفعله بعد حال تكليف الفعل الذي
هو لطف فيه فإنه واجب. وما يكون لطفًا من فعل نفس
المكلف فمن حقه إذا كان لطفًا في واجب أن يكون بمنزلته
في الوجوب، وإن كان لطفًا في النفل فهو بمنزلته. وما
يكون لطفًا من فعل غير الله وغير المكلف فمن حقه أن
يكون المعلوم من حاله أن يقع ويحدث على الوجه الذي هو
لطف وفي الوقت. مصادر اللطف إذن ثلاثة: الله والإنسان
والطبيعة. لطف الله غير واجب قبل الفعل وإلا استحالت
الحرية، وواجب بعده تأييدًا له. ولطف الإنسان مثل
الفعل وجوبًا وندبًا. أمَّا لطف الطبيعة فإنه يقع في
الزمان والمكان والحال وليس على الإنسان إلا معرفته
وتوحد فعله معه.
٦
أمَّا بالنسبة إلى محل اللطف فقد يقع اللطف في الفعل
أو في إدراك الفعل، أي إن اللطف يكون في العمل كما
يكون في النظر. ولا يكون اللطف إلا في أفعال التكليف،
أي في الواجبات. وقد يكون اللطف في النوافل. ولا يجوز
اللطف في المباح لأن المباح غير مكلف. وإذا كانت أفعال
المكلفين على ضربين، العبادات وخارج العبادات، فإن
الأولى لا يجوز فيها البدل بينما الثانية يجوز فيها
البدل. وقد تكون إقامة الحد من الإمام لطفًا إمَّا له
أو لغيره، وتضيع الألطاف بفقدان الإمام وإبطال الحدود
في هذا الزمان؛ لذلك قد يكون اللطف مشروطًا بوقت دون
وقت، ويقع في زمان دون زمان. ولا يكون اللطف فرديًّا
بل عامًّا، لا يكون خاصًّا بل شاملًا. لا يوجد لطف
لشخص يكون مفسدة لشخصٍ آخر، اللطف صلاح للجميع. اللطف
عامٌّ متاح للجميع، ولكنه قد يقع لشخص دون شخص طبقًا
لشروط الفعل والقدرة عليه. يؤدي اللطف إلى وقوع
المصلحة للذات وللآخرين على السواء. ولا يكون اللطف
نظرًا عامًّا لا نهائيًّا، بل هو خاصٌّ محددٌ معينٌ
فرديٌّ متحقق في الفعل.
٧
(١-٢) هل يمكن إثبات اللطف أو نفيه؟
عادةً يمكن إثبات شيء ونفيه مثل الواجبات العقلية
ومثل الصلاح والأصلح. أمَّا اللطف فيصعب إثباته كما
يصعب أحيانًا نفيه. يمكن إثبات اللطف لأن الله لا يدخر
وسعًا في اللطف بالعباد؛ فاللطف يمكن أن يكون ابتداءً
وليس وسطًا أو نهايةً، فالوسط والنهاية عبث. كما أن
اللطف يساعد على الترجيح دون أن يصل إلى حد الإلجاء.
وترك اللطف يوجب نقص الغرض من التكليف ومِنْ ثَمَّ
يكون اللطف واجبًا. واللطف أقرب إلى العناية الإلهية
والرعاية وتوالي الصلة بعد الخلق دون الإهمال؛ لذلك
ينتهي اللطف أحيانًا إلى أن يصبح كل شيء تعبيرًا عن
الإرادة الإلهية الشاملة. إن اللطف أصلح الإنسان،
وأصلح للمكلفين الحصول على اللطف، وبالتالي يثبت اللطف
بإثبات الأصلح. وأن شعور المكلف بالتوفيق والهداية
والسداد حين الطاعة وشعوره بالخِذْلان والضلال حين
المعصية لدليل على وجود اللطف. كما يثبت اللطف بأدلةٍ
سمعية، بآيات الفضل والآيات التي تبدأ بأداة الشرط مثل
«لو» التي تعني لولا تدخل اللطف لوقعت أضرارٌ أعظم.
٨
وقد يتم إثبات اللطف تفضُّلًا وإنعامًا دون أن يكون
واجبًا. كما يمكن إثباته وعدًا وإنكاره وجوبًا. وإن
إتيان الفعل بلا لطف أكثر ثوابًا من إتيان الفعل بلطف.
وفي سؤال الإخوة الثلاثة قد يسأل الصغير لماذا أعطيتني
لطفًا واستحق ثوابًا أقل؟ وقد يظهر ذلك في صيغة سؤال:
هل لدى الله لطف لو أعطاه الكافر لآمن والعاصي لأطاع؟
وإثباتًا للطف النظري دون الوجوب العملي ليس في مقدور
الله أن يحتفظ بلطف لو فعل لآمن الذين كفروا. بعد
إثبات اللطف يكون الخلاف: هل يقدر الله على لطفٍ زائد
أم لا يقدر بعد أن أعطى كل ما لديه؟ الأوَّل يمنع
القدرة والثاني بخل وشح؛ لذلك لا يجب اللطف على الله.
ولو وجب لكان لا يوجد في العالم عاصٍ لأنه ما من مكلف
إلا وفي مقدور الله من الألطاف ما لو فعل به لاختار
الواجب وتجنب القبيح. فلما كان هناك عصاة فلا وجوب في
اللطف. نفي اللطف هنا يعني عدم الوجوب في حين أن النفي
في الجبر والعصمة يعني عدم الوقوع. وما الحكمة في أن
يعطي الله لطفًا مقربًا ثم لا يعطيه كله ويكون قادرًا
على الزيادة فيه؟ وإذا كان الله لا يستطيع إلا هذا
اللطف وهو أخص ما لديه فمقدوراته متناهية وإرادته
عاجزة. وفعل إثبات العجز والكرم أفضل من إثبات القدرة
والشح؟ وإذا كان اللطف كصفة لله غير متناهٍ مثل باقي
الصفات لا غاية له ولا كل، فلماذا البخل والشح؟ وما
مقياس العطاء والإمساك؟ هل التفضُّل مجرد تعبير عن
مشيئةٍ مطلقة بلا مقياس؟ هذا هو العبث والتحكم والحكم
المطلق. لذلك لا يكون اللطف واجبًا ولا يكون مقدورًا،
بل مجرد تفضل بعد سؤال العصمة والدعاء بالسداد وطلب
التوفيق. واللطف استجابة لدعاء وعطاء بعد سؤال. واليد
العليا خير من اليد السفلى.
٩ يمكن إثبات اللطف إذن نظرًا ومنعه عملًا.
فالله عنده لطف لو فعله لآمن الكافر ولكنه لا يفعل ذلك
عملًا. وما الفائدة من حقٍّ نظري لا يستعمل.
١٠ لذلك كان نفي اللطف المدخر أفضل من إثباته
دون استعمال. فالله قد أعطى أقصى لطف لديه وليس لديه
لطف منعه من الكفار حتى لا يؤمنوا وإلا لما كان في
أفعاله صلاح العباد؛ فاللطف صلاح، ولما كان الله يفعل
الأصلح فإنه يفعل أيضًا الألطف.
١١
وقد يُنفى اللطف بالجبر إذن إن جبر الأفعال لا يحتاج
إلى لطف، فالأفعال واقعة جبرًا وقسرًا بلطف أو غير
لطف. والعصمة مثل الجبر تمنع من الإقدام على القبيح
وتدفع إلى الطاعة فليست في حاجة إلى لطف.
١٢ وقد ينفى اللطف بحرية الأفعال. فالإنسان
حر في أفعاله لا يحتاج إلى عون أو تأييدٍ سابق أو
مقارن أو لاحق إلا من بنية الفعل ذاته من أحكام النظر،
وقوة الباعث ووضوح الهدف، وشحذ الطاقة، ومعرفة مسار
الفعل وقوانين الحركة في التاريخ. فاللطف في هذه
الحالة ليس قوة تأتي من الخارج بلا تمييز ولا شرط، بل
هو تحول قوى الفعل من كم إلى كيف. فالفعل يولد طاقةً
جديدة أثناء تحققه زائدة على الطاقة الأولى التي كانت
قبل التحقق.
١٣
يمثل إثبات اللطف إذن خطورة على حرية الأفعال
وتهديدًا لأول مكتسب للعدل. وكيف يثبت اللطف أنصار
حرية الأفعال؟ الأولى بإثباته أصحاب الكسب لأنه أقرب
إلى الاستطاعة التي يخلقها الله ساعة الفعل، ولكن هذه
المرة من القدرة ولإزالة الموانع، وكلاهما مساعدة من
الخارج للتوفيق. والمساعدة ليست من الخارج بل من
الداخل ولكن الإنسان لا يعي القدرات غير المنتظرة
نتيجة للإخلاص والتضحية.
اللطف إذن عكس الحرية. إذا كان الإنسان قادرًا ولديه
استطاعة قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل ففيم اللطف؟
ألا يعتبر اللطف حينئذٍ تدخلًا في حرية الأفعال؟ إنه
ليصعب التوفيق بين الحرية واللطف.
