إن الحسن والقبح صفة للأفعال الإرادية القصدية، الأفعال
الشرعية وليست الأفعال اللاإرادية اللاقصدية، أفعال الساهي
والنائم. ولا يكفي تحديد الفعل بأنه الكائن بعد أن لم يكن
لغياب عنصرَي الإرادة والقصد. أمَّا الفعل الطبيعي فهو بوجوده
قصد الطبيعة وإرادة الغاية. القصد ضروري لوجود الفعل وليس مجرد
النفع والضرر بلا قصد. الحسن والقبح صفتان للأفعال الإرادية
الواعية العاقلة. والأفعال التي تتصف بالحسن أو القبح هي
الأفعال الإرادية الواعية، والأفعال الإرادية الواعية هي
الأفعال التي تتعلق بها أحكام الحسن والقبح، وهي الأحكام
الشرعية؛ لذلك ارتبط موضوع الحسن والقبح كنتيجة بموضوع الحرية
كمقدمة، فلا حسن وقبح في الأفعال إلا بعد حرية الأفعال؛
وبالتالي كان القول بالجبر إنكارًا لحسن الأفعال وقبحها نظرًا
لوقوع الأفعال طبقًا لإرادة الله وأمره دون إعمال العقل ودون
إدراك لصفات الأفعال والتمييز بينها؛ لذلك يستحيل الحكم الخلقي
في نظرية الجبر لعدم وجود معيار للحكم الذي لا يصدق إلا على
الفعل الحر. يتطلب الحكم الخلقي التفرقة بين الذات الفاعلة
والموقف حتى يكون الحاكم غير المحكوم، والخبر يخلط بينهما.
العلم والقصد شرطان لصحة الحكم.
٢ وإذا كانت الأفعال إمَّا ملجأة بقوة الدواعي أو
تكون مخلًى بينهما وبين فاعليها، فإنها في كلتا الحالتين تكون
حسنة أو قبيحة؛ فالأفعال الملجأة بطبعها أفعالٌ حسنة لأنها
تعبر عن قوة الهدف وتمثل المبدأ. ولما كانت الطبيعة خيرة
فالأفعال الملجأة أفعالٌ حسنة، والطبيعة هنا هي الطبيعة
العاقلة وليست طبيعة الهوى.
٣ وليس السؤال عن صفات الأفعال هل هي خارجية من
الأحكام أم داخلية في تكوين الأفعال سؤالًا عن الحسن والقبح
عامةً بل الحسن والقبح في الأفعال الشرعية. وهذا هو الخلاف بين
الأشاعرة والمعتزلة، بين الاختيارين السابقين. ولا ينكر أحد
إمكان معرفة الحسن والقبح في الأفعال عامة وإلا كان إنكارًا
للإنسان ذاته وعقله البديهي ونوره الفطري. الفعل الحسن أو
القبيح ليس فعلًا مطلقًا، ولا هو فعل من جنسٍ مطلق، بل هو فعل
يجمع بين الخاص والعام. هو فعلٌ خاص لأنه موجود جزئي وليس
عامًّا لأن الصفات تختلف حسب الصفات الجزئية. هو فعل عام لأن
الأفعال الخاصة تجعلها صفاتٍ عامة هي صفات الحسن والقبح؛
فالفعل لا يحسن أو يقبح لجنسه فقط ولا لعينه فقط، بل لأنه فعلٌ
خاص وعام. ليس الحسن والقبح معاني مجردة يدركها الإنسان لا في
مكان ولا في زمان، وليسا أفعالًا ضروريةً جزئيةً خالصةً ولا
يشاركان أفعالًا أخرى في زمانٍ آخر ومكانٍ آخر. الصفات العامة
حالة في الأفعال الفردية. الحسن لذاته والقبح لذاته حامل للعام
في الخاص وللشامل في الجزئي، وللمعنى في الفعل، وللصفة في
الشيء. تشترك أعمال الظلم الفردية في الظلم كمعنًى أو كصفة،
وكذلك تشترك أفعال العدل كصفة أو معنى. وبالتالي يمكن إدراك
الأفعال الحسنة والقبيحة تحت أجناسها وهي ليست كالأفعال
الشرعية الخالصة التي هي أفعالٌ خاصة طبقًا لقدرات الفرد وأحواله.
