ثالثًا: أفعال الشعور الخارجية
بعد أن تتحقق أفعال الشعور الداخلية وخلق الإنسان لها إثباتًا لحرية الأفعال، تقوى الشخصية وتتوحد وتصبح قادرة على الانطاق من الداخل إلى الخارج، وتتحول أفعال الشعور من أفعالٍ عكسيةٍ منطويةٍ باطنية إلى أفعال مباشرةٍ ممتدةٍ خارجية. وتصبح أفعال «القلب» أفعال «الجوارح». ويتحول الشعور الخالص إلى بدن وجسم، وتتحول الحركة الداخلية إلى حركة خارجية. يصبح الشعور الخالص شعورًا بالعالم؛ وبالتالي تتحقق أفعال الشعور ليس داخل الشعور فقط بل أيضًا خارج الشعور في العالم. وبلغة القدماء يتم الانتقال من العقيدة إلى الشريعة، ومن الإيمان إلى العمل، ومن الإرادة إلى القدرة. وتظهر النظريات الثلاث نفسها التي ظهرت من قبلُ في وصف أفعال الشعور الداخلية، ونظريات الجبر والكسب وخلق الإنسان لأفعاله. يُسَمَّى الجبر عقيدة لأنه أقرب إلى العقائد منه إلى النظريات الفلسفية، حكم مسبق أو انفعال وضيق ليس له سندٌ عقليٌ واضح أو تشهد له تجربة الوجدان، بل مجرد خطابة مكبوتة إلى الداخل. والكسب نظرية لأنها أقرب إلى النظريات الفلسفية المبنية نظريًّا عن طريق الجدل. أمَّا خلق الإنسان لأفعاله فهي ليست عقيدة ولا نظرية، بل تجربةٌ واقعية يشهد بها الوجدان، ووضوح نظري يشهد به العقل، وشرط تكليفي للأفعال؛ وبالتالي فهي أقرب إلى البرهان.
(١) عقيدة الجبر
(١-١) دوافع الجبر
(١-٢) عقائد الجبر
-
(١)
القضاء والقدر. وتعني عقيدة القضاء والقدر أن كل ما يحدث في العالم مكتوب من قبلُ ومُسطَّر على صفحة الكون. يحدث بالضرورة بصرف النظر عن إرادة الإنسان. والفعل الإنساني ما هو إلا منفذ له بالضرورة. ولا تُقلِّل التفرقة بين الوصف والحكم شيئًا من الجبر، فالوصف علم، والعلم الإلهي كامل، ومن كمال العلم وقوعه كالمعلوم وإلا كان علمًا إنسانيًّا خالصًا تكون فيه الفجوة بين العلم والواقع حادثة. لا يهم إذن إذا كان المكتوب وصفًا أو حكمًا، فالحكم وصف والوصف حكم، والعلوم الوصفية علوم حكمية. و«اللوح المحفوظ» صورةٌ فنية للتدوين والتسجيل، والعلم المحفوظ دون جهل أو نسيان وإلا كان أمرًا سمعيًّا خالصًا يدخل في السمعيات ويخرج عن العقليات طبقًا لبناء العلم. وخلق الأفعال، والحسن والقبح العقليان أي موضوعا العدل مع التوحيد من العقليات.١٨والقضاء والقدر متلازمان، الأوَّل هو الأساس والثاني هو البناء. الأوَّل هو الخطة والثاني تحقيقها. الأوَّل هو الممكنات (اللوح) والثاني التحقيقات في الأعيان. الأوَّل هو الإجمال والثاني هو التفصيل. وهو ما يقابل عند الإنسان علاقة النظر بالعمل أو العام بالخاص أو الكل بالجزء أو الممكن بالواقع أي إنها علاقة إنسانية صرفة تكشف عن بنية الفعل الإنساني.١٩ وإذا كانت عقيدة قال بها جميع الأنبياء فقد كان ذلك طبيعيًّا في مراحل الوحي السابقة قبل أن تكتمل تربية الجنس البشري حتى يستقلَّ عقل الإنسان وإرادته أمام نظام الطبيعة الثابت.٢٠وقد تخفُّ حدة الإلزام والجبر في المعنى ويصبح القضاء والقدر مجرد إعلام وإخبار وتبيين وبيان. فهو يشير إلى النظر لا إلى العمل، وإلى العلم لا إلى الإرادة، وإلى نظام الكون لا إلى حرية الإنسان. فالقضاء هنا معناه الحكم أو الأمر أو الخبر وليس الإجبار والإقهار والتأثير. قد يكون معناه الترتيب والنظام، أي ارتباط سلسلة الحوادث فيما بينها بالعلة والمعلول، وهي الحتمية الطبيعة أساس العلم وليس جبر الأفعال أساس المسئولية الخلقية. هناك الخلق والتقدير على مستوى الكون والطبيعة، ولكن هناك أيضًا حريةٌ تامة وخلقٌ إنساني في الطبيعة وتغير لأشكالها وصورها ومسارها، خاصةً فيما يتعلق بالنظم الاجتماعية. التبيين والإعلام مجرد كشف العلم، وهذا لا يعرف مسبقًا؛ فالعلم بعدي إلا من خطةٍ إنسانية يضعها الإنسان لينفذها ويُعدُّ لها ثم ينفذها بالفعل فتكون قبليةً بعدية، استنباطيةً استقرائية معًا مثل الوحي بدليل النسخ وتطور النبوة. وقد يكون الإلزام نفسه إلزامًا داخليًّا باطنيًّا صرفًا أو إلزامًا عقليًّا مبدئيًّا أو إلزامًا أخلاقيًّا وليس بالضرورة إلزامًا خارجيًّا، وهو ما يعرف الآن بلغتنا المعاصرة باسم «الجبر الذاتي».٢١وكما أن القول بالجبر كان نتيجةً طبيعية لإثبات الصفات، فإن عقيدة القضاء والقدر نتيجةٌ طبيعية لإثبات الإرادة والقدرة كصفتَين لله، فالله مريد لجميع الكائنات، وقادر على كل شيء. ويصل الأمر إلى اعتبار القضاء والقدر صفاته في الأزل.٢٢ ويقول إذا كانا من صفات الذات وتخفُّ الحدة إذا كانا من صفات الفعل؛ فصفات الذات أقوى لأنها ترتبط بالأزل، وصفات الفعل أقل لأنها أقرب إلى الحدوث. وقد تنشأ حلولٌ متوسطة فيكون القضاء قديمًا والقدر حادثًا، وهو أقرب إلى العقل، وصلة القضاء بالقدر كصلة بين العام والخاص، أو يكون القضاء حادثًا والقدر قديمًا وهو ما يعارض طبيعة الصلة بين الكل والجزء، وبين الممكن والواقع.٢٣وفي العقائد المتأخرة ضاع موضوع خلق الأفعال كليةً في التوحيد، ثم أصبح معنى التوحيد المعبر عنه في «لا إله إلا الله» هو الإيمان بالقضاء والقدر الذي أصبح هو الموضوع البديل لخلق الأفعال وللتوحيد على السواء. ثم اقترب من التصوف وتوحد به وأصبح الموحد هو الصوفي الذي يؤمن بالقضاء والقدر. لم يصبح الإيمان بالقضاء والقدر فقط إحدى عقائد الجبر وأحد الحلول للفعل الإنساني بل أصبح إيمانًا أعمى مكتفيًا بذاته وانتهى موضوع الأفعال الأوَّل. وبالتالي أصبحت شهادة «لا إله إلا الله» وهي شعار الرفض والتحرر المعبر عن فعلي النفي والإثبات شعار الإيمان بالقضاء والقدر طبقًا لعقيدة الاستغناء والافتقار؛ استغناء الله عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه. وبالتالي أصبحت عقيدة القضاء والقدر هي كل التوحيد والعدل.٢٤والعجيب أنه حتى بعض الحركات الإصلاحية تثبت القضاء والقدر وتُكفِّر كل من لا يؤمن به. بل إن القضاء والقدر يحطَّان على الإنسان بسلطة النصوص دون أي عرضٍ عقلي أو تحليل لسلوك الإنسان. ثم يتحد القضاء والقدر مع الصبر عند الصوفية ويتم الإصلاح عن طريق الصبر على أقدار الله، بل إن كل من لم يسع إلى الأقدار سعت هي إليه، وكل من سعى إلى الأقدار، لم تسع هي إليه وكأن الإنسان وجود من أجل قدره. فالحوادث تقع في الكون بفعل الأقدار لا بفعل الإنسان، وإذا سعى الإنسان باختياره الحر وإدراكه العقلي وتمييزه بين الحسن والقبيح لم يتم أي فعل ولم يتحقق شيء.٢٥ولكن بعض الحركات الإصلاحية الأخرى أعادت النظر في عقيدة القضاء والقدر، والتفرقة بينها وبين مذهب الجبرية، وإعادة تفسير القضاء والقدر على أنه جبر ذاتي لا ينفي الفعل، بل يبعث على الإقدام، ويمنع من الإحجام والتردد؛ فالاعتقاد بالقضاء له أساس وجداني، ويقوم على العلة والمعلول والإيمان بالأسباب، يبعث على شجاعة الأفراد ضد التوكل والبطالة والكسل، وله سند من التاريخ؛ إذ به تقدمت الأمم ونهضت الشعوب وكأنه ضمن قوانين التاريخ وسنن الأمم في الكون.٢٦ وقد لاحظ بعض المحدثين في العقائد المتأخرة ذلك أيضًا وحاولوا التوفيق بين عقيدة القضاء والقدر والدعوة إلى العمل.٢٧ كما حاولت حركةٌ إصلاحيةٌ ثالثة النهي عن الخوض في القدر، والتأكيد على أن علم الله بعمل الإنسان الاختياري ليس ملزمًا؛ وبالتالي الانتقال خطوة من الأشعرية إلى الاعتزال.٢٨ كما حاولت حركةٌ إصلاحيةٌ رابعة نفي العقيدة كليةً على نحو أشعري دون نقد للعقيدة وتفنيد لحججها وبيان لمخاطرها وكشف عن أخطائها.٢٩ وكأنه يصعب الدعوة إلى العمل والحرية وعقيدة القضاء والقدر ما زالت راسخة في التراث، وإحدى مكونات الدين الشعبي وموجهًا لسلوك الجماهير.ومن العقيدة الأم، القضاء والقدر، تنبع عدة عقائد أخرى في مقدمتها مسئولية الله عن الخير والشر والحسن والقبح وكل ما يحدث في العالم من نفع أو ضر للإنسان لما كان الله خالق كل شيء، والخير والشر والحسن والقبح والنفع والضر أشياءُ مخلوقة. وإذا كان من المعقول أن يصدر الخير عن الخير فكيف يصدر الشر عن الخير؟ وأين مسئولية الإنسان في الاختيار وفي التمييز بين الحسن والقبيح؟ يثبت القضاء والقدر إذن بخيره وشره دون حتى التساؤل كيف يكون المؤلَّه المعظم خالقًا للشر؛ وبالتالي يضيع التنزيه في زحمة إثبات خلق الله الشامل لكل شيء.٣٠ وقد ظهر ذلك بوضوح عند الفلاسفة في قولهم بالقضاء والقدر على مستوى الكون؛ فالنظام في الوجود أو في العالم متوجِّه إلى الخير لأنه صادر عن الخير، وتلك هي العناية الأزلية والإرادة السرمدية؛ فكان الخير داخلًا في القضاء الإلهي دخولًا بالذات لا بالعرض. ولما كان الله هو العالم عند الفلاسفة أصبحت مسئولية الله عن الشر عند الأشاعرة مسئولية الكون كله. والشر المطلق لا وجود له، وكذلك الشر بالذات لا وجود له إلا في اللفظ أو الذهن وليس في الوجود. وهو داخل في القضاء الإلهي بالعرض لا بالذات. والخير المطلق فهو في الطباع والخلقة، أمَّا الخير الممزوج بالشر، فالتساوي بينهما لا وجود له، وغلبة الشر على الخير أيضًا لا وجود لها. والموجود فقط هو الخير الغالب، وهو رنة تفاؤل لتجعل الفطرة خيِّرة بطبعها، وتنكر وجود الشر الوجودي؛ فالشر بالذات هو العدم.٣١ أمَّا الجهل والعجز والتشويه والوجع والألم والمرض والظلم والسرقة فكلها مظاهر نقص أي أوضاعٌ اجتماعية يمكن تغييرها، أعراض طارئة وليست جواهر ثابتة.
-
(٢)
الإشقاء والإسعاد. وتنتج عن القضاء والقدر عقيدةٌ أخرى تماثله قوةً وانتشارًا، وهو موضوع الإسعاد والإشقاء، وهو التعبير عن القضاء والقدر على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية. هي الصورة الغالبة في العقائد المتأخرة نظرًا لانتشارها في الدين الشعبي، وأثرها في الحياة الاجتماعية، والترويج لها سياسيًّا لدى النظم القائمة ومن خلال أجهزة الإعلام والمؤسسات الدينية. وأهمية مثل هذه العقائد المتأخرة أنها تكشف عن الوضع الحالي للأمة، بنائها النفسي ووضعها الاجتماعي. فالسعادة والشقاوة أزليَّان، مقدَّران من قبلُ، لا يتغيران ولا يتبدَّلان. «السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقى في بطن أمه!» وبالتالي استحال تغيير الأوضاع الاجتماعية، استحال أن يصبح الشقي سعيدًا أو السعيد شقيًّا، نظامًا كونيًّا أبديًّا لا يتغير. والسعادة في الإيمان والشقاء في الكفر وليس في رحابة العيش وبحبوحة الدنيا. ولما كان الفقراء من المؤمنين فهم السعداء، والأغنياء من الكافرين فهم الأشقياء. يسعد الفقراء بفقرهم ويشقى الأغنياء بغناهم! يسعد المظلومون بظلم الظالمين لهم، ويشقى الظالمون بظلمهم للمظلومين! والعبرة بالخواتيم وليس بالفواتح، العبرة بالمآل وليس بالحال. لا يهم إن عاش الشقي شقيًّا بل يهمه أن يموت سعيدًا، ولا يهم إن عاش السعيد سعيدًا يكفيه أنه يموت شقيًّا! وتخاف العامة من الخاتمة وتستعد لها كما تخاف الخاصة من السابقة وتخطط لها. تحرص العامة على آخرتها حرص الخاصة على دنياها. وتكاد تجمع العقائد المتأخرة على ذلك، والخلاف بينها لفظي لأنها تعبر عن أوضاعٍ نفسية واجتماعيةٍ شائعة وعامة في الأمة.٣٢والإشقاء والإسعاد صفات تتعلق بالحياة الإنسانية لا مهرب منها، بالرغم من أنها الأقل سطوةً من صفات الذات والأكثر حدوثًا وتغييرًا واتصالًا بأفعال العباد؛ فهي خلقٌ أبدي من الله في الإنسان، ليس فقط خلق القدرة على الكفر والإيمان بل خلق الكفر والإيمان؛ فلا يبقى للعبد أي دور فيما يحدث له من سعادة أو شقاء. فإذا كانت الصفات قديمة فالإسعاد والإشقاء قديمان بقدمهما لارتباطهما بالتكوين، والتكوين صفة ذات. الإسعاد والإشقاء إذن أوضاعٌ كونية كالخلق، في العلم الإلهي وفي الفعل الإلهي وفي الكون وفي الوجود الإنساني، أي في الأسس النظرية الكونية.٣٣ والسعادة والشقاء ليسا في الإيمان والكفر وحدهما بل في العمل الصالح أو الطالح؛ فالإيمان أو الكفر يمثلان النظر وحده دون العمل. والعمل الصالح أكثر اتساعًا وامتدادًا وانتشارًا من العمل الشعائري الذي يعبر عن التقوى الباطنية أو الحياة الأخلاقية الضامرة. والإيمان والعمل اختياران وإن كانا ضمن العلم الإلهي السرمدي الذي يتحقق بتحقق الأفعال.ومن الإسعاد والإشقاء تنبثق أمور الخذلان والإضلال، والتوفيق والهداية، وكأن العقائد المستقاة من عقيدة القضاء والقدر التي هي لبُّ عقيدة الجبر تتغلغل في أفعال الشعور الداخلية تغلغلها في أفعال الشعور الخارجية، وربما أيضًا في أفعال الطبيعة والمجتمع والتاريخ. وهي كلها مجرد إحساسات وعواطف وانفعالات، أي أوهام وتخيلات وتمنيات، ولا شأن لها بصفة التكوين. إنما تقوم على الجهل بالأسباب وبالأوضاع النفسية والاجتماعية للأفراد والجماعات. إن القول بأن الله هو الموفق للإيمان والعمل الصالح أو هو الخاذل للكافر وليس قدرة العبد إنما يعني عند العامة مجرد قانونٍ كوني عام أشمل من سلوك الأفراد، ويعني عند الخاصة مجرد مأثورٍ شعبي يعبر عن الدين الشعبي، ولا ينفي في الواقع حقيقة اختيار الإنسان.٣٤ ويتم ذلك عن طريق صدق الوعد وليس عن طريق الحق المكتسب، وحتى يكون الوعد صادقًا في حياة البشر. إن الوعود تخلف، وصدق الوعد الإلهي قلب لخلف الوعد البشري وتعويض عنه.
(١-٣) حجج الجبر
- (١) التوهم بأن إثبات الفعل الإنساني في المستقبل أو المشترك مع فعل المؤلَّه المشخص يؤدي إلى الشركة، والشركة تؤدي إلى الشرك؛ لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا المؤلَّه المشخص.٣٦ والحقيقة أن اعتبار الفعل الإنساني مزاحمة ومشاركة للفعل الإلهي رفعةً من شأن الإنسان وحطةً من شأن الله وكأن الإنسان والله أصبحا طرفَين متماثلَين، نِدَّين متعادلَين يتنازعان فعلًا واحدًا وهو ما يعارض التنزيه. وليس حطة في الله أو انتزاعًا لحقه أن يكون الإنسان هو الفاعل الحق ما دام الله خالق كل شيء ومالك كل شيء. وليس عظمة لله أن ينازع اللهُ الإنسانَ فعله ويسلبه إياه ويغتصبه منه. إن هذه الحجة ليست فقط رفضًا للحرية، بل أيضًا رفض للكسب لأن الكسب يعني المشاركة بين الله والإنسان في فعلٍ واحد. كما تقوم الحجة على المصادرة على المطلوب لأنها تقوم على مسلَّمة سابقة وهي أنه لا فاعل حق إلا الله وهو المطلوب إثباته. وقد أعاد علم الكلام المتأخر تحقيق الكلام المتقدم وانتقد خطابيته وزاد من أحكامه العقلية تحت تأثير الفلسفة التي أعطته دفعةً جديدة نحو العقلانية وأعادت صياغة الحجة نفسها في شعبٍ ثلاث. الأولى استحالة مقدور بين قادرين نفيًا للشركة. ولكن حتى في هذه الصياغة، لماذا يُضحَّى بقدرة الإنسان كي تثبت قدرة الله ولا تثبت قدرة الإنسان وهو الأقرب لبداهة الحس وواقع المشاهدة؟ والثانية استحالة جواز التأثير في الفعل وإلا جاز التأثير في الوجود. والحقيقة أن القدرة الحادثة وهي قدرة الإنسان ليس القصد منها إيجاد الأشياء بل توجيهها وإعادة نظامها. وليس هدفها تغيير الطبائع بل صورها، أو تبديل الجواهر بل أعراضها. وتوجيهها إلى الطبائع والجواهر مجرد مزايدة من أنصار الجبر على الإيمان. فما من أحد قادر على خلق الأشياء وإن أمكنه إبداع صورها. والثالثة قدرة الباري على جنس ما أقدر عليه عباده. ومن الطبيعي أن يكون الله قادرًا على جنس أفعال العباد. ولكن هناك فرق بين القدرة على الجنس والقدرة على الفعل الفردي؛ فالقدرة الصورية كلما كانت عامة وشاملة فإنها لا تتحقق بالفعل في الأفعال الفردية التي تتحقق بقدرة العباد. هذا بالإضافة إلى أنها مزايدة الكل على الجزء لا ينتج منها لا تنزيه لله ولا اعتزاز بالإنسان. وفي النهاية ليس المطلوب هو إعلان التحدي والمبارزة بين الله والإنسان، أيهما أقدر على تسيير الحوادث وإيجاد الكائنات؛ فالإنسان لا يدعي أنه خالق العالم أو موجده، بل هو مؤثر في مساره، وموجِّه لنظمه الاجتماعية.٣٧
- (٢) إن وقوع أفعال دون العلم بها كليًّا أو جزئيًّا لا يعني تدخل إرادةٍ خارجية في الفعل تقرر العلم به أو تحقيقه، بل يعني أن الإنسان كثيرًا ما يفعل دون وضوحٍ نظريٍّ كافٍ لأساس الفعل وغايته. صحيح أن الفعل الأمثل هو ما قام على أساسٍ عقليٍّ واضح وكافٍ له غاية وهدف، والفعل القائم على استبصار كل العوامل التي في ميدان الفعل حتى يتحقق الفعل بنجاح تام. ولكن هذه الإحاطة النظرية الشاملة بجميع العوامل المتداخلة في ميدان الفعل قد تكون نسبية أو مستحيلة، فيتأتَّى الفعل نسبيًّا أيضًا بقدر المعلومات التي لدى الإنسان عن الموقف. ولكن بمجرد بدء الفعل يزيد الإنسان من معلوماته، بل ويُغيِّرها طبقًا للواقع الجديد غير المعروف أو يحدث علمًا في التو واللحظة. وهذا موقفٌ سلوكيٌّ خالص لا يشير إلى تدخل أية إرادة خارجية عالمة بالموقف كله من قبلُ ومقررة له.٣٨ويجوز إتيان الفعل بأساسٍ نظري عام دون الإحاطة بجميع التفاصيل؛ فذلك لا يقدح في صحة الفعل أو في يقين النظر، خاصةً ولو كانت تلك التفاصيل غير دالة أو مستحيلة أو خيالية مثل العلم بالسكنات المتخللة للحركات البطيئة! وكأنها حجة زينون في إبطال الحركة تستخدم هنا لإثبات الجهل! وكأن الفعل لا يحدث كواقعٍ حيوي لا يتجزأ إلى حركاتٍ ساكنة.٣٩ يحدث الفعل في الحقيقة على علمٍ حاصل بقدر الإمكان؛ إذ يصعب أو قد يستحيل الإلمام نظريًّا بجميع العوامل الداخلة في ميدان الفعل لاحتمال تدخل الجديد باستمرار. ولكن اعتمادًا على سرعة البديهة وأخذ القرار، واعتمادًا على القدرة على التكيف في إتيان الفعل يمكن التغلب على عدم المعرفة بالتفاصيل. والتفاصيل هي الدالة على الفعل المؤثرة فيه لا التفاصيل غير الدالة التي لا تؤثر في سريان الفعل. ولما كان الفعل يتحدَّد أساسًا بالأفكار والبواعث والغايات وطبيعة الموقف، فإن ما سوى ذلك تفاصيل غير دالة مثل تركيب اليد أو لونها أو عدد شعيرات جلدها!
والفعل غير المقصود وغير المروي هو الفعل الأمثل. وأفعال المصادفة والحظ ليست أفعالًا تقوم على علمٍ مسبق. وأفعال المصادفة لا تثبت إرادةً خارجية، بل لا تثبت إلا المصادفة. وحتى لو كانت كذلك فكيف تكون أفعال عدم التروِّي والمصادفة دليلًا على المؤلَّه المعبود؟
- (٣) ولا يعني العلم الشامل كصفة للمؤلَّه إثباتًا للجبر بأي حال؛ فبالإضافة إلى أن ذاته تشخيص لعواطف التعظيم والإجلال وليس له وجودٌ واقعي في العالم، فإن وجود علم شامل لا يعني بالضرورة وقوعه. هناك فرق بين العلم والإرادة، بين النظر والعمل. ولكن قد يقال إن من صفات العلم الكامل تحقيقه، وإن التمييز بين العلم والإرادة أو بين النظر والعمل أو بين الممكن والواقع أو بين الماهية والوجود لا يحدث إلا في الإنسان. ففي هذه الحالة لا مفر من الوقوع في التشخيص.٤٠والإخبار عن شيء في الوحي بأنه سيقع أو لن يقع لا يعني إثبات أي جبر على الحوادث؛ فهذا علم مسبق معطى للإنسان كي يقيم حياته ويحقق غايته على أساسٍ نظريٍّ يقيني. فالوحي يعطي النظرية مسبقًا حتى يكون الجهد كله للعمل. الإخبار عن شيء لا يعني حدوث الشيء، بل يعني يقينًا نظريًّا مسبقًا على الإنسان أن يحققه بفعله. إن معرفة الاشتراكي المسبقة بانتصار الطبقة العاملة لا تعني تدخل أية إرادةٍ خارجية تنصر الطبقة العاملة، بل تعني إعطاء اليقين النظري اللازم حتى تقوم الطبقة العاملة بفعل الانتصار. إن إخبار الوحي بأن أمةً ما هي خير أمة أُخرجت للناس لا تعني أن هذه الأمة قد أصبحت كذلك بالفعل، بل تعني كشف إمكانيةٍ خالصة تتحول إلى حقيقة بفعل هذه الأمة وتحقيق شرطها.٤١
- (٤) ولا يعني وجود إرادةٍ شاملةٍ مطلقة إلغاء الحرية الإنسانية، فهذه الإرادة معلقة بذات هو في الحقيقة تشخيص لعواطف التأليه التي هي في حقيقتها عواطف تعظيم وإجلال، إمَّا كتعويضٍ نفسي عن هزيمة أو كائنات سلطة في مجتمعٍ منتصر. ولو قيل إن إرادة المؤلَّه إرادة في ذاته، ولا تعني وقوع إرادته بالضرورة على نحوٍ إنساني لم تعد الإرادة على مستوى الكمال. فالإرادة الكاملة هي الإرادة في الذات وفي الغير على السواء. والإرادة في الذات دون الغير إرادةٌ ناقصة. وكيف يمكن تصور إرادةٍ نظرية دون إرادةٍ عملية؟ الإرادة الشاملة مثل العلم الشامل، كلاهما حقٌّ نظري لله لا ينفيان واقع الإنسان العملي كإنسانٍ عامل ومريد.٤٢
- (٥) والأفعال اللاإرادية ووقوعها لا تثبت تدخل أية إرادة خارجية في سير الحوادث، بل هي أفعالٌ متوقعة من الإنسان. وكثيرًا ما وقعت أفعال دون قصد، وكثيرًا ما رمى الإنسان إلى فعل شيء فحدث شيءٌ آخر. وذلك يثبت فقط أنه لا توجد صلة حتمية بين الفعل والقصد، وذلك لأن الإنسان حر حتى في داخل فعله، وأنه يصعب التنبؤ بمسار الفعل وغايته حتى لو أعدت العدة كاملة له. وكثيرًا ما رمى العلماء إلى اكتشاف شيء فاكتشفوا غيره وهم بصدد البحث.٤٣ بل إن الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية يثبت الحرية بدليل الفعل الاختياري ولا يثبت الجبر بدليل الفعل اللااختياري؛ فالفعل غير الاختياري قد يعبر عن طبيعة الإنسان ورسالته ودعوته، أو قد يعبر عن الدافع الأقوى وهو غير شعوري لا يظهر فيه الاختيار صراحة. ولكن وجود الفعل غير الاختياري لا يثبت عدم القدرة بل يثبت فقدم عدم تأثيرها.٤٤ وقد تكون الأفعال اللاإرادية في حقيقة أمرها أفعالًا إرادية من نوعٍ آخر وعلى مستوًى أعلى وأعمق في الشعور. فالمجاهد يستطيع إراديًّا أن ينتصر على آخر، ولكنه يستطيع أيضًا الانتصار على عشرة أمثاله أو عشرين، طبقًا للباعث والغاية. فاللاإرادي هنا إرادي يعبر عن طبيعة الإنسان وعن مدى إحساسه بالحياة وتمثله لدعوته وتحقيقه لرسالته. ولكن يظل الفعل الأمثل هو الفعل الإرادي. فإذا حدثت أشياء غير متوقَّعة فإنه يمكن احتواؤها بإرادةٍ جديدة وبتغيير خطط السلوك. هناك ظروف اجتماعية تحدد من عمل الإرادة، فالإرادة ليست خالصة، بل تعمل في موقف. والأشياء غير المتوقَّعة والموقف ليسا هما المعبود وإلا كانا مجرد تعبيرٍ انفعاليٍّ عاطفي عن تغير الموقف.ويقوم إثبات الجبر على نفي الصلة الضرورية بين العلة والمعلول، إذا وُجدت الإرادة حدث الفعل وإذا عُدمت الإرادة عُدم الفعل. فقد يحدث فعل بلا إرادة، وقد توجد إرادة ولا يحدث فعل، وهذا نفي للعلم وللفعل معًا. فالعلم يقوم على الارتباط الضروري بين العلة والمعلول. والفعل يقوم على استقلال العلة عن أي شيءٍ آخر سوى الإنسان وأنه هو المحقق للفعل. ونفي ضرورة العلم يفسح المجال للأسطورة والقضاء على الفعل يفسح المجال للطغيان الذي يجمع كل الأفعال في فعلٍ واحد هو فعل الطاغية.٤٥
- (٦) وعدم القدرة على الإتيان بالضد لا يثبت وجود قدرةٍ خارجيةٍ قادرة على الإتيان به. فالسلوك الإنساني سلوكٌ موجَّه قائم على فكرةٍ واضحة، ومدفوع بباعثٍ واحد، ويرمي إلى تحقيق غاية. فالإتيان بالضد مستحيل عمليًّا ونفسيًّا وفكريًّا. فالعادل، إيمانًا بأن العدل قيمة وباعث وغاية لا يقدر على الظلم، والصادق لا يقدر على الكذب، والأمين لا يقدر على الخيانة. السلوك الإنساني سلوكٌ موجَّه يسير في خطٍّ واحد ولا يرجع إلى الوراء.٤٦ إن افتراض القدرة على الضد افتراضٌ صوريٌّ محض يقوم به المشاهد المحايد الخارج عن الفعل وكأن السلوك الإنساني سلوكٌ آلي يحدث في أي اتجاهٍ ممكن، ويتغير من اتجاه إلى آخر ما دام الفعل حرًّا. لا يعني الفعل الحر، الفعل بلا غاية ولا باعث ولا فكرة، أي الفعل الذي يسير في كل اتجاه فهذه حرية اللامبالاة، وهي حريةٌ افتراضيةٌ صوريةٌ خالصة وأقرب إلى غياب الحرية، الفعل الحر هو الفعل الهادف الملتزم القائم على باعث. إن افتراض وجود قدرةٍ أخرى أعظم قدرة على خلق الضد افتراضٌ صوريٌّ خالص يقوم على إثبات عواطف التأليه والتعظيم وعلى المزايدة في الإيمان، ولا يثبت شيئًا في الواقع. وهناك فرق بين السلوك الموجَّه كنتيجة للجبر وبين السلوك الموجه كنتيجة للجبر الذاتي؛ ففي الجبر يستحيل على الإنسان أن يكون قادرًا على الترك أو على فعل الضد، لا لأن فعله مرهون بفكرة أو باعث أو غاية، بل لأنه مسيَّر بقدرةٍ خارجية لا محيد عنها، وعادةً ما يحدث الفعل في حدود الطاقة البشرية ولا يتعداها. وإعادة شجرة مقطوعة أو حمل رجل بعد الأخرى خارج عن حدود الطاقة، ولا يثبت عجز الإنسان على الإتيان بالضد. فهذا الافتراض قائم إذن على استحالةٍ عملية؛ ولذلك فهو افتراضٌ صوريٌّ خالص لا يثبت شيئًا فوق الطاقة، ولا يقضي على الفعل في حدود الطاقة.
- (٧) ولا يعني خلق الأفعال خلق الشيء، بل تأدية الشيء والإتيان بفعل. لا يعني خلق الأفعال خلق ميدان الفعل، بل تحقيق الفعل فيه. لا يعني الخلق المادي للشيء بل الخلق المعنوي للفعل الذي هو مجرد تحقيقه في موقف. فالشاعر خالق للقصيدة وليس خالقًا للورق أو الصوت أو الحروف أو الكلمات، والمحرِّر خالق للتحرر وليس خالقًا للوطن المحرَّر. يمكن إذن الإتيان بالفعل الحر في عالمٍ غير مخلوق فيه. إن الفعل لا يَخلق من العدم الوجود، بل هو فعل يحدث في الوجود ويهدف إلى تغيير بناء الواقع. هو فعل تغيير شيء موجود من وضع إلى وضع وليس فعل خلق من عدم.٤٧ لقد أصبح موضوع الحرية، ابتداءً من القرن السادس بعد ظهور الفلسفة وكأنها الخطر الداخلي على التوحيد بعد درء الأخطار الخارجية، أخطار التأليه والتجسيم والتشبيه؛ أصبح موضوعًا للإلهيات والطبيعيات وليس موضوعًا للإنسانيات، أي حرية الاختيار كأساس للتكليف. وأصبحت مسألة الحرية في الخلق والإيجاد موضوعًا طبيعيًّا وليس موضوعًا إنسانيًّا. ولكن ظل الله في كلتا الحالتين هو الطرف المقابل لفعل الإنسان الخارجي في العالم وفي الطبيعة. فإذا كانت الإرادة هي التي تهدد حرية أفعال الشعور الداخلية، فإن القدرة هي التي تهدد حرية أفعال الشعور الخارجية. الإرادة في صلة مع أفعال القلوب والقدرة في صلة مع أفعال الجوارح. الإرادة في علاقة الله بالإنسان، والقدرة في علاقة الإنسان مع الطبيعة. القدرة القديمة وحدها هي القادرة على إحداث الأجسام؛ فالحادث لا يصدر من حادث؛ لذلك ارتبط الموضوع بحدوث العالم. والتفرقة بين الحركة الإرادية والحركة اللاإرادية لا تثبت القدرة القديمة بدليل الحركة اللاإرادية دون الحادثة بدليل الحركة الإرادية؛ مما يدل على أن كل مذهب يأخذ من التجربة ما يتفق معه ومع مسلماته وأحكامه المسبقة.٤٨
- (٨) وحدوث الترجيح بين البواعث لا يعني تدخل إرادةٍ خارجية أحدثت هذا الترجيح، خاصةً لو كان المرجَّح يحتاج إلى مرجِّح، وهذا إلى ثالث. وما دام لا يمكن التسلسل إلى ما لا نهاية، فيجب الانتهاء عند المؤلَّه المشخص. فبالإضافة إلى أن هذا تفكيرٌ دائري، أي أنه مجرد عاطفة أو انفعال سابق على التفكير، يظهر التفكير فيه على أنه مجرد حركة للرجوع إلى الوراء. والتفكير العلمي في مساره تفكير إلى الأمام وإلى الكشف عن المجهول. وإن احتياج الفعل إلى مرجِّح كي يحدث لا يعني حدوث هذا المرجح من الخارج، بل يتم بمقارنة البواعث أيهما أقوى ثم اتِّباع الباعث الأقوى أو بمقارنة غاية كل فعل مع غاية الآخر ومعرفة أيهما أكثر قيمةً وثباتًا أو بالرجوع إلى المصلحة العامة التي ينتهي إليها التسلسل، وهذا كله لا يحدث بطريقةٍ صورية. لا يحدث بأن يجد الإنسان نفسه محايدًا بين فعلَين منتظرًا لمرجح يوجهه نحو الأوَّل أو نحو الثاني، بل يتبع الإنسان طبيعته وتكوينه ودعوته وغايته. الاختيار بين فعلين في الحقيقة ليس اختيارًا حسابيًّا، بل هو اختيارٌ قائم على الباعث الأقوى في الحياة.٤٩
(١-٤) نقد الجبر
الحقيقة أنه يصعب التفرقة بين الأسس والنتائج والمخاطر والأخطاء للجبر، سواء في أفعال الشعور الداخلية أو في أفعال الشعور الخارجية؛ فهي كلها متداخلة فيما بينها؛ فالأسس هي الحجج، والنتائج هي المخاطر، والأخطاء هي تفنيد الحجج. لذلك وضع الكل تحت موضوع واحد وهو «نقد» الجبر.
- (١) إثبات ذات مشخَّصٍ مؤلَّه قادر قدرةً مطلقة وعالمٍ علمًا شاملًا يبطل كونه حكيمًا صادقًا. وتصبح أوصافه سفيهًا ظالمًا كاذبًا لأنه يفعل الظلم ويجبر الإنسان على أفعاله ويحاسبه، يسلبه حريته ويكلفه.٥٠ وهو في الحقيقة تشخيص عواطف التأليه ثم تصور وجود شخصٍ مؤلَّه له قدرةٌ شاملة وعلمٌ محيط يتدخل في حوادث الكون ويتحكم في مصائر البشر ويوجِّه أفعال الإنسان كحقٍّ مطلق وكواقعٍ مثبت. يستطيع أن يفعل أي شيء أراده الإنسان أم لم يرده، يستطيع أن يمنع أي شيء من الوقوع أراد الإنسان حدوثه أم لم يرده، يستطيع أن يعدم الإنسان ذاته بعد وجوده وأن يوجده بعد عدمه. لا يبقى أمام سلطاته قانونٌ ثابت، ولا عالمٌ قائم. كل شيء يخضع لإرادته ومشيئته. يستطيع أن يجعل الثلج نارًا، والنار ثلجًا، أو أن يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثُعبانًا، وأن يطلق الأشياء في الهواء دون أن تقع، وأن يوقف السهم في الجو دون أن يصيب، وأن يعاقب المحسن ويثيب المسيء، لا رادَّ لحكمه ولا رافع لقضائه. ما دامت هذه هي البداية فيستحيل إثبات فعل الإنسان الحر وإرادته المستقلة لأن البداية بداية نظرية وليست أمرًا واقعًا. وهي مقدمة تشمل الموقف والنتيجة معًا ولا يمكن بعدها إثبات شيء لأنها تتعلق بالشرعية الأولية والحق النظري الأوَّل. هي بداية تحتوي على حلٍّ مسبق هو إلغاء وجود الإنسان المستقل وفعله الحر. وبالتالي فالجبر ليس وصفًا للفعل الإنساني بقدر ما هو قرار مسبق مبني على شرعيةٍ أولية هي في الوقت نفسه أساسٍ كوني. وقد فرَّق الفقهاء من قبل بين إرادة التكوين وإرادة التشريع، الأولى كونية لا مردَّ لها، والثانية تشريعية تعطي الأمر ولا توجبه، وتفسح المجال أمام الإنسان للفعل الحر والإرادة المستقلة.
حينئذٍ يكون السؤال: ماذا يبقى من الإنسان لو عدم وجوده؟ ماذا يبقى منه لو قضى على فعله؟ ماذا يبقى منه لو سلبت حريته؟ ولحساب من؟ ولما كُنَّا نعلم من التوحيد أن عواطف التأليه هي في أساسها عواطف تنشأ في ظروفٍ اجتماعيةٍ معينة؛ إذ ينشأ التأليه والتجسيم في مجتمع مضطهد على درجات مختلفة من الاضطهاد، كما ينشأ التنزيه والتشبيه في مجتمعٍ منتصر بصورتَين مختلفتَين: الأولى تثبت البؤرة المركزية المتعالية، والثانية تثبت سيطرتها على الواقع بالفعل، كذلك فإن إثبات الجبر يؤدي إلى إثبات السلطة في المجتمع المنتصر وإقامتها على الشرعية الأولى. ومع ذلك، وكما يحدث في المجتمعات المضطهدة، يتحول الجبر الإلهي الكوني إلى جبرٍ ذاتيٍّ باطني، أي حتمية تحقيق الإنسان لرسالته في الحياة، وضرورة تحقيق عالم الفضيلة كتعبير عن كمال الطبيعة، ويتحول إلى عملية تحرر للإنسان وللكون معًا.
- (٢) يتم تصور التأليه على أنه بقدر ما يعطي المشخَّص المؤلَّه من قدرةٍ مطلقة يسلب من الإنسان قدرته، وبقدر ما يكون المشخَّص المؤلَّه حرًّا تلغى من الإنسان حريته؛ فالعلاقة بين المؤله المشخص وبين الإنسان علاقةٌ عكسية وليست طردية. بقدر ما يعطى الأوَّل يؤخذ من الثاني، وبقدر ما يؤخذ من الأوَّل يعطى الثاني. وهي علاقة تضارب وصراع تكشف عن مزاحمة بين الله والإنسان، وكأن العالم لا يكون فيه إلا بطلٌ واحد. وهذا تصورٌ خاطئ لأنه لا يوجد مؤلَّه مشخَّص في الواقع واقف للإنسان بالمرصاد. كلما أراد الإنسان أن يكون حرًّا سلبت منه حريته. ولا يأتي الإنسان بفعل حر إلا في غفلة عن المؤله أو بمرجحٍ زائد منه.٥١ والحقيقة أن العلاقة بين عواطف التأليه باعتبارها أثمن ما لدى الإنسان، والفعل وهو واقع الإنسان؛ علاقةٌ طردية؛ إذ تتحول هذه العواطف إلى أصلها كبواعث على الفعل من داخل الشعور وليست إسقاطات على الطبيعة خارج الشعور وخارج الفعل وضده. ليس للكمال وجودٌ خارجي بل هو باعثٌ إنساني نحو الكمال. ليست الإرادة الشاملة صفة لذات مشخص، بل هي إرادةٌ إنسانية تبغي أوسع نطاق لها وأكبر تأثير. ليس العلم أيضًا صفةً مطلقة لذات مشخص، بل هو دافعٌ إنساني نحو العلم يعطي الأساس النظري للفعل. ويكون السؤال: لمصلحة من تُصوَّر هذه العلاقة العكسية بين الإنسان وقيمه؟ وكيف تثبت القيمة بذاتها إذا سلبت إرادة الإنسان؟ وفي أية قيمة تعمل إرادة الإنسان لو أصبحت القيمة خاوية غير قابلة للتحقيق؟ ولماذا لا تكون العلاقة طردية، بقدر إثبات حرية الإنسان تثبت فاعلية القيمة، وبقدر ما تضمحلُّ فاعلية القيمة تضمر حرية الإنسان؟ في الجبر الذاتي وحده تكون العلاقة طردية. كلما أحسَّ الإنسان بدعوته، وهي القيمة، ازدادت حريته، وكلما ضعف إحساس الإنسان بدعوته قلَّت حريته وطواه الجبر.
- (٣) وكما يتم تدمير فعل الإنسان وإرادته المستقلة كذلك يتم تدمير قوانين الطبيعة الثابتة، خاصةً ابتداءً من القرن السادس بعد ظهور الفلسفة وكأنها الخطر الداخلي بعد درء الأخطار الخارجية من التأليه والتجسيم والتشبيه. والحقيقة أن الحوادث الخارقة للطبيعة التي يظن على أنها دليل على وجود إرادة خارجية هي إرادة الذات المشخص المؤلَّه التي تتدخل في الطبيعة هي في الحقيقة حوادث طبيعية نجهل عللها.٥٢ فكل ما يظن أنه يحدث من خارج الطبيعة هو في الحقيقة يحدث من داخل الطبيعة، وبتقدم العلم يمكن معرفة القانون الذي تجري طبقًا له هذه الحوادث. وإن تقدم العلم مشروط بنقل النظرة العلمية من التفسير الخارجي إلى التفسير الداخلي، ومن الفهم بالقوى الخارجية إلى الفهم بالقانون الداخلي. وقد تكون الحادثة الخارقة للطبيعة إدراكًا خاطئًا سببه مؤثرٌ انفعاليٌّ حاد. فالإدراك الحسن مرتبط بدرجة الشعور الانفعالي كما يرى العطشان الماء سرابًا، والجوعانُ الحذاءَ دجاجةً، وكما يشعر المصاب بزلزال في الأرض وبانفتاح القبور وبدكِّ الجبال كما هو معروف في مشاهد الصلب في الأناجيل الأربعة. وعادةً ما تقع أمثال هذه الحوادث في لحظات يكون الشعور فيها في حالة صدمة وفقدان توازن تمنع من الإدراك الحسي السليم. وقد تكون هذه الحوادث الخارقة للطبيعة مجرد صورٍ فنية لا تتعدى حدود اللغة، تعبر عن قدرةٍ مطلقة من أجل إعادة بناء اعتقاد الناس والإيحاء لهم بأن هناك حقًّا مطلقًا وعلمًا شاملًا وإرادةً لا غالب لها؛ مما يعطي لهم ثقة بالنفس، ومما يجعلهم قادرين على العمل أكثر مما لو أوحى إليهم بأن هذا العالم هو عالم الثبات المطلق الذي لا يتغير. المقصود من المعجزة كصورةٍ فنية هو أن الطبيعة ميدان عمل ومجال تحقق للإرادة، وأنها طيعة لا عاصية، تقبل كل فعل. وفي الجبر تؤدي هذه الصورة الفنية إلى غرضٍ عكسي وهو اعتبار أن كل شيء في الطبيعة خاضع لسلطةٍ مطلقة وإرادةٍ شاملة لها؛ فتحولت من دافع على الفعل إلى مانع من الفعل، ومن باعث على الإرادة إلى نافٍ للإرادة. فلو انتقلنا إلى الميدان الاجتماعي قامت الصورة الفنية في الخيال الشعبي ومن خلال أجهزة الإعلام والمؤسسات الدينية بدورٍ مؤيد للسلطة في قضائها على كل معارضة. وإن حدث بعض ما يُسَمَّى بالمعجزات فإنه قد حدث في لحظات تاريخية معينة كتغيرٍ مفاجئ في ظواهر الطبيعة وتبديل لقوانينها، وذلك في نشأة الكون الأولى. ولكن بعد أن بردت الأرض واستقر نظام الكون انتهت المعجزات، وأصبح الإنسان قادرًا بعقله الكامل وبفعله المستقل على فهم العالم والسيطرة عليه.
- (٤) ويؤدي الجبر إلى عكس ما يقصد إليه. فلو كان المقصود إثبات أحقية المشخص المؤله على الكون فإنه يؤدي في النهاية إلى إثباته متحولًا زائلًا متأرجحًا بين الوجود والعدم. ما دام الفعل له، والفعل المباشر منه، فإنه يرتبط بالأشياء والأفعال، يوجد حيث توجد، ويعدم حيث تعدم. حينئذٍ يتحول من القبلية الشرعية إلى البعدية العملية وينتقل من المطلق إلى النسبي، ومن الفعل إلى الانفعال، يكون محلًّا للحوادث وينقلب من النقيض إلى النقيض، ومن المسيطِر إلى المسيطَر عليه، من الحاكم إلى المحكوم، من القاهر إلى المقهور. يصبح هو والتاريخ شيئًا واحدًا مثل الكرامية أو مثل آلهة اليونان تدخل حلبة الصراع في معارك البشر.٥٣ وإذا كان المقصود من الجبر إثبات القدرة الشاملة والعلم المطلق وجميع صفات العظمة والكمال، فإن هذا القصد يتحول إلى نقيضه؛ فيثبت المؤلَّه حالًّا في الأشياء، فاعلًا فيها، قريبًا منها. ويصبح حادثًا محدودًا نسبيًّا خاضعًا لفعل الإنسان.٥٤ ففي الجبر لا الله أثبت نفسه منزَّها ولا الإنسان أثبت نفسه فاعلًا؛ وبالتالي يضيع التوحيد والعدل، ركنا العقليات ولُب العقيدة.
- (٥) ومما ينقص في التنزيه انتهاء الجبر، وهو بصدد حل توهم مشكلة الحق الإلهي المطلق ونيل الإنسان منها، إلى خلق مشكلةٍ أعظم، وهو اعتبار الله مسئولًا عن الشر والقبح وكل آثام العالم وأوجاع الناس ومآسي البشر؛ فهو خالق كل شيء وفاعله. وأمرنا بفعل القبيح من ظلم وجور وكذب. وكيف يكون الخير مطلقًا وهو مسئول عن الشر في العالم؟ وكيف يصدر الشر عن الخير؟ لذلك أصبح موضوع تبرئة الله عن الشر أكثر إلحاحًا في الجبر والكسب منه في الاختيار، بالرغم من أن الحسن والقبح العقليَّين نظرية مقارنة للاختيار.٥٥وفي مقابل ذلك ينزع الجبر من الإنسان مسئوليته عن أفعال الشعور الداخلية من علم وجهل وظن واعتقاد، وهي أساس أفعال الشعور الخارجية، كما يسلبه مسئوليته عن أفعال الشعور الخارجية من عدل وظلم وحق وباطل، وقهر وتحرر، وفقر وغنى.٥٦ الجبر نفاق واحتجاج ومحاجَّة، وتهرُّب من الفعل والواجب بحجة الجبر؛ فالجبر نفي للحق وتهرب من المسئولية وتذرُّع بالقضاء والقدر، العقيدة الأولى في الجبر.٥٧
- (٦) ويؤدي الجبر إلى قبح بعثة الرسل وعدم فائدتها وإبطال الغاية منها؛ فما دام الإنسان مجبرًا على أفعاله، ففيم التنبيه والتبليغ؟ وفيم إرسال الأنبياء والرسل؟ وفيم إرسال رسولٍ صادق؟ وكيف يمكن حينئذٍ التمييز بين الرسول و«إبليس»؟٥٨ كما يؤدي الجبر إلى إسقاط الشرائع وإلغاء التكاليف وعدم الالتزام بأي قانون ما دام الإنسان مجبرًا على أفعاله. وهو ما حدث بالنسبة للصوفية ونقد الفقهاء لهم.٥٩ كما يؤدي على الأقل إلى قبح التكاليف ومنع القدرة. فما دام الإنسان مجبرًا ولا قدرةَ له على إتيان أي فعل، ففيم التكليف الذي يتطلب القدرة على الإتيان به؟ كما يؤدي إلى قبح كل فعل بل وإلى استحالته ما دام الفعل يتطلب القدرة عليه. فالإنسان لو لم يكن مختارًا لقبح تكليفه، والتكليف ليس تحصيل حاصل؛ فالإنسان قادر على الفعل ولا شيء مقررًا عليه إلا في حساب عام للكون ومسار التاريخ وقانون حركة المجتمعات والشعوب. فلا يتم فعل إلا بوعي الأفراد وحركة الجماهير، وبقيادة رشيدة وبفكرٍ عملي وبقانون تاريخ. ولا يقال إن التكليف مجرد داعية إلى الفعل الذي يخلقه الذات المشخص؛ لأن التكليف سيظل في هذه الحالة فائضًا لا لزوم له ما دام الفعل مخلوقًا من الله.٦٠ كما ينتهي الجبر إلى قبح الأمر والنهي، فما دام الإنسان مجبرًا على أفعاله ففيمَ التوجيه نحو الفعل أو نحو عدم الفعل؟ فالأمر والنهي لا يوجهان إلا إلى القادر على الفعل.٦١ وفي نفس الوقت لا يُجوِّز الجبر تكليف ما لا يُطاق ما دام الإنسان ليس هو الفاعل، وما دام الفعل ليس مرتبطًا بحدود الطاقة الإنسانية.٦٢ وينتهي الجبر إلى إبطال النعمة أو الدعاء والشكر على التوفيق دون الخذلان. فما دام الإنسان مجبرًا على أفعاله فإن لن يسأل التوفيق، ولن يسعى إلى الفعل، ولن يطلب الهداية، ولن يشكر إذا ما تحقق ما سأل وطلب ورجا.٦٣ كما يؤدي إلى إبطال استحقاق المدح والذم؛ فالمجبر على أفعاله لا يستحق المدح أو اللوم لأنه لم يُحدِث شيئًا بفعله بل أحدثه غيره فيه. ولا يستحق الإنسان اللوم أو الثناء إلا إذا كان مسئولًا عن فعله قادرًا عليه. ولا يقال إن المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية لأن المحال أفعال.٦٤ وأخيرًا يؤدي الجبر إلى إبطال الثواب والعقاب على الأفعال. يحيلهما الجبر لعدم مسئولية الإنسان على الأفعال، ومِنْ ثَمَّ إبطال الوعد والوعيد. ولا يقال إن الثواب والعقاب مجرد عادة، فالعاديات حوادثُ طبيعيةٌ لا دخل لفعل الإنسان فيها. أمَّا الأفعال فهي تتأتى بفعل الحرية. ليست الأفعال إلا مجرد علامة على الثواب دون أن تكون هي المقررة للثواب والعقاب. ليس للعلامة أية دلالةٍ خاصة لأنها يمكن أن تكون فعلًا بل أي شيء آخر. العلامة إنكار للفعل كما أن الفعل المجازي إنكار له. الفعل حقيقة واعتباره مجازًا هو فقط تغيير في لفظ الجبر.٦٥
- (٧) وفي تفنيد الجبر توجه إليه الحجج التي يعتمد عليها الكسب لإثبات الحرية وهي التفرقة بين حركة المرتعد والحركة الاختيارية لإثبات أولوية الحركة اللاإرادية وهي حركة المرتعش على الحركة الإرادية وهي حركة المختار. وهي حجة ذات شقَّين إمَّا تثبت الجبر نظرًا للحركة اللاإرادية أو تثبت الكسب نظرًا للحركة الإرادية. ومع ذلك لا تميز عقيدة الجبر بين المستويات بين المضطر والمكتسب والمختار، بين الملجأ وما ليس بملجأ ووضع الأفعال كلها في قالبٍ واحد وهو الاضطرار ثم الاضطرار من الخارج وليس من الداخل. وهناك فرق في السلوك. يحدث المضطر إمَّا لعجز به أو فيه أو لصعوبة الإتيان بفعل في موقف لا يسمح بتحقيقه، وهو اضطراري يمكن معرفة علَّته. إذا زالت العلة زال المعلول. ويحدث المكتسب بالممارسة وبتكرار الفعل بالتربية داخل الجماعة الداعية. ويحدث المختار طبقًا للباعث الأقوى نتيجة لاختلاف القيم بين الشدة والضعف في التمثل. يؤدي الجبر إذن إلى إلغاء المستويات وعدم التمييز بين الأفعال وإثبات أن العالم واحد والفعل واحد وبالتالي يمحى الفَرق بين الله والإنسان، بين إرادة الله وإرادة الإنسان، بين قدرة الله وقدرة الإنسان، وجعل الله على مستوى الإنسان، والإنسان على مستوى الله في حين أن العقيدة والشريعة كلتيهما تقومان على التمييز بين المستويات.٦٦ في حين تثبت حرية الاختيار عندما تتم التفرقة بين المستويات، ويُقضى عليها بإرجاعها كلها إلى مستوًى واحد.٦٧ لذلك يخلط الجبر بين فعلَين فعل التأليه وفعل الإنسان. فعل التأليه واجب نظرًا طبقًا لعواطف التأليه، وفعل الإنسان واجب نظرًا وعملًا. كما يعطي الأولوية لفعل التأليه على فعل الإنسان. وفعل التأليه هنا يعني الموقف الذي يمارس الإنسان فيه حريته، ثم ينكر فعل الإنسان ويثبت فعل التأليه وكأن الإنسان يضحى بحقِّه كليةً في سبيل الإحساس بالغموض والتوهُّمات المستقبلية. ثم تفسير الأفعال وكل مظاهر الطبيعة بالعلة الأولى دون العلل الثانية؛ وبالتالي تنتهي حرية الإنسان كما يقضي على العلم. وبالرجوع إلى الفعل الإنساني وتحليل السلوك البشري يمكن اكتشاف أن الفعل الإنساني الحر ليس هو الفعل العقلي وحده بل فعل الشعور.٦٨ وكل إنكار لذلك إنما هو توهمات وأخطاء في استعمال الألفاظ مثل الجواز والصحة والتوهم. فالجواز قد يفيد الشك إذا كان المقصود به الفعل الإنساني، وقد يعني الصحة إذا كان المقصود به فعل التأليه؛ فكل لفظ يحتمل معنيَين يصح أحدهما على فعل الإنسان والآخر على فعل التأليه.٦٩
- (٨) ويقوم الجبر على إبطال العادات والعرف والمألوف. يفنده الإحساس بالحرية والشعور البديهي بالمسئولية، وما هو أساس للحياة الخاصة والعامة. فحدوث الحرية بالفعل في الواقع أكبر دليل على وجودها. وما الحاجة إلى إثبات شيء هو موجود بالفعل؟ كما أن الجبر إبطال لحكم العقل واعتماد على اللامعقول، ومنع السؤال والتساؤل والفهم، والاعتماد على السلطة والطاغوت والأسطورة.٧٠ مع الجبر تستحيل المعرفة؛ وماذا تجدي المعرفة ما دام العقل لا يتم بأساسٍ نظري عن وعي وتدبر؟ وما الحاجة إلى العقل والبحث والنظر والإنسان مفعول فيه؟٧١ والجبر شهادة زور؛ لأنه دفاع عن الذي يحتج بالجبر ويُنكر شهادة الحسِّ والوجدان، ويقول غير ما يشعر به.٧٢ ويتجاوز الجبر حدود المعرفة الإنسانية، بداهة العقل والحس وشهادة الوجدان، فيمتد إلى العالم الآخر؛ وبالتالي يقع في خطأٍ مزدوج، الجبر في الدنيا والجبر في كل العوالم الممكنة الأخرى في الحياة أو بعد الموت. فالجبر في هذا العالم لا يؤيده عقل أو تجربة أو حياة. والجبر في العوالم الأخرى هو استمرار للجبر في هذا العالم حتى ولو كان في عالمٍ أفضل يجد فيه الإنسان تعويضًا عن عالم البؤس والحرمان، في عالم من النعيم والاكتفاء، ومن عالم الظلم والقسوة إلى عالم العدل والرحمة؛ فهو عالمٌ نفسيٌّ مسقطٌ مشخص يعبر عن حرمان الإنسان وضيقه بالظلم ورغبته في التعويض وأمله في الخلاص. وكل القوانين التي يتصورها الإنسان تحكم هذا العالم الآخر هي قوانين بالتمني.٧٣ إن الحرية تثبت في هذا العالم، وإثباتها أو إنكارها في عالمٍ آخر لا يزيد ولا ينقص من ثبوت الحرية في هذا العالم بل يكون مجرد تشويش عليها وإفساح مجال للجبر الأخروي. وما فائدة إنكار الحرية في عالمٍ آخر ما دام التكليف قد انتهى بانتهاء الحياة؟ حتى ولو أمكن تصوُّر حياةٍ أخروية كيف يمكن تصورها بلا حرية؟ وكيف ينعم الناس عندما لا يكونون قادرين بل عندما يكونون مضطرين حتى إلى النعيم الأبدي؟ حتى الجزاء لا يكون جزاءً إلا إذا كان نتيجة فعلٍ حر، ويكون الفعل حرًّا دون عصمة. فالعصمة أيضًا جبر؛ لأن الإنسان لا يقدر على فعل الخطأ. والجبر في النعيم الأخروي عذاب النسبة للحرية في العذاب الدنيوي.٧٤ يبدو أن الاستحقاق كواجبٍ عقلي جعل المثاب مضطرًّا إلى الثواب، والمعاقَب مضطرًّا إلى العقاب، وهو اضطرار القانون. والحقيقة أن العالم الآخر ليس عالم فعل بل عالم ثواب، ليس عالم امتحان واختبار بل عالم يتم فيه حصر النتائج. ففي هذا العالم يتم الكشف فيه عن حصيلة الفعل بعد أن يكون قد تم كل فعل.
- (٩) ويبطل الجبر تعلق الفعل بالإنسان ووقوعه حسب دواعيه، وإلغاء البواعث على الفعل ومسئولية الإنسان عنه، بل القضاء كليةً على الإنسان الفاعل الحر القاصد المحقق. فالجبر تسوية للإنسان بظواهر الطبيعة وتحويله إلى آلة تحقق مقاصد الغير.٧٥ يؤدي الجبر إلى نفي حرية الإنسان وقدراته وبواعثه ودواعيه وصوارفه، وأهدافه ومقاصده وغاياته، وتخطيطه وتعلمه وتجاربه، وأخطائه ونجاحه وفشله، وسلبه حياته ووجوده، وفعله ورسالته وكل شيء، وإبداعه وخلقه وفنه وشعره، وجهاده ونضاله. وإذا كان كل فعل حكمه قضاؤه، وأفعاله ليست معللة بغاية أو سبب فإنها تصبح غير مفهومة ولا قصد لها ولا غاية ولا سبب، وهي الأفعال العشوائية المتناقضة التي تقوم على العبث والسخف واللامعنى والتناقض. ويؤدي الجبر إلى القول بالطبع وأن كل إنسان يفعل ما هو مطبوع عليه، وجوهر الطبع هنا هو الجبر في حين أنه إذا كان الطبع هو الطبيعة فإن الطبيعة حرة.٧٦ وينفي الجبر التولد في الطبيعة واستمرار القدرة لنفيه القدرة أصلًا؛ وبالتالي ترك العالم وتوقف الفعل فيه.٧٧
- (١٠) ويؤدي الجبر في عقيدته الأم، القضاء والقدر إلى الرضا والاستكانة وقبول الخير دون زيادة، والشر دون نقصان. يصبح الرزق معدًّا من قبلُ، لا تغيير في وضع الإنسان ولا تبديل. يتم الرضا بالشر وقبوله وإيجاد العلل له كالامتحان والاختيار فالمؤمن المصاب، وينتهي الإنسان إلى تبرير الشر وتعقيله ثم قبوله والرضا به.٧٨ وبعد أن يتحول الجبر إلى موروث في الدين الشعبي تظهر سلبياته العملية ويختفي الحق الإلهي النظري الذي كان الدافع على صياغته. يصبح الجبر السبب الرئيسي في استكانة الشعوب ومنعها من الثورة والغضب والتمرد والمعارضة والدفاع عن الحقوق فتنتهي إلى الاستسلام والرضا، وقبول الأمر الواقع، وما به من فقر وجهل وتخلف وقهر، ما دامت الشرور والآثام واقعة حتمًا، لا يمكن تغييرها إلى نفع وصلاح. ويكون ذلك في الماضي والحاضر والمستقبل، في كل الزمان؛ ومن ثَمَّ تنعدم الثورة في الحاضر ولا يُعدُّ لها في المستقبل وتدان في الماضي، ويغيب النموذج التاريخي فيصبح الإنسان خارج الزمان والمكان وخارج التاريخ. معنى الرضا بالقضاء والقدر هو عدم الاعتراض على حكم الله السابق وإرادته الأزلية. وما أسهل بعد ذلك أن يأتي الحاكم ممثلًا لإرادة الله ويطالب الناس بالتسليم والرضا والقبول فيمتنعون عن الاعتراض. وكأن الإنسان في مواجهة حاكمٍ قاهر وسلطانٍ جائر تجُبُّ مشيئته وإرادته مشيئة المحكوم وإرادته؛ وبالتالي يؤدي تبرير الشر على أنه خير، وتحريم السخط على أنه رضا إلى عدم الثورة على الظلم، ونهاية الغضب من القلوب، والثورة في الشعوب.٧٩
(٢) نظرية الكسب
(٢-١) تعريف الكسب
ومع ذلك فقد قيلت عدة تحديدات للكسب لا تفيد شيئًا، يرفضها العقل والحسُّ، وتُناقضها التجربة والمشاهدة. قيل مثلًا في تعريف الكسب.
-
(١)
«ما حله مع القدرة عليه». وهو لا يفيد شيئًا ولا يعني شيئًا. وإن عنى شيئًا فإنه لا بد أن يؤدي إمَّا إلى الجبر وإمَّا إلى الحرية. فإن أدى إلى الحرية تثبت الفاعلية والقدرة والتأثير والاختيار.١٠٨
-
(٢)
«ما وقع بقدرةِ محدِثه». لأن ما وقع بقدرةِ محدِثه قد يقع إمَّا اختيارًا وإمَّا كسبًا، ولا يعني وقوعه كسبًا بالضرورة. ولما كان الكسب مجهولًا فإنه لا بد وأن يقع اختيارًا. وهذا التعريف يثبت القدرة ولا ينفيها. فضلًا عن أنه يقتضي أن يكون للفاعل قدرة وتأثير. وما دام للإنسان قدرة وتأثير فإنه يكون صاحب فعله. وإن كان الكسب لنا ومتعلقًا بغيرنا فكذلك القدرة، وهذا يثبت القدرة ولا ينفيها.١٠٩
-
(٣)
«ما وقع باختيار الفاعل». وهذا إثبات للفعل القصدي وللحرية لا نفيًا. واقتضى أن فعل الساهي لا يكون كسبًا ولا يدل على تدخل أية إرادة داخلية فيه لأنه فعل سقط عنه الاختيار وغاب منه القصد. ويكون الفعل المتولد الناتج عن الفعل الأوَّل فعلًا للإنسان؛ لأنه وقع باختياره وليس بتدخل قدرةٍ خارجية سببت وقوعه أو منعت من وقوعه. وهذا تعريف يوهم بأن الاختيار يتعلق بالفاعل في حين أن الكسب لا يتعلق بالفاعل. وكيف يتعلق بالفاعل ولا فاعل في الشاهد يدل على الكسب؟١١٠
-
(٤)
«التفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية»، وهذا ليس تعريفًا بقدر ما هو وصف واقعة، أي إنه يشير إلى سلوك ولا يعطي معنًى عقليًّا. والسلوك الاختياري واقع، والاضطراري واقع. والسلوك الاضطراري له مسبباته وهي الموانع التي تمنع الفعل من أن يقع اختيارًا. والموانع إمَّا بدنية أو نفسية أو اجتماعية. والتفرقة بين الحركتين لا تثبت إلا في الاختيار، ولا تثبت في الكسب، ولا تثبت شيئًا في الكسب لأن كليهما بفعلٍ خارجي سواء في الفعل المباشر أو في الفعل المتولد؛ فالتفرقة لا تثبت شيئًا في الكسب بل لا تثبت إلا حدوث الأفعال بقدرة الإنسان.١١١
-
(٥)
«وقوع هذه الحركات المختلفة المتباينة سواء أفعال الجوارح أم أفعال القلوب»، ولا يثبت هذا التعريف أكثر من حدوث الأفعال لا كسبها، وحدوث الأفعال واقع بالقصد والإرادة وتباينها تباين القصد والإرادة، وأجزاء الفعل لا تكتسب، فالفعل تحقيق للقصد، والقصد باعث على الفعل.١١٢
(٢-٢) حجج الكسب
- (١) الفعل اللاإرادي أو اللاقصدي.١١٣ إن وقوع الأفعال بخلاف القصد ليس دليلًا على تدخل إرادةٍ خارجية، وأن الإنسان ليس هو الفاعل، فكثيرًا ما قصد الإنسان إلى فعل شيء وحدث فعلٌ آخر مخالف لقصده. وهذه هي طبيعة الفعل الحر وليس فعل الجبر أو الكسب. قد يرجع وقوع الفعل على خلاف القصد إلى عدم المعرفة بالفعل وغايته، فيقصد بالفعل إلى غايةٍ أخرى كمن يجهل أن الكفر قبيح وأن الإيمان حسن ويريد أن يسعد بالكفر وأن يمرض بالإيمان. والفعل غير المروي لا يدل على وقوع الفعل من فاعله، بل على وقوع فعل غير مقصود، سواء كان ذلك في الأفعال الداخلية أم الخارجية. وهل الإنسان لا يفعل إلا وهو في غفلة أو سهو أو عن غير قصد أو جهل وإن كان كل ذلك دليلًا على وجود فاعلٍ قاصدٍ عالم قادر مخترع لها، وكأن أفعال الإنسان لا تحدث إلا عن فوضى وعبثية، وأن ذلك يثبت وجود فاعل متقن ومنظم وحكيم لها، وكأن إثبات الله لا يتم إلا بتدمير الإنسان؟ ولما كانت الغاية هي البحث في الفعل الإنساني، فإن هذه الغاية يتم تدميرها منذ البداية باكتشاف عناصر في الفعل الإنساني لتثبت أن الإنسان ليس صاحب أفعاله، أي إن الغاية الحقيقية هي الغاية العكسية. ليست الغاية إثبات فعل الإنسان له، بل نزع فعل الإنسان منه. ثم تتحول هذه الأفعال الاستثنائية وتصبح هي القاعدة، وتصبح كل أفعال الإنسان أفعالًا لا قصدية، وتختفي الأفعال القصدية مع أنها هي الأساس والأفعال اللاقصدية هي الاستثناء؛ فالمتكلم واقف للإنسان بالمرصاد، متربص به كي يعصف بإرادته وقدرته وفعله الحر. وهذا الفاعل الآخر الذي يعزو إليه المتكلم أفعال الإنسان ليس إرادة خارجية إنسانية أخرى أو دوافع خوف أو مصلحة أو رغبة أو عقبة، بل يجعله المتكلم أقدر فاعل وأشمل إرادة وهي قدرة الله وإرادته، فينتقل من المتناهي في الصغر إلى المتناهي في الكبر، ويجعل الله داخلًا في كل شيء حتى لو قصد الإنسان أكل خيار فأكل كوز ذرة! أو إذا قصد الإنسان الذهاب إلى العمل فذهب إلى المتجر، وكأن المقاصد لا تتغير ولا تتشابك، وكأن الإنسان ليس مجموعة من المقاصد المتداخلة. وهل تثبت إرادة الله وقدرته من الأفعال اللاقصدية؟ وأيهما أكرم وأشرف، إثبات الله من الطبيعي أم من الشاذ؟ من القاعدة أم من الاستثناء؟ بتأكيد الإنسان أم بتدميره؟ وكيف يثبت الله من الفوضى والعبث والضعف والمرض ولا يثبت من الإحكام والحكمة والقوة والثبات؟ أليس ذلك في نهاية الأمر تبريرًا للشر وإثباتًا للفوضى وتأكيدًا على الضعف والعجز والوهن بدلًا من إثبات ذلك كله نقصًا وعارضًا طارئًا؟ أليس ذلك أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل؟ أليس ذلك سوداوية و«ماسوشية» تقوم على تعذيب النفس وكأن إثبات الكمال لا يتم إلا بعد الإقرار بالنقص، وأن إثبات البراءة لا يتم إلا بعد الاتهام بالخطيئة كما هو الحال في عقائد النصرانية؟والحقيقة أن الفعل المروي دليل على حرية الإنسان لا على خلق غيره. لما كان الإنسان حرًّا فإن حريته تتعدى حدود تخطيطه وقصده، ولكن يظل الفعل غير المروي في نطاق الحرية.١١٤ وما الحكمة من تدمير القصد؟ وهل تنتهي كل الأفعال القصدية إلى هراء وعبث؟ وهل كان كل تخطيط إنساني مسبق مصيره إلى الفشل؟ فإذا ما تم فعل قصدي يظل الإصرار قائمًا في نظرية الكسب من أن الإنسان ليس صاحبه وكأن الإنسان مهما فعل فعلًا قصديًّا أو غير قصدي ومهما أوتي من جهد وبذَل من مجهود فإنه لن يكون صاحب فعله في نهاية الأمر؛ يقف له المتكلم الأشعري بالمرصاد لينتزعه منه ويسلبه إياه ويعطيه لغيره. ويكون السؤال لحساب من يعمل المتكلم، لحساب الإنسان أم لحساب غيره؟ وماذا سيكسب نظير هذا السلب؟ أسلطةً دينية ومنصبًا وزاريًّا وترؤسًا على رقاب العباد ينتهي بالثورة العارمة من الجماهير عليه وعلى أصحابه ورؤسائه وعلى السلطة بأكملها تأكيدًا لحرية الإنسان وحرية الشعب، ورفعًا للوصاية، وتحررًا من كل صنوف القهر والتبعية؟ ومع ذلك فالفعل الواقع بخلاف القصد ليس هو الفعل الأمثل كالفعل المروي المقصود. ولكن تعتبر نظرية الكسب أن الفعل غير الفعل غير المروي فعلٌ حقيقي لأنه مخلوق من المؤلَّه المشخَّص. الكسب هنا هدم للعلم والعقل وللدليل وللنظر، وكأن وقوع الفعل من الإنسان حسب العلم ليس ضرورةً عقلية بل مجرد عادة، في حين أن وقوعه من المؤله المشخص بداهة لا تحتاج إلى دليل.١١٥
وهناك فرق بين أفعال الشعور وأفعال الجوارح، بين أفعال الأعضاء وأفعال الوجود. كلٌّ منها يقع طبقًا للقصد أو على خلاف القصد؛ فكثيرًا ما رمى الإنسان إلى تذكُّر شيء فيتذكر شيئًا آخر أو إلى تخيل شيء فيتخيل شيئًا آخر. وكثيرًا أيضًا ما أراد الإنسان أن يصيب أحدًا فيصيب شخصًا آخر، أو أن يفعل شيئًا حسنًا فيُحدِث شيئًا قبيحًا. وكثيرًا ما قصد الإنسان أن يسير يمنة فيسير يسرة على غير وعي منه. بل إن كثيرًا من أفعال الأعضاء أفعالٌ شرطية وخالصة أو ردود فعل عكسية. وكثيرًا ما كانت أفعال الوجود التي تعبر عن المصير قائمة على تعصُّب وليست على القصد المطلوب. ولا يحتاج الإنسان إلى إثبات فاعلٍ آخر غيره بجدلٍ طويلٍ قائم على أن لكل فعل محدثًا بطريقة الرجوع إلى الوراء. كما لا تحتاج الدواعي إلى إثبات دواعيَ أخرى سببتها وأنشأتها حتى تصل إلى دواعيَ بدون دواعيَ. هذا التفكير عن طريق الرجوع إلى الوراء والانتهاء إلى نقطة بداية لا بداية لها هو في الحقيقة عاطفة تأليه وليس فكرًا عمليًّا؛ لأن الدواعي تنتهي في الجماعة؛ فهي مصدر بواعث الإنسان على الفعل. وفي النهاية ما المطلوب إثباته؟ الجبر أم حرية الإنسان؟ إن كل هذه التجارب الموصوفة لا تعني بالضرورة وجود أية إرادةٍ خارجية، بل تعني أن الإنسان نسيج وحده، وأنه هو حريته التي يظهر فيها القصد وغير القصد، الوعي وغير الوعي. فالإنسان حر أيضًا في حريته، وهو إمكانية فعل تتحقق بتحقق الدعوة، وفي هذا التحقق تأكيد لحريته وتحرُّره من بقايا القهر الاجتماعي.
والتفرقة في نظرية الكسب بين الفعل الإرادي والفعل اللاإرادي مثل التفرقة بين الكسب والاضطرار أو بين الفعل المروي وغير المروي مع التركيز هذه المرة على دور الإرادة وليس القصد. فالفعل الإرادي هو الفعل الذي تتدخل فيه قدرة الإنسان بالإتيان أو بالمنع، بالزيادة أو بالنقصان، في حين أن الفعل اللاإرادي هو الفعل الشرطي الذي يحدث نتيجة لبناء العضو. فإذا كان الفعل الإرادي يثبت للإنسان القدرة، فإن الفعل اللاإرادي لا يثبت للإنسان الضعف أو تدخل أية قدرة خارجية تحيل الضعف إلى قوة أو تحدث الفعل؛ لأنه فعلٌ عكسيٌّ خالص مرهون ببناء العضو.١١٦ ولماذا الالْتجاء إلى فاعلٍ آخر يفعل أفعال الإنسان مطابقة لقصوده ودواعيه؟ لماذا لا يكون الإنسان نفسه صاحب أفعاله والقائم بها مطابقةً لمقاصده ودواعيه؟ إن التفسير بالإنسان كافٍ، واللجوء إلى علةٍ أخرى بعيدة فائض عن الحاجة. بل إن هذا اللجوء ذاته نقص في تصوُّر المؤلَّه المشخَّص الذي إن أراد أن يخلق فعلًا فإنه ما زال يحتاج إلى خلق دواعي وقصود للتمويه على الإنسان بأنه الفاعل أو يهدم الدواعي والقصود للتشفي من الإنسان والركوب عليه. إن الفعل القصدي أثمن ما لدى الإنسان من فعل، فهو الفاعل المتأمل، فكيف حتى هذا الفعل يكون حادثًا بفاعلٍ آخر؟ وكيف تثبت التفرقة إذن بين الفعل المروي والفعل غير المروي ما دام كلاهما من خلق فاعلٍ آخر؟١١٧ ولماذا تكون الأفعال والدواعي من خلقٍ خارجي؟ الأفعال تتحقق بالإرادة وتثبت من موقف الإنسان من الجماعة. وإن خلق الدواعي من الله في الإنسان يجعل الفعل ضروريًّا ولا محالة واقع.١١٨إن إثبات فاعلٍ خارجي يبطل إثبات الصانع القائم على الشاهد، وهو أن لكل فعل فاعلًا، فكيف لا يكون الإنسان فاعلًا لفعله وهو الشاهد؟ وكيف يمكن إثبات الغائب على شاهدٍ غير حاصل؟١١٩ وهل المقصود من الكسب إثبات وجود الله أم حرية الإنسان؟ هل الإنسان مجرد سلم يستخدم لإثبات غيره ثم يرفض هذا السلم بعد ذلك؟ هل هو مجرد آلة للاستخدام؟ هل الإنسان وسيلة أم غاية؟ولا يدل نقص العلم بالفعل على أن الفعل حين يحدث قد حدث من فاعلٍ آخر غير الإنسان؛ فكثيرًا ما يبدأ الفعل بمعرفةٍ أولية تكتمل إبان الفعل وأثناء حدوثه. ولا تتأتى المعرفة التفصيلية إلا أثناء تحقيق الفعل. فلا يوجد نظر مسبق على الفعل إلا الأساس العام له. ولكن ضبط النظر لا يحدث إلا أثناء عملية التحقيق ذاتها. وقد استعمل الجبر من قبلُ هذه الحجة لنفي قدرة الإنسان، في حين أنها دليل على إثبات القدرة التي تكشف عن النظر وهي تحقق الفعل.١٢٠ وهذا العلم ليس علمًا آليًّا أو طبيعيًّا بالتكوين المادي للأشياء، بل هو العلم الإنساني المتعلق بالسلوك. ليس الفعل هو التحريك العضلي أو حساب الحركات وما يتخللها من سكنات؛ فهذه مجرد افتراضٍ عقلي ليس لها وجودٌ واقعي. الفعل هو الفعل الحي ومكوناته من بواعث ودوافع وموانع وعقبات، الفعل في موقف. وهناك فرق بين العلم الإنساني المحدَّد والعلم الشامل؛ فالعلم الإنساني بطبيعته ناقص لأنه تابع للتجارب وللمعرفة ولوسائلها، في حين لو افترضنا علمًا شاملًا موجودًا في مصدرٍ معين أو كصفة للمؤلَّه المشخَّص فإنه يكون غير العلم الإنساني. ولا يعني عدم اكتمال العلم الإنساني أنه غير علم أو أنه ناقص أو أنه جهل. وكثيرًا ما يحدث الفعل دون علمٍ كامل بالتفاصيل؛ حيث تترك التفاصيل لسرعة البديهة أو للمواقف الفجائية أو للقدرة على التكيف ساعة الفعل. بل إن طبيعة العلم الإنساني أنه علمٌ شامل، والعلم الشامل هو علم بالكليات. ولو كان الإنسان قادرًا على العلم بالتفاصيل لكان قادرًا على خلق كل شيء. أمَّا أفعال النائم والساهي فهي ليست أفعالًا مثالية، الفعل المثالي هو الفعل المروي المقصود؛ ومِنْ ثَمَّ كانت أفعال النائم والساهي لا تدل على نقص في العلم بتفاصيل الفعل لأنها أساسًا ليست أفعالًا. والعجيب أن تقوم بعض الحركات الإصلاحية على إثبات هذا الفعل غير المروي الذي يحدث على غير قصد الإنسان وكأن الإصلاح يحدث عفويًّا بدون قصد الإنسان، وكأن التغيير ما هو إلا من قبيل المصادفة.١٢١ وما الحكمة في وضع المتكلم الأشعري الإنسان والله عدوَّين يتربص كلٌّ منهما بالآخر؟ أيعطي لطرف ما يسلبه عن الطرف الآخر؟ أليس الأولى أن يكونا متكاملَين متعاونَين متآزرَين، والإنسان خليفة الله في الأرض، والله أحنُّ عليه من حنين الأم على فلذة كبدها؟ ولماذا تحقير الإنسان وتدميره وإعدامه، ونحن بشر، ونحن أولى بالاحترام وبالدفاع؟ ولماذا نكون خصماء لله، إمَّا نحن وإمَّا هو؟ إن إثبات قوةٍ أعظم وسلطان لا يُقهر أعلى من الإنسان وأقدر منه؛ يفسح المجال لقوى الطاغوت للتدخل في إرادة الإنسان وإلغاء حريته ما دام الإنسان كما يُقال ليس حرًّا مطلقًا، وما دام الإنسان مجرد قزمٍ صغير في هذا العالم. يدخل كل طاغية من هذا الباب، ويقع كل قهر بهذه الحجة، وتسود الكآبة على البشر، ويتحولون إلى آلات للتنفيذ تسمع وتطيع، ويتأصل القهر فيهم، ويعيشون في العبودية إلى الأبد. - (٢) المضطر والمكتسب. يقوم الكسب على افتراض تماثل بين الاضطرار والاكتساب، فكما أن المضطر مخلوق فكذلك المكتسب. وهو تماثل مُفترَض ليس له ما يؤيده. بل إن الاختلاف بينهما أكثر وضوحًا من التماثل.١٢٢ وافتراض التشابه بين الاضطرار والاكتساب يجعل جميع الأفعال اضطرارية أو جميعها اكتسابية. التشابه توحيد يلغي التفرقة والتمييز. ولما كان الاضطرار هو المشبه به والاكتساب هو المشبه، كان إلغاء الفرق في صالح الاضطرار، وأصبح كلاهما من المؤلَّه المشخص على مذهب الكسب. كما أن افتراض التشابه بين الاضطرار والاكتساب يلغي التفرقة بينهما من أن الاضطرار فعل للعضو والاكتساب فعل للإرادة. لا يستطيع الإنسان تغيير أفعال الاضطرار لأنها واقعة ببناء العضو، ولا يستطيع أحد أن يغير من بناء العضو. ويظل اكتساب فعل للعضو فعلًا عضويًّا عن طريق المران. في حين أن أفعال الكسب أفعالٌ إرادية تقوم على بذل الجهد وممارسة الحرية. قد تتحول بعد ذلك إلى أفعالٍ عادية. ولكن العاديات هنا يكون مرجعها إلى حريةٍ أولية نشأت عليها. ويجوز أن يحدث التماثل بين الذوات دون الصفات لأن التماثل في الصفات يلغي التمييز بين الأشياء. فلا فرق بين إنسان وآخر من حيث هو ذات. ولكنْ هناك فرق بين إنسان وآخر من حيث هو سلوك. والحقيقة أن الأفعال تحدث بالنسبة لتصورنا ودواعينا وأحوالنا، ولا يمكن تسميتها بأنها مخلوقة أو مضطرة لأنها تعبير عن هذه المقاصد والدواعي والأحوال. والاضطرار في الحركات الاضطرارية قائم على إثبات محدث في الشاهد، أمَّا الاضطرار في الحركات الاختيارية فقائم على إثبات محدث في الغائب. وهذا لا يجوز لأنه إثبات بلا برهان. والاشتراك في الحدوث لا يقتضي الاشتراك في الحاجة إلى محدِث معين بل إلى محدِث ما غير معين بالدلالة، والدلالة على أن الإنسان هو المحدِث لا غيره.ولماذا يكون الاضطرار من الخارج؟ قد يكون الاضطرار من بناء العضو ذاته كما هو في حالة العجز أو القيد. قد يكون في حالة لا تسمح بالفعل من ضغطٍ سياسي أو حياءٍ اجتماعي. وفي كل الحالات، الاضطرار فعل للإنسان. بل إن السيطرة على الإرادة هي في نفسها إرادة، وعدم الفعل هو نوع من الفعل. قد يكون الاضطرار طبيعيًّا كحركات الأفلاك. ولكن هذا الاضطرار أيضًا داخلي لأنه ناشئ عن قوانين الطبيعة التي يدركها العقل من الأشياء. أمَّا الحركات الضرورية للموجودات غير الطبيعية فلا نعلم عنها شيئًا بل هي مجرد افتراضات ناتجة عن عواطف التأليه وتشخيصها في موجودٍ أسمى أو في موجوداتٍ أخرى خاضعة له.١٢٣ صحيح أن أفعال الساهي والنائم أفعالٌ اضطرارية لا إرادية، ولكن وقوعها لا يتم بتدخل إرادةٍ خارجية، بل بفعل الشعور عن أفعال اللاشعور، وإن كانت تتم فيه لأنها لا تتم بالإرادة الواعية. ولا يعني الساهي والنائم أنهما غير قادرَين على الإطلاق، بل هما قادران ولكن في لحظةٍ معينة؛ لحظة غياب الشعور، لا تؤثر في قدرتهما. ولا يعني عدم تأثير القدرة في لحظةٍ معينة إبطال القدرة في كل لحظة. إن الدواعي المقصودة لا تكون مؤثرة بطبيعتها لأن صحة المؤثر في وجود القدرة.١٢٤ ولا خوف من أن يكون العالم فاعلًا ومن أن تكون علة الفاعلية في العالم وليست خارج العالم. فالعلة المباشرة مثل الإرادة الإنسانية علة في العالم.١٢٥ إن افتراض إرادة وقدرة وعلة خارج العالم لهو وقوع في السر والغموض واللامباشرة إيهامًا للعوام بالعظمة والتجلي وإيقاع لها في الصغر والدونية. ولماذا الاكتساب إذن؟ أليس القادر على البعض قادرًا عليها كلها؟ ولماذا الاختيار إذن؟ وهل الفاعل اضطرارًا يكون فاعلًا اضطرارًا على الإطلاق؟
- (٣) اكتساب المهارات. لا يعني اكتساب المهارات بالتعلم تدخل إرادةٍ خارجية في فعل الإنسان تجعله قادرًا على الإتيان بالفعل بدليل يدل على أن الإنسان بالممارسة والتعليم يستطيع أن يكسب فعلًا عندما يتحول الفعل الأوَّل إلى طبيعةٍ ثانية. يقتضي التعليم الاستعداد النفسي والبدني، ولكنه استعدادٌ موجود بالفعل وليس مقذوفًا به من الخارج. فإذا لم يحدث التعليم واكتساب المهارة فإن ذلك لا يعني نفي القدرة. القدرة موجودة ولكن التعلم هو الغائب، ويمكن حدوث التعلم بالممارسة.١٢٦ولا يعني وجود شروط للفعل كي يتحقق كالجارحة والحياة أن الفعل متوقِّف على شرط وأن هذا الشرط يتحقق بتدخل إرادةٍ خارجية، أو أن الفعل يتحقق بتجاوز الإرادة الخارجية للشرط، وتحقيقها للفعل دون توسطها بالشرط. فهذا إنكار للفعل وللعلية ومنافٍ للعقل وللمشاهدة. العين شرط فعل الإدراك، ولا إدراك دون عين. الحركة بفعل القدمَين ولا حركة دون متحرك. العلم فعل الشعور ولا علم دونه. ليس الشرط هو الجارحة فحسب، بل هو الجارحة والباعث النفسي والقدرة البدنية وطواعية الواقع للفعل. لا يعني عدم تحقق الفعل أن القدرة حادثة وأنها غير مؤثرة، بل يعني وجود موانعَ موضوعيةٍ بدنية، نفسية أو اجتماعية.١٢٧ولماذا يجب أن يكون الفاعل مخالفًا لفعله؟ الأقرب إلى العقل والبداهة والحس أن يكون الفاعل من جنس فعله. يصدر الفعل الإنساني عن إنسان، والحيواني عن حيوان، والجماد عن جماد. أمَّا إثبات الاختلاف بين الفاعل وفعله فهو تفكيرٌ دينيٌّ إلهيٌّ مقلوب، الغرض منه إثبات الاختلاف بين الفاعل والفعل من أجل العثور على المؤلَّه المشخص في العالم وإعطاء كل القوة والقدرة له. فهي وسيلة للحصول على الضائع أو إعطاء مضمون لصورة أو البحث عن وجود لانفعال. وبالحديث يقع التماثل والاختلاف. ولا يجب بالضرورة إذا كان الفعل محدثًا أن يكون صادرًا عن قديم. فقد يرجع الاختلاف إلى صفةٍ راجعة إلى الذات.١٢٨
- (٤) الترجيح. وكما لم يُثبِت الترجيحُ الجبرَ فإنه لا يُثبِت الكسب. فالفعل الضروري لا يمكن تركه لأنه تعبير عن طبيعة وليس فعلًا تجاريًّا. العالم بدون فعل عالم خاوٍ متقلص. الفعل ضروري للعالم ولا يتأتى الترك بأي حال. ومن لا حاجة إلى مرجح يجعل الفعل واقعًا لا متروكًا. يعبر الفعل عن طبيعة الإنسان ورسالته، والإنسان هو طبيعته ورسالته؛ ومِنْ ثَمَّ كان الإنسان هو الفعل. يترك الإنسان فعلًا لا يعبر عن طبيعته. وفي هذه الحالة يكون الترك ممكنًا، ولكن أيضًا يكون معبرًا عن الفعل الحر وهو فعل الترك.١٢٩ فعل الإنسان من خلق الإنسان ومتحقق بقدرته ورويته وقصده لأنه لو كان من فعل الآخر لكان الإنسان مجبرًا على فعله لو وُجد، ومجبرًا على الترك لو لم يوجد، ويكون الإنسان كالجماد تجري عليه الأفعال وهو مستقبل لها موجِّه لمسارها. ولا توجد حرية استواء الطرفين لوجود الباعث. الإنسان باعث وفاعل وقصد وهو المحدث. ووقوع الحدث بالقصد ينفي وجود المحدث لأن المحدث هو القائم بالحدث، والمحدث هو الإنسان المشاهد. الإيجاب هنا ليس إيجابًا خارجيًّا بل هو إيجاب القصد.١٣٠ وحتى إذا احتاج الفعل إلى مرجِّح، فلماذا لا يكون المرجح من الإنسان، ويكون هو الباعث الأقوى حسب شمولية الفكر والقصد والغاية؟ ولماذا يحتاج المرجح إلى مرجح، وهذا إلى ثالث حتى تتسلسل المرجحات إلى ما لا نهاية؟ إن المرجحات كلها ترجع إلى الموقف الإنساني الذي هو مصدر البواعث كلها، وهو مصدرٌ مباشر لا يحتاج إلى تسلسل. ولماذا الانتهاء إلى مرجحٍ مرجوح بنفسه لا يحتاج إلى مرجحٍ آخر إذا كان الموقف الإنساني هو مصدر كل البواعث؟ هنا يكون الخطأ في العقل نفسه الذي تلاشى تحت عواطف التأليه، ثم استخدمته في التعبير عن نفسها بالفكر اللاهوتي القائم على التسلسل والرجوع إلى الوراء لإثبات حلقةٍ أخيرة ليس وراءها حلقاتٌ أخرى؛ ومِنْ ثَمَّ يقضى على الفكر لحساب الانفعال وعلى تحليل الواقع رجوعًا إلى الوراء.
ويستعمل دليل التمانع لإثبات وحدانية الله في الفعل لإثبات الكسب؛ فهو إذن فكرٌ دينيٌّ إلهيٌّ مقلوب. وإذا جاز هذا الدليل بالنسبة لإثبات مؤلَّه مشخص واحد من عواطف التأليه فإنه لا يجوز بالنسبة لفعل الإنسان لأن الموقف مختلف. فلماذا يوضع الفعل الإنساني وفعل المؤله المشخص على طرفَي نقيض، إذا تحقق أحدهما لم يتحقق الآخر؟ أليس الأولى بالخالق والمخلوق اتفاق مرادهما كما هو أولى بالآلهة؟ وهل يجوز تصوير الفعل الإنساني وفعل الآخر في علاقة تحدٍّ مثل متسابقَين في حلبة سباق؟ وحتى على فرض صلة التعارض: لماذا لا يكون الفعل الإنساني هو المتحقق لأنه هو الفعل المراد والمقصود المروي، وهو الفعل الثابت بالحس والمشاهدة والوجدان، في حين أن الفعل الثاني مجرد افتراض فرضته عواطف التعظيم والإجلال؟ وإذا لم يتحقق فعل الإنسان فإنه لم يتحقق لموانعَ بدنيةٍ أو نفسية أو اجتماعية لا لتحقق فعل الآخر. وهل من عظمة المؤله المشخص أن يتحقق فعله دون فعل الإنسان؟ وأي تعظيم هذا الذي يثبت فيه الفيل أنه مساوٍ للنملة وقادر على الحركة مثلها؟
وقد يستخدم الترجيح لا لإثبات الكسب بل لإثبات القضاء والقدر كما هو الحال في الجبر. فما دام الترجيح ضروريًّا لا واقعًا فقط يثبت القضاء والقدر. وهذا خاطئ لأن الفعل يتم بقصد الإنسان، ومتى حصل الفعل بقصد الإنسان فإن الإنسان يكون فاعلًا على الحقيقة فحسب، ويكون فعل الإنسان كله له. حتى الموانع والعقبات التي توجد في ميدان الفعل هي كذلك بالنسبة إلى الإنسان. وكل ما قيل عن الترجيح باطل لأن الإنسان بطبيعته باعث ولا تستوي هذه البواعث، ولا توجد لديه حرية استواء الطرفين.١٣١ - (٥) الخلق. يُسَمَّى الإنسان خالقًا، فهو صاحب الفعل الشعوري، وهو مصدر الإبداع الفني. ولماذا لا يكون الإنسان خالقًا وهو في فعله اليومي يبدع ويخلق؟ هناك فرق بين الخلق الطبيعي لجسم الشيء وبين الخلق الإنساني لتكوين الشيء أو بنائه. لا يوجِد الإنسان شيئًا من لا شيء، بل يوجد شيئًا من شيءٍ آخر، تمثالًا من حجر، موسيقى من صوت، أدبًا من حروف، وحزبًا من جماعة، وهذا أيضًا خلق.١٣٢ والخلق لغويًّا لا يعني بالضرورة المعنى الأوَّل وهو الخلق من عدم، بل قد يعني أيضًا المعنى الثاني وهو التقدير؛ ومِنْ ثَمَّ فلا مانع من وصف الإنسان بأنه خالق. يمكن إثبات الخلق، وفي نفس الوقت يمكن القصد به معنيَين مختلفَين. ويكون خطأ لو وصف الإنسان خالقًا بالمعنى الأوَّل. أمَّا إذا كان الخلق يعني تطابق الفعل مع المصلحة فيكون الإنسان أحيانًا خالقًا حتى تكون أفعاله مطابقة للمصلحة. فإن حدث عدم التطابق فذاك من فعل الحرية. أمَّا المؤلَّه المشخص فإن تطابق أفعاله مع المصلحة غنًى خالص أو تبرير لكمال أو تعبيرٌ تطهري، وإلا فكيف يمكن تفسير الشر والظلم في العالم؟١٣٣ إن كثيرًا من العبارات هي مجرد مدح لا تعبر إلا عن عواطف التعظيم والإجلال مثل: «خالق كل شيء»، «قادر على كل شيء»، «عالم بكل شيء»، «مالك لكل شيء». فالأمر كله في الحقيقة في التنزيه، ولكن هذه المرة مع الفعل وليس مع الذات، تمثيلًا لما يحدث في العالم الإنساني لو كان يسمح تحليله بالتنزيه، أو نفيًا لما يحدث في العالم الإنساني وتجاوزًا للمشابهة إلى حد الإطلاق.١٣٤ إن الفعل الإنساني خارج مقولات الشيء والجسم والجوهر والعرض. وهو ليس كالألوان والطعوم والروائح، بل هو فعلٌ إنساني خالص يهدف إلى تغيير البناء الاجتماعي للواقع أو فعلٌ فني خالص يبدع الإنسان فيه ويعبر به عن وجوده في الزمان والمكان لحظة تحقيق رسالته.
- (٦) الخاطر. لا يعني وجود الخاطر في النفس تدخل أية إرادةٍ خارجية في صورة عقل أو وحي أو إلهام من أجل إعطاء الإنسان إمَّا الأساس النظري للفعل أو واقعًا مرويًّا عليه. بل إن هذا الخاطر يكون نتيجة تفكيرٍ إنسانيٍّ سابق في الموضوع، وانشغال الذهن به، وتوقُّد الشعور فيه. هو حصيلة كسب من الإنسان. وتنشأ الخواطر في النفس بطبيعتها، وتشير إلى قدرة الشعور على الخلق والإبداع، وتثبت الحرية ليس فقط في الأفعال الخارجية بل أيضًا في أفعال الشعور.١٣٥ولكن هل يلزم خاطران حتى يصح الاختيار؟ الشعور ذاته حرية، والحرية تعني إمكانية الحركة. فإذا كان الخاطر يعني الباعث، فالبواعث تتدافع فيتحقق الفعل طبقًا للدافع الأقوى. وإن كان الخاطر يعني الفكر، فالأفكار تتصارع فيتحقق الفعل طبقًا للفكرة التي تتحول إلى باعثٍ قوي. والشعور بطبيعته يتجاذبه طرفان؛ حركة وسكون، إقدام وإحجام، تقدُّم وتأخُّر، يقظة وغفلة، ازدهار وتقلص، نمو ونكوص، حياة وموت. وهذان الطرفان لا يعرضان إلى الشعور من الخارج ليختار الإنسان عقليًّا بينهما بعد عدد من العمليات الحسابية بأية مقاييسَ ذاتيةٍ أو نفعية، بل حياة الشعور ذاتها تسري بين هذه الأطراف، والحرية هي التي تحدد المسار. ليست الحرية ملكة أو قوة أو عضوًا، بل هي طبيعة بممارستها فرديًّا وجماعيًّا مع الذات ومن خلال الجماعة. قد يحدث الخاطران؛ خاطر الإقدام وخاطر الإحجام. ولكن هذين الخاطرين ينشآن من الموقف الاجتماعي. فما الداعي أن ينشأ خاطر الإقدام من العالم وخاطر الإحجام من الخارج؟ صحيح أن الطبيعة خيرة وفاعلة بطبعها، ولكن خاطر الإحجام قد ينشأ من إغراء في العالم أو من تقلُّص في الطبيعة ونقص في الازدهار. ويكون السؤال: وكيف ينشأ خاطر الإحجام من الخارج والمؤلَّه المشخص خير كله؟ ولماذا يحدث خاطر الإقدام من الخارج وخاطر الإحجام من العالم؟ وهنا تكون الطبيعة فاسدة لأنها لا تقدم على فعل بل تحجم عن كل فعل. ويبقى السؤال: كيف يصدر عن المؤله المشخص، وهو خير كله، الشر في العالم؟ أمَّا إذا كان الخاطران من الخارج، الإقدام والإحجام معًا، فهنا لم يعد يبقى شيء للإنسان، بل إن الإنسان نفسه لم يعد موجودًا. الخاطران من الخارج وما هو إلا آلة. أمَّا الخاطر الذي يأتي بفعلٍ خارجي حتى يعين الإنسان على الإتيان بفعل تكرهه النفس وتعافه فهو إلغاء وضعٍ خاطئ بمثله. فالفعل الذي تكرهه النفس لا يمكن أن يكون أمرًا، فأوامر الوحي كلها طبيعية، تعبر عن طبيعة الذات في حال كمالها. حتى ما يظن أنه صعب على النفس الإتيان به ما أسهله عليها لو توافر الباعث عليه. وعلى فرض أن النفس تأتي بأفعال تعافها وتكرهها، كيف يأتي العون من الخارج؟ كيف يأتي المؤله المشخص ليصحح وضعًا خاطئًا كان من السهل أوَّلًا عدم إيجاده؟ كان من الممكن أن يأمر بفعل تحبه النفس وتميل إليه بدل أن يأمر بفعل تعافه النفس، ثم يخلق الدواعي للعون عليه! قد يحدث أن يأتي الإنسان بفعل مكرهًا عليه، ولكن في هذه الحالة لا يكون فعلًا حرًّا، ولا يعبر عن طبيعته لأنه يفعله رغمًا عنه بلا شوق أو فرح وبلا ارتياح أو حماس. حتى لو أتى الإنسان به فإنه قادر على أن يأتي بفعلٍ حر، وبإرادته المستقلة، وفي هذه الحالة يصبح الإنسان نفسه موضوعًا للإرادة أو مقدورًا للقدرة. إن جعل خاطر الإقدام من النفس بطبعها يمنع كونه بفعل خارجي. ولكن النفس ليست عالمًا قائمًا بذاته، بل هي وجود اجتماعي، وما يجعلها تقدم أو تحجم هو باعثٌ اجتماعي. أمَّا إذا تشخص الخاطران، وأصبح داعي الإحجام شرًّا مشخَّصًا وداعي الإقدام خيرًا مشخَّصًا؛ يصبح الإنسان ألعوبة بين شخصَين، كلٌّ منهما يود أن تكون الغلبة له. وسواء غلب هذا أم ذاك فالإنسان في كلتا الحالتين هو الخاسر لأنه هو الفاقد حريته، المسلوب إرادته، يُفعَل فيه ولا يَفعل؛ لذلك قد ينكر البعض الخاطر كلية. ويكون الإنكار في هذه الحالة إنكارًا للخاطر بفعلٍ خارجي، ويكون الخاطر حينئذٍ هو الباعث النفسي أو الدافع على الفعل الذي ينشأ من موقفٍ نفسي واجتماعي.١٣٦إن احتياج الفعل إلى سببٍ مهيج أي إلى باعث لا يعني على الإطلاق حدوث هذا الباعث من إرادة خارجية تتدخل في الفعل الإنساني بإحداثها هذا الباعث، وما على الإنسان إلا التنفيذ الآلي له. فالباعث هو الفعل نفسه كفعلٍ ضمني. وهو الفعل الشعوري أي الوجود الأوَّلي للفعل قبل أن يتحقق. والحقيقة أن الباعث ينشأ في الإنسان كموجودٍ اجتماعي. الإنسان في موقف، والموقف يحتاج إلى تغيير، ومِنْ ثَمَّ ينشأ الباعث على التغيير في الإنسان. الموقف الاجتماعي هو مصدر الباعث. وبمجرد حدوث الباعث في الشعور يتحول إلى طبيعة. الطبيعة هي مجموعة البواعث، والبواعث أبنيةٌ ممكنة للعالم تتحول إلى أبنيةٍ واقعية بالفعل الإنساني.١٣٧ وإذا كان السبب المهيج فكرة، فالفكرة من الوحي ولكنها تحوَّلت إلى طبيعة بمجرد فهم الإنسان لها وظهورها على أنها بناءٌ مثالي لموقف يريد أن يتغير.
- (٧) الابتهال والدعاء والسؤال والشكر. كل ذلك ليس دليلًا على وجود قدرةٍ خارجية يستدعيها الإنسان كي تتدخل في فعله وتعينه على الإتيان به، بل مجرد موقفٍ نفسي يدل على انحراف في السلوك. ففي مجتمعٍ مهزوم تكثر مثل هذه الابتهالات والدعاءات لطلب النصر لعجزه عن الإتيان بالنصر بالفعل. وفي خضمِّ هذه الانفعالات الحادة ينشأ فعلٌ جادٌّ ولكنه منحرف وهو الابتهال والدعاء. وفي اللحظة التي يدرك فيها المهزوم خطة عمل وباعثًا وغايةً يُبطل دعاءه وابتهاله ويحقق ما يريده بفعله الخاص، وهو قادر عليه. الابتهال فعل الضعيف العاجز، ونشاطٌ انفعالي حين يعجز عن الفعل، وإغراق في الأدب والتصوف حين يُطمس العقل ويُزيَّف الوعي.١٣٨ وقد انتشرت الأدعية والتواشيح والابتهالات في عصور التخلف والانحطاط مع الفِرَق الصوفية وبعد تشخيص الوحي في محمد كما تم من قبلُ تشخيص الوعي الخالص في المؤلَّه. وقد يحدث الابتهال أو الدعاء أو السؤال في مجتمعٍ منتصر. وفي هذه الحالة يكون موجَّهًا من العامة إلى السلطة المنتصرة. بدلًا من أن تطلب حقَّها بالفعل تدعو وتبتهل وتتبرَّك بالسلطة كما تفعل بالأولياء. وكثيرًا ما يتحول التضرع والابتهال إلى تملُّق ونفاق وتقرُّب وإذلال للنفس باسم الدعاء،١٣٩ ويكون أقرب إلى الشحاذة أو السؤال، الكَفَّان إلى أعلى للاستجداء، والدموع في العينين للاستعطاف، وحشرجة الصوت وانسداد الأنف من البكاء، وإنما البكاء للنساء! إن الدعاء في لحظات الضعف والعجز وقلة الحيلة لا ينفي قدرة الإنسان، بل يثبت قدرةً أعظم مكمونة في الحاضر كي تتفجر في المستقبل. الدعاء مقدمة الفعل وإعداد له. ولا يتحقق الفعل إلا بعد أن يتحوَّل الدعاء من مجرد الأماني والأحلام إلى التحقق بالفعل حسب القصود والدواعي.١٤٠
إن وضع الإنسان بين الحركة والسكون، بين الإقدام والإحجام، بين النشاط والخمول، بين اليقظة والغفلة وضعٌ طبيعي. وهما ليستا ملكتَين نفسيتَين بل حالتان وجوديتان تعبران عن موقف الإنسان في العالم وأن وجوده فعل وإمكانية تحقيق. يجد الإنسان نفسه بينهما في شد وجذب يتصارعانه ويهددان وحدته فيتَّجه نحو أحدهما بطبيعته واختياره عندما يتبع الدافع الأقوى وتمييز العقل، لأنهما متماثلان ويظل واحدًا. ويتحدد مصير الإنسان بنوعية هذه الحركة من ذاته دون تدخل أية إرادةٍ خارجية سواء في صالح السكون أو لصالح الحركة. لو تدخلت لصالح الحركة للبعض ولصالح السكون للبعض الآخر يكون تميزًا مسبقًا وجبرًا على الإنسان وتدخل طرف جديد في معركة غير متكافئة الأطراف. وإذا تدخلت لصالح السكون والإحجام ضد حركة وتقدم أحد الأطراف يكون السؤال: كيف يصدر الشر عن الخير، والقبيح عن الحسن خاصة إذا كان الخير والحسن مظهرَين للكمال المطلق، أي صفتَين كاملتَين مطلقتين؟ كيف تتدخل الإرادة الخارجية في حركة الإنسان دون أن تنكر فعله واستقلاله؟ ولا يعني وجود الإنسان بين واقعَين: الإقدام والإحجام، الأمام والخلف، التقدم والتخلف، النهوض والسقوط أية ثنائيةٍ متعارضة قائمة على تطهر جانب وسقوط جانبٍ آخر، تؤدي إلى الكبت أو الشذوذ أو النفاق أو التصوف كما هو الحال في الثنائية الرأسية بين الأعلى والأدنى، بل هي ثنائيةٌ أفقية يوجد فيها الإنسان حسب قوة الباعث فيه ووعيه الفردي والاجتماعي، فهو ساكن أو متحرك، خامل أو يقظ، مصمت أو حي.
كما لا يدل الشكر على نفي قدرة الشاكر وإثبات قدرة المشكور، بل قد يكون الشكر على تهيئة الفعل وعلى اللطف وحسن المعاملة. هدفه الاعتراف للآخر بفعله وبإعلان أداء واجبه وبحضور المبدأ العام الذي هو أساس سلوك الجميع. الشكر ليس تملقًا ولا مدحًا فلا شكر على واجب. ولا يدل على وجود يد عليا تعطي ويد دنيا تأخذ، بل هو إعلان لمساواة الأطراف جميعًا تحت مبدأٍ عام هو الواجب وإمكانية تحققه بالفعل.١٤١ - (٨) الوحي. إن القول بأن إثبات الحرية يقتضي بالضرورة إثبات العقل والتمييز والحسن والقبح الموضوعيَّين، وهذا يكون بالضرورة ضد الوحي الذي يعطينا صفات الأشياء وأحكام الأفعال، هو قول نصفه حق ونصفه باطل. صحيح أن إثبات الحرية يقتضي بالضرورة إثبات العقل والتمييز ووجود الحسن والقبح صفاتٌ موضوعية في الأشياء، ولكن ذلك لا يعارض الوحي لأن الوحي هو العقل والواقع، هو القدرة على التمييز. وهو قيمٌ موضوعية وصفات في الأشياء. وهي حجة في نهاية الأمر تخرج من موضوع خلق الأفعال إلى موضوع الحسن والقبح، وتحل مسألة بالإحالة إلى مسألة أخرى، وتثبت شيئًا بشيءٍ آخر يحتاج إلى إثبات. فكون الوحي مصدر صفات الأشياء وليس العقل موضوع آخر يحتاج إلى إثبات في مسألةٍ أخرى هي مسألة العقل والنقل أو العقل والسمع أو الحسن والقبح.١٤٢ حتى ولو كان إثبات الحرية يتضمن إثبات العقل وأنه مصدر صفات الأشياء والتمييز بين الحُسن والقبح كأساس للفعل الحر المختار، فما العيب في ذلك؟ هل لأن العقل أساس الفعل الحر المختار يلغي هذا الفعل ويثبت الجبر؟ يبدو أن إثبات الجبر يتضمن بالضرورة إلغاء العقل لأن الجبر في الأفعال والأسرار في الأفهام شيءٌ واحد. إن إثبات حرية الفعل للإنسان لا يعني تغيير صفات الأشياء لأن الحرية قائمة على وجود صفاتٍ موضوعية في الأشياء يدركها العقل تجعل الفعل حسنًا لصفات فيه وقبيحًا لصفات فيه، كما أن الفعل في ذاته حسن وقبيح. إن إنكار الحرية يقتضي بالضرورة إنكار الحسن والقبح كصفتَين في الأفعال يدركهما العقل.١٤٣ لا حرية بلا عقل، ولا عقل بلا حرية. وكل إثبات لأولوية النقل على العقل هو قصد نحو إثبات الجبر وإلغاء الحرية، وكل إثبات للجبر هو قصد نحو إلغاء العقل؛ لذلك قام العدل على ركنَين رئيسيَّين: إثبات الحرية والعقل، إثبات الإنسان الحر والإنسان العاقل.
- (٩) العلم الشامل. إن العلم المطلق الشامل كصفة للوعي الخالص لا يمنع الحرية الإنسانية من الوقوع؛ فالعلم المطلق كصفةٍ مطلقة لموجود كامل كما ظهر في التوحيد تشخيص يقوم به الإنسان في حالة الانفعال الشديد الناتجة عن الكرب والإحساس بالضياع والهزيمة والوقوع تحت الظلم والاضطهاد أو نتيجة لشعور بالزهو والانتصار والرغبة في تأكيد السلطة المطلقة على أساس من الشعور بالرهبة والخوف أمام سلطانٍ مطلق. فالذات المشخص وصفاته المطلقة من فعل الشعور.١٤٤ إن العلم شيء والقدرة شيءٌ آخر. يعلم الإنسان أكثر مما يستطيع أن يقدر، ويقدر أحيانًا أكثر مما يستطيع أن يعلم. لا يوجد تطابقٌ تام بين العلم والقدرة. العلم عام والقدرة خاصة، العلم شامل والقدرة فردية، العلم لا نهائي والقدرة نهائية، العلم نظري والقدرة عملية. لا يمكن إذن الجمع بين العلم والقدرة أساسًا.١٤٥ وعلى فرض إعطاء التوحيد وجودًا واقعيًّا في ذات بصفاتٍ كاملة لا يكون العلم بما يحدث في العالم بالضرورة نفيًا للحرية أو تدخلًا فيها من قبل هذا العلم لأن العلم نظر والإرادة عمل. لا يعني كون أفعال الإنسان معلومة من قبلُ أنها بالضرورة مفروضة عليه لأنه في هذه الحالة ماذا تكون صفة علمٍ مطلق لا يقع بالفعل وغير مطابق للواقع؟ وماذا يكون مصير العلم إن حدث الفعل الإنساني على خلافه ما دام الفعل الإنساني فعلًا حرًّا.١٤٦ وقد كانت هذه الحجة في عقيدة الجبر من قبلُ. فإن اعتراض المجبرة: كيف يمكن فعل شيءٍ مخالف لما هو معلوم ومقدور من قبل قائم على تشخيص عواطف التأليه في علمٍ مطلق حاوٍ لكل شيء، له الأولوية على القدرة الإنسانية في حين أن تحليل السلوك الإنساني يؤدي إلى إثبات القدرة وإنكار أي قدرٍ مسبق إلا قوانين التاريخ التي تعرف بالاستبار وبالخبرات الماضية. يحتوي الوحي على هذه القوانين معطاة من قبلُ، وهو العلم المطلق الواقع بالفعل لا المتوهَّم.١٤٧ ولما كان الفعل الإنساني واقعًا وكان العلم المطلق الشامل صفة مشخصة وقدرًا مسبقًا غير واقع؛ أدى الفعل الإنساني إلى العمل ضد عواطف التأليه، وأصبح إثبات أولوية العلم الشامل كصفةٍ مشخصة على الفعل الإنساني الواقع يعمل ضد الغاية منه وهو إثبات عواطف التأليه وجعل المؤلَّه المشخص صفات على البدل وهو مضاد للكمال. القدرة على خلاف المعلوم تجهيل للعلم المطلق المشخص للمؤله ولا يمكن رفع الإشكال إلا بإثبات القدرة. ولكن وجود الرسالة وإبلاغ الوحي يمنعان من أن تكون القدرة مجبرة من قبل وإلا ففيم كان الوحي وفيم كانت الرسالة؟١٤٨
- (١٠) القدرة. واعتبار كون الإنسان قادرًا ولكن المؤلَّه المشخَّص أقدر منه لا ينفي قدرة الإنسان على الإطلاق؛ فالمؤله المشخص كما ظهر في التوحيد خلق من الشعور الانفعالي وإسقاط منه ورغبته في تثبيت عواطف التعظيم والإجلال عن طريق التشخيص والتجسيم. وهذه العواطف نفسها ناشئة عن موقفٍ نفسي واجتماعي غير سوي، موقف اضطهاد أو موقف تسلط. فتصوره على أنه واقف للإنسان بالمرصاد يتدخل في فعله ليس تفكيرًا بل عودة للانفعال لطمس الفكر. وكون الإنسان قادرًا وغيره أقدر لا ينفي كون الإنسان قادرًا. ولا يوجد أي وجوبٍ عقلي أو حسي ذهني أو واقعي، على أن وجود غير قادر يمنع الإنسان من أن يكون قادرًا. الخلاف فقط في الدرجة وليس في النوع. ومع ذلك قد يكون الإنسان بإمكانياته العقلية والإبداعية أقدر من الظواهر الطبيعية؛ لأنه قادر على السيطرة عليها والتحكم في مسارها من خلال معرفته بقوانينها.١٤٩
وهذا قياسٌ صوريٌّ خالص وليس قياسًا عليه. هو قياسٌ صوري يبدأ بافتراضات واحتمالات معبرًا عنها بلو كان، فالنتيجة التي تنتج منها نتيجةٌ صوريةٌ خالصة. كذلك مقياس صدقها اتفاقها مع المقدمة الافتراضية ودون أن تثبت شيئًا في الواقع. إن جعل المؤلَّه المشخَّص قادرًا على ما يقدر عليه الإنسان يجعله أيضًا مكتسبًا بالأفعال ما دام الإنسان مكتسبًا لها. وهو ما ينافي عواطف التعظيم والإجلال. وليس هناك من يُقدر الإنسان على فعله إلا قدرته وباعثه وفكره وغايته. فتلك هي العوامل التي تكوِّن فعله. ولو كانت قدرته مستمدة من غيره لما كان قادرًا بذاته أو فاعلًا بذاته، ولما كان صاحب فعله، ولما كان السؤال ذاته قد وضع.
ويكون السؤال الآن: ما الغاية من الفعل الإنساني؟ إثبات قدرة الإنسان أم إثبات قدرة غيره؟ وأي القدرتَين في خطر إذا نيل منها؟ وإذا كانت قدرة الذات المشخص شاملةً قادرة على كل شيء، فلم الحاجة إلى إثباتها ونفي قدرة الإنسان التي لا تستطيع أن تفعل أمامها شيئًا أو تبقى لحظة واحدة؟ إن عدم قدرة الإنسان على كل شيء لا تعني أن هناك قدرةً أعظم تقدر على ما لا يقدر عليه الإنسان؛ فالقدرة الإنسانية لها مداها وهو مدى الفعل ومدى القدرة. يقدر الإنسان على تغيير بناء الواقع الاجتماعي، ففعله فعلٌ إنسانيٌّ حيوي وليس فعلًا طبيعيًّا. ولا يعني عدم قدرة الإنسان على تحريك الجبال أو إغراق الكون عدم قدرته على الأفعال؛ لأن القدرة لها مستواها ومداها، مستواها هو البناء الاجتماعي ومداها هو الأثر. لا يستطيع الإنسان أن يغير من قوانين الطبيعة، أن يجعل الحر باردًا أو البارد حارًّا أو المؤلم ملذًّا أو الملذ مؤلمًا أو أن يسقط الحجر إلى أعلى أو أن يعيش السمك خارج الماء. إن الطبيعة، سواء كانت الطبيعة الخارجية أم الطبيعة الإنسانية، واحدة لها بناؤها. يمكن تصور المؤلَّه قادرًا على تغيير قوانين الطبيعة وقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا ولكن ذلك تخيُّل وانفعال، وفكر بالتمني، إمَّا تعويضًا عن عجز أمام الطبيعة أو تخويفًا برهبة السلطان. ومع ذلك يستطيع الإنسان من خلال العلم السيطرة على مظاهر الطبيعة وإخضاعها لإرادته. يمكنه حينئذٍ أن يطير في الهواء بالآلة وأن يسير فوق الماء بالآلة وأن ينزل إلى قاع المحيط بالآلة أيضًا طبقًا لقوانين الطبيعة وليس خرقًا لها. يمكنه أن يُهبِط المطر وأن يجعل الحر باردًا والبارد حارًّا بالتبريد والتكثيف. وأن يُحوِّل الحجر ذهبًا بالضغط والعصا ثعبانًا بالكيمياء. فلا حدود لقدرة الإنسان على الطبيعة. ووضع الحدود أمامه إيقاف لتقدم العلم وإحباط مسبق لإرادة الإنسان. أمَّا أفعال الشعور كاللذة والألم فيستطيع الإنسان أن يجعل من المؤلم ملذًّا بفعل التضحية والشهادة، أو أن يجعل من الملذَّ مؤلمًا إذا كان فيه فقدان الذات وضياع الكلمة وأذى الآخرين. يمكن أن يكون لقدرة الإنسان أثر غير محدود بزمانه ومكانه؛ فأثر كبار الفلاسفة والعلماء والفنانين والقادة غير محدود، وما زالت الإنسانية تسير بفعل السابقين وتحت أثرهم. هناك من البشر من أثر في تاريخ الإنسانية إلى الأبد كالأنبياء. حتى على فرض أن أثر القدرة الإنسانية محدود، فذلك لا يعني وجود قدرةٍ أخرى أعظم وأجلَّ وأسمى في مقدارها أن تدكَّ الجبال وتجعل الأرض محيطًا والمحيط أرضًا وأن تُشرق الشمسَ من المغرب وأن تُغربها من المشرق؛ فذاك قلب لقوانين الطبيعة الثابتة وهدم للعلم وإنكار لاطراد العادات وزعزعة لثقة الإنسان بالعالم وبفعله فيه، ولا يكون تعبيرًا إلا عن عاجز يودُّ أن يرى الكون في قبضته بالتمني أو قاهر يود السيطرة على الآخرين بالإرهاب أو الخديعة.١٥٠ولا تعني عدم قدرة الإنسان على الإعادة أن الإنسان غير قادر؛ فالفعل الإنساني فعلٌ موجَّه مقصودٌ مسبَّب، له غاية ونهاية. الرجوع إلى الوراء إنكار لغائية الفعل ولقصد الإنسان، والغائية جوهر الحياة، والقصدية أساس الفعل. والتاريخ لا يرجع إلى الوراء، والتراكم الكمي يتحوَّل إلى كيف. الفعل الإنساني بطبيعته فعل لا يتكرر لأنه فعلٌ إنساني أي فعلٌ خلاق. والخلق الفني لا يتكرر؛ لأنه مرهون بلحظة الخلق. الفعل الإنساني بطبيعته فعلٌ جديد، والجدة في الخلق تعبير عن الحرية في الفعل، ولو كان الإنسان مجبرًا لتكررت الأفعال؛ لأنها تحدث بنفس القدرة المخلوقة وعلى نفس المنوال. ولا توجد أية ضرورة على الإنسان حين يأتي بفعله تجعله قادرًا على إعادته من جديد، لا ضرورة عقلية أو حسية، بل توجد ضرورة توجب النقيض. المؤلَّه المشخَّص وحده هو القادر على الإعادة؛ لأنه افتراضٌ نظري، وفكر بالتمني، وتخيُّل حالة لا وجود لها. أمَّا الإنسان فإن ممارسته لفعله واقعة بالفعل. ومع ذلك فبعض الأفعال يمكن إعادتها بالممارسة. وتختلف درجة التكرار حسب مستويات الفعل. لو كان الفعل آليًّا أمكن إعادته كالعامل الذي يقوم بنفس الفعل آلاف المرات إذ تحول الفعل لديه إلى طبيعة ثانية، وإذا لم يحدث التكرار في الفعل الآلي فإنه لا يدل بالضرورة على نقص في القدرة، بل على نقص في التمرين والتعود والممارسة أو على نقص في الآلة. أمَّا الفعل البدني فإنه ممكن تكراره. قد لا يكون نفس الفعل من حيث الحركة الطبيعية ولكنه يكون نفس الفعل من حيث الدلالة. يمكن مثلًا كتابة نفس الحروف آلاف المرات والسير بين نقطتين عشرات المرات، ويكون الفعل في نفس المرة هو نفس الفعل، نفس الحرف أو نفس المسافة. ولكنه قد لا يكون الحرف تمامًا هو نفس الحرف من حيث الرسم، وقد لا تكون الخطوة تمامًا هي نفس الخطوة من حيث المسافة. ولكن هذه الفروق المكانية لا دلالة لها على الفعل ومصدره وهو الإنسان القادر الحر. والإعادة فرع على مبدأ، ومن يثبت الفعل يثبت التولد. الإعادة ممكنة لأن الفعل ممكن أوَّلًا. ومن قدر على الفعل الأوَّل يقدر على الفعل الثاني. وقد استعمل الفكر الديني الإلهي هذا التحليل لإثبات البعث بإثبات الخلق؛ فالقدرة على الخلق تتضمن القدرة على البعث لأن القادر على الفعل أوَّلًا يكون أقدر على إعادته ثانيًا. والقول باستحالة الإعادة مبني على أن العلم لا بد وأن يكون علمًا بالتفاصيل، وهذا غير لازم؛ فالإعادة ممكنة بفعل الممارسة عندما يتحول الفعل الأوَّل إلى طبيعةٍ ثانية. كما تصح الإعادة من المؤله المشخص؛ لأنه عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.
ولا يعني فرض أن قدرة الإنسان مخلوقة معه فهو أيضًا مخلوق؛ أن أفعال الإنسان مخلوقة لأن خلق القدرة لا يستلزم بالضرورة خلق الأفعال. يمكن خلق قدرةٍ قادرةٍ حرة في الإنسان الذي هو محقق قدرته في أفعاله. ولا يعني اعتبار المؤلَّه المشخص مالكًا لكل شيء بما فيه الإنسان وفعله نفيًا لقدرة الإنسان. إن القول بأن المؤله المشخص مالك لكل شيء مجرد عبارة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال. والمعاني والحقائق والوقائع لا تثبت بالعبارات والألفاظ.١٥١ ولا يعني إثبات كون الإنسان قادرًا أنه يسلب الآخر حريته أو يشاركه فيما ليس له، بل إن القادر على أفعاله هو المحقق لها. وهذا أيضًا ينفي بالضرورة أن يشارك آخر في أفعاله إلا من مشاركة الجماعة والعمل المشترك داخل الجماعة أو الحزب.١٥٢ لا يعني اختلاف الألسنة والألوان وجود قدرةٍ مشخصة خارجية جعلت الألوان والألسنة متباينة على هذا النحو؛ فتباين الألوان يرجع إلى درجة بُعد الجماعة البشرية عن الشمس، وتباين الألسنة يرجع إلى اختلاف نشأة اللغة حتى لو كانت لغة الوحي توفيقًا. لقد حدث ذلك مرةً واحدة ولم يتكرر بوجود أول إنسان على الأرض، وهذا الحال ليس حالنا، نحن بقية البشر.١٥٣وما المقصود في النهاية، نفي قدرة الإنسان من أجل رفض مشاركة أحد مع المؤلَّه المشخَّص في فعله أم إثبات قدرة الإنسان ورفض مشاركة أي أحد مع الإنسان في فعله؟ ما المطلوب في النهاية؟ إثبات قدرة الإنسان حتى لو كان ذلك بنفي قدرة الغير أم قدرة غيره حتى ولو كان ذلك بنفي قدرة الإنسان؟ حرية الإنسان أم حرية غيره حتى ولو كان ذلك بالقضاء على حرية الإنسان؟ وكيف تثبت إرادة الإنسان وقدرته وفعله وحريته مع قرارٍ مسبق بأنه لا شيء مخلوق له الخيار في أمره في عالم ليس له؟ وإذا كان القرار المسبق هو الحل فلماذا وضع السؤال؟
(٢-٣) القدرة والاستطاعة
قد يكون الفعل اللحظي ليس أدل الأفعال على ممارسة الإنسان حريته. الفعل اللحظي قد لا يتكرر وهو الفعل الذي يحدث في ظروف قد تكون عفوية. الفعل الحر هو الفعل الدائم الذي يحدث نتيجة لتدبر ووعي وقدرة على الاستمرار في كل لحظة، لا تنتهي قدرته ولا يتوقف باعثه، ولا تغيب غايته.
(٢-٤) نقد الكسب
بالإضافة إلى تفنيد حجج الكسب السابقة، فإنه يقع في عدة أخطاء، سواء في التوحيد أو في العدل، تنال من حق الله في التنزيه وحق الإنسان في الحرية منها.
-
(١)
المشاركة أصلًا مستحيلة، مشاركة الله للإنسان في الفعل، ومشاركة الإنسان لله في الفعل لأنه ضد التوحيد، فإذا كان الكسب يرفض الحرية لأنها مشاركة من الإنسان في فعل المشخص المؤله فإن الأولى بالحرية أن ترفض الكسب لأنه مشاركة من المشخص المؤله في فعل الإنسان. المشاركة شرك، ويكون حينئذٍ الجبر أولى بالتوحيد لأنه يوجد في الأفعال، يجعلها كلها مخلوقة من الله دون أن يكون للعبد فيها شيء.١٩٢ والشركة في الكسب تتعدى أن يكون الإنسان مشاركًا في الفعل إلى أن يكون لا فعل له على الإطلاق. ما دام الإنسان قادرًا على الفعل، فالمؤلَّه المشخَّص عليه أقدر لأنه أعظم. وإذا كان الإنسان قادرًا على تحريك شيء فالمؤلَّه المشخص قادر على تحريك الجبال. وإذا كان الإنسان قادرًا على بناء منزلٍ صغير، فالمؤله المشخص قادر على بناء مدينةٍ كبيرة في غمضة عين. وهكذا يتحول الأمر من إثبات قدرة الإنسان إلى إلغائها وإثبات قدرة المؤله المشخص؛ لأنه أعظم وكأن الغاية هي إثبات قدرةٍ عظمى لموجودٍ أعظم وليس إثبات قدرة الإنسان. وذلك فعل عواطف التأليه التي يريد المهزوم تشخيصها تعويضًا لهزيمته، وتشبُّثًا بقدرةٍ عظمى يفتقدها أو عواطف التأليه التي يريد المنتصر إثباتها إمعانًا في إثبات سلطته، ومحوًا لأفعال الآخرين. في حين أن إثبات قدرة الإنسان، والإنسان وحده دون أن يقدر عليها آخر حتى ولو كان المؤله المشخص، أكثر احترامًا للإنسان وأقدر تعبيرًا عن عواطف التأليه على السواء؛ فهي تؤكد فعل الإنسان، وتثبت عظمة التأليه الذي لا يكون من كماله فعل شيء أقل منه، وهو فعل الإنسان. وما أتفه فيل يريد أن يثبت أنه أقدر من النملة على تحريك قشة!١٩٣ويدافع الكسب عن نفسه بأنه لا يعني المشاركة. ولا يعني إثبات قدرة الإنسان مشاركة المؤله المشخص في فعله، وكأن إثبات قدرة للإنسان تهمة يجب إبعادها أو ذنب يجب التكفير عنه، وكأن المطلوب إثباته قدرةٍ عظمى فوق قدرة الإنسان؛ لأن قدرة الإنسان هي الطاغية، والقدرة العظمى هي المقهورة! ما دام الإنسان يسعى بالعلل المباشرة إلى تحقيق أفعاله، فكل محاولة لإدخال عنصرٍ ثالث بين الفعل والأثر، أو بين العلة والمعلول ضرب من الأسطورة والغيب والطاغوت. وحتى إذا حدثت العلة دون المعلول أو حدث المعلول دون العلة فذلك لا يعني مشاركة الإنسان في فعله، بل يعني أن هناك علةً أخرى قد دخلت فأحدثت الفعل وهي علة غير متوقَّعة، أو أن العلة التي ظن الإنسان أنها مؤدية إلى الفعل ليست هي العلة المؤثرة؛ ومِنْ ثَمَّ يجب البحث عن العلة الصحيحة للفعل المطلوب. هذا التفاوت بين العلة والمعلول واقع في السلوك البشري، ولا يشير إلى تدخل أية علة من الخارج، بل يشير فقط إلى أن طبيعة الإنسان هي القصد والإرادة والتخطيط والمراجعة والبدء من جديد والتجريب والمحاولة والخطأ والإعادة. وما دامت هناك السنن والإرادات تحدث الأفعال دون ما حاجة إلى عنصرٍ ثالث فوقهما.١٩٤
-
(٢)
يستحيل أن يكون الإنسان فاعلًا على الحقيقة ومكتسبًا في آنٍ واحد؛ فهذا جمع بين ضدَّين. فإمَّا أن يكون الإنسان صاحب فعله وبالتالي يكون فاعلًا على الحقيقة، وإمَّا أن يكون مكتسبًا وبالتالي يكون فاعلًا بالمجاز.١٩٥ فإذا استوى الفعلان؛ فعل الإنسان وفعل المؤله المشخص، أصبح كلاهما فاعلَين على الحقيقة، وهذا يستحيل أيضًا؛ لأن الفعل لا يكون إلا لقادرٍ واحد. بالإضافة إلى أنه لا مبرر هناك لفاعلَين ما دام الإنسان فاعلًا قادرًا، وما دام المؤله المشخص فاعلًا قادرًا.١٩٦ ومن المستحيل تصور وجهين للفعل، يقع أحدهما بقدرة والآخر بقدرةٍ أخرى؛ فالفعل له وجهٌ واحد من جهة الفاعل. ولما كان الفعل لا يحدث في فراغ بل يحدث في واقع، ويتحقق في موقف، فإن هذا الموقف ليس وجهًا آخر للفعل بل هو ميدان للفعل الذي يحتوي على عواملَ محددة للفعل وموجِّهة له. ولكنها ليست واجهةً أخرى للفعل تستقبل فاعلًا آخر وقدرةً أخرى. الشيء ذو وجهٍ واحد، والفعل ذو وجهٍ واحد لا يتغير ولا يتبدل، لا يتعدد ولا يتكاثر وإلا تميَّع وساب، وتشعَّبت المسئولية واستحال التوجه والقصد.١٩٧ كما أنه يستحيل تصور فاعلٍ واحد بقادرَين؛ لأنه إمَّا أن يحدث الفعل كله بقادرٍ واحد، فما وجه الحاجة إذن إلى القادر الثاني؟ وإمَّا أن يحدث الفاعل بالقادرَين معًا، وفي هذه الحالة ما وجه التمييز بين القادرَين؟ وماذا يكون الحال لو اختلف القادران على إتيان الفعل؟ ولو تحقق الفعل فإنه يتحقق بقادرٍ واحد الذي غلب على القادر الآخر. بل إن هذا هو أساس التوحيد، وهو ما يُستعمَل عادةً في إثباته. فكيف يُستعمل دليل التمانع في الذات والصفات ويرفض في الأفعال؟ كيف يستعمل في التوحيد ويرفض في العدل؟١٩٨ كما أنه من المستحيل تصور فاعلٍ واحد بقدرتَين، قدرة منه وقدرة من خارجه. كل فاعل له قدرة، وقدرته واحدة، وأية قدرة أخرى تدخل في فعله تكون قدرة لفاعلٍ آخر.
-
(٣)
ينتج الكسب من احتياج المعبود المشخَّص إلى قدرة يخلقها في الإنسان من أجل الكسب. ولماذا لا يفعل الله كل شيء ما دام قادرًا؟ لماذا التمويه على العبد بأن يجعله فاعلًا في الحقيقة وهو ليس إلا فاعلًا بالمجاز؟ إن كان الكسب يرمي إلى التوحيد وإثبات قدرة المؤلَّه المشخص المطلقة، فإنه ينتهي إلى الإقلال منه بإثبات حاجته إلى خلق قدرة يكسب بها الإنسان فعله. وهنا يكون الجبر أكثر اتساقًا مع عواطف التعظيم والإجلال من الكسب. يجعل الكسبُ المؤله المشخص مكتسبًا لأنه يتدخل في فعل الكسب. وما دام قادرًا على كل شيء وقادرًا على الكسب؛ فيكون إذن مكتسبًا، ويكون تعلقه بالفعل على جهة الكسب يجعله مكتسبًا، حتى ولو لم يحتج إلى آلة لأن اسم الفاعل لا يتضمن بالضرورة آلة.١٩٩ وإذا كان الإنسان قادرًا على الكسب، فلماذا لا يكون قادرًا على كسب كل أفعاله؟ لماذا تكون قدرته منتقصة، وثقته بالنفس مزعزَعة، وأنه غير قادر إلا أن يقوم بالأفعال إلى منتصفها؟ وما أسهل بعد ذلك أن يقوم بها إلى الربع ثم لا يقوم بها على الإطلاق اعتمادًا على الكسب وخلق الله أفعاله فيه؛ وبالتالي ينتهي الكسب إلى الجبر المطلق.
-
(٤)
والكسب لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى الحدوث، لا حدوث القدرة بل حدوث الشيء بفعل قدرة الإنسان. ليس الحدوث هو القدرة أو الإنسان، حدوث من أجل إثبات مُحدَث وهو المؤله المشخص، بل يعني الحدوث إحداث الشيء بقدرة الإنسان.٢٠٠ يثبت الكسب إذن بإثبات قدرةٍ حادثة. ولكن لماذا إلغاء تأثير القدرة لكونها حادثة؟ أليس إثبات قدرة لا أثر لها نفيًا لما أثبت أوَّلًا؟ أهي خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف؟ إقدام ثم إحجام مثل إثبات الصفات بلا كيف في التوحيد بعبارات مثل عين لا كأعيننا وبصر لا كبصرنا ويد لا كأيدينا!٢٠١وما دام الفعل يقع بقدرة الإنسان، فلماذا الإصرار على أنها محدثة؟ كما أن هذا وصف لنشأة الشيء المادية أو الفعل وليس مجرد الإتيان بالفعل. لماذا وصف القدرة بعد أن تحدث بوصف ينفيها ويلغيها ويقضي على استقلالها؟٢٠٢ ولا يعني عجز القدرة عن فعل شيء نفي القدرة، بل يعني حدوثها في نطاقها وحدودها. لا تعني القدرة على إحداث شيء القدرة على إحداث كل شيء. تفعل القدرة الإنسانية على مستواها وفي مداها. لا تعني قدرة الإنسان على الحركة أنه قادر على تغيير بناء الشيء أو على إيجاد الشيء من عدم. لا تعني القدرة على السيطرة على ظواهر الطبيعة تغيير قوانين الطبيعة وعلى إحداث ظواهر تحدث على خلافها.٢٠٣ وما دامت القدرة حادثة وليست خالقة، وما دام الفعل لا يتم إلا بقدرةٍ خارجيةٍ أخرى، فلماذا لا يريد الإنسان تحريك الجبال ولا تأتي القدرة الخارجية لخلق الفعل فيه وتهيئة الكسب له؟ لماذا تأتي القدرة الخارجية في بعض أفعال الخاصة بالطاعة والعصيان المدني دون البعض الآخر الخاصة بالطبيعة والكون؟ أليس من شيمة المؤلَّه المشخَّص الكرم والجود واللطف؟ ألا يعطي العون ويهب التوفيق؟ يدل ذلك على أن قدرة الإنسان تؤثر في مداها وحسب الطاقة لا أقل فتعجز ولا أكثر فتتبخر. وما التفرقة بين حالة الفعل وجهة الفعل وصفة الفعل إلا وسيلة لإفساح المجال لإثبات إرادةٍ خارجيةٍ مؤثرة على جهة من جهات الفعل لا على كل الجهات أو في حالة من حالات الفعل لا على كل الحالات، ولكي يلغي كون الإنسان هو المعطي لصفة فعله وجهة حاله أي لنفي استقلال إرادته وفعله.
-
(٥)
إن إنكار قدرة الإنسان المحدثة لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى إنكار الصانع؛ لأن إثبات الصانع قائم على إثبات الحدوث، ومنها حدوث القدرة. كيف يمكن إذن إثبات قدرة الله ونفي القدرة الحادثة؟ إذا كان حدوث القدرة نفسه نتيجة لحكمٍ مسبق هو وجود قدرةٍ مطلقة هي قدرة القديم، فإن إثبات قدرة القديم يظل افتراضًا في حاجة إلى إثبات.٢٠٤ وإن إثبات قدرة المؤله المشخص قبل الخلق وبدون القدرة الحادثة مجرد إثبات من حيث الشرف والقيمة لا من حيث الواقع؛ لأن عواطف التعظيم والإجلال تفرض صفةً كاملة له. إن تصور المعبود مالكًا لكل شيء وخالقًا كل صورة فكرٍ إلهيٍّ مركزي من مجتمعٍ منتصر، ولكن من مجتمعٍ مهزوم تكون صورة للقهر أو تعويضًا عنه. فما أجمع عليه المؤلهون في مجتمعٍ منتصر أنه مالك لكل شيء قد يُجمع عليه المؤلهون في مجتمع يود الانتصار. إن الإنسان هو القادر على كل شيء.٢٠٥ هناك فرق بين الفكر في موضوعٍ موجود وبين تخيل حالة غير موجودة ولا سبيل إلى معرفتها ثم إصدار أحكامٍ عقلية عليها. كيف يمكن الحديث مثلًا عن حال المؤله المشخص قبل الخلق أو معرفتها؟ إنه ليستحيل التفكير فيها لأن التفكير أصبح ممكنًا بعد الخلق وليس قبله. إن الدليل في حقيقته مصادرة على المطلوب لأنه يبدأ بعواطف التعظيم والإجلال التي تشخص مؤلهًا موجودًا قبل الخلق قادرًا على كل شيء ثم تنتهي بإثبات نفس المشخص المؤله ونفس القدرة وكأن نقطة البداية هي نفسها نقطة الانتهاء، وكأن الغرض نفسه هو المطلوب إثباته، وكأنه لا فرق بين الخيال والواقع، بين الرأس والقدمَين.
-
(٦)
ولا يعني خلق الفعل إيجاد الشيء من عدم أو إحداثه، بل تغيير بناء الواقع؛ وبالتالي فإن الجبر والكسب معًا يقومان على افتراض خاطر، وهو أن الإنسان إن كان صاحب أفعاله فإنه يكون لها خالقًا ومُحدِثًا. وهذا غير صحيح، فالإنسان لا يخلق العالم بل يعمل فيه، ولا يحدث المجتمع بل يغير بناءه. يعني الخلق هنا الأثر لا الشيء الذي يقع عليه الأثر، الخلق هنا هو الخلق المعنوي لا الخلق المادي، الخلق هنا هو خلق أفعال الشعور لا خلق الأشياء في العالم.٢٠٦ هناك إذن فرق بين خلق الإنسان للشيء وفعله في العالم. الخلق تفسير لنشأة الكون، والإنسان بفعله لا يدَّعي أنه يفسر نشأة الكون، بل يغير فقط البناء الاجتماعي للواقع. وهذا هو معنى تأثير القدرة.٢٠٧ وما دام الأمر لا يتعلق بخلق الشيء من عدم، بل بتغيير بناء الواقع، فإن عدم قدرة الإنسان على إعادة الشيء بعدُ إن لم يكن لا يثبت أنه غير قادر على الفعل. وما دام الفعل الإنساني يتحقق في حدود الطاقة، فإن خلق الشيء أو إعادته ليس مثلًا للفعل المقصود، وهو الفعل الذي يهدف إلى تغيير في البناء الاجتماعي. الفعل المقصود هو الفعل الإنساني لا الفعل الطبيعي.٢٠٨ لا يرجع الفعل الإنساني إلى الوراء، بل يسير في اتجاهٍ واحد لا عن طريق النكوص. النكوص غياب للفعل وليس إحداثًا للفعل. ولكن إذا توافر القصد والداعي فإن الفعل لا ينكص من تلقاء نفسه. وعدم القدرة على النكوص لا تعني استحالة التطور.٢٠٩ تحدث القدرة إذن أثرًا في الوجود بمعنى تغيير في بناء الواقع وليس بمعنى أنها خالقة للوجود أو مُحدِثة له، بل مجرد فاعلة فيه. وهي قدرة من الذات، من فعل الذات في العالم وليس مجرد انتظار فعل في نفسها. ولا يعني فعل القدرة في العالم وتعلقها بالوجود أنها قادرة على خلق الوجود أو إعدامه أو على قلب قوانينه أو عكسها، بل يعني أنها قادرة على تغيير البناء الاجتماعي للواقع. ليس الوجود هو الوجود المادي، بل الوجود الإنساني الاجتماعي. وإذا كانت القدرة تعبر عن طاقة الإنسان ومداها فإن هذه الطاقة تسري في البناء الاجتماعي للواقع لا في الوجود المادي له.٢١٠ والبناء الاجتماعي للواقع هو ما أطلق عليه صفة الوجود. ولما كانت القدرة هي المؤثرة في البناء الاجتماعي للواقع كانت الصفات التي يختلف بها موجود عن آخر متعلِّقة بالقدرة. وإنكار أثر القدرة في الوجود وتعلقها بالصفة هو إنكار للفعل على الإطلاق. وما وجه الصلة بين القدرة ومقدورها إن كانت غير مؤثرة فيه؟ إن إلغاء أثر القدرة في الوجود إن هو إلا وسيلة لإرجاع الأثر إلى قدرةٍ أخرى خارجية هي قدرة المؤله المشخص.٢١١ ولا يوجد ارتباطٌ ضروري بين الوجود والصفة. وإذا وُجد الوجود وُجدت الصفة، وإذا وُجدت الصفة وُجد الوجود؛ لأن الموجود قد يوجد بلا صفةٍ قائمة إذا لم يحدث عليه تأثير من قدرة. ولكن الموجود باقٍ، والواقع قائم تتراءى عليه الصفات وتتبدل.٢١٢ ليست القدرة مجرد إثبات حال، بل إثبات أثرٍ فعلي في الوجود. الحال غير قائم ويتغير باستمرار. بل إن تغييره خاضع لإرادةٍ خارجية إن شاءت حدثت وإن شاءت لم تحدث. بل إن شاءت حدثت ولم يحدث الأثر في الواقع، وإن شاءت لم تحدث وحدث الأثر في الواقع! وكأن الأثر يحدث مباشرةً في الواقع بفعل الإرادة الخارجية، وما قدرة الإنسان إلا واجهة لا حول لها تتستر وراءها قوةٌ أخرى خفية هي الفاعلة الحقيقية.٢١٣ الفعل الحر هو فعل الشعور وحريته في الاعتقاد والحكم، وهو الفعل الذي يحدث تغييرًا في بناء الواقع الاجتماعي. أمَّا أفعال الطبيعة أو الغريزة فليست أفعالًا حرة إلا بقدر تنظيمها والسيطرة عليها، أي بإرجاعها إلى أفعال الإرادة.٢١٤
-
(٧)
كيف يمكن التوفيق بين المؤله المشخص الكامل وبين حدوث الشر في العالم؟ وإذا كانت القدرة على فعل الشر مخلوقة، فكيف يصدر عن الكمال خلق الإرادة على الشر، ولو كان الشر من كسب الإنسان؟٢١٥ لذلك ارتبط موضوع الحسن والقبح بخلق الأفعال كشقَّين للعدل، كارتباط الذات والصفات كشقين للتوحيد؛ لذلك آثر البعض جعل الشر من العبد والخير من الرب، وآثر التضحية بالذات في سبيل تبرئة الغير كموقفٍ إنسانيٍّ بطولي يبعث على الإعجاب والاحترام! وكيف يمكن التوفيق بين القدرة المخلوقة لإتيان الفعل وبين استحقاق المدح والذم، والثواب والعقاب؟ وإذا كان لهذه القدرة تأثير، فإن تأثيرها ما زال يرجع إلى كونها مخلوقة، ولا يُستحَق مدح أو ذم إلا على فعل حادث بقدرة الإنسان كُلًّا وجزءًا. كيف يمكن التوفيق بينها وبين التكليف وإرسال الرسل والبعثة؟ كيف يمكن التوفيق بينها وبين الحكمة واللطف والكرم وسائر الصفات والأسماء.٢١٦إن الحرية هي طبيعة الإنسان، وهي التي تميزه عن غيره من الموجودات، بل إنه يمكن تقسيم الموجودات إلى وجودٍ مصمت ووجودٍ حر، ويكون الإنسان وحده هو الموجود الحر. والوجود ليس حرًّا لأنه مخلوق، بل لأن الحرية هي الوجود الإنساني ذاته بصرف النظر عن أصل الجود المادي. الوجود أساسًا وجود في العالم وليس من العالم أو من خارج العالم.٢١٧ والحرية هي المسئولية الفردية والجماعية عن الفساد والصلاح في العالم بلا ذريعة للتهرب منها أو اتهام للذات وتبرئة للآخر حتى يعم الاستحقاق.٢١٨
(٣) تجربة الحرية
(٣-١) الحرية الإنسانية
الحرية ليست مقولةً طبيعية، بل تعبيرٌ إنساني خالص. وإذا كان هناك جبر في الطبيعة سواء في الطبيعة الحية أو في الطبيعة الصامتة، فإن الإنسان هو ميدان الحرية. وقد يتجاوز الفعل الإنساني الحر القادر جبر الطبيعة ويُخضع الطبيعة له ويسخِّر قوانينها لصالحه ويعدل مسارها طبقًا لغاياته. ويبدو أن الحرية الإنسانية تتضمن الحتمية في الطبيعة، في حين أن الجبر يكون في أفعال البشر وحدها بفعل القضاء والقدر، ويترك أفعال الطبيعة حرة بخرق قوانينها الثابتة وسننها المطردة بفعل تدخل الإرادة الخارجية. ويؤكد ذلك معظم حركات الإصلاح إذا بعثت حرية الأفعال في الإنسان ظهرت الحتمية في قوانين الطبيعة، وإذا ظهرت جبرية الأفعال في الإنسان ظهر اللاتحدد في قوانين الطبيعة. وكانت معظم حركات التجديد والإصلاح التي تحولت بعد ذلك إلى نهضةٍ شاملة دون أن تكبو وتنكص على عقبيها من النمط الأوَّل، حرية في الأفعال وحتمية في الطبيعة.
(٣-٢) إثبات الحرية
- (١) التفرقة بين الحركة الاضطرارية والحركة الاختيارية. وهي تفرقة تثبت الحرية بناءً على الحركة الاختيارية، كما أخذ الجبر والكسب نفس التفرقة لنفي الحرية بناءً على الحركة الاضطرارية.٢٣٢ والحقيقة أن وجود الحركة الاضطرارية لا ينفي الحرية؛ فالحريات لحظات أفعال وليست حرية طول الوقت. هناك أفعال تتم بالبدن وبالمران وبالعادة وبالتقليد، هناك أفعال أخرى، أفعال الرؤية والعزم، هي أفعال حرة. بل إن حركة الارتعاش قد تكون انعكاسيةً عضوية صرفة، لا تثبت جبرًا أو كسبًا ولا تنفي حرية. وكثيرًا ما تتجاوز الأفعال الحرة أفعال الجوارح إلى أفعال القلوب أو أفعال الشعور التي هي من أساس الأفعال الإرادية التي تبدو في آخر مراحلها كأفعال للبدن.
- (٢) وجود الباعث أو القصد هو أكبر دليل على أن الإنسان صاحب أفعاله؛ فالفعل تابع للقصد والداعي. ولا يُعقَل وجود الباعث أو القصد أو الداعي ثم يكون الفعل من فعل غيره، وإلا ففيم كان هذا القصد وذلك الداعي؟ إن كل الأفعال المقدورة هي الأفعال القصدية، والأفعال غير المقدورة هي كذلك لأنها ليست قصدية. لا يعني أنها غير مقدورة للإنسان أنها مقدورة لإرادةٍ خارجيةٍ مشخصة؛ فذاك افتراضٌ محض. بل إن قدرة الآلة على ما يقدر عليه الإنسان وإن كانت قدرةً فعلية إلا أنها ليست فعلًا لأنه لا يتوافر فيها القصد إلا من خلال الإنسان الذي صنع الآلة لهذه الغاية، وأفعال الآلة ذاتها خالية من القصد.٢٣٣ ولا يقال إنه حتى لو حدثت الأفعال طبقًا للباعث والداعي والقصد، فإنها تحدث طبقًا لمجرى العادات، لأن مجرى العادات يثبت أن الإنسان صاحب الفعل. وليس معنى اطراد الحرية أنها أصبحت من فعل العادة وأن الأفعال تتحقق بطريقةٍ آلية حسب مجرى الأمور؛ لأن الحرية أحيانًا تخرق سير العادات وتُبطِلها إذا ما تحولت العادة إلى ضغط وقهر، أي إذا ما تحولت ضد الحرية. يثبت الشاهد تعلق الفعل بالإنسان، وهذا هو حكم العادة.٢٣٤ ولا يقال إن في الفعل الحر تتدخل إرادةٌ خارجية مع الباعث والقصد والداعي تجعله ممكنًا لأنها ليست واقعة في الشاهد، ولم تطرأ به العادات.٢٣٥ ولا يقال إن فعل الساهي ليس فعلًا حرًّا لأنه ليس به شرط الفعل وهو الوعي والروية؛ فهذا هو العكس لا الطرد. الفعل الحر هو الفعل الإرادي المروي لا الفعل اللاإرادي.٢٣٦ وجهة تعلق الفعل بالإنسان هي جهة الحدوث. وليس أدل على ذلك من تجارب الإنسان نفسه ومشاهداته لأحواله؛ فالإنسان صاحب فعله يُحدِث أفعاله.٢٣٧ ولا يجوز أن تكون جهة النطق هي الحلول؛ لأن هناك فرقًا بين الأشياء والأفعال. حلول الألوان في الأشياء جائز، أمَّا الحلول في الأفعال فإنه لا يجوز؛ الأفعال صادرة عن البواعث والقصود والدواعي.٢٣٨ وإضافة فعل الإنسان إليه نفي لأن يكون الإنسان صاحب فعله. ولا يعقل أن يضيف الإنسان إليه ما ليس له إلا زهوًا وفخرًا أو احتيالًا ونصبًا، وهذا أيضًا واقع ولكنه ليس عامًّا.٢٣٩ واعتراف الإنسان بأفعاله يدل على أنه صاحبها، خاصةً ولو كان اعترافًا بأفعال يخجل منها ويدينها.٢٤٠ ولما كانت أفعال الإنسان قد تحدث وقد لا تحدث، قد تنجح وتفشل، قد تصيب وتخيب، فإنه لا يمكن إضافتها إلا في الإنسان نفسه، لا يمكن إضافتها إلى أي كمال وإلا كان كمالًا ناقصًا.٢٤١
- (٣) وما دامت الأفعال واقعة بالقصود والدواعي، فإنها تكون صادرة عنها لا طبقًا لإرادةٍ مسبقة على البواعث أو لاحقة عليها، وهذا لا يمنع من الاستبصار في السلوك والتنبؤ بما يقع في المستقبل وإحصاء تجارب الماضي ومعرفة مصير الحوادث وكيفية وقوعها. ولكن كل تنبؤٍ نسبي لأنه يتوقف على درجة العلم إمَّا بتجارب الماضي أو بالقدرة على الاستخلاص والتفسير والفهم للحاضر.٢٤٢ وإثبات الحرية ينفي أية شبهة للقضاء والقدر أو الجبر، أو أي قدرٍ مسبق، بل يعني القضاء إتمام الفعل والفراغ منه أو الإلزام الذاتي أو الإخبار والإعلام.٢٤٣
- (٤) التمييز بين الحسن والقبيح، بين الإحسان والإساءة، بين المدح والذم يدل على أن الإنسان له قدرة على الحكم ومِنْ ثَمَّ على الاختيار. لو كان الإنسان مجبرًا لما لزمت هذه القدرة. وفيمَ التمييز والفعل واقع لا محالة دون حاجة إلى تدبر ووعي وإحكام نظر؟ هذا هو حكم العقل، والعقل لا يشوه نفسه لعلمه بحسن الأفعال وقبحها إن لم يكن في الشرعيات، فعلى الأقل في العقليات.٢٤٤ فتمييز الإنسان بين الحسن والقبح إثبات للحرية واختيار لأحدهما دون الآخر. يثبت العقل الحرية كما تثبت الحرية العقل إذا كانت حريةً عاقلةً قائمة على التمييز.
- (٥) ولا يعقل تكليف بلا قدرة أو أمر بلا إرادة.٢٤٥ يدل حسن الأمر والنهي وغيرهما من الأحكام على أن الإنسان قادر على الفعل وعلى أن يكون فعله موضوعًا للحكم.٢٤٦ وما دام الإنسان مطالبًا بالطاعة فإن الفعل ممكن، وما دام الفعل ممكنًا فإن الإنسان حر.٢٤٧ والأمر هو خطاب لآخر، ولا يكون هناك أمر للنفس بل للآخر. وما دام الآخر موجهًا بالخطاب فهو قادر على الفعل.٢٤٨ والأوامر معلَّلة بعلل، ولا توجد أوامر بلا علل. والقدرة علة الفعل. فلا يمكن إنكار التعليل في الأحكام؛ لأن الأحكام قائمة على التعليل. كما لا يمكن القول بأن هناك علةً واحدة لكل شيء هي سبب كل الأفعال، فذلك انفعال وليس تفكيرًا، إيمان وليس عقلًا، تمنٍّ وليس واقعًا.٢٤٩
- (٦) وإثبات الحرية أدعى إلى إثبات العدل ونفي الظلم في عواطف التأليه. لو لم يكن الإنسان صاحب أفعاله، وكان في الوقت نفسه مكلفًا محاسبًا لكان واقعًا تحت ظلم وجور. الحرية إذن هي المؤدية إلى العدالة في الكون ونفي صفات الظلم والجور عن صفات الكمال؛ لذلك كانت الحرية المبحث الرئيسي في مباحث العدل.٢٥٠ كما أن إثبات الحرية أدعى إلى إثبات عواطف الكمال والإجلال والتعظيم من نفيها. في الحرية يكون الإنسان صاحب فعله، مسئولًا عما يأتي به من قبح أو شر. فلو كان فعله مخلوقًا لكان الخالق هو المسئول عن هذا القبح أو ذاك الشر. وكيف يكون الكمال مسئولًا عن النقص؟ وكيف يصدر النقص عن الكمال؟ إن مدح المؤمن على الإيمان، وذم الكافر على الكفر، ووعد الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية يدل على أن الإنسان صاحب فعله ومسئول عنه. فلا حكم دون استحقاق.٢٥١ وما دام هناك حساب وعقاب، فلا حساب ولا عقاب بلا حرية أو مسئولية.٢٥٢
(٣-٣) الإرادة
(٣-٤) القدرة
(٣-٥) الاستطاعة
(٣-٦) التمرينات العقلية
- (١) هل يقدر الله على فعل المُحال؟ وطبعًا تكون الإجابة بنعم في المحالات الأربعة، المحال بالإضافة والمحال في الوجود والمحال في بنية العقل والمحال المطلق في ذات الله.٣٣٦ ولماذا تتوقف المزايدة؟ ألا يقدر الله أن يغير ذاته؟ وكيف يكون المحال في العقل وفي الطبيعة ممكنًا؟ ألا يكون ذلك هدمًا لبنية العقل وقضاءً على قوانين الطبيعة؟ كيف يثق الإنسان حينئذٍ بقدراته الفكرية وبعالمه الذي يعيش فيه لو أمكن تغيير قوانين العقل وانقلاب قوانين الطبيعة؟ هل إثبات القدرة الإلهية يكون بالضرورة على حساب استقلال العقل وثبات قوانين الطبيعة؟ وهل يرضى الله أن يكون إثبات قدرته على حساب الإنسان والعالم؟ أليس ذلك مزايدة في الإيمان أو تملُّقًا للسلطة أو كلاهما معًا؟ ولماذا يكون عقل الإنسان وعلمه وعالمه ومجتمعه هو الضحية؟ وفي سبيل من: الله أم السلطان؟ وهو السؤال التالي نفسه: هل يقدر الله على أن يجعل شيئًا موجودًا معدومًا في وقتٍ واحد أو جسمًا في مكانَين أو جسمَين في مكانٍ واحد؟ ولما كانت الإجابة بنعم بطبيعة الحال كانت صورة الله أشبه بصورة الحاوي أو الساحر الذي يوهم الناس بأشياء في اليقظة أو في النوم. وكذلك السؤال حول قدرة الله على أن يمسخ الكافر قردًا وكلبًا، مجرد سؤال لإعطاء المزايد الفرصة للتعظيم والتأليه والإجابة المسبقة بنعم!
- (٢) هل الله قادر على جنس ما أقدر عليه عباده؟ وفي هذا السؤال تنتقل التمرينات العقلية من الطبيعة إلى الإنسان، ومن الرغبة في القضاء على الأجسام وقوانين الطبيعة لإثبات القدرة المشخصة المعظمة إلى الرغبة في القضاء على الحرية الإنسانية لإثبات القدرة المطلقة الحرة التي لا تقف أمامها قدرةٌ حرةٌ أخرى. وقد يكون إثبات القدرة رغبة في عدم الوقوع في التشبيه. فبالرغم من أن الفعلَين من جنسٍ واحد إلا أنهما غير متشابهَين.٣٣٧ ويتجاوز السؤال فيتعدى كونه مجرد إعطاء فرصة للشعور لأنه من الطبيعي أن يقدر الله على جنس ما أقدر عليه عباده. وإثبات ذلك في الحقيقة لا يدل على عظمةٍ زائدة، بل يكون مجرد تحصيل حاصل؛ لأن الله يقدر بطبيعة الحال على ما يقدر عليه الإنسان حتى لو كانت الإجابة المرجوَّة إثباتًا للتعظيم، فلا يجوز عليه أن يقدر على ما يقدر عليه الإنسان، بل على أعظم منه، فإن القدرة على جنس الفعل لا تزيد كثيرًا على القدرة على الفعل نفسه إلا درجة لا نوعًا إن لم تكن أقل. فما أسهل الفعل عن طريق المبدأ العام الذي تندرج تحته الأفعال الخاصة! وما أصعب الفعل الخاص الفريد الذي لا يندرج تحت جنس معين! ويصبح للسؤال مدلولٌ حقيقي إذا واجهت القدرة الفعل الإنساني الحر؛ وبالتالي يكون السؤال: هل تستطيع القدرة المعظمة أن تسيطر على الفعل الحر وتقضي عليه؟ والرد بالإثبات يعني أن القدرة المعظمة لها الأولوية والسيطرة على كل شيء حتى على الفعل الحر.٣٣٨ والرد بالنفي يكون إمَّا لأن ذلك يثبت عظمةً زائدة فما أسهل أن يقدر الله على ما أقدر عليه عباده، وإمَّا إثباتًا للفعل الحر واستقلاله كاستقلال الطبيعة.٣٣٩ ولإثبات الحرية يكون السؤال نفسه موضوعًا وضعًا خاطئًا، فإن الله لا يُقدِر أحدًا من العباد على فعل شيء بل يفعل الإنسان من ذاته طبقًا لقدرته.٣٤٠ ومن الطبيعي أن تكون الإجابة إثباتًا حتى عند المدافعين عن حرية الأفعال وقدرات العباد. فالمزايدة بديهية، وتملق الحس الديني لا يتنازل عنه العلماء أو العامة، بل إن الأعظم هو إثبات أن الله أقدر على فعل أجناسٍ أخرى لا يقوى على فعل أفرادها قدرات العباد، أجناس غير مرئية يجهلها العباد أو مرئية يعلن العباد عن عجزهم أمامها مثل الطيران في الهواء أو اختراق حجب الفضاء أو السير على الماء.٣٤١
- (٣) هل الله قادر على ما أقدر عليه عباده؟ ثم يتعين السؤال أكثر ويتوجه ليس إلى جنس الفعل بل إلى ذات الفعل. فإذا كان المقصود به إعطاء فرصة للشعور للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، فإن السؤال لا يعطي هذه الفرصة؛ لأنه ما أسهل على القدرة المعظمة أن تقدر على ما يقدر عليه الإنسان. وإذا كان المقصود هو إثبات قدرةٍ مطلقة تحتوي على أية قدرةٍ أخرى خارجها أي القدرة الإنسانية، فإن ذلك يكون تحصيل حاصل؛ لأنه ما أسهل من إثبات قدرةٍ مسيطرة على قدرة الإنسان كقوى الطبيعة مثلًا، ولكن ما أقساها على الإنسان ذاته بالرغم من استطاعة الإنسان السيطرة عليها!٣٤٢ وقد يعطي الرد بالنفي هذه الفرصة لأن الله لا يقدر على ما يقدر عليه الإنسان لأنه يقدر على أعظم منه. يفعل الإنسان الممكن ولكن الله يفعل المستحيل. وفي هذه الحالة يكون المقصود هو تجاوز الممكن إلى المستحيل. وقد يكون المقصود إثبات الحرية الإنسانية التي تعادل على المستوى الطبيعي استقلال الطبيعة عن تدخل أية قوةٍ مشخصة من خارجها.٣٤٣ وقد يكون الرد بالإيجاب دون تعدٍّ على الحرية الإنسانية، فتثبت القدرة الأولى مطلقة ويكون الفعل منها بالضرورة، وتثبت القدرة الثانية محددة ويكون الفعل منها كسبًا.٣٤٤ إذ تحاول نظرية الكسب الجمع بين إثبات القدرة المعظمة والفعل الإنساني المستقل، ويكون الإنسان حينذاك قادرًا على الكسب، عاجزًا عن الخلق.٣٤٥ وقد يتعدى السؤال إلى تعلق قدرة الله بأفعال العباد جميعًا من الحيوانات والملائكة والجن والإنس، وإثبات قدرة الله المطلقة؛ فلا خالق ولا مخترع سواه، خاصةً وأن قدرات العباد لا تعلم الخلق ولا تجد في حركاته وسكناته حتى تكون قادرة عليه. والحقيقة أن كل ما يحدث في الطبيعة، امتصاص الثدي من فعل الحي ونسج بيوت العنكبوت بأشكالٍ هندسية لا يقدر عليها المهندسون، إنما يتم طبقًا لقوانين الطبيعة.٣٤٦ ولا حل لذلك إلا الكسب، أي إثبات مقدور لقادرين؛ تجنبًا للجبر الذي ينفي مقدورات العباد، وتجنُّبًا لحرية الأفعال التي تنفي القدرة الإلهية. ولماذا يعطى الإنسان أقل من حقه بافتراض أن غيره قادر على ما هو قادر عليه، بل وأعظم منه يتدخل في شئونه ويُسيِّر له حياته؟ وكيف تصبح قدرة الله قادرةً على أفعال العباد، وأفعال العباد بها من الشرور والآثام ما لا يعدُّ ولا يحصى؟ هل الله قادر على فعل الزنا وشرب الخمر وقتل الأبرياء وظلم العباد؟٣٤٧ إن إثبات قدرةٍ إنسانية هو إثبات لواقعةٍ إنسانية وتجاوز لانفعالات عواطف التأليه. وقد يكون ذلك على نحوٍ آخر إثباتًا لتنزيهٍ أعظمَ يقدر الحرية الإنسانية ويردُّ إليها اعتبارها. ليس المقصود من أمثال هذه الأسئلة المصالحة بين القدرتَين كما هو الحال في نظرية الكسب بل المقصود تدمير الإنسان الواقعي وإثبات الإنسان «السوبرمان»، أي لله.٣٤٨
- (٤) هل يقدر الله على أن يُقدِر أحدًا على فعل الأجسام، الحياة أو الموت؟ ثم يخصص السؤال أكثر فأكثر ويتوجَّه نحو الطبيعة من جديد. وهنا لا تظهر القدرة المعظمة في فعل جنس الفعل أو ذات الفعل، بل داخل الفعل، فتوجِّهه وتقوِّيه وتجعله قادرًا على الخلق كالقدرة والعظمة. فإذا كان المقصود هو إتاحة الفرصة للشعور للتعبير عن عواطف التأليه، فما أسهل ذلك! أمَّا إذا كان المقصود إثبات قدرةٍ فاعلة ضد طبائع الأشياء، فالإنسان لا يميت ولا يحيي؛ فإنها تكون فرصةً عظيمة تسمح بإثبات هذه القدرة. الإنسان بمفرده يسير طبقًا لطبائع الأشياء، ولكنه بتدخل القدرة المعظَّمة يسيطر عليها ويقلبها رأسًا على عقب، يحيي الميت ويميت الحي.٣٤٩ وفي هذه اللحظة يكون إثبات مثل هذه القدرة نفيًا للحرية الإنسانية ولاستقلال الطبيعة، ويكون نفيها إمَّا إثباتًا للتنزيه؛ فإن تدخل القدر المعظمة في الفعل الإنساني لا يثبت تنزيهًا أعظم، وإمَّا إثباتًا للحرية واستقلال قوانين الطبيعة.٣٥٠ أمَّا نفيها لأن الله أعجز الإنسان فهو رجوع إلى إثباتها ما دام الله قد أعجز الإنسان.٣٥١ وقد يجمع بين الإثبات والنفي لا في الفعل الإنساني بل في التمييز بين الموضوعات.٣٥٢ وكما تسلب الصفات المطلقة الإنسان حريته وتحيله إلى أقل من إنسان لا فعل له ولا خيرة له من أمره. لم يكن الإنسان هو نفسه بل كان مرة أقل من إنسان ومرةً أخرى أكثر من إنسان.وبالرغم من كل محاولات الفكر العلمي الذي يقوم على طبائع الأشياء، والفكر الإنساني الذي يقوم على إثبات الحرية الإنسانية وفعل الأصلح، فإن القدرة المعظمة تفرض نفسها من خلال عواطف التأليه وتمثل شبح السلطة الرهيب. فكما أن العلم المطلق لا يغيب عنه شيء، فكذلك القدرة المطلقة لا يندُّ عنها شيء. وإذا كان شبح العلم المطلق يظهر في الحياة الإنسانية في صورة المخابرات العامة، فإن القدرة المطلقة تظهر في صورة الدكتاتور الذي يفعل كل شيء والذي يمتدُّ سلطانه على كل صغيرة وكبيرة.٣٥٣ ويكون الموقف الشعوري الذي يرفض الدخول في أمثال هذه التمرينات العقلية للتعبير عن عواطف التأليه، هو الموقف الذي يرفض النفي والإثبات والحلول الوسط، ويتوقف عن الحكم، ويلغي المشكلة التي يقدمها العقل طوعًا للشعور.٣٥٤ وبالرغم من أن التوقف عن الحكم لا يعطي الأسباب خوفًا من الدخول في المتاهات العقلية التي يرفضها، فإنه أسلم المواقف الشعورية وأكثرها أمانة. يكفي بعدها تحليل المتاهات العقلية وبيان دورها كتمرينات يقدمها العقل للشعور دون أن يشير إلى أي موضوعٍ خارجي.هذا الموقف في الحقيقة يكشف عن البناء النفسي للقائل أكثر مما يحتوي على إجابةٍ موضوعية أو إقرار حقيقة. ويتلخص هذا البناء النفسي في الإحساس بالضعف ثم في الرغبة في التستر عليه أو تقويته باللجوء إلى قوةٍ أعظم. وهنا يفترض الإنسان قوةً أعظم من قوَّته وحقًّا أكثر من حقه، وكأنه لما لم يستطيع أن يكون إنسانًا أصبح أكثر من إنسان! ويحدث ذلك تعبيرًا عن عجز الإنسان بالضد عن طريق التعويض وإعطائه قوةً أعظم منه. وثبات ذلك في الحقيقة وقوع في التشبيه؛ تشبيه الله بالسلطان القاهر وتدمير الحرية الإنسانية. كما أنه إعلاء للإنسان إلى درجة الله وجعل قدرته مساويةً لقدرة الله ومشاركته في الخلق معه، وهو غير المقصود منه؛ مما يدل على أن عواطف التأليه والتعظيم والإجلال عواطفُ عمياءُ هوجاء، مناقضة لنفسها، تعمل ضد مقاصدها. وبالرغم من ذلك تظل قدرة الإنسان محدودة؛ فالله أقدر منه. وإن ما يبدعه الإنسان يلحقه الكون والفساد، في حين أن ما يبدعه الله لا يلحقه الكون والفساد حتى يظل الله متقدمًا على الإنسان ولو بدرجةٍ واحدة. كما أنه إبطال للخلق، ودلالة الخلق على الخلق ووحدانيته، وإثبات للشركة فيه بين الله والإنسان. فالإثبات يؤدي إلى غير المقصود منه، ويدل على نقص في النظرة العلمية، وتحليل الأشياء بالرجوع إلى عللٍ خارجية وليس من باطنها، وكأن الظواهر الطبيعية في يد إرادةٍ قاهرة تسيرها كيفما تشاء، تقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا. وإن تفسير النشأة الطبيعية للكون لا يحدد من سلوك الإنسان؛ فخلق الكون شيء وخلق الفعل شيءٌ آخر. وكيف يسلب من الإنسان فعله وهو حي ويُعطى له وهو ميت؟ قد يبلغ التعظيم مداه على حساب الإنسان عندما يكون المعبود قادرًا على خلق إنسانٍ ميتٍ قادر! وهذا في الحقيقة تعبير عن عواطف التأليه وإلغاء للموقف الإنساني من أجل التأليه لدرجة افتراض المستحيل عمله، ثم من أجل إثبات المؤله وحده قادرًا على فعل المستحيل مثل فعل الأجسام أو خلق الحياة أو الموت. إن الإنسان لا يفعل إلا في موقفٍ إنساني ولا تظهر قدرته إلا في مستواها. وإن عدم القدرة على السير في الهواء أو التنفس في الماء ليس نقصًا في القدرة، ولكنه إخراج للقدرة عن مستواها. السؤال إذن من أوله سؤالٌ خاطئ بالنسبة إلى الواقع وإلى حدود القدرة الإنسانية التي لا تثبت أي عجز أو نقص في مقابل قدرةٍ أعظمَ وأشمل.٣٥٥ وقد تكون هناك محاولة للتوفيق بين القدرتَين، القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية، أو القدرة الإلهية وقوانين الطبيعة، فتستثنى الحياة والموت والجواهر والأجسام ولا يبقى لله إلا الأعراض، وهذا حطة في شأن الله. كما أنها محاولةٌ خاسرة لأنها تجعل الطبيعة صامدة من حيث هي جواهر وأجسام أمام القدرتَين معًا، فيثبت عجز القدرة الإلهية ويظهر مستوى القدرة الإنسانية في خلق الأفعال لا في خلق الأجسام.٣٥٦ أمَّا الإجابة بالنفي فإنها تكون في نفس الوقت إثباتًا للتنزيه وإثباتًا للحرية الإنسانية.٣٥٧
- (٥) هل أفعال الله مختارة؟ يظهر هذا السؤال الأخير كعود على بدء ليطرح موضوع الإطلاق والتقييد. الفعل المختار هو الفعل المقيد الذي اختير بباعثٍ آخر سوى الفعل كالأصلح مثلًا، في حين أن الاختيار نفسه مطلق غير محدود بباعث آخر سوى القدرة المطلقة. إثبات المختار حدٌّ من القدرة المعظمة وتأكيد لوجود طرفٍ آخر له استقلاله وحريته وهو الإنسان. وإثبات الاختيار إثبات للقدرة المطلقة وللحرية التي لا تقوم على أي باعث إلا كمظهر للقدرة والتي تلغي أمامها كل حريةٍ إنسانيةٍ أخرى. بل قد وصل الحد في تأكيد صفة الاختيار إلى اعتبارها صفة. من الحياة والعلم والإرادة والقدرة تتولد قدرةٌ خامسة وهي الاختيار للتأكيد على الفعل الحر ولكن كل ذلك لله وليس للإنسان. وهو اختيار على مقتضى العلم والإرادة، ولا يصدر عن أية علية أو استلزام وجودي أو تكليف أو قصد أو مصلحة. ولكن أية عظمة في مثل هذا الاختيار الذي لا يحكمه قانون ولا تحدده غاية؟٣٥٨ والحقيقة أنها مشكلةٌ إنسانيةٌ خالصة، وهي مشكلة الاختيار يسقطها الإنسان خارج ذاته على التأليه لمشخَّص ولا تحل إلا بإرجاعها إلى أصلها في التجربة الإنسانية. أمَّا الحلول المتوسطة فإنها تكشف عن استحالة تصور الاختيار المطلق حتى في الله وكأن الجبر لا بد وأن يتسرب، وكأن الضرورة هي الجوهر والحرية هي العرض، وكأن الضرورة هي الوجود والحرية هي العدم.٣٥٩وعجبًا! إذا كان المقصود هو البحث في الحرية الإنسانية، فإن محاولة إثبات الضعف الإنساني لإثبات قدرةٍ أعظم هي تخلٍّ عن القضية الأساسية وتملق للقدرة الجديدة المراد إثباتها على حساب قدرة الإنسان المنكرة. إنها ليست مجرد مسألة لفظية، بالرغم من قدرة تحليل اللغة على تحديد أشكال التعبير، ولكنها أعمق من ذلك، وتعبر عن عواطف التأليه والتعظيم والإجلال التي تفرض على العقل مقولاتها وعلى اللغة ألفاظها، وتعطي لله كل الحقوق وتسلب الإنسان جميع الحقوق. إن علم الله لا يعني الجبر، بل الحق النظري لله؛ لأن الجبر هو سلب الاختيار، والاختيار واقع بالمشاهدة والحس والتجربة. ولا يتعلق الاختيار بالإيجاد بل بالتأثير، بالفعل والترك فيكون حسنًا مرة وقبيحًا مرةً أخرى؛ لذلك تتفق جميع فرق العقلاء على الاختيار كمناط للتكليف وكفعل للإنسان.٣٦٠
وقد قيل شعرًا:
وقد قيل شعرًا: