تشير أفعال الوعي الاجتماعي إلى ما أورده القدماء في
نهاية أصل العدل في موضوعات ثلاث: الآجال والأرزاق
والأسعار، سواء في كتب التوحيد الأولى أو في كتب العقائد المتأخرة.
٣٩ ويدخل في موضوع حرية الأفعال بعد أفعال الوعي
الفردي؛ لأنها تتعلق بوجود الإنسان وحياته ورزقه
ومعاملاته، وظهورها في خاتمة التوليد، أي أفعال الإنسان في
الطبيعة، يجعل منها أيضًا جزءًا من التوليد، ولكن هذه
المرة توليد الأفعال في الحياة الاجتماعية، وظهور الوعي
الفردي كوعي اجتماعي في المجتمع وفي التاريخ، والآجال أكثر
الموضوعات تناولًا تتلوها الأرزاق ثم الأسعار، وكأن عمر
الإنسان أهم من رزقه وكسبه، ثم تأتي أسعار السوق في
النهاية، وإن شئنا فإن موضوع الأسعار أقل الموضوعات الثلاث
تناولًا، فكلما اقتربت العقائد من المصالح العامة توقَّفت
واقتصرت على النظر دون العمل، مع أن الأرزاق والأسعار
تعمُّ بهما البلوى، ثم تدخل مسألة الفقر والغنى في
«اللطائف» مع بعض المسائل الطبيعية وكأنها لا أهمية لها أو
كأنها مسألة طبيعية كونية قدرية وليست مسألة اقتصادية
اجتماعية سياسية.
٤٠ وتظهر مسألة الآجال والأرزاق والأسعار في
مباحث العدل والتجوير بعد الختم والاستثناء والهدى والضلال.
٤١ وقد تظهر الأرزاق في أول مسألة العدل كما يظهر
الغنى والفقر في وسطه أو في آخره.
٤٢ وقد تظهر في ختام خلق الأفعال قبل موضوعات خلق
الأفعال مثل شمول الإرادة للكائنات والقضاء والقدر، وبعدها
تأتي الحسن والقبح مما يدل على أنها إحدى موضوعات العدل،
وهي جزء من السمعيات لاعتمادها على الأدلة السمعية أكثر من
اعتمادها على الأدلة النقلية.
٤٣ مما يدل على اعتمادها على حجة السلطة وليس على
حجة العقل، ولما كان السلطان هو المثل للسلطة، فإنه قام
بتفسيرها لحسابها؛ ومِنْ ثَمَّ ظلت خارج التعقيل والتنظير
دون برهان.
٤٤
(٢-١) الآجال
الأجل لغويًّا هو الوقت، والآجال هي الأوقات، أوقات
مخصوصة نحو الحياة والموت، ويتفاوَت الوقت أحيانًا بين
أن يكون وصفًا للوجود الإنساني أو وصفًا للموجود الطبيعي.
٤٥ ولكن المقصود هنا بالأجل هو الوقت
الإنساني أي العمر؛ يعني الأجل إذن الحياة الزمنية
والوجود الزماني وليس الوقت الطبيعي زمان الأفلاك
وولوج الليل في النهار والنهار في الليل. الزمان توتر
وطاقة وجهد وليس حسابًا وعددًا وحركةً طبيعيةً، ومع
ذلك يحاول القدماء عدم تخصيص الزمان بالوجود الإنساني
وحده، بل تعميمه على جميع أجناس الموجودات، ربما
لإثبات العالم ونهاية الأشياء بنهاية الزمان الطبيعية
أو لإثبات قِدَم الصانع وخلود النفس، وتجديد الوقت في
الحقيقة ليس مقولة للأشياء، بل وصف للشعور الداخلي
بالزمان، ولماذا إثبات أوقات لا نهاية لها والإنسان
متناهٍ في الزمان؟ وقد يُفيد الأجل أيضًا قضاء الدين
للمعسر، وكأن الحياة هي المال، وكأن عمر الإنسان هو
قضاءٌ للدين، وكأن انقضاء أجل الدين هو انقضاء العمر،
فأداء الدين حياة قبل الأجلين، أجل الدين وأجل
الإنسان!
ويحلل القدماء الآجال بطريقتين لتحديد السبب في
البداية وهو الموت أو السبب في النهاية وهو انقضاء
الأجل، فهل الموت قتلًا بالسكين يكون موتًا بالأجل أم
موتًا بالآلة أم موتًا بالقتل أو موتًا في المقتول أو
موتًا في القاتل؟ وهنا يُسار إلى التولُّد من جديد
لمعرفة سبب القتل؛ الله أم تولَّد الفعل عن القاتل،
وفي هذه الحالة يمكن وصف عملية القتل وصفًا طبيعيًّا
جسميًّا خالصًا. فالقتل حز الرقبة، أعراض أي حركات في
يد الضارب بالسيف وافتراقات في أجزاء رقبة المضروب
اقترب بها عرض آخر وهو الموت، فإن لم يكن بين الحز
والموت ارتباط لم يلزم من تقدير نفي الحز نفي الموت،
فالاقتران بالعادة، وللموت علل أخرى وأسباب باطنة غير
الحز عند القائلين بالعلل إلا إذا انتفت العلل، وهنا
يبدو أن الأمر ليس موضوعًا طبيعيًّا صِرفًا، بل الغاية
منه إثبات قدرة خارجية تكون سبب الموت دون ما نظر في
حياة الإنسان وسبب الموت المباشر، وهو على هذا النحو
هروب من الموضوع وفقد لمدلوله، ويمكن تحليل الموت
الطبيعي بدقَّةٍ وتفصيل أكثر ثم الانتهاء إلى مجموعة
من العلل تؤدِّي إلى علة أولى، وبالتالي ترجع المشكلة
إلى أصلها.
٤٦ إن الموت الطبيعي بانقضاء شروط الحياة
وتحلُّل الأجسام، أي الموت العضوي؛ هو من حيث العلم لا
من حيث الإنسان والمجتمع والحياة، وحديث حز الرقبة
إنما يشير إلى السبب المباشر في المعامل الجنائية مثل
أسفكسيا الغرق أو نزيف المخ.
٤٧
وعلى الطرف النقيض من تحديد الأجل بالموت يتم تحديد
الأجل بالقضاء والقدر؛ فكل مقتول ميت بأجله، وبالتالي
يكون الموت هنا أحد موضوعات الجبر والاختيار قبل أن
يكون بداية موضوع آخر بلحظة الموت أو ما بعدها وهو
موضوع المعاد.
٤٨ فالمقتول ميت لأجله والأجل واحد، والله
خلق الآجال وقدرها.
٤٩ ومن مات رغمًا عنه، حتف أنفه أو قُتل، فقد
مات بأجله، وكان يمكن ألَّا يموت وأن يزيد الله في
عمره، ولكن ما دام أجله قد حان يجب عليه الموت، فلكل
أجل كتاب، سبب القتل هنا هو سبق العلم وشمول الإرادة،
وإن لم يمت بقدر الله مات بغيرِه حتف أنفِه، وبالتالي
يتحوَّل الأجل إلى جبرٍ أو إلى موت جبر، ويصبح الموت
مطارِدًا للإنسان كما يصبح طريد الموت أينما يفرُّ منه
الإنسان؛ فهو ملاقيه كما في أسطورة أورفيوس عند
القدماء، فلا زيادة ولا نقصان في العمر، وإذا كانت
الزيادة بركة فهل النقص قلة في البركة؟
٥٠ إن استخدام الأجل والقضاء لتبرير الموت
والتعمية عن حوادث الطريق والفقر والاغتيالات وكل
الشرور والآثام؛ لَهو تعميةٌ عن الحقائق في سبيل
مزايدة في الإيمان يرضى عنها السلطان ليتستَّر وراءها
إخفاء للأسباب المباشرة لموت الرعية.
٥١ مع أن المحافظة على الحياة أساس الشرع.
٥٢ إن عدم الالتفات إلى الأسباب المباشرة
للموت جهلٌ بالأوضاع الاجتماعية وعدم حرمة لحياة الناس
وتعمية وتغطية على حوادث الطرقات وأسلاك الكهرباء
العارية والبالوعات المفتوحة والمنازل الآيلة للسقوط
والبنايات الهشة رغبةً في الربح وسرقة للأموال،
والأغذية الفاسدة والأمراض العضالة، والقتل من أجل
السرقة والفقر والجوع، والحروب العدوانية، ويُستعمل
«لكل أجل كتاب» في الدين الشعبي لتبرير كل شيء للسلوى
ولدفع الأحزان، ولماذا تفريغ الغضب؟ أليست مسئولية
الحاكم في المدينة أن يسويَ الطريق لبغلتِه حتى لا
تعثر في الطرق؟ فما بال أمم بأكملها تتعثَّر بأيدي
الحكام قبل أن تكون بأيدي الأعداء؟ وما الفائدة من
إعطاء الله الحق النظري لإطالة العمر ثم لا يُطيله
بالفعل؟ ما الفائدة من نيةٍ لا تتحقَّق في فعل أو قدرة
لا تخرج في قرار؟ ولماذا لا يعيش الإنسان أكثر حتى
ينتج أكثر ويعلم أكثر ويحقِّق الرسالة في مراحل أخرى؟
ولماذا الدفاع عن الموت وعن القتل والقاتل؟ ولماذا لا
يبقى طول العمر وإطالة الحياة؟ وإن فن العيش كله في
إطالة الحياة ومحاربة الأمراض وتقوية البدن واكتشاف
العقاقير، وكثيرًا ما صاغ الشعراء والفنانون شعر
الحياة وفن الحياة وحب الحياة، ونحن نقدِّس الموت
والمرض، فيموت الإنسان رغم أنفه ويلاقي حتفه، فنتمنَّى
العدم أكثر مما نعشق الوجود.
٥٣ إن رفض الموت قتلًا على الأقل يُبقي على
الحياة كقيمةٍ، ولماذا لا يتمنَّى الإنسان حياةً أكبر
دون موتٍ يقضي على رسالته؟ قد يُقبل الإنسان على الموت
اختيارًا لا رغمًا عنه حتف أنفه لإكمال الرسالة، قد
يموت الإنسان شهيدًا باختيارِه وليس رغمًا عنه، تضحيةً
بحياته وليس رغمًا عنه للقاء حتفه مدفوعًا إليه دفعًا،
وهل القتل فرديٌّ أم جماعي؟ هل قتل الشعوب المناضلة من
أجل حرياتها والثائرة من أجل تحرُّرها موت بآجالها أم
أن الله هو الذي قتلها أم أنها ضحت بالملايين في سبيل
حريتها؟
لولا أسباب الموت لكان ممكن للإنسان أن يعيش أكثر،
ولولا الجوع وحوادث الطريق والأمراض لعاشت كثيرٌ من
الشعوب، ولقلَّت نسبة الوفيات وزادت نسبة الأحياء،
وبالصحَّة ترتفع نسبة المعمَّرين، المقتول غير ميت لأن
الموت من الله أو من القاتل وكان يمكنه أن يحيا،
المقتول مقطوع عليه أجله، فوجب على القاتل أن يُقطَع
عليه أجله في القصاص، لو لم يُقتل الإنسان لما مات في
ذلك الوقت، ولا يمكن أن يموت الإنسان بلا قتل، إن معنى
أن تزيد الطاعات في العمر أن وفرة الصحة والسعادة تطيل
في العمر؛ فالطاعات سببٌ أول يؤدِّي إلى أسبابٍ أخرى
ثانيةٍ مثل الاستيقاظ المبكِّر للصلاة، وعدم التخمة
والصوم، والاطمئنان الداخلي؛ أي الصحة النفسية، أمَّا
في أصل الوحي فيتدرَّج الأجل من الأجل بين الزوجين إلى
أجل الدين إلى أجل الفرد في عمره إلى أجل الأمة
وحياتها في التاريخ إلى أجل الكون كله وانتهاء الزمان.
٥٤
(٢-٢) الأرزاق
ليس خلق الأفعال مسألةً فلسفية نظرية خالصة، بل
يتعدَّاها إلى موضوعات عملية ترتبط بمصالح الناس مثل
الرزق والكسب والمال والسوق والأسعار والغنى والفقر،
إلا أن موضوع الأرزاق أهم من موضوع الآجال؛ لأن قدرة
الإنسان على السيطرة على الحياة والموت محدودةٌ نظرًا
لتشابك وجودِه في عديد من العلاقات البدنية والبيئية
والاجتماعية، أمَّا الأرزاق فللإنسان قدرةٌ أعظم
للسيطرة عليها، وإذا كانت الآجال، على أكثر تقدير،
أقربَ إلى الإرادة الإلهية، فإن الأرزاق على أقل تقدير
أقرب إلى الأفعال الإنسانية، والعجيب أن يعتبرَها
القدماء غير مهمة وهي موطن الصلة بين التوحيد والنشاط
الاقتصادي، والانتقال من توحيد الذات والصفات والأفعال
إلى توحيد الثورة والمجتمع والنشاط الإنساني والإنسان
في العالم.
٥٥ ومع ذلك يذكرها القدماء وكأنها من أفعال
الله بقضاء الله وقدره! وأن كل المصائب والمحن
والشدائد وما يصيب الإنسان من فقر وبؤس وحرمان كلها
بتقدير الله وقضائه، وكيف يكون الرزق بقضاء الله وقدره
وليس بجهد العباد في إطار النظام الاجتماعي والسياسي
والاقتصادي الذي يوجد فيه الإنسان؟ ولما كانت جماهير
الأمة فقيرةً وبائسة ومحرومة يُضرب بها المثل بالقحط
وسوء التغذية والجوع، وتصنَّف ضمن الشعوب المتخلفة أو
العالم الرابع، أي عالم ما تحت خط الفقر، فإن جعْلَ
الرزق بقضاء الله وقدره تبريرٌ للفقر والبؤس والحرمان
وقبولٌ للضنك وشَظَف العيش، ولماذا تكون جماهير الأمة
ضحية القضاء والقدر ويكون الحكَّام من محظياته؟ إن ذلك
يؤدي لا محالة إلى الإبقاء على الأوضاع القائمة من
استغلالٍ وفقرٍ واحتكارٍ وتفاوتٍ شديدٍ بين الطبقات
والقضاء على أية إمكانية في التغيير وتحقيق العدالة
بين الناس وتطبيق النظام الاقتصادي والسياسي
والاجتماعي للشريعة، وهنا تكون العقيدة ضد الشريعة
وليس أصلًا لها، وتكون الأوضاع الاجتماعية مناهضة
للشريعة والعقيدة معًا. والقضية من جديد هي العلة
الأولى التي تعلق عليها أخطاء البشر والتي تمثِّلها
الأقلية ضد الأغلبية في مواجهة العلل الثانية التي
تعجز الأغلبية حتى عن تمثُّلها.
٥٦
ولتثبيت ذلك
إلى الأبد تُكتب الأرزاق في «اللوح المحفوظ» الذي لا
يمَّحي فيه شيء؛ فلا يمكن الزيادة في الرزق أو النقصان
منه، زيادة رزق الفقير والنقصان من رزق الغني؛ فالله
هو الخالق والرازق، وكأن الخلق هو الرزق مع أن الخلق
حق الله والرزق حق الإنسان، لله كل شيء وللإنسان بعض
الشيء، وبالرغم من أن الله هو الرازق الحق للخلق وأن
السلطان هو الرازق بالمجاز للرعية والأمير هو الرازق
بالمجاز، إلا أنه ما أسهل التوحيد بين الله والسلطان
والأمير، وما أسهل أن تتحوَّل الحقيقة إلى مجاز
والمجاز إلى حقيقة، خاصةً في نظام يعتمد على حجَّة
النقل والتأويل الحرفي للنصوص، وأن الاستدلال بالنقل
على أن الأرزاق مقسومةٌ تمنع الفقير من المطالبة
بحقِّه في مال الغني، فتفسير النص موكول لفقيه
السلطان.
فإذا ما كان لجهد الإنسان دورٌ في تحديد رزقه، فإن
هذا الجهد لا يظهر في أفعال التقوى أو الفجور، فيزداد
رزق التقي ويقلُّ رزق الفاجر، بل في الأفعال
الاقتصادية من إنتاج وربح ومشاركة وأجر؛ فالأخلاق في
باطن الاقتصاد وليست بديلًا عنه، وإن تصور الأخلاق
بديلًا عن الاقتصاد هو حل للقضية الاجتماعية عن طريق
الأخلاق الفردية دون ما تغيير بجوهر النظام الاجتماعي،
وإن الإقرار بالظلم لا يكفي للتغير الاجتماعي، فقد
ينتج عنه مجرد الندم دون تغير اجتماعي أو ثورة، وإن
عدم استيفاء الرزق لا يكون بالضرورة مشروطًا بالموت،
فهناك من الأحياء ما لا تُستوفى أرزاقهم؛ ومِنْ ثَمَّ
فلا سبيل لهم إلا الموت انتظارًا لاستيفاء الرزق!
٥٧ وقد تحول ذلك كله إلى دين شعبي يؤمن به
الناس، فقد تحوَّلت عقيدة السلطة إلى عقائد الجماهير
بفعل السيطرة على أجهزة الإعلام وتوجيه التربية
الدينية في المدارس، وحتى في هذا الاعتراف بالزيادة
والنقص في جهد الإنسان، هل الموضوع دراسة علمية للدخول
والأجور أم مجرد تمرين عقلي مقلوب لإظهار القدرة
الإنسانية في مقابل القدرة الإلهية، كرد فعل على
اعتبارها من أفعال الله وليست من أفعال الإنسان نتيجة
لعمله وأنماط الإنتاج في مجتمعه وتوزيع الدخل القومي
فيه وسياسة الأجور ونوع النظام الاقتصادي؟ وإذا كانت
الأرزاق من أفعال الله، فكيف يَقْتِر الرزق على
المؤمنين ويبسطه على الكافرين؟ وهل بسطه الرزق لدى
المؤمنين وضيقه على الكافرين من الله؟ وهل زيادة رزق
المؤمن من ممارسته للشعائر والعبادات وأدائه للصلوات
وذَهابه مع الحجيج سبع مرات؟ إن الأرزاق أوضاعٌ
اجتماعية وسياسية واقتصادية لها قوانينها في أحوال
المعاش كما يبدو ذلك في أصل الوحي وتنظيمه لسيولة
الأموال في المجتمع، ويعتمد القدماء على الحجج النقلية
دون العقلية حتى يمكنَهم الارتكان إلى حجة السلطة
وإبعاد العقل عما يمسُّ الناس ومعاشهم طالما أن فقيه
السلطان هو المفسر الأعظم لنصوص الوحي!
وهناك ثلاثة تعريفات للرزق: الأوَّل: الرزق هو
الملكية، ورزق الإنسان هو ما يملكه الإنسان؛ ومِنْ
ثَمَّ لا تُرزق البهائم لأنها لا تملك، أمَّا مصدر
الملكية فهي إمَّا الحيازة أو الإرث أو المبايعة أو
الهبة، وكلها مصادر شرعية! والسؤال الآن: ألَا توجد
ملكية عن طريق السرقة والاغتصاب؟ وماذا عمَّن لا يملك؟
أليس له رزق؟ وكيف يأكل ويعيش؟ وماذا عن الملايين
المعدمة التي لا تملك شيئًا؟ إن تحديد الرزق بالملكية
أي بالاستحواذ هو تأكيد على الملكية كمصدر رزق بصرف
النظر عن أنماط الإنتاج أو علاقات الإنتاج كطرق للكسب.
٥٨ مع أنه في أصل الشرع لا وجود إلَّا
للملكيَّة العامة، فالله وحده هو المالك، والله وحده
هو الوارث، والإنسان مستخلَف فيما أودعه الله بين
يديه، له حق التصرف والانتفاع والاستثمار وليس له حق
الاستغلال أو الاحتكار أو الاكتناز، يبدو أن الأشعرية
تنسى أن علم الأصول واحد بشقيه، أصول الدين وأصول
الفقه، وتذكر الله عندما يتعلق الأمر بحق الله وتنساه
إذا ما تعلَّق الأمر بحقوق الناس!
والمعنى الثاني هو كل ما يأتي الإنسان، سواء كان
حلالًا أم حرامًا، وأحيانًا يتم التضييق فيصبح فقط ما
لم يحرم تناوله، في المعنى الواسع الرزق كسب حلال أم
حرام؛ لذلك نشأ السؤال التقليدي: هل يرزق الله عباده
الحرام؟ والغرض من السؤال ليس الإجابة عليه بنعم أو
بلا، بل إعطاء فرصة أخرى لعواطف التأليه؛ فالذات
المشخصة تمثل القيمة المطلقة ولا تفعل إلا الخير، فلا
يرزق الله إلا الحلال، كما يدل على رغبة في البحث عن
أساس نظري للفعل خارج الفعل ذاته وبعيدًا عن الموقف
الإنساني الذي يحدث فيه الفعل، فهو سؤال يقوم على
افتراض الجبر وعلى إمكانية تدخُّل قدرة مشخصة من تقدير
الإنسان للموقف وسلوكه فيه، وكيف يكون الحرام رزقًا
وهو يستحق عليه العقوبة؟ وكيف يكون الحرام رزقًا خاصة
وأن كل ما هنالك هو أنه يستحق العقوبة؟ ولماذا لا يمنع
الرزق الحرام من الأساس؟ إن اعتبار الحرام رزقًا يفصل
بين الواقع والقيمة، ويكون ذريعة للكسب الحرام
واعتباره رزقًا، إن الدفاع عن الرزق الحرام وجعْله
جزءًا لا يتجزَّأ من الرزق يُعطي ذريعةً للمجتمعات
الحالية لتحليل الحرام وتحريم الحلال، وهي التي تعاني
من أوضاع الفقر والغنى، والشبع والجوع، والاستغلال
والاحتكار، إن الحلال والحرام من المسائل الاقتصادية
يفيدان معنى الفعل القائم على الجهد والقيمة في مقابل
الفعل القائم على الاستغلال، كما يشيران إلى قوانين
السوق وقواعد الكسب ونظم الاقتصاد وقوانين الدولة، إن
الذي يسمح بالتلاعُب في الأرزاق والأسعار والتحايل على
القوانين من أجل سلب الغير عملَهم ومن أجل استغلالهم
هي طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي
يعيش فيه الإنسان ومدى ولاء الإنسان له أو تحايلِه
عليه وتمثيله لحقوقه أو استغلاله، وليس قوة خارجية
تمنع الفاضل منه وتدفع الشرير نحوه، هو النظام الذي
يعيش الإنسان فيه والذي يعمل الإنسان إمَّا على إبقائه
أو على تغييره، إن الحديث عن الرزق الحرام باعتباره
رزقًا هو إحساس بفعل الاستغلال إمَّا نفيًا أو
إثباتًا، نفيًا بالإيحاء بالاقتراب عنه وإثباتًا
بالإيحاء بالابتعاد عنه طِبقًا للمثل الشعبي «يكاد
المريب يقول خذوني»، ومهما كانت هناك من حجج عقلية
فإنه يبدو فيها التشريع للنهب والسلب مثل الاعتماد على
أن ما أكلتْه الدابة وما أخذه اللص رزق، فالإنسان ليس
دابةً وليس لصًّا، الإنسان ذو عقل ووعي وعمل وجهد،
وكيف تُدافع الأشعرية عن الرزق الحرام دون التأكيد على
أن الرزق الحلال وحده هو الرزق، وهل انعدم الرزق
الحلال وعم الرزق الحرام؟ وماذا عن المحرومين الذين
ليس لديهم لا هذا ولا ذاك، لا رزقًا حلالًا ولا رزقًا حرامًا؟
٥٩ وكيف يرزق الله الحرام؟ لذلك استعمل
المتأخرون مفهوم الحلال المباح الذي لا يُبحث عن أصله
واعتباره رزقًا هكذا بفعل الوجود، ثم تضفي عليه
الشرعية ويصبح مباحًا بنص أو إجماع أو قياس جلي حتى
يحدث الاطمئنان الداخلي الإيماني الشرعي الضروري للوضع
الخارجي الاجتماعي اللاشرعي. فتحدث السرقة باسم الدين،
ويتم الكسب الحرام تحت غطاء الإيمان، والحاكم مطمئن
والمحكوم قانع.
٦٠ لذلك كان من الطبيعي أن يكون الرزق هو
الحلال وحده دون الحرام توحيدًا بين الشيء والقيمة،
فالحرام ليس رزقًا يتغذَّى به الجسم كموجود طبيعي. ليس
الرزق هو المواد الغذائية، بل طريقة كسبها والعمل
وراءها، أي أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج قبل أن يكون
هو الشيء المنتج، ليس الرزق غذاءً وملكًا، أي غذاءً
ومسكنًا وملبسًا، ما يدخل في بطن الإنسان، وما يكون
فوقه أو تحته أو يمينه أو يساره أو أمامه أو خلفه.
الرزق هو جهد الإنسان ونتيجة عمله وفائض قيمته، ليس
الرزق ما يقيم الأَوَد فحسب، بل هو أيضًا رغد العيش
ورحابة الحياة رفعًا لمستوى الفقراء ومساواة لهم
بالأغنياء لو وُجهت الدعوة إلى الجميع فقراء وأغنياء
وليس إلى الأغنياء وحدهم، إن الذي يحدِّد كون الكسب من
الجهد الذاتي أو من الاستغلال للآخر هي الأوضاع
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو ما لم يتعرَّض
له القدماء قصدًا لأنها من الفروع أو من المطولات،
وكأن الأصول هي مجرد الموضوعات النظرية الخالصة كالذات
والصفات، وأن كل ما يمسُّ صالح الناس من المطولات،
ويكفي أنها من اختصاصات الله أو السلطان، والحقيقة أنه
يمكن معرفة منطق أحكام الشعور الاجتماعي، الأرزاق
والأسعار، وما يتعلَّق بها من نشاط اقتصادي وتوزيع
الثروات ومعرفة مظاهر الاغتصاب والاحتكار والاستغلال.
وبالتالي يكون علم أصول الفقه أقرب إلى تحقيق التوحيد
من علم أصول الدين عند الأشعرية.
٦١
والمعنى الثالث للرزق هو المنتفع به؛ فالرزق ما ينفع
الإنسان ولا يرزق الإنسان ما يضره، ولكن ما مدى هذا
الانتفاع وحدوده؟ متى يتحول الانتفاع إلى أثرة وأنانية
واستغلال؟ وهل ترتزق البهائم لمجرد انتفاعها؟ وما هي
شروط الانتفاع؟ هل يجوز الانتفاع بما ليس ملكًا؟ هل
يجوز الانتفاع بالاغتصاب وهل كل انتفاع رزق؟ هل
الأطعمة والأشربة والأقوات رزق أم حق طبيعي؟ ومع ذلك
قد تبدو للانتفاع بعض المزايا على تحديد الرزق بالمعنى
الأول، أي بالملكية؛ إذ إنه يمنع الاحتكار لأنه ملكية
بلا انتفاع، وهو أقرب إلى تحديد المعنى الشرعي للملكية
بأنها حق التصرف والاستثمار والانتفاع، وتعريف الرزق
بالانتفاع هو تنويع على تعريفه بالملكية؛ فالرزق
اثنان، انتفاع وملك، مشاع وخاص.
٦٢ وينقسم الرزق إلى عدة أنواع؛ منه ما هو
ظاهر على الأبدان كالأقوات، ومنها ما هو باطن في
القلوب كالعلوم والمعارف، والأرزاق المقصودة فقط من
النوع الأوَّل لأنها تتعلَّق بأفعال الشعور الخارجية
وبأفعال الوعي الاجتماعي.
٦٣ وقد تكون الغاية من ذلك الإيحاءُ بأن
الرزق هو العلم، رزق القلب وليس هو الأجر والكسب أي
الرزق الخارجي، رزق الجوارح، وبطبيعة التكوين الديني
تؤثِر العامة رزق القلوب على رزق الجوارح، وتفضِّل
العلم على الكسب تعويضًا عن جهلها راضيةً بفقرها،
أمَّا قسمة الرزق إلى ما يحدث ابتداءً من الله بالإرث
وما يحدث كسبًا من العبد، فإنه يجعل القسم الأعظم من
الرزق خارج التساؤل؛ لأنه هبة للوارث من الله أو من
الأب، أمَّا القسم الثاني وهو الأقل فإنه متروك
للتوكل، فما لم تقضِ عليه الأشعرية قضى عليه التصوُّف؛
فالطلب والجهد والكسب والعمل قبيح؛ لأنه ضد التوكُّل
ولأنه قد يوقع في الخطأ وفي ظلم الناس؛ فالأولى إذن
عدم الطلب والكسب.
٦٤ والحقيقة أن الرزق الأوَّل لم يأتِ عن
طريق الجهد والكسب، والإرث احتمال قد يقع وقد لا يقع
بدليل الصياغة الشرطية له في أصل الوحي، كما أنه في
الأوضاع القائمة وحاجة الأمة إلى الاستثمار يصعب ترك
مال دون استثمار، وإذا كانت الأنبياء قدوة، فإنها لا
ترثُ ولا تُورَّث؛
٦٥ لذلك قامت الحركات الإصلاحية الحديثة بنقد
التوكل في التصوف دون أن تذهب إلى جذوره في العقيدة في
علم أصول الدين، وفي أصل الوحي صحيح أن الرزق فعل الله
كحقٍّ نظري وكنتيجة للخلق إلا أنه مشروط ﺑ«لو» التي
تعبر عن الاستحالة، كما أنه مشروط بالهجرة والجهاد
والتقوى والإيمان والعمل الصالح والمغفرة، هدفه الشكر
وليس الاغتناء عن طريق الاغتصاب وأكل المال الحرام،
وهو أيضًا فعل للإنسان في الكسب الحلال دون الحرام،
ينفق منه الإنسان دون اكتناز حتى يأخذ المال دورته في
الاستثمار مما يحقِّق النفع العام.
٦٦
(٢-٣) الأسعار
وهو أقل الموضوعات تناولًا من الآجال والأرزاق، مع
أنه هو الذي يكشف التلاعب في الأسواق وأسباب زيادة
الأسعار، ومشاكل التضخم والبطالة والفقر كلها ترجع إلى
غلاء الأسعار، وهو الذي يحرِّك الجماهير؛ لأنها تمس
لقمة العيش والحياة اليومية.
٦٧ لم يتناولها القدماء إلا لأن الله هو الذي
يحدِّدها وليس السوق، وكأن الله هو الذي ينزل إلى
الأسواق وإلى تجار الجملة ويتحكم في الأسعار من أجل
مزيد من الربح، وغالبًا ما يكون التحكم في طريق
الزيادة أي ارتفاع الأسعار ولا يكون أبدًا من أجل
خفضها أي رخص الأسعار، وكأن التحكم الإلهي في الأسعار
يسير طبقًا للتضخم وارتفاع مستوى المعيشة باستمرار،
ولصالح التجار ضد مصالح المستهلكين، وما دام الرزق
يكون حلالًا أو حرامًا، فإن الأسعار بالتالي تكون أحد
مصادر الرزق الحرام، فكل ارتفاع في الأسعار يدخل في
جيوب التجار فهو ربح، وكل ربح رزق، وكل رزق يُنتفع به
بصرف النظر عن الحلال والحرام!
٦٨ ويتم الاعتماد في ذلك على بعض الأحاديث
الآحاد أو الضعيفة التي يمكن تأويلُها على معنى آخر،
وهو عدم إزعاج المسلمين بارتفاع الأسعار وخفضها؛ بعثًا
للطمأنينة في نفوسهم ولاستقرار الأسواق أو طبقًا
لقوانين السوق وحاجات المسلمين وكما هو مقرر في علم
أصول الفقه في أحكام السوق، والمعنى الحرفي للنص معارض
بالاقتصاد الإسلامي وحق الحاكم في التأميم والمصادرة
للمال المستغل دفاعًا عن المصالح العامة.
٦٩
الأسعار من أفعال العباد ومن وضع الناس طبقًا لحاجات السوق.
٧٠ وهناك فرق بين السعر والثمن؛ فالسعر اتفاق
بين المشتري والبائع في حين أن الثمن هو علاقة السعر
بقيمة الشيء، الأسعار تعلو وتهبط طبقًا للحاجة، ولكن
الثمن يظل كما هو، ويمكن التحكُّم في الأسعار بقوانين
السوق ووضع حدود على الربح فيما عمت فيه الحاجة، فإذا
ما تم التوحيد بين السعر والثمن يحدث البيع بسعر
التكلفة دون هامش للربح، ويعظم الربح ويتحول إلى
استغلال للتجارة كلما زاد الفرق بين السعر والثمن،
وتحول الثمن في السعر إلى أضعاف مضاعفة.
٧١
وإذا ما جعل التسعير من أفعال العباد أمكن معرفة
أسباب الغلاء والرخص التي رآها القدماء في عاملَي
البلد والوقت فقط؛ أي المكان والزمان، دون بيان لأنماط
الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وكأن المكان والزمان هما
المحددان الوحيدان لمظاهر النشاط الاقتصادي في
المجتمع، أمَّا قانون العرض والطلب إن لم يكن هو
المقصود بعامل الوقت فما زال من الله ولا يتوقَّف على
حاجة السوق وكمِّ المعروض، وإذا كان السلطان قادرًا
على التحكُّم في التسعير وذلك بتثبيت الأسعار، فهنا
يظهر الله والسلطان
معًا متداخلَيْن في النشاط الاقتصادي دون ما تحليل
للنشاط الإنساني في الإنتاج وللبنية الاجتماعية وأثرها
في توزيع الدخول.
٧٢ وهل النشاط الاقتصادي كله مركَّز في
الأسعار؟ ماذا عن الإنتاج والأجر ورأس المال والربح
وتوزيع الدخل ومقدار العمل كقيمة للشيء؟ يبدو أن تحديد
الأسعار فيها كان عند القدماء هو الوسيلة الأولى
للتحكُّم في الأسواق في المجتمع التجاري القديم،
والعجيب أنه في أصل الوحي لا وجود لمفهوم السعر، أمَّا
الثمن فلا يعني إلا القليل.
٧٣
(د) الفقر والغنى؛ وهو الموضوع الأخير في خلق
الأفعال، وأحيانًا يكون الغنى والفقر، يبدو أحيانًا
أصلًا مستقلًّا، ويبدو أحيانًا فرعًا على الأرزاق، وهو
موضوع اقتصادي يُظهر البعد الاجتماعي لأفعال الشعور
والأوضاع الاجتماعية الناتجة عنها، وقد وضعه القدماء
في صيغة تفاضل، أيهما أفضل: الفقر أم الغنى، دون تحديد
لمعاني الفقر ومعاني الغنى، ودون وصف للبنية
الاجتماعية التي يظهر فيها الفقر والغنى، ودون تحليل
لأسبابهما أو لمقدارهما أو لكيفية التقريب بينهما أو
تركهما على ما هو عليه، يوضع السؤال هكذا على العموم
دون تفصيل، وعلى الإطلاق دون الإشارة إلى مجتمع معين
أو حالة معينة، فالتفضيل نظري خالص، وكأن الأمر مجرد
استحسان وتذوق لحالَيِ الغنى والفقر كما هو الحال في
الأمثال العامية والآداب الشعبية التي تقرظ الفقر أو
تلك التي تمدح
الغنى، والحقيقة أنه لا يمكن التفاضل بين مقولتين
مجردتين، الغنى والفقر، أو حتى بين شخصين معينين،
الغني والفقير؛ لأنهما وضعان اجتماعيان يوجدان في زمان
ومكان معينين، وقد يوجد فقير مناضل ثوري، وغني مستغل
محتكر، وفي هذه الحالة يكون الفقير الأوَّل أفضلهما،
وقد يوجد فقير كسول خامل متواكل، وغني نشط منتج يستثمر
أمواله للصالح العام، لا يحتكر ولا يستغل ولا يكتنز،
وفي هذه الحالة الغني الثاني أفضل.
٧٤ وماذا يعني الغنى؟ هل هو غنى المال أم
النفس أم الحق أم النبوة؟ وما هو الفقر؟ قد يكون الفقر
هو فقر النفس والروح والعقل والقلب. وما هي حدود الغنى
وحدود الفقر؟ كل غني يريد أن يزيد غناه فهو فقير، وكل
فقير يزداد فقرًا كان غنيًّا من قبل ثم افتقر، ما هو
الحد العاقل بين الغنى والفقر؟ هل هو خط الفقر؟ هل هو
إشباع الحاجات الأولية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن؟
وماذا عن طبيعة المجتمع ومقدار الدخل القومي فيه؟ إذا
كان ناتجُه القوميُّ ضئيلًا وسكانُه كُثر. فالكل فقير،
وإذا كان سكانه أقل يزداد الدخل الفردي، وإذا كان
الدخل القومي مرتفعًا والعدد كثير فالكل غني، وإذا كان
سكانه أقل فالكل أيضًا غني ولكن بدرجة أقل، ليس المهم
التفاضل في الآخرة بل في الدنيا، التفاضل في الآخرة
جزاء وثواب، في حين أن التفاضل في الدنيا كسب وعمل،
الأوَّل لا يمكن تغييره في حين أن الثاني يجب تغييره،
والأول مشروط بالثاني لما كان الجزاء من جنس العمل
طبقًا للاستحقاق، والتفاضل في الدنيا أساسًا في العمل
وليس بالغنى أو الفقر، قد يؤدي العمل إلى الغنى، ولكن
يكون الغنى في هذه الحالة مشروطًا بقيمة العمل من
ناحية وبمقدار الإنتاج والدخل القومي من ناحية أخرى،
فلا يمكن لعملٍ أن يؤدي إلى غنًى في بلد محدود الدخل
مهما كان هذا العمل فاضلًا، ولا يمكن لعمل فاضل أن
يؤدي إلى فقر أو إلى ما تحت خط الفقر، وهل اعتبار
العمل الصالح مقياسًا للتفضيل وليس الفقر أو الغنى
هروبًا من النشاط الاقتصادي إلى العمل الأخلاقي، أو
إيهامًا للفقير بأنه أفضل من الغني بالعمل الصالح وبأن
الغني أشر منه بعمله الفاسد؟ ولماذا لا تُطرح قضية
العدالة الاجتماعية مباشرةً في مجتمع به الأغنياء
والفقراء لإعادة توزيع الدخل القومي طبقًا لقيمة العمل
وحده؟ ليست المشكلة أخلاقية، بل هي مسألة اقتصادية
تعبِّر عن مضمون العقيدة وعن مضمون التوحيد، ولا توجد
حجج نصية لها فحسب، بل تقوم على تحليل النشاط
الاقتصادي في المجتمع ونسبته إلى العمل والقيمة والربح
والدخل.
ومع ذلك فقد أجاب القدماء على الأخلاق بأفضلية الغنى
على الفقر، وأن الغني مطالبٌ بالشكر، وأن الفقير الذي
لا غنى له مطالبٌ بالصبر،
٧٥ وكيف يكون الغني الشاكر خيرًا من الفقير
الصابر؟ وهل الشكر على الغنى فضيلة أم تستُّر على
مصادر الغنى طلبًا للمزيد؟ وهل الصبر على الفقر فضيلة
أم تسكين وتخدير للفقراء؟ وكيف يتساوَى الاثنان في
التقوى؟ وهل تقوى الغني صادقة أم ظاهرة؟ وهل تقوى
الفقير ممكنة أم عزاء وسلوان وتعويض عن حرمان؟ ألَا
تعني الاستعاذة من فتنة الفقر وفتنة الغنى ضرورة تغيير
الأوضاع الاجتماعية ودرء الفتنتين معًا، فتنة الغنى
وفتنة الفقر؟ إن كل الحجج النقلية والتاريخية لتفضيل
الغنى على الفقر إنما يُردِّدها الأغنياء ترويجًا
للغنى وتأكيدًا عليه كفضيلة، فإغناء الله للرسول لم
يكن بالمال بل بالقناعة والزهد والعلم والنبوة، ولم
يكن كل الأنبياء أغنياء، بل كان فيهم الفقراء المعدمون
الذين لا يملكون شيئًا من حُطام الدنيا، ولم يكن
الصحابة أغنياء بل كان فيهم فقراء المهاجرين، وإن
إدانة الفقر ليست لطلب الغنى ولكن للصراع ضد الأوضاع
الاجتماعية التي تنتج الفقر ولتحقيق المساواة والعدالة
الاجتماعية بين الناس، وليست حرصًا على مكسب خاص أو
زيادة ربح أو تراكم ثروة شخصية لغني.
ويستحيل أن يكون في الغنى جمعٌ بين عبادة النفس
وعبادة المال، فلا بد أن تطغى الثانية على الأولى
ويتحوَّل الإيمان إلى ستار ليخفي عبادة المال، صحيح أن
المال الصالح ينتج مع الرجل الصالح، ولكن ما الضمان
على أن المال الصالح يكون باستمرار بين يدي الرجل
الصالح؟ إن المعروف اجتماعيًّا وتاريخيًّا أن المال
مَفْسدة، وأن المال
في غالبيته فاسد، بل ويُفسد الرجل الصالح، والمال
الصالح لا يكفي الرجل الفاسد، والأخلاقيات لا تغيِّر
من الوضع الاجتماعي والنشاط الاقتصادي والنظام السياسي شيئًا،
٧٦ وفي أصل الوحي يشير الغنى إلى أنه فعل
أكثر منه اسم، أي أنه نشاط أكثر منه شيء، وهو وإن كان
فعل الله إلا أنه أيضًا فعل الإنسان، فالغنى صفة لله
ومطلب للإنسان، ولكن معظم الاستعمالات الفعلية نافية؛
فالغنى والكسب والمال والأولاد والمتاع كل ذلك لا
يُغني. والنذر والشفاعة والمولى والآلهة كلها لا
تُغني، فالغنى زائل. ويظهر البعد الاجتماعي للموضوع في
حثِّ الأغنياء على التعفُّف وعلى ضرورة دورة المال في
المجتمع دون أن يكون حكرًا على حفنة من الأغنياء.
وأموال الأغنياء وإنفاقها في الحرب ضرورة لا استئذان فيها.
٧٧
وكيف يكون الفقر أفضل من الغنى، والفقير أفضل من
الغني؟ كيف يكون الفقير الصابر خيرًا من الغني الشاكر؟
ألا يعني ذلك بقاء الفقير في فقره واستمرار الغني في
غناه؟ ولماذا لا يكون الفقراء أفضل من الأغنياء لا
بمعنى التسكين والتخدير، ولكن لثورتهم على الأغنياء
ومطالبتهم بحقوقهم ولتحقيق مجتمع العدل والمساواة. فهم
أكثر إنتاجًا وجهدًا وعملًا ومقاومةً. والأغنياء أكثر
بطالةً ورخاءً وبطنةً وترهلًا. ولا تعني أفضلية
الفقراء على الأغنياء دخولهم الجنة قبلهم، بل تغيير
حالهم في الدنيا. كما لا تعني أن الإنسان يولد فقيرًا
ويعيش فقيرًا ويموت فقيرًا، وأنه قد استغنى عن الغنى،
فالاستغناء عن العالم المادي ليس تخليًا عن المبادئ
فيه. والزهد في العالم ليس انعزالًا عنه، بل تقوية
للنفس واستعدادًا للجهاد كنوع من البساطة وضرب المثل
لجماهير الفقراء بشظف العيش وقدوة للناس. وإن الدعوة
بالحياة مع المساكين والموت والبعث معهم إنما تعني
الالتحام بجماهير الأمة، وبأغلبيتها الصامتة وأن تكون
القيادة معهم مثلهم كالسمك في الماء وليست أعلى منهم
تتكسَّب على قضاياهم وتعيش على حسابهم؛ ولذلك كان
الأنبياء فقراء باعتبارهم قادة أمم ومحرري شعوب. قد
يسعد الغني بغناه في الدنيا، ولكن إذا ما قامت ضده
الثورة فقط تُطاح الرقاب. وشقاء الفقير في الدنيا إنما
هو مؤقَّت ريثما تتحقَّق العدالة والمساواة. وهناك
عالم يتساوى فيه الجميع ليس فقط في الآخرة ضرورة بل في
الدنيا إمكانًا.
٧٨