٤
(١) هل يمكن إنكار صفات الأفعال؟
إن إنكار صفات الأفعال من طبيعة الأفعال هو إلحاق لها
بأحكامها، أي بإرادةٍ خارجية هي إرادة الحاكم. فإذا تغيرت
الإرادة تغيرت الصفة. الفعل الحسن هو مستحق المدح والفعل
القبيح هو مستحق الذم، فالأفعال تعرف بأحكامها وليس بصفاتها.
٥ ومعظم الأدلة التي يقوم عليها هذا الرأي
ضعيفة. فلا يعني وقوع الأفعال اضطرارًا أنها لا صفات لها
من حسن أو قبح لأنها تصف الأفعال الاختيارية وليس الأفعال
الاضطرارية، سواء كان هذا الاضطرار بدنيًّا أو اجتماعيًّا؛
فحرية الأفعال شرط اتصافها بالحسن والقبح، وإن تفاوت
الصفات في الأفعال بين الخفة والثقل لا ينفي الصفات بل
يثبت ارتباطهما بالأفعال وبالقدرة عليها وفي دخولها فيما
يُطاق. كما أن تغير الفعل من حسن إلى قبيح مثل القتل قد
يكون ظلمًا في حالة الاعتداء وعدلًا في حالة الدفاع عن
النفس، لا يعني إنكار الحسن والقبح الذاتيين، بل يعني أن
الأفعال تتم في موقف، وأن الصفة تكون في موقف، وأن الأفعال
تتحدد في موقف. لا يعني تغيير الأفعال إنكار الصفات
الذاتية، بل تغير الظروف والقاعدة باقية. كما أن اختلاف
الأفعال بين النية الأولى والإرادة المسبقة وبين الأفعال
بعد تحققها لا يرجع إلى نفي الصفات، بل إلى المسافة بين
النية والفعل، بين القصد والمتحقق. فالأولى أكثر رحابةً
وإمكانيةً واتساعًا من الثانية. النية تحتوي على عدة
احتمالات، في حين أن التحقق لا يكون إلا احتمالًا واحدًا.
كما أن اختلاف الحكم عن الواقع لا يعني نفي الصفات، بل
يعني فقط الصدق أو الكذب المنطقي بالمعنى التقليدي، أي
اتفاق الفكر مع الواقع أو المفهوم مع الماصدق. وقد يعني
الصدق والكذب في الخبر ككل وليس في كل حرف أو في كل كلمة،
والصدق في الخبر مثل الصدق في المنطق يقوم أيضًا على
التطابق بين الخبر في القضية وبين الواقعة كحادثة. ولا
يتطلب وجود المعنى أن يكون قائمًا بمعنى، وهذا بثالث مما
يلزم قيام المعنى بالمعنى إلى ما لا نهاية، فذاك جدل يقوم
على التسلسل الطولي واستحالته نظرًا لضرورة وجود ما لا أول
له، وما لا آخر له، وهو فكرٌ دينيٌّ لاهوتيٌّ مقلوب وليس
حجةً عقلية وفكرًا منطقيًّا يقوم على بنية العقل ومنطق
الفكر المستقلِّ الدائري الذي لا يعتمد إلا على ذاته،
منطقٌ خالص لا يحتاج إلى وجود.
٦
والحقيقة أن إنكار الصفات الموضوعية للأفعال يؤدي إلى
هدم العقل والشرع وإنكار حرية الأفعال. فإذا نهى الله عن
العدل والإنصاف فإنه يكون قبيحًا، وإذا أمر بالظلم فإنه
يكون حسنًا يكون هذا قلبًا للحقائق، وهدمًا للعقل وللمعرفة
الإنسانية. إن إنكار موضوعية القيم وإلحاقها بإرادةٍ مشخصة
وقوع في النسبية الإنسانية المطلقة التي يدينها الوحي
والتي تؤدي إلى إنكار القيم واستقلال القوانين وثبوتها،
ويؤدي الأمر كله إلى تحكم الله في عالمٍ نسبي، يكون هو
المسئول عن نسبيته، بتبعية العالم لإرادته. كما أن اعتبار
الوجود خاليًا من القيمة لهو فضل للقيمة عن الوجود واعتبار
الوجود ماديًّا صرفًا والقيمة من خارجه.
٧ ويظل عقل الإنسان قاصرًا في حاجة إلى وحي
ليخبره عن الحسن والقبح دون ما اعتماد على العقل. ولما كان
العقل أساس الشرع بطلت الشرائع. كما لا يكون الله حكيمًا
عاقلًا، بل يخضع لمجرد إرادةٍ هوائيةٍ انفعاليةٍ صرفة وهو
ما يعني العبث. بل ويلزم اتصاله بالجهل لما كان الجهل ليس
قبيحًا في ذاته، مع أن وصفنا له بصفات الكمال إنما لأن
العلم والقدرة صفاتٌ حسنة في ذاتها.
٨ وقد سُميَّ الحكيم حكيمًا لاتصافه بالفضائل
واجتنابه الرذائل. ولو تشبه الحاكم بالله وأخذ مكانه
وتخفَّى وراءه وحكم باسمه ونفذ إرادته وكان خليفته كما هو
الحال في مجتمعاتنا المعاصرة فتضيع الحقائق وتخضع لإرادات
الحكام وقرارات الرؤساء. فالحسن ما يقرره الحاكم والناس
وراءه، والقبيح ما ينهى عنه الحاكم والمنظِّرون يُؤوِّلون ويبرِّرون.
٩ ونظرًا لغياب الصفات الموضوعية للأفعال فقد
يصبح الشيء حسنًا وقبيحًا في الوقت نفسه، يؤمر به البعض
وينهى عنه آخرون، وبالتالي تبطل العلل والصفات، وينتهي
الحوار والإجماع، ولا يتبقى إلا صراع الإرادات المتنافرة
والقوى المتصارعة، فنعيش في عالم القوة وليس في عالم
العقل. ويهدم الشرع إذ يمكن حينئذٍ أن يقوم على الجمع بين
الصفات المتناقضة، وأن يكون هذا الفعل حسنًا وذاك الفعل
قبيحًا بالرغم من اشتراكهما في الصفات نفسها، أو أن يكون
هذا الفعل حسنًا وذاك الفعل الآخر حسنًا، أو هذا الفعل
قبيحًا وذلك الفعل الآخر قبيحًا بالرغم من اختلافهما في
الصفات. وإذا استحال إدراك صفات الأشياء ومعانيها فإنه
يستحيل الاستدلال منها على الصانع. وأن وجود شيء ليس بذي
دلالةٍ حاضرة لا يعني أنه خالٍ من الدلالة في المستقبل.
فكل ما في هذا العالم للاعتبار، في كل شيء آية، ولكل شيء
معنى، ولا شيء بدون معنى وإلا كُنَّا في عالم العبث واللامعقول.
١٠ فإن كان في إنكار صفات الأفعال الذاتية قضاء
على العقل وهدم للشرع فإن فيه أيضًا هدمًا للحرية لما كان
الفعل اتفاقًا مع الأمر دون الإرادة؛ وبالتالي يكون هدمًا
كليًّا وشاملًا لأصل العدل بشقَّيه، الحرية والعقل. إن
إنكار موضوعية القيم واستقلال القوانين الخلقية لتضحية
بالوضع الإنساني في إثبات الحق الإلهي على حساب الإنسان؛
فهي خيانة للإنسان وجنابة عليه، وتقرب إلى الله وزلفى
إليه.
(٢) إثبات صفات الأفعال
الحسن والقبح صفتان للأفعال وليسا مجرد أوامر ونواهيَ
خارجية تعبيرًا عن إرادةٍ مطلقة، يتغيران بتغيرها، بل وكل
منهما صفةٌ مستقلة لا تتحدد إحداهما بغياب الأخرى أو
بالغلبة عليها.
١١ لا يعني الحسن مجرد غياب القبيح كما أن القبيح
لا يعني مجرد غياب الحسن. الحسن حسن لصفةٍ زائدة على
الفعل، والقبيح قبيح لصفةٍ زائدة على الفعل. الحسن صفةٌ
زائدة، ولا يأتي تعريفه بالرجوع إلى أحكامه، بل إلى الفعل
ذاته. الأحكام تالية للصفات والصفات سابقة على الأحكام
وأساس لها.
١٢ الصفة الزائدة على وجود الفعل والتي يكون بها
الفعل حسنًا أو قبيحًا هي ما سماه الأصوليون العلة
بأقسامها المختلفة، المؤثرة أو المناسبة أو الملائمة والتي
حاولوا معرفتها بطرق استقصاء العلة المعروفة في أبحاث
القياس والاجتهاد. هذه الصفات الزائدة ليست عقلية مجردة بل
مواقفُ حسيةٌ كما هو الحال في العلل في علم الأصول. وتعليل
الأحكام ضروري لاكتشاف الأساس الواقعي للنص وبالتالي يكون
إنكار صفات الأفعال إنكارًا للتعليل وهدمًا لعلم الأصول.
وتوجد الصفة الزائدة في الأفعال التي تستحق المدح أو الذم
عند الفعل أو الترك مثل الواجب والمندوب والمكروه والمحرم.
أمَّا المباح فليس له صفةٌ زائدة يتعلق بها حكم بل حكمه في
وجوده وشرعيته في طبيعته. الصفات الزائدة في الأوامر
والنواهي المطلقة مثل الواجب والمحرم، أو الاختيارية؛
المندوب والمكروه. أمَّا المباح فحسنه في فعله لا في صفته،
في طبيعته لا في حكمه.
١٣ والذي يميز بين الحسن والقبح، وبين الواجب
والمحرم هي الصفات الموضوعية الزائدة على وجود الأفعال،
وهما مستقلان عن المدح والذم والثواب والعقاب، صفتان
للأفعال بصرف النظر عما يترتب عليها من نتائجَ خارجة عن
الفعل. ولا تعارض بين إثبات الصفات الموضوعية للأفعال وبين
كونها حسية تقوم على جلب النفع ودفع الضرر. بل إن هذه
الصفات الزائدة يمكن معرفتها عن طريق إفادة النفع ودفع
الضرر وتحقيق المصالح ودرء المفاسد وتكليف ما يُطاق. يختار
الإنسان إذن الحسن لذاته ويترك القبح لذاته، لا جلبًا لنفع
أو دفعًا لمضرة، وكذلك أفعال الله لأنه غني عن النفع
والضرر، ومع ذلك قد يحدث عن فعل الحسن جلب منافع وعن ترك
القبح درء مضارَّ. وقد يحدث عن فعل الحسن درء مضارَّ وعن
ترك القبيح جلب منافع. فلا تعارض بين إثبات الصفات
الموضوعية للأفعال، الحسن لذاته والقبح لذاته، وكونها
حسيةً مادية. المهم أن يكون النفع والضرر من الفعل ذاته
وليس من إرادةٍ خارجية، وتكون مشروطة بالفعل وليس بإرادةٍ
خارجية، وتكون ثابتة ودائمة ثبات العقل ودوامه وليست
متغيرة بتغير الإرادة، لا يحكمها قانون ولا تقوم على عقل.
هناك إذن إمكانية في التعريف العقلي للحسن والقبح لإثبات
موضوعية الصفات دون الوقوع في الصورية الفارغة. الملاءمة
والمنافرة حسيتان، والمدح والذم شرعيان في حين أن الكمال
والنقص العقليين تدركهما كل العقول ويتسمان بالشمول،
والشمول يقتضي الموضوعية.
١٤ الحسن والقبح إذن صفتان ذاتيتان للحسن والقبح،
ومع ذلك قد يكونان كذلك لمعنى أو لعلة في الفعل نفسه وليس
معنى أو علة خارجًا عنه زائدًا عليه.
١٥ فشمول العقل لا يقضي على بنية الفعل وتحققه في
موقف. وجلب النافع ودفع الضار لا يقضي على وجود الصفات
والمعاني المستقلة عن الأفعال حتى يمكن تعميمها والمشاركة
فيها؛ فالصفات الخلقية صفاتٌ موضوعيةٌ موجودة في الأشياء
وليست مجرد إسقاطاتٍ ذاتية تختلف باختلاف أحوال الفرد
وثقافاته وعقائده وقيمه وتربيته وظروفه وحياته. وهي ليست
فردية فقط يمكن إدراكها بالعقل، بل هي أيضًا اجتماعية يمكن
إدراكها بالحس الاجتماعي المشترك. هي وصف للشيء وفي نفس
الوقت بنيةٌ اجتماعية له، صفة للفعل ووضعٌ اجتماعي كما هو
الحال في معاني العدل أو الظلم. ولا تختلف الصفة عند
الإنسان وعند الله، فالصفة واحدة لا تتغير، العدل عدل عند
الله والإنسان، والظلم ظلم عند الإنسان والله، «ما رآه
المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» على ما هو معروف أيضًا
في علم أصول الفقه. لقد بلغت قمة العقلانية في نظرية الحسن
والقبح العقليَّين في إثبات أن الأشياء ذاتها ليست أشياءَ
محضة بل هي أشياء وقيم وأن حكم الواقعة هو ذاته حكم
القيمة. الواقعة قيمة والقيمة واقعة، وكلاهما موجودان في
الفعل. في الحسن والقبح، وفي الأخلاق والجمال يقوم اعتبار
الصفات في الأشياء على افتراض التوحيد بين الذات والصفات؛
فتكون الذات في هذه الحالة هي الجوهر. الشيء حسن لأن فيه
صفات الحسن، وقبيح لأن فيه صفات القبح، في حين يقوم اعتبار
الصفات خارجة على الأشياء على افتراض الفصل بين الذات
والصفات، وأن الصفات زائدة على الذات وأنها من مصدرٍ آخر
غير الذات نفسها. وهناك حججٌ عديدة لإثبات الصفات المستقلة
للأفعال. فالنهى دلالة على القبح، والقبح أصل النهي. يعطي
النهي الإدراك الحدسي ويعطيه القبح الدليل العقلي. والحدس
أيضًا قادر على إدراك القبح العقلي أحيانًا لدى الشعور
اليقظ وفي لحظات الصفاء.
١٦ ولا تتوقف معرفة الحسن والقبح معرفةً حدسية
على تصور العالم أو على الإيمان بمبدأٍ عام؛ وذلك لأنها
معرفةٌ واقعيةٌ قائمة على إدراكٍ مباشر للأمور. وإن لم
يتقدم العلم بالقبح على النهي لما كان هناك كمال للعقل
ولما صحَّ النظر والاستدلال. فمن كمال العقل العلم
بالقبائح. ولو كان العلم بها عن طريق الأمر والنهي لتساوت
في الخفاء والجلاء. وهي ليست كذلك مما يدل على أنها من
إدراك العقل الذي يختلف الناس فيه بين الجلاء
والخفاء.
ولا يعني شمول الحكم الخلقي تغييره حسب أوجه الأشياء أو
وقوع في النسبة؛ فالقبائح قبائح لأنها تقع على وجه. وليس
الوجه مجرد وجهة نظر ذاتية في الشيء، بل جانب من جوانبه.
إن اختلاف الأحكام حسب الأوجه اختلافٌ وجودي وليس فقط
معرفيًّا، اختلافٌ موضوعي وليس فقط ذاتيًّا. ولا ترجع
عمومية الحكم أو الوجود الموضوعي للصفات وليس فقط ذاتيًّا.
ولا ترجع عمومية الحكم أو الوجود الموضوعي للصفات إلى
مبدأٍ عامٍّ خارجي أو إلى وجودٍ مطلق بل هو اقتضاءٌ
إنسانيٌّ خالص يجعل الحكم الخلقي أو الوجود الموضوعي
للصفات ممكنًا، وهو الواجب لصفةٍ زائدة. وكذلك يحسن الحسن
لوجه نفعًا بالنفس أو بالغير أو دفعًا لضرر بالنفس أو عن
الغير أو أمرًا بالحسن أو نهيًا عن القبح أو إرادة للحسن
وكراهة للقبح. وإذا اجتمع وجهان الحسن والقبح على فعلٍ
واحد، فالحكم لوجه القبح تفاديا للشبهات أو لوجه الحسن
فالأشياء في الأصل على الإباحة. وإن كان ندبًا فالحسن صفةٌ
زائدة تستحق الشكر، وإن كان كراهة فالقبح صفةٌ زائدة تستحق
الذم. أمَّا الواجب فله وجه معقول يجب لأجله وهو واجبٌ
معياري لا زيادة فيه ولا نقصان أقرب إلى الحكم الصوري،
وكذلك المحظور.
١٧
والصفات الذاتية للأفعال مستقلة عن حال الفاعل ووضعه
الإنساني، سواء كان مخلوقًا مربوبًا أم حزينًا بائسًا. ليس
الإنسان محدثًا أو مملوكًا أو مربوبًا أو مقهورًا أو
مغلوبًا على أمره حتى يكون قبيحًا، بل يكون فعله قبيحًا
إذا رضي أن يكون مملوكًا مربوبًا مقهورًا مغلوبًا. أمَّا
إذا ثار على الملكية والقهر والغلبة فإن فعله يكون حسنًا.
والإنسان السوي الذي لا هو قاهر ولا مقهور ولا غالب ولا
مغلوب، ولا مالك ولا مملوك، لا محدث ولا محدث تتضمن أفعاله
صفاتٍ موضوعيةً للقبح. تُنتزع الصفات منه بسبب أوضاعه
الاجتماعية ثم يستردُّها بفعله الحر. بل إن أفعال القهر
والغلبة والسيطرة لا تكون حسنة من الله لأنها مضادة
للإنسان، ونفي لحريته وقضاء على وجوده.
١٨ كما أن الصفات الموضوعية للأشياء مستقلة عن
الإرادة الذاتية للأفعال. فإرادة الفعل ليست العلم به،
والصفة المستقلة تأتي من العلم لا من الإرادة. وقد يعلم
الفاعل صفة القبح للفعل ويأتي به. كما قد يعلم صفة الحسن
للفعل ويأتي بفعلٍ قبيح. العلم صفةٌ موضوعية سواء كان
مشعورًا به أو غير مشعور به.
١٩ ولا تعني الإرادة القضاء على الصفات الموضوعية
للأشياء؛ فعلاقة الإرادة بالصفة ليست علاقة العلة بالمعلول
أو الشرط بالمشروط. إذا أسقطت المسألة على الذات المشخص
أصبح الحسن والقبح تعبيرَين عن العلم المطلق الموضوعي وليس
عن الإرادة المطلقة. وكما أن المعلوم له وجوده الموضوعي
بالنسبة لحال العالم فكذلك الحسن والقبح لهما وجودهما
الموضوعي بصرف النظر عن حال الفاعل سواء كان إنسانًا في
العالم أم إنسانًا مسقطًا مشخصًا في ذاتٍ متعاليةٍ مفارقة.
فالقياس لا يصح بين صلة العالم بالعلم ودوره الإيجابي في
تحويله من اعتقاد إلى يقين بالأدلة وحال فاعل القبح الذي
لا يجعل الفعل قبيحًا. أمَّا العلم بالنبوات فهو شرط الفعل
وليس شرط العلم. العلم شرط الفعل وليس شرط القبح. وإن
تأثير أحوال العالم في العلم والقدرة والإرادة ليس كتأثير
الفاعل للقبح. فالحالات الأولى من جنس العلم، بينما الثاني
من جنس الفعل. وإذا كان العالم يستحق المدح على علمه والذم
على جهله، فإن ذلك استحقاق فعل وترك، ولا يعني تأثير
العالم أو الجاهل في الحسن أو القبح. أمَّا تأثير الطاهر
أو الحائض في فعل الصلاة أو تركها فذلك شرط للعبادة وليس
كذلك فاعل الحسن أو القبح. أمَّا تأثير حال الفاعل في شرط
الفعل مثل العقل والبلوغ فذلك شرط للفعل وليس تأثيرًا فيه.
أمَّا الدواعي والغايات والمقاصد فهي من مكونات الفعل
وليست من مؤثراته. وكذلك خضوع الفاعل لله وطلبه القرب، أحد
الغايات والمقاصد. وكذلك تأثير حال اليقظة والنوم والتذكر
والسهو من شروط الفعل. وتأثير الإرادة شرط للفعل وليس كذلك
فاعل القبح، وكذلك فعل الصغائر والكبائر. وهذا لا ينفي
القول بأن لحال الفعل تأثيرًا في بعض أفعاله ولكنه فقط لا
يكون مقياسًا لفاعل القبح والقضاء على موضوعية الحسن والقبح.
٢٠
ولا يعني تغيير الأفعال طبقًا للظروف والأحوال تغيير
الحقائق ذاتها بل تبنِّي حقائق أخرى مثل الكذب في بعض
المواقف حرصًا على الحياة والكذب على الأعداء وخداعهم.
فالكذب يظل قبيحًا ولكن يدخل تحت قيمة أخرى أعلى وهي
الحفاظ على الحياة والدفاع عن النفس.
٢١ إن تغيير السلوك في المواقف لا يعني هدم
القانون العقلي العام أو الوجود الموضوعي للقيمة. وما
الحكمة في تصور الله ضد القوانين وضد الحقائق وضد القيم
دون مراعاة للظروف؟ إن كل شريعة مرتبطة بظروفها وأسبابها،
ولها غاياتها ومقاصدها. قتل من قتل في ظاهره قتل وفي
حقيقته حياة،
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ. ويظل قتل الناس وأخذ أموالهم
وإيذاؤهم وقتل المرء نفسه أو التشويه بها أو إباحة حرمة
الناس حقائقَ إنسانيةً ثابتة وعامة. وتعارض المعاني يشير
إلى سلم القيم وليس إلى إلغاء بعضها البعض. فموت الشهيد
حياة. وعلى الإنسان أن يختار بينها تفضيلًا وترجيحًا أقل
الأضرار وأكثر المنافع.
٢٢ لا يعني النسخ أي تغيير في الصفات العينية
للأشياء حتى ينجح التغيير ويتحقق. النسخ منهج في التغيير
من الناحية العملية وليس تغييرًا للمعاني من الناحية
النظرية. كما أن اختلاف الأحكام طبقًا للأوقات تحليلًا
وتحريمًا لا يعني تغييرًا في صفات الأشياء بل يعني تطورًا
في الوعي الإنساني ساهم في رقيه تطور الوحي منذ الإنسان
الأوَّل حتى العصر الحاضر. فنكاح الأخوات أيام آدم وعبر
التاريخ أصبح مُحرَّمًا اليوم؛ نظرًا لتطور الوعي الإنساني.
٢٣ ولا يعني اختلاف الشرائع باختلاف أوضاع
الأفراد نفي صفات الأفعال، بل تطابق الحكم مع الموقف.
فالحفاظ على حياة أهل الذمة والاكتفاء منها بالجزية ليس
كقتل المسلمين بناءً على الكفر. يحاكم المسلم نظرًا وعملًا
في حين أن الذمي يحاكم عملًا فقط.
٢٤
ولا يعني خلق الإنسان وخلق العقل أي نفي للصفات
الموضوعية للأفعال؛ لأنه لا يكون هناك شيء يعقل أو يوصف
قبل الخلق، أي إنكار لهذه الصفات فذلك تدمير لكل شيء. ليس
الحديث قبل الخلق بل بعد الخلق. وقبل الخلق لا نعلم عنه
شيئًا إلا إذا قمنا بقياس الغائب على الشاهد ونحن الآن بعد
الخلق، وما كان يمكن لهذا الحديث ولهذا التفكير أن يحدث
إلا بعد الخلق. فافتراض ما قبل الخلق من صنع الوهم وليس
العقل؛ وبالتالي لا يكون حجة. والقانون العقلي العام متضمن
في العلم وليس صفة عينية مشخصة لذاتٍ مشخصة بل مجموعة من
الأفكار والنظم والقيم أعطيت في الوحي وبُلِّغت للناس في
الرسالة. فلم يزل القبيح قبيحًا في علم الله ولم يزل الحسن
حسنًا في علمه. والقانون العقلي العام ليس قانونًا مشخصًا،
عقلًا كليًّا قديمًا أو ذاتًا مطلقةً أزلية بل هو قانونٌ
عقلي من ضرورة العقل وموجود بوجود الإنسان.
٢٥ وإن كان القول بإثبات صفات الأفعال إسقاطًا من
قانون العقل على الفعل فإنه ليس بأسوأ من إسقاط مظاهر
النقص الإنساني. ويظل على أية حال قانون العقل المسقط أقرب
إلى التنزيه.
٢٦ ولا يُسأل: من الذي حسَّن الحسن وقبَّح القبح
في العقول؟
٢٧ فلا يُسأل عن وظيفة العقل وكأن العقل موضوع
يحتاج إلى عقلٍ آخر يفعل فيه ويملي عليل المعقولات! هو
سؤال يقوم على سوء فهم لوظيفة العقل وجعله موضوعًا لا
ذاتًا. والهدف منه هدم العقل وجعل الله أي الوحي المشخص هو
الذي يحسن ويقبح في العقول وكأن العقل لا وظيفة له. الهدف
منه هو المزايدة على الإيمان وجعل الله هادمًا للعقل،
مرعبًا له، واقفًا له بالمرصاد، يغيِّر قوانين العقل،
ويُبدِّل صفات الأشياء. إن وجود القيم وجودًا موضوعيًّا
مرتبط بعالم الإنسان وليس بعالم الحيوان. وإن عدم اعتبار
الحيوان عدوان بعضه على بعض ظلمًا وقبحًا لا ينفي اعتبار
الإنسان ذلك. وإن التشكيك في القيم بدعوى عدم وجودها في
الحيوان استمرار في الرغبة في تدمير الحقائق الإنسانية
مرةً باسم الله ومرةً باسم الحيوان، وكأن الإنسان موجهة
إليه السهام مرة من أعلى ومرة من أسفل، مطعون مرتين!
٢٨
ولا تعني موضوعية الصفات موضوعية المثل كما هو الحال في
الفلسفة وإنكار الحدوث واختلاف الأفعال طبقًا للأشخاص
والأزمان والحالات النفسية، بل تعني إثبات استقلال القيمة
وتحققها في أفعال الأفراد.
٢٩ كما لا يعني إثبات الحسن والقبح العقليَّين
كصفتَين موضوعيتَين للأفعال، أي إجبار على الله أو أي وقوع
في التشبيه بأن الله يحسن ويقبح ما يعقله الإنسان لأن
قانون العقل العام صادق على كل العوالم الممكنة، ليس
تشبيهًا بل قضاء على ثنائية الموضوع، هذا العالم والعالم
الآخر، وقضاء على ثنائية المنهج، العقل لهذا العالم والنقل
للعالم الآخر، والحكم بالشاهد على الغائب على أساس المعرفة
البشرية، وثنائية الشخص، الإنسان من جانب والله ومن جانبٍ آخر.
٣٠ وليس المطلوب زحزحة الإنسان عن معرفة واستبدال
الله به أو المزايدة في الدفاع عن الله وكأن الإنسان يمثل
خطرًا عليه! ذاك حطة في الله وإعطاء للإنسان أكثر مما
يستحق، وتدمير للإنسان وإخراجه عن وضعه الطبيعي في العالم
واستعمال لعقله في الإدراك لصفات الأفعال.
وقد تنشأ حلولٌ متوسطة ولكنها في أغلب الأحيان أقرب إلى
إثبات الصفات الموضوعية للأفعال منها إلى نفيها. مثلًا أن
يكون وصف الشيء بالحسن والقبح، لا لذاته ولا للأوامر
والنواهي، بل لوصفه بمعنًى هو صفة له. فكل معنًى وصف به
الشيء فهو صفة له وهو ما يسمح بالتعليل والغائية،
٣١ فالحقيقة أنه لا فرق بين المعنى والصفة ما دام
كلٌّ منهما قيمةً مستقلة توجد في الفعل وتنبع من بنيته
الداخلية ولا تتغير بتغير الإرادات المشخصة. وقد يُترك لله
إمكانية أن يأمر بالقبيح ولو جوازًا فيكون قبيحًا للنهي،
وما لا يجوز فإنه يكون قبيحًا لنفسه، وكذلك في الحسن كل ما
جاز أن يأمر الله به فهو حسن للأمر وما لم يجز فهو حسن لذاته.
٣٢ وذاك في الحقيقة ترك حقٍّ نظريٍّ ممكن له
وانتزاع الحق العملي منه، وما دمنا في نطاق الفعل فإننا
نكون على مستوى الحق العملي وليس على مستوى الحق
النظري.
وأخيرًا، هل يمكن نقد إثبات الصفات الموضوعية للأفعال؟
بالنسبة للخير لا إشكال هناك، فالإنسان خيِّر بطبيعته،
والخير في الفطرة، والحسن في الطبيعة. ولكن ماذا يكون
الحال بالنسبة للشر؟ هل القبح صفةٌ موