رابعًا: أفعال الشعور في الطبيعة
(١) نفي التوليد
(١-١) حجج نفي التوليد
- (١) الاستطاعة عَرَض، والعَرَض لا يبقى زمانين. وهي حجةٌ خاطئة؛ لأن الاستطاعة ليست عرضًا بل هي من مقوِّمات الجوهر. والإنسان غير القادر لا يكون إنسانًا بل جمادًا. ووجود مضادات للقدرة لا يُعدم القدرة. القدرة لها شروط وموانع. وإذا عدمت لوجود الضد فإن الضد يعدم لوجودها. وإن عدمت لانتفاء شرط لها فإن الشرط عَرَض مثل القدرة. وإن كان جوهرًا فكيف يبقى العرض مع انتفاء الجوهر؟ ولا يقال إن القدرة عدمٌ محض؛ لأن العدم نفي، والنفي عدم وجود على الإطلاق. هذا كله نسيان أن القدرة الباقية هي الأثر، أي هي البناء الجديد الحادث من القدرة الأولى. فالبحث عن القدرة كعرض أو كجوهر أو كفعل عدم معرفة بطبيعة القدرة الباقية التي هي انفعال وليست فعلًا. أمَّا التولد الطبيعي، فإنه يدرس في علم الطبيعة، خاصةً علم الآليات (الميكانيكا) فيما يتعلق بالجذب والطرد والقوة والمقاومة والفعل وردِّ الفعل. يظل السهم متحركًا أو الحجر جاريًا إلى أن تخفَّ الحركة بالمقاومة أو بالاصطدام. وكذلك فعل الإنسان القائم على القصد والدواعي يظل أثره قائمًا إلى أن يضعف بقِدَم العهد أو بوجود أثرٍ مضاد.٩
- (٢) الأفعال في المستقبل كلها ممكنات، والممكنات واقعة تحت قدرة أخرى أعظم من قدرة الإنسان، وهي قدرة المؤلَّه المشخَّص. والحقيقة أن ذلك هو المطلوب إثباته؛ وبالتالي تقوم الحجة على الدوران. كما أن الممكن لا يستند إلى شيءٍ آخر غير الفعل الإنساني، وأن تحوله إلى فعلٍ مرتبطٌ بالقصد والباعث والغاية. الممكن إمكانية خالصة غير محددة، طاقةٌ مخزونة في النفس لا تتحقق إلا بفاعليتها الداخلية وإمكانيات تحققاتها الخارجية.١٠
- (٣) إن اعتبار مقدور لقادرَين لا يُبطل التولد بل يُثبت الغلبة. إن كان هناك شيء تجذبه قدرة وتدفعه قدرةٌ أخرى، فإن حركة الشيء تتحدد بالقدرة الغالبة المؤثرة في الشيء المتحرك. وإن لم يتحرك الشيء تعادلت القدرتان وامَّحى الأثر على الشيء. كما أن ذلك افتراض مسبق وليس حجةً بديهية. فالمقدور مقدور لقادر واحد بالإضافة إلى الموانع، ما دام الفعل لا يكون فعلًا إلا في موقف.١١
- (٤) إن القول بأن التولد نتيجة لمجرى العادات لا ينفي التولد، بل يثبته ثم يفسره تفسيرًا طبيعيًّا. وهذا ما يرفضه الكسب الذي يجعل مجرى العادات أيضًا من خلق قدرةٍ خارجية. ولا يمكن نفي مجرى العادات لأنه يثبت بالحس والمشاهدة والتجربة. ولا يمكن أن يكون من فعل إرادةٍ خارجية وإلا لما كان مجرى العادات. فالعادة والإرادة نقيضان. العادة إرادة الطبيعة الكامنة فيها، وليست إرادةً مشخصةً خارجة عنها، معها أو ضدها.١٢
- (٥) وإذا كانت القدرة لا تبقى لا لنفسها ولا لبقاء يقوم بها، فإنها تبقى على الأقل في الأثر الذي يتركه الفعل وفي السنة التي يتركها الإنسان وراءه بعد الاخترام. تقوم الحجة على فكرٍ ديني إلهي مقلوب وهو الاختلاف بين الذات والغير. بل إن قسمة الأشياء إلى جوهر وعرض فكرٌ دينيٌّ إلهيٌّ مقلوب. الأشياء أشياء دون قسمة فيها إلى أوَّلي وثانوي.١٣ وقد تتحوَّل الحجج الإيجابية لنفي التولد إلى شبهاتٍ سلبية ضد إثبات التولد، وهي شبهات يسهل الرد عليها على النحو الآتي:
- (١) لا يعني التولد أن الفاعل فاعل وهو ميت أو غير قادر أو معدوم؛ لأن الفاعل هو مقدوره، والإنسان هو أثره، وبالتالي يظل فعل الوحي قائمًا حتى بعد الاخترام من خلال الأثر والسنة. بل إن فعل الإنسان قد يكون أكثر تأثيرًا من خلال سننه وآثاره وأفكاره بعد الاخترام منه قبل ذلك. فقد يؤدي الحصار المضروب حول الفاعل الحي أثناء حياته إلى تقليص أثره، ولكن سرعان ما ينفجر هذا الأثر بعد فك الحصار وبعد الاخترام بفعل قوانين الطبيعة وفي مسار التاريخ.١٤
- (٢) لا يعني التولد إثبات مقدورات لا تتناهى للإنسان؛ لأن التولد كالفعل الأوَّل داخل في حدود الطاقة. ومتى انتهى أثر الفعل الأوَّل انتهى التولد، إمَّا لضعف السبب الأوَّل أو بمعارضته بسببٍ آخر أو لقدم العهد عليه. ولما كان التولد يتم في الزمان، والزمان متناهٍ كان التولد متناهيًا كذلك، إمَّا بزمان الفعل أو بالأجل أو بالحياة.١٥
- (٣) ولا يعني التولد استحقاق المدح والذم بعد الموت استحقاقًا مباشرًا، ولكن يظل الحكم صادرًا على الإنسان في التاريخ، إمَّا مدحًا إذا سنَّ سُنَّة حسنة وإمَّا ذمًّا إذا سن سنة سيئة ودون أن يلغي ذلك مسئولية الأفراد بتوجيه أفعالهم في أفعال التولد لأنهم باستطاعتهم توليد أفعالٍ أخرى وإيقاف الأفعال المتولدة الأولى، مقابلة سنة بسنة، ومعارضة أثر بأثر.١٦
- (٤) ولا يقال إن ما يتراخى لا يقدر عليه العبد؛ لأن الإنسان قادر على الفور وعلى التراخي معًا. واستمرار الفعل يبدأ بفعل. وقدرة الإنسان على الفعل قدرة في الزمان. ولما كان الزمان متصلًا فإن القدرة على الفعل، بل والفعل ذاته يكون متصلًا كذلك دون ما حاجة إلى تدخل إرادةٍ خارجية. بل يتم ذلك من طبيعة الفعل ذاته وأثره في الزمان.١٧
- (٥) ولا تعني المشاركة تقسيم العالم إلى قسمَين؛ قسم للإنسان، وقسم لغيره. فهذا إنكار لقدرة الإنسان وإمكانياتها، وإنكار لعواطف التأليه والتعظيم التي تود إثبات قدرةٍ شاملة وحاوية لكل شيء. وكيف ينكر التولد والكسب نفسه قائم على التولد؟ الكسب مشاركة اجتماع إرادتين على شيءٍ واحد؛ وبالتالي يكون فعل الإنسان في الكسب متولدًا عن فعل المؤله المشخص؟ فالكسب يثبت التولد رأسيًّا بمشاركة الله الإنسان في الفعل في حين أن التولد يثبت أفقيًّا باستمرار فعل الإنسان في الطبيعة.١٨
- (١)
(١-٢) مخاطر نفي التوليد
- (١) إنكار فاعلية الإنسان في الطبيعة كإنكار الجبر والكسب لها، وكأن الله هو الفاعل الحق في ظواهر الطبيعة وليس فقط في أفعال الإنسان، في حين أن إثبات التولد إثبات لقدرة الإنسان وإثبات لفعله في الطبيعة. إنكار التولد إثبات لعجز الإنسان وعدم استطاعته فعل شيء وإنكار لاستمرار الفعل الإنساني في الطبيعة على مظاهرها. والحقيقة أن ذلك خلط بين مستوى الحق ومستوى الواقع. فالله صاحب كل شيء حقٌّ نظري، والطبيعة مستقلة واقعٌ عملي، كما أنه تفسيرٌ حرفي للصور الشعرية التي تعبر عن هذا الحق النظري تأكيدًا على وحدانية العالم من أجل ترسيخ وحدانية الشعور.١٩
- (٢)
تصور الفعل في محلٍّ أي في مكان لا قبله ولا بعده وكأنه نقطة ساكنة على خطٍّ ساكن. في حين أن الفعل تعبير عن القدرة، والقدرة حركة، والفعل حياة؛ ومِنْ ثَمَّ كان أثره أقرب إلى الحركة منه إلى السكون، ومن الكيف منه إلى الكم. إنكار التوليد إذن نظرة تقوم على الانقطاع لا على الاتصال، على التجزئة في الكم لا على التواصل في الكيف؛ مما يجعل الفعل الإنساني مبتورًا من النهاية، محاصرًا منذ البداية، نهرًا مغلق المصب.
- (٣) نفي قانون العلية وإنكار الصلة الضرورية بين العلة والمعلول. فالسهم يصدر ولا يصيب، والحجر يقع ويتعلق في الهواء، والنار تسري في القطن ولا تحرق! وهذا هدم لقوانين الطبيعة وقضاء على العلم. حينئذٍ تعظم الخرافة بإثبات أن المؤله المشخص هو الذي يتدخل لإيقاف السهم أو إيصاله أو في تعليق الحجر أو إسقاطه أو في إحراق القطن أو تبريده! وكأن هذا التدخل المتوهَّم هو أعظم دليل على وجوده وقدرته وإرادته! إن نفي التوليد إنكار لقانون العلية وإنه طالما وجد السبب وجد المسبب، ويكفي أن تحدث القدرة السبب أوَّلًا ويظل الفعل للسبب بعد ذلك. التوسط بالأسباب في أفعال الطبيعة هو قوام الفكر العلمي والعملي. ولكن الفكر الديني الإلهي ينازعه سلطانه ويجعل فعل الأسباب من المؤله المشخص يتعامل مع الطبيعة مباشرةً دون توسط بالأسباب. إنكار التولد يسلب الإنسان فعله، ويعطي المؤله أخصَّ خصائص الإنسان. وأي التفسيرين أقرب إلى العقل والمشاهدة؟ تدخل المعبود المشخص في ظواهر الطبيعة لإحداثها أم إحداثها بفعل الإنسان؟ إن إنكار التولد يعني زحزحة الإنسان عن مكانه لإفساح المجال لقدرة المؤله المشخص وإثبات أفعال الإنسان والطبيعة له.٢٠
- (٤) يحدث الله في المعلول مرةً واحدة ولا ضمان لحدوث المعلول مرةً ثانية إلا بقدرةٍ متجددة في العلة؛ فالسهم يصدر ولا يصيب، والحجر يقع ويتعلق في الهواء، والنار تسري في القطن ولا تحرق، وهذا إنكار لقوانين الطبيعة واطرادها وإبطال للحياة الإنسانية. ولا يعني التولد غياب السبب مطلقًا وزحزحة الإرادة الإلهية، بل يعني استمرار أثره. فالسبب مصدر الفعل أو القوة المؤثرة الناشئة عنه، وهي سنن الكون التي تحكم بها الإرادة الإلهية مسار العالم. تحكم الإرادة العالم بتوسط الأشياء وليس مباشرة.٢١
- (٥) مزاحمة الفكر الغيبي للفكر العلمي. إذ يتضح في موضوع التوليد الصراع بين الفكر الديني الغيبي، والفكر الديني العلمي. وهي المعركة الرئيسية في الطبيعيات. ويظل الفكر في التولد متذبذبًا بين العاطفة والعقل، بين الخرافة والعلم. ويظل المؤله المشخص متحفِّزًا باستمرار لسلب الإنسان كل ما يختص به، يعطي له أخص خصائص الإنسان. يظل الإنسان بلا عمل أو قدرة أو اختصاص. وإذا كان من وظائف التوحيد كونه فكرةً محددة مهمتها التمييز بين المستويات، بين المادة والصورة، فإن المؤله المشخص يلغي عمل الفكرة المحددة ويخلط بين المستويات.٢٢
(٢) إثبات التوليد
(٢-١) حجج إثبات التوليد
- (١) يثبت التوليد بإثبات العلية أو السببية؛ لأنه يقوم عليها وعلى التوسط بالسبب. يحدث الفعل بتوسط سبب لا بطريقٍ مباشر، خاصةً إذا كان الفعل يتطلب قدرةً أعظم من القدرة الأولى ولا يمكن أن يحدث بالقدرة في الحال الأوَّل. فكثيرًا ما أثرت فكرة في التاريخ، وامتد أثرها أضعاف ظهورها في الحال الأوَّل. إن الفعل الأوَّل القائم على صفاء الباعث وكمال الغاية متطور بطبيعته وقادر على احتواء أكبر قدرٍ ممكن من الواقع.٢٥ وقد يكون السبب نوعين، سببٌ معنويٌّ فكريٌّ نظريٌّ خالص مثل الأفكار والسنن والقوانين وأثرها في التاريخ، وسببٌ مادي مباشر وهو العلل المادية في الظواهر الطبيعية.الأولى أسباب غير مباشرة أو معنوية والثانية أسبابٌ مباشرة أو مادية. لا يحتاج إثبات التولد إذن إلى إثبات التوسط بالسبب المادي وحده؛ فالتولد بقاءٌ معنوي للفعل الأوَّل واستمراره في الزمان. ليس الفعل هو الفعل الطبيعي فحسب الذي يحتاج إلى مسببٍ ماديٍّ متوسط حتى يحدث أثره بل هو أيضًا الفعل الإنساني الذي يحدث أثره بتحوله إلى باعثٍ مستمر في شعور الآخرين أو إلى إبداعٍ مستمر في شعور الإنسان كما هو الحال في أفعال الشعور من اعتقاد ونظر وخلق؛ ومِنْ ثَمَّ يكون السؤال عن سبب الفعل، هل هو السبب أم القادر؟ سؤالًا بغير ذي دلالة لأن الفعل هو صاحب الأثر. والأسباب لا تؤثر بنفسها دون فعلٍ إنساني. النار تطهى وتحرق، والفعل الإنساني هو الذي يجعلها إمَّا تطهى أو تحرق. وكل سؤال عن السبب المباشر في الطهي والإحراق، هل هو الإنسان كفعل أم النار كسبب؟ سؤال تحت الدلالة، وما تحت الدلالة أو فوقها لا معنى له.٢٦ المتولد هو الفعل الذي بسبب مني يكون في غيري. وقد يقع في نفسي وقد يقع في غيري. وقد تتولد الأفعال في الثاني والثالث والرابع إلى ما لا نهاية حتى يضعف أثر الفعل ما دام السبب الأوَّل قائمًا، وما دامت القدرة ما زالت مؤثرة. يحدث التولد آليًّا دون توافر القصد والنية والغاية وإلا كان فعلًا مباشرًا.٢٧ فإذا ما ترك السبب هل يبقى المسبب؟ يمكن بقاء المسبب حتى بفناء السبب ما دامت القدرة حالَّة في الأشياء.٢٨ تبقى الحرارة وتنتقل بالمجاورة والمماسة بالرغم من انطفاء النار الأولى. لا يهم السبب الأوَّل في الفعل، فقد تتداخل في الفعل عدة أسباب، اليد والآلة وطبيعة الجسم المضروب، وليس سببًا واحدًا.٢٩ وقد تنعدم الأسباب والمسببات وقد تكون مصاحبة لها، وقد يكون التقدم بأكثر من وقت.٣٠ والعلاقة بين السبب والمسبب علاقةٌ حتميةٌ ضرورية، إذا وُجد السبب وُجد المسبب.٣١ ولكن هل يوجد السبب دون فاعل؟٣٢ هل يوجد السبب دون قدرة؟٣٣ هل يجوز أن يقع الفعل من الله بلا سبب؟٣٤إن موضوع السببية هو موضوع العِلِّية؛ فالصلة بين السبب والمسبب هي الصلة بين العلة والمعلول، مرة بألفاظ المتكلمين ومرة أخرى بمصطلحات الحكماء. ونظرًا لتقدم الاستطاعة على الفعل فإن العلة تكون متقدِّمة على المعلول كتقدُّم السبب على المسبب.٣٥ العلة عند القدماء هي العلة الفاعلة مع أن العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقيقية؛ فالغايات هي المحركات كبواعث. السبب الحقيقي للإرادة هو الباعث، والباعث هو السبب الإرادي. ويشمل الباعث الدواعي والمقاصد والغايات، وهي الأفعال الإنسانية المستمرة في العالم الإنساني.٣٦ لذلك هناك فرق في التوليد بين السبب الطبيعي المادي الذي يحدث بقاء الشيء مثل الجهد الإنساني، والسبب المادي الصرف. فنبات البذرة تعني أن جهد الإنسان هو الفاعل الإنساني ولا تعني أن الإنسان قد دخل البذرة وأنبتها. يحدث الفاعل الطبيعي طبقًا لقوانين الطبيعة.٣٧ ولا يهم حدوث التوليد بسببٍ متوسط أو بعدة أسباب تؤدي كلها في النهاية إلى الفعل المتولد؛ فالفعل عادةً عمليةٌ واحدة، واقعةٌ سلوكيةٌ واحدة لا يمكن تجزئتها إلى أول ووسط ونهاية أو إلى أسباب تتركب وتتألف تؤدي في النهاية إلى المسبب. فهذه نظرية كمية لموضوعٍ كيفي وتجزئة لكل، وتركيب لبسيط.٣٨ إن تعليل الظواهر ذات الأسباب المجهولة بفعل المعبود فكرٌ أسطوري. فالظواهر التي لا تعلل بالعلل المباشرة يمكن تعليلها بعللٍ غير مباشرة وتكون أيضًا عللًا طبيعية. فإذا تم إدراك دون حواس فلا ريب أن هناك حاسةً داخلية قد تم الإدراك بها، قد يكون حدسًا أو معرفةً طبيعيةً أو فكرةً فطريةً. وإذا تهيأت العلة وقع المعلول بالضرورة. وإن لم يقع المعلول فإمَّا أن العلة ليست علة أو لوجود مانعٍ آخر وهي علة معارضة أقوى من وقوع المعلول. وإرجاع غياب العلة مع وجود المعلول إلى تدخل إرادةٍ خارجيةٍ مشخصة يظل فكرًا أسطوريًّا.٣٩
- (٢) نسبة الفعل إلى الإنسان دون الله، وذلك لأن البواعث ليست متولدة بفعل إرادةٍ خارجية، بل هي من طبيعة الإنسان، من وجوده في العالم، ومن حضور الفكر فيه، وتمثله للغايات والمقاصد التي هي حقائقُ إنسانيةٌ عامةٌ ممكنة تمثل بناءً مثاليًّا للعالم، وهو البناء الواقعي الدائم الذي يمكن أن يتحقق بفعل الإنسان، والذي يعبر عن كمال الطبيعة، والذي لا يبقى واقعًا إلا إذا حققه فعل الإنسان وظل حارسًا له.٤٠ التوليد فعلٌ إنسانيٌّ خالص وليس فعل أية إرادة خارجيةٍ مشخصة. وعلى فرض أن هناك إرادةً كاملة موجودة على الإطلاق تفعل فعلًا مباشرًا لأنها حياة مطلق فإنه ليس هناك ما يمنع من وضع الكون على نحوٍ معين ابتداءً ثم ترك الحوادث فيه لفعل التطور ولقوانين الطبيعة لما في الطبيعة من فعل وكمون. كل فعل لا يبدأ من عدم. وفعل الآخر إنما هو استمرار لفعل الأوَّل ما دامت الأفعال كلها موجبة نحو غاية واحدة، وتصدر عن باعث واحد. ولولا الاستمرار في الفعل لكان الإنسان يفعل في هذا العالم نطًّا ويؤثر قفزًا، لكل فعل قدرة، وهو إنكار لوجود الإنسان مع الآخرين ولوجوده في التاريخ.٤١ولا يحتاج التوليد لتدخل إرادةٍ خارجيةٍ مشخصة تضمن بقاء الاستطاعة بعد الفعل لتوليد أفعالٍ أخرى، بل يعني وجود عوامل جعلت الاستطاعة باقية مثل توافر الباعث عند الآخرين وارتفاع الموانع. ولا يختلف السبب الموجب باختلاف الفاعلين لأن السبب يفعل من جهة الإنسان.٤٢ التوليد وصف للفعل الإنساني وبقائه في الزمان أو هو وصف للفعل الطبيعي. وكل محاولة لوصف أي فعلٍ خارجي عن الفعل الإنساني والفعل الطبيعي بالتوليد ما هو إلا إسقاط من الإنسان على غيره. وهذا الإسقاط ذاته ضد عواطف التأليه لأنه يجعل المعبود في حاجة إلى توسط بالسبب. وإثبات قدرةٍ أعظم من السبب وقوع في الجبر وإلغاء للعلية ولاطراد قوانين الطبيعة وإنكار للتولد؛ أي وقوع في التناقض بإثبات شيء يؤدي إلى نفيه. ولا يقال إن القادر على الفعل ابتداءً قادر عليه توليدًا بطريقٍ أولى لأن ذلك فكرٌ دينيٌّ إلهي وليس فكرًا دينيًّا علميًّا، وإسقاط لعاطفة وليس تحليلًا لعقل. لا يعني حدوث التوليد من الإنسان أنه لا بد وأن يحدث من المعبود وإلا لكان أضعف قدرة لأن التوليد ليس وسيلة لإثبات قدرة أحد أعظم أو أقل، بل هو وصف لفعل الإنسان وأثره في الواقع وعلى الآخرين. ولا يعني عدم وقوع التوليد من المعبود عدم وقوعه من الإنسان؛ لأن التوليد واقعةٌ إنسانية لها ما يثبتها في استمرار الفعل واطراد الأسباب والعلل. ولا تحتاج قوانين الطبيعة واطرادها إلى إثبات توليد في افعال المعبود؛ فهذا وضع طبيعي وجريان للعادة.٤٣لذلك كانت الشُّبه التي قيلت في أفعال المعبود شُبهًا حقيقيةً تبين أن إثبات التوليد تناقض ينافي عواطف التعظيم والإجلال. فالتوليد يدل على أن المعبود في حاجة إلى سبب آو آلة. وإثبات الفرق بين الإنسان والمعبود في أن الأوَّل يحتاج إلى آلة، في حين أن الثاني لا يحتاج تمنيًا لا يمنع من قوة المعارض، كما يؤدي القول بالتوليد إلى نفي الإرادة وإعطاء القدرة للسبب تفعل محل الإرادة، بل وتكون الإرادة خاضعة للسبب.٤٤ ولما كان يفترض في المعبود العزم، فإن التوليد في أفعاله حد من قدراته وإعطاء القدرة للسبب؛ فتكون أفعاله مشابهة لأفعال الإنسان القائمة على اطراد العادات وارتباط الأسباب بالمسببات.٤٥ ولماذا يفعل المعبود التولد وهو قادر على الأفعال ابتداءً؟ وما الغاية من وضع الأسباب في الطبيعة إذا كانت لا تفعل بذاتها ولا تستقل، ومهددة بالتوقف والاضطراب، بل والانعكاس في أية لحظة؟ ألا يؤدي التوليد إلى الشرك وإثبات مقدور لقادرَين، المعبود والسبب؟ وإن كانت لا حاجة للمعبود للسبب يكون وضع السبب إذن عبثًا. وإذا كانت المصلحة تقتضي في هذا العالم وضع الأسباب؛ فما المصلحة في وضعها في عالمٍ آخر؟٤٦ لذلك فضَّل البعض جعل أعمال المعبود كلها ابتداءً لا توليدًا؛ لأن المعبود لا يحتاج إلى سبب في مقابل الإنسان الذي لا يقدر أن يفعل ابتداءً ما يفعله بالتولد؛ لأنه في حاجة إلى الأسباب. وزيادة في التعظيم فإن ما يفعله المعبود يصح منه بدؤه. وحينئذٍ يكون السؤال: فما الداعي إلى التوليد؟٤٧
- (٣) وقد ورد الأمر والنهي بالأفعال المتولدة كما ورد بالأفعال المباشرة، وذلك كحمل الأثقال في الحروب والإيلام. هناك أثر لفعل الإنسان بعد الموت في حياة الآخرين، مثل أثر القدوة على التغيرات الثورية وطاعة الجماهير، وأثر الفكر الثوري في تحقيق الثورة.٤٨ كما أن التوليد، بما أنه فعل الإنسان ومناط التكليف ويستحق عليه المدح والذم. النظر والعلم والاعتقاد وجميع أفعال الشعور قائمة على التوليد. ولا يعني وقوع ذلك في حياته فقط، بل يعني أيضًا ترتب نتائجَ سيئة وضارة لفعله عند الآخرين. ليس الفعل المتولد هو الفعل الساهي والنائم، بل هو فعلٌ إراديٌّ مقصود من حيث الأثر والاستمرار. إن استحقاق الذم والمدح لا يتم على الفعل الوقتي، بل على الفعل المستمر، فلا يتغير المدح والذم بعد ظهور الأثر لأنهما حكمان قائمان على الفعل في الزمان وليس على الفعل اللحظي. وهذا لا ينفي إمكانية تغيير الإنسان لفعله حين يشعر بإمكانية فعل أفضل، فإذا غير الفعل تغير الحكم. ولكن يتم ذلك في حياته. فبعد الحياة لا توجد إمكانية تغير أو استدراك لا عن طريق التمني أو في حياة الآخرين.٤٩
(٢-٢) أقسام التوليد
-
(١)
التوليد في أفعال الشعور. وهنا يكون التوليد في أفعال الشعور الداخلية؛ فالتركيز على فعل يولد فعلًا آخر، وذلك لأن الشعور الداخلي حر الأفعال. وقد يعني هذا التوليد استمرار القدرة على الفعل، إمَّا في حياة الإنسان بعد عجزه عنه أو بعد مماته بما يتركه من سنن وأفكار واتجاهات وجماعات وأحزاب وقوانين وتنظيمات وتشريعات؛ فأفعال الإنسان مستمرة حيًّا أو ميتًا، وبقاؤه مستمرًّا غير محدود بالآجال. فمن سن قانونًا بأن كل من يعترض أو يتظاهر فإنه يسجن، ثم يموت واضع القانون فإن أثره يظل من خلال قانونه، ويكون هو المسئول عن كل سجين ومعتقل إلى أن يتغير القانون بقانونٍ آخرَ يبطل فعل القانون الأوَّل. وقد لا تحدث آثار الفعل أثناء حياة الفاعلين قدر حدوثها بعد مماتهم في آثارهم وسننهم وقوانينهم بشرط توفر الهدف والقصد والنية.٥١ ويمكن ترك الفعل المتولد والإنسان على قيد الحياة بتغيير فعله المبتدأ مصححًا إياه؛ ومن ثَم يمَّحي أثره، والإنسان قادر على ذلك ما دامت الغاية واضحة والنية متوافرة. والقدرة على السلوك موجودة، والمانع غائب. فإذا ما تحقق من أن فعله ليس هو الفعل الأمثل، غيَّر الفعل الأوَّل إلى فعلٍ ثانٍ ومِنْ ثَمَّ يتغير أثره معه. ويمكن للآخرين بعد حياة الفرد القيام بتغيير فعله أو إدخال تعديل عليه أو تركه إلى فعلٍ آخر وتصحيح فعله؛ وبالتالي يتغير أثر الفعل الأوَّل ويحل محله الفعل الثاني.٥٢ بل إن مجرد الاحترام المعنوي لشخصٍ غائب نوع من بقاء الفعل بعد الاستطاعة الأولى. فاستطاعة الغائب فاعلة، إمَّا لاحترام شخصه أو تقدير أمره أو تخليدًا لذكراه. التوليد هو إثبات لفعل الجماعة ولوجود الجماعة ولحضور الجماعة وتأكيدٌ لجماعة الحياة والخلق والانتشار. لا يضير الإنسان أن يبدأ فعله من فعل غيره أو أن يؤثر الغير في فعله. وما دام هذا الفعل قائمًا على نفس القصد ويهدف إلى نفس الغاية، فإن اتفاق الباعث والهدف يجعل اتفاق الفعلَين أولى من الاختلاف. وإن حدث اختلاف في الأفعال فالفعل الأصح والأكمل يعدل ويصحح الفعل الآخر. وإن كان أحد الفعلين خطأً على الإطلاق غيَّره الفعل الثاني ونفاه وبدَّله إلى فعلٍ صحيح. ولا يعني عدم وقوع الفعل إبطال التوليد، بل دخول فعلٍ آخر أكمل من الفعل الأوَّل وابتلاعه له في ميدان السلوك.٥٣ليس الوقت الثاني والثالث في الأفعال هو وقت الحركة، بل توالي الأجيال. يستمر فيها طالما بقيت القدرة عليه حتى تأتي أفعالٌ مضادة أو يضعف الأثر أو تتغير الظروف.٥٤ يتضح بقاء الفعل في العالم بعد الاستطاعة الأولى في أثر الأفعال وبقائها بعد حياة الفاعل. بل إن كثيرًا من الأفعال لا يظهر أثرها الإيجابي أو السلبي إلا بعد حياة فاعلها. وهذا هو معنى الحضارة أو الإنسانية. الحضارة تراكم أفكار البشر وأفعالهم بعد انتهاء قائليها وفاعليها. تلك هي قدرة الإنسان على الخلود وتخليد ذاته بأفعاله الباقية. فلا تناقض إذن في وجود قدرة مع الموت لأن الموت في هذه الحالة قد تم التغلب عليه، فتحول إلى حياةٍ دائمة. كما تم التغلب على العجز فتحوَّل إلى قدرةٍ دائمة. ذاك هو وضع الإنسان في الحياة؛ يحقق رسالته فيتحول وجوده النسبي إلى وجودٍ مطلق، ووجوده الزماني إلى وجودٍ أبدي.٥٥ وتبقى الأفعال أيضًا بعد الاستطاعة الأولى؛ إذ يكفي أن يقرر الإنسان شيئًا وهو على فراش الموت ثم يبقى فعله بعده كما هو واضح في الوصية أو في آخر توجيهاته. لا يعني العجز أو الموت نهاية القدرة أو الاستطاعة بل يعني استمرارهما وفعلهما في الآخرين. لا يعني العجز والموت والعدم نهاية الفعل، بل يكشف عن استمرار الفعل عند الآخرين. خطأ الشبهة إذن ناتج عن تصور الفعل على أنه فرديٌّ خالص وعلى أنه فعلٌ بدني ينتهي بانتهاء الفرد أو بعجز العضو وليس الأثر المعنوي عند الآخرين وفي التاريخ.٥٦ولا يوجد واقعٌ خارج عن بقاء الاستطاعة يؤثر فيه الإنسان إذا كان الواقع ممتدًّا تحت طاقة الإنسان وعلى مداها. أمَّا الظواهر الطبيعية الصماء التي تخرج عن نطاق الفعل الإنساني ومدى الطاقة فهي تتبع نظام الطبيعة الثابت.٥٧ الفعل مرهون بالقدرة وحدها وليس بالمقدور عليه. إذا توفرت قدرة الكتابة فإنها لا تعني الكتابة على الهواء؛ لأن الفعل له ميدان تحققه الموضوعي وشروطه الموضوعية. كما أنه يتحقق بالقدرة وهي شرطه الذاتي مع الباعث والغاية. لا تزال الأفعال المتولدة أفعالًا مقصودةً مروية؛ فهي ليست مجرد أفعالٍ آلية. ويظل أثر القدرة طالما تمثلتها أفعالٌ بشريةٌ مقصودةٌ مروية. لا يقع الفعل بقوةٍ معدومة بل بقوةٍ موجودة مستمرة بعد الفاعل الأوَّل.٥٨ ولا يعني بقاء القدرة في الحال الثاني أنها تبقى آليًّا من نفسها بل تتجدد القدرة بحيوية الباعث المستمرة وبالوضوح الفكري الدائم وبمثول الغاية. يوجد العلم والإرادة مع الموت وذلك بتبني الآخرين الأحياء لهذا العلم ولهذه الإرادة. ليس الفعل فعلًا فرديًّا فحسب بل هو فعلٌ جماعي.٥٩ ويجوز أن يبطل التولد إذا ما حدث العجز في الثاني أو الثالث. ودون ذلك تبقى الاستطاعة بلا قدرةٍ متجددة. الفعل التام هو الذي يحدث في حالٍ واحد دون أن يتخلله زمان. هو فعل تتزامن فيه القدرة والباعث والغاية والفكر وغياب الموانع. لا يوجد فعل غير مقدور عليه أو قدرةٌ عاجزة. الفعل هو الفعل الواقع وإلا لما سُميَّ فعلًا.٦٠ وإذا حدث العجز في الحال الثاني فإن القدرة لا تبقى، والفعل ينقطع ولا يتم. والعلم بالعجز لا يتم بإسقاط العجز عن القدرة الأولى، أي بالرجوع إلى الوراء كما هو الحال في العدم المعبر عنه بأداة الشرط «لو». إذا حدث العجز فإمَّا لضعف القدرة بناءً على ضعف الباعث أو ضمور الغاية أو غموض الفكر أو وجود مانع. ويظل الإنسان في حال العجز الثاني قادرًا على الفعل كإمكانيةٍ خالصة وذلك بتغيير الموقف النفسي والاجتماعي إلى موقف الفعل في الحال الأوَّل.٦١والإنسان قادر على الفعل والترك، قادر على فعل الشيء وضده تعبيرًا عن حريته. لو كان قادرًا على الفعل وحده أو الترك وحده أو على أحد الضدين فقط لما كان حرًّا. ولما كان عمله ذا فعلٍ موجَّه يعبر عن طبيعته ويحقق غايته؛ كان الترك وفعل الضد لديه مستحيلًا عملًا.٦٢ كذلك يقدر الإنسان على فعل أو أكثر من الديمومة حين بقاء الاستطاعة نظرًا، ولكن عملًا يكون فعلًا من النوع نفسه، وإلا كان فعلًا غير صادق، ولانقلب السلوك الواحد إلى نفاق وتواطؤ ومساومة. يفعل الإنسان شيئًا واحدًا طبقًا لطبيعته. وإذا تصارعت الدوافع طبقًا لدرجة كمال الغايات تحقق الدافع الأقوى الذي يعبر عن شدة الباعث وكمال الغاية.٦٣ والبدل في السلوك ليس هو البديل المنطقي أو الآلي، بل هو الذي توجهه الطبيعة نحو غايةٍ واحدة لا تتبدل.٦٤ وكلما بعدت القدرة عن الحال الأوَّل انتابها الضعف والوهن بفعل الزمن والرتابة ما لم تتجدد باستمرار بحيوية الباعث ووضوح الفكر وتمثل الغاية. إن بقاء القدرة إمكانيةٌ خالصة قد تبقى إذا توافرت عوامل بقائها وهو التجدد الدائم. ليست القدرة واقعةً مادية تبقى حاضرة على الإطلاق، بل هي واقعةٌ إنسانية تتأرجح بين الحضور والغياب. والحقيقة أن هناك فرقًا بين الفعل الإنساني والفعل الطبيعي في التولد. فالفعل الطبيعي وإن كان يشابه الفعل الإنساني من وجه إلا أنه لا يشابهه من كل وجه؛ نظرًا لاختلاف المستويين. يمكن للآلة أن تفعل في الأوَّل والثاني ما دامت الطاقة موجودة ومستمرة دون ضعف ووهن. وفعل الإنسان أيضًا بتوافر الطاقة. ولكن احتمال التكرار في الآلة أكثر من احتماله في الإنسان، وديمومة الفعل في الآلة أكثر منه في الإنسان، واحتمال وجود الشرط في الإنسان أضعف من احتمال وجوده في الآلة. الفعل الطبيعي متكرر إذا توافرت الشروط، فالمطر يسقط كلما تحمل الجو بالبخار وتشبع به وانخفضت درجة الحرارة أو خفَّ الضغط، والحديد يتمدد بالحرارة كلما توافرت الحرارة الكافية. استمرار الفعل الطبيعي قائم على أفراد القانون الطبيعي، والفعل الكوني مثل حركة الكواكب قائم على اطراد قوانين حركة الأفلاك، أمَّا الفعل الإنساني فبالرغم من أن له قانونه كذلك، إلا أن هذا القانون نفسه تعبير عن الحرية الإنسانية دون أن يحتم عليها شيئًا. في الفعل الطبيعي لا استثناء، وفي الفعل الإنساني تحدث استثناءات طبقًا لقانونٍ آخر هو حرية الإنسان التي تفرض في كل وقت قانونًا جديدًا. فالحرية قانون ذاتها وممارستها وواقعها. والحقيقة أنه تصعب الإجابة على معظم أسئلة التوليد وبقاء الاستطاعة في الحال الثاني أو الثالث أو الرابع إجابة صورية خالصة دون الإشارة إلى تجاربَ إنسانيةٍ يمكن أن تعطينا مادة لتحليلها، وتكون في الوقت نفسه مصدرًا يمكن الرجوع له والاحتكام إليه. وليست المادة أفعال البدن وحدها أو أفعال الشعور وحدها أو أفعال الفرد وحده، بل الأفعال كلها ومسارها في الجماعة.وهناك أفعال لا تكون إلا متولدة، ولا تحدث ابتداءً، مثل النظر المتولد عن العلم أو العلم المتولد عن النظر أو الفكر المتولد عن الباعث أو الباعث المتولد عن الفكر، وذلك لأن وجود المسبب مشروط بوجود السبب.٦٥ وأفعال القلوب المبتدَأة هي أفعال الشعور. وقد يحدث فيها التولد حين تتولد فكرة من أخرى أو ظن من فكر أو إرادة من كراهة. وإذا كانت بعض الأفعال متولدة فذلك لا يعني أن تكون كل الأفعال متولدة وإلا وقعنا في مغالطة وهي تعدية حكم الجزء على الكل. لا تنقسم الأفعال المتولدة إلى أفعال شعور وأفعال جوارح، بل الذي يحدد البدء والتولد هو مدى أثر الفعل. الفعل القصير المدى يحدث منذ الحال الأولى، ولكن الفعل الطويل المدى هو الفعل المتولد. ويتحدد قصر المدى أو طوله بغاية الفعل، خاصة أم عامة، وبكمال الغاية، حسية أو معنوية، وبقوة الفعل، فردي أم جماعي، وبوضوح الرؤية، سطحي أم علي، افتراضي أم واقعي، مفروض أم يعبر عن مطلبٍ حقيقي.٦٦ الإرادة متولِّدة من الباعث؛ لأنها ليست شيئًا آخر إلا قوة الباعث الذي يتولد منه المراد؛ لذلك جعل البعض الأفعال المتولدة هي أفعال الشعور لا أفعال الجوارح؛ لأن الفعل الإنساني هو فعل الشعور، أمَّا أفعال الجوارح فهي أفعالٌ بدنية خالصة تحدث بطبيعة العضو وتكوين الكائن الحي. والسبب في الأفعال المتولدة هو بقاء الاستطاعة الأولى في الحال الثانية، وهي أقرب إلى أفعال الشعور.٦٧ وقد تكون أفعال الشعور وأفعال الجوارح معًا أفعال الإرادة، وتقع كلها حسب الدواعي والقصود. كما أن الأفعال ابتداءً أو الأفعال المتولدة كلاهما يقعان حسب الدواعي والقصود. وقد ثبت التولد بإثبات أفعالٍ متولدة تقع حسب القصود والدواعي.٦٨ ويؤثر البعض جعل أفعال الإنسان أفعال الجوارح أي أفعال الإرادة لأنها هي التي تظهر فيها الحرية وما سوى ذلك من أفعال الشعور فإنها تحدث طباعًا.٦٩ وربما تُترك أفعال الجوارح وأفعال الشعور معًا بلا تحديد لفعلها، فكلاهما قد يحدث مرة طباعًا ومرةً أخرى اختيارًا. وتثبت الأفعال المتولدة بإثباتها ناشئة عن القدرة كالأفعال ابتداءً.٧٠ وأحيانًا يصعب التفرقة بين الاثنين كما هو واضح في سؤال: هل المقتول بإرادة القاتل أم بقتل المقتول؟٧١ وقسمة الأفعال إلى بدنية من فعل الإنسان وشعورية من فعل الله قسمة تقوم على الرغبة في الجمع بين الفعلين كمحاولةٍ أخيرة قبل خروج الفكر العلمي واستقلاله. وكان من الطبيعي إعطاء الإنسان الفعل البدني الخالص، والله الفعل الشعوري الخالص؛ فهو أكرم وأشرف.٧٢ وقد يكون هناك خلاف على الأشرف؛ فقد يكون الأشرف لله أن ننسب إليه أفعال الطبيعة وليس أفعال الإرادة؛ تنزيهًا له عن فعل القبيح وحرصًا على حرية الإنسان. ولما كانت الطبيعة أقوى من الإنسان، فإنه يكون شرفًا أن تعطى لله أفعال الطبيعة دون أفعال الإنسان.٧٣ ولما كان الإنسان قادرًا على الأفعال المتولدة، فإنه يقدر على الصفات الثانية للأشياء في الطبيعة كالألوان والأصوات والطعوم والأراييح.٧٤ فالإحساسات الخمس متولدة فيما بينها، أي مولدة إحساسات وليست أفكارًا حسية. وكثير من أفعال الإنسان تصدر بالتوليد مثل الأصوات والآلام والتأليف، بل إن أعمال الخلق كلها قائمة على التوليد.٧٥
-
(٢)
التوليد في أفعال الطبيعة. ويظهر التوليد أيضًا في أفعال الطبيعة وفي أفعال الكائن الحي باعتباره موجودًا طبيعيًّا؛ فالطبيعة قائمة على تسلسل العلل واعتماد بعضها على البعض.٧٦ يحدث التولد في أجسام الطبيعة طبقًا لقوانين الطبيعة. ولا ينفي التوليد أنه حاصل في الطبيعة كظاهرةٍ طبيعية. التوليد ليس خلقًا من الله أو اكتسابًا للعبد أو حتى فعلًا حرًّا له؛ لأنها أفعالٌ طبيعيةٌ صرفة تخضع لقوانين الطبيعة، فالأفعال المتولدة لا فاعل لها.٧٧والاعتماد وصف بديهي لأثر حركة اليد أو الجسم على الأشياء.٧٨ ولكن هل يولد الاعتماد أم يتولد بالحركة والنظر والمجاورة؟ هل الاعتماد جسمي أم معنوي؟ هل يستطيع الإنسان أن يفعل من غير مماسة؟٧٩ الحقيقة أن تحليل الفعل على المستوى الطبيعي هو خروج على المستوى القصدي. فسواء كان الإدراك يتم بفتح إرادي للجفن أم لا، فذلك وصفٌ خارجيٌّ محض لعملية الإدراك أو التأليف الحاصل عن المجاورة وأنواع المجاورة. والألم الحادث عن الوهن، كل ذلك أوصاف لا دلالة لها بل افتراضٌ عقليٌّ خالص، كقسمة التأليف الحادث عن المجاورة إلى خمسة أجزاء، وتقسيم القدرة إلى خمسة أجزاء لكل جزء قدرة.٨٠وبصرف النظر عن أنواع التوليد الطبيعي لأفعال الجسم أو الكائن الحي، فإنها تجري جميعًا بالعادة أو بالطباع، أي طبقًا لقانون. والقول بالعادة هو أيضًا قول بالطباع، ولكن بلفظٍ آخر مثل لفظ الخلقة.٨١ وحدوث الأشياء في المحل شبيه بحدوثها بالعادة أو بالطبع. ولا يعين المحل الكائن الطبيعي كواقعةٍ مصمتة، بل هو موقفٌ إنساني تتداخل فيه عوامل الفعل الإنساني كالباعث والقصد. ولا يعني نفي المحل كموقفٍ مصمت أنها واقعة تحت فعل إرادةٍ خارجية.٨٢ ولكن يظل لفظ «الطباع» هو اللفظ المفضل.٨٣ ولا تعني الطباع نفي السبب؛ فهي ليست ضرورة أو حتميةً عمياء، بل تخضع لقانونٍ طبيعي تجعل الحوادث تحدث طبقًا له وتُسَمَّى طباعًا.وبالرغم من أن الأفعال المتولدة قائمة على القصود والدواعي، إلا أنها أيضًا تثبت بالطباع.٨٤ فإثبات القصود والدواعي لا شأن له بإثبات القديم عن طريق الغائية، بل هو تحليلٌ علميٌّ موضوعي لبواعث الأفعال ومقاصدها.٨٥ والطبع لا ينافي القصد. يقوم الإنسان بفعله الذي يعبر عن طبعه وهو قصده. ويحقق الإنسان قصده وهو طبعه. ومقاصد الوحي طبيعة وفطرة، والفطرة لا تعارض القصد.٨٦ ولا يمنع الترجيح بين الدوافع بالطبع. ليس الطبع منافيًا للغائية، إنما كان إثبات الأفعال حسب القصود والدواعي موجهًا ضد نوعين من الجبر، الجبر الديني الإلهي الذي يجعل المعبود فاعلًا لكل شيء، والجبر العلمي الذي يثبت الأفعال بالطبائع. ومع أن الجبر العلمي أكبر رد فعل على الجبر الديني الإلهي القائم على التشخيص، إلا أنه ينكر القصد والباعث والغائية التي هي أيضًا من الطباع. ليست الطبيعة عمياء، بل هي طبيعةٌ عاقلةٌ هادفة.٨٧وكل محاولة للتوفيق بين فعلَين لا تأتي بجديد؛ فالفعل الباقي باقٍ بالاستطاعة الباقية. وهذا تفسير كافٍ ولا يحتاج إلى علةٍ زائدة. والوصف العلمي يقوم على التفسير بعللٍ أقل لا بعللٍ أكثر.٨٨ فالقول بالطباع وبفعل المعبود في آنٍ واحد تفسير لظاهرة بعلَّتين، الأولى كافية والثانية زائدة. بل إن القول بالسبب بالإضافة إلى الطبيعة رغبة في إثبات أفعال المعبود وخوف من الاستقلال التام للطبيعة. وفي هذه الحالة تحدث الأفعال المتولدة باجتماع السبب والطبيعة معًا. والقول بالطباع وإن كان يمثل تقدُّمًا هائلًا بالنسبة للفكر اللاهوتي في الطبيعيات إلا أنه حين يفسر بقاء الفعل والاستطاعة يغفل أثر القدرة الأولى وكأن الواقع يتحرك بنفسه دون ما تدخل من إرادة الإنسان المستمرة في الأثر. ليست حركة الواقع فقط نتيجة طبيعة الأشياء، بل نتيجة طبيعة الأشياء والفعل الإنساني معًا. لا يتغير الواقع بنفسه. ولا يغير الإنسان الواقع ضد طبيعة الأشياء. لا يحدث شيء في الواقع إلا وله محدِث وهو الإنسان أو طبيعة الأشياء. ولا يحدث من شيء من الخارج، فالإنسان وطبيعة الأشياء كلاهما في العالم.٨٩ لذلك فإن القول بالطباع دون التوليد هو إنكار لأثر الإرادة في الواقع واستحالة لشكر الإنسان وثنائه وإحساسه بالتوفيق في إتمام مهمته.٩٠ وهو قول بطبيعة غير عاقلة وغير مريدة وإعطاء الطبيعة كل القوة وسلبها عن الإنسان٩١ هو فعل للطبيعة خارج الشعور واعتبارها إمَّا قديمة لا شأن للإنسان بها أو حادثة بلا سبب وتحتاج إلى محدث.٩٢ يؤدي القول بالطباع دون الاختيار إلى إنكار البعثة والوحي. صحيح أن الواقع يتأزم ويستدعي الفكر ويمكن للطبيعة أن تبدع فكرها ويكون في الوقت نفسه مطابقًا للوحي، ولكن ذلك يحتاج إلى طبيعةٍ كاملة وإلى وقتٍ طويل، ولا يبرأ من احتمال الخطأ؛ فالوحي هو عقل الطبيعة وفعل مع الطباع.٩٣
ولا يؤدي القول بالطبائع إلى إنكار الصانع، بل إلى إثبات حكمته. ليس الصانع حاويًا أو ساحرًا، بل حكيم خلق الأجسام وجعلها تتحقق طباعًا طبقًا لقوانين الكون من طبيعة الخلق. وموضوع التوليد هو تحليل لأفعال الطبيعة وليس الهدف منه صياغة أدلة على وجود الصانع. هو موضوع موجَّه إلى أسفل وليس إلى أعلى، وبالتالي تظل المحافظة على المستويات قائمة. وهو أكثر مدعاة للتنزيه؛ تنزيه الله عن القبائح والشرور، وأكثر مدعاة للعدل بالتأكيد على مسئولية الإنسان عن أفعاله واستمرارها في الكون. كما أنه أكثر مدعاة إلى تأسيس العلم الآلي وجعل الأفعال كلها متولدة عن بعضها البعض تجنبًا للتشخيص. كل شيء خاضع لقانون سواء الأفعال الإرادية أم غير الإرادية، العضوية البدنية أم الشعورية الخالصة.
وإثبات المتولدات في الأفعال الإنسانية بإرجاعها للإرادة وترك أفعال الطبيعة متولدة لا فاعل لها هو إثبات لحرية الإنسان ولاستقلال الطبيعة في آنٍ واحد؛ ومِنْ ثَمَّ يمتد فعل الإنسان الحر إلى العالم من خلال حتمية قوانين الطبيعة.٩٤ وقد يصل الأمر إلى حد اعتبار أن أفعال الإرادة أيضًا خاضعة للأسباب وأن الإنسان قادر متى أخذ بالأسباب على إتيان كل الأفعال، أفعال الإرادة وأفعال الطبيعة، على سبيل التولد. وهنا يتأسس العلم الطبيعي الآلي، وتصبح الإرادة الحرة جزءًا من قوانين الطبيعة وأحد عوامل الخلق فيها.٩٥ وقد يكون التولد بالطبع دون تفصيل في الأسباب. كما قد يصل القول بالطبع إلى أن تكون أفعال الإرادة ذاتها بالطبع وأن يكون الإنسان قادرًا حتى على خلق أفعال الشعور الداخلية بالطبع.٩٦ وقد يقع فعلٌ واحد من فاعلَين لما كان الفعل يحدث في الطبيعة وكانت الطبيعة قابلة لأفعال الإنسان، ودون أن يكون أحد الفعلين خلقًا والآخر كسبًا، أحدهما لله والآخر للإنسان. فكلاهما للإنسان، لفاعلَين مختلفَين.٩٧وإذا ما فعل الله يفعل طباعًا، طبقًا لقوانين الطبيعة وليس ضدها.٩٨ وقد يؤثر البعض جعل التولد في أفعال الإنسان وحدها في نفسه وليس في غيره خوفًا من حتمية الطبيعة وإيثارًا للحرية. موضوع التولد إذن هو مبحث في الطبيعة كما أنه مبحث في الفعل الإنساني، في حرية الأفعال وبقائها في الطبيعة بقوتها الذاتية الكامنة وبآثارها في الأغيار. يصارع فيه الفكرُ الإنساني الطبيعي الفكرَ الديني الإلهي حفاظًا على حرية الإنسان وإثباتًا لاستقلال قوانين الطبيعة.