١٤ إن إنكار اللطف ليس إنكارًا للقدرة بل
إثبات لحرية الاختيار. بل إن التكليف ابتداءً لا يحتاج
إلى لطف اللهم إلا إذا اعتبرنا العقل والحرية من
الألطاف مع أنهما من مكتسبات العدل الذي انبثق عن
التوحيد بفعل الحرية ثم انبثق العقل عن الحرية لأنها
حريةٌ عاقلة. ألا يمكن للإنسان ترك اللطف اختيارًا
والاعتماد على حريته وعقله؟
١٥ وكيف يمكن التوفيق بين اللطف من ناحية
والحرية والعقل من ناحيةٍ أخرى؟ وماذا لو رفض الأحرار
العقلاء اللطف، فالحرية لديهم قادرة على الفعل، والعقل
لديهم قادر على الوصول إلى التكاليف؟ وإذا كان اللطف
يتدخل في الحرية إلى المنتصف ففيم الحرية؟ ولماذا لا
يقطع اللطف الشوط كله؟ وماذا عن البواعث على الإيمان
والصوارف عن الكفر؟ هل يقدر الله على منح الأولى ومنع
الثانية؟ ولماذا يتناهى اللطف عند حد والله مقدوراته
لا نهاية لها؟ وأين يكون اللطف في حالة الإحباط
والخِذْلان؟ ولماذا لا يكون لطف للكافر كي يؤمن كما أن
للمؤمن لطفًا كي لا يكفر؟ إن الله أقرب إلى الخير فكيف
لا يصدر عنه إلا الخير؟ ولماذا يمنع الكافر من الكفر
ويقربه إلى الإيمان والطاعة؟ كيف يريد الله كفر الكافر
ويمنع عنه لطفه؟ إن من يُجوِّز اللطف لا بد أن يُجوِّز
الإضرار في حالة عدم وقوع اللطف. وفي هذه الحالة كيف
يضر الله وهو الخير المطلق؟ وإذا ما حصل الإنسان على
اللطف، فما المانع ألا يحصل على المزيد، يؤدي اللطف
إلى لطفٍ أكبر إلى ما لا نهاية؟ وإذا كان اللطف عامًّا
لا يخص فردًا دون فرد، فكيف يقع لفرد دون آخر؟ وما
مقياس الاختيار؟ أين تكافؤ الفرص؟ إن الصعوبة في اللطف
هي تبرير خصوصية فرد دون آخر. وإذا كان موجودًا منذ
البداية فلماذا مضاعفته للمطيع وعدم مضاعفته للعاصي؟
وإذا كان مقياس الاختيار هو الطاعة فالبداية للإنسان
وبالتالي يكون فعل الإنسان هو الشارط واللطف هو
المشروط، ويكون اللطف حينئذٍ هو القوة غير المتوقعة
المتولدة أثناء الفعل من طبيعة الفعل ذاته. صحيح أن
اللطف عام ولكن قد يكون اللطف لفرد مفسدة لآخر وهو ضد
العدل.
ويبقى سؤال: متى يظهر اللطف ومتى يختفي؟ ولماذا لا
يظهر اللطف عند صاحب الآلام والمشاق؟ ولماذا يمتنع عن
البائس والفقير والمظلوم والمحروم كما يمتنع الأصلح؟
أين اللطف في الدنيا بالمفسدين في الأرض وبالمحرومين
من عدالة السماء؟ بل وأين ألطاف البشر بالبشر والحكام
بالمحكومين؟ ألا يؤدي القول باللطف كما يؤدي القول
بالأصلح إلى جعل هذا العالم أفضل العوالم الممكنة،
ويجعل الإنسان لو علم المقدر لاختار الواقع لأنه لطف
فيه، وكما هو معروف في القول المأثور: «اللهم إني لا
أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه». ألا يؤدي
القول باللطف إلى قبول كل الأحزان والمصائب وقبول
الإنسان وضعه الاجتماعي المُزري تفاديًا لوضعٍ اجتماعي
أكثر إزراء! وحينئذٍ لا يملك الإنسان إلا الدعاء: «يا
خفي الألطاف، نجِّنا مما نخاف.»
١٦ إن ذلك كله تجديف على الله وإقحام الإنسان
نفسه فيما لا يعنيه وإسقاط عجزه أو قوته على إراداتٍ
مشخصة خارجة يجد فيها تعويضًا أو عونًا؟ إن اللطف لا
يتعدى في أصل الوحي العلم كخبرة وهو اللطف النظري أو
اللطف بالبشر وبالكون أي الرعاية والعناية والحفاظ على
الفعل والجهد. ولكن اللطف أيضًا للإنسان، لطف الإنسان
بالإنسان كعلاقةٍ اجتماعية وليس فقط كعلاقة بين الله والإنسان.
١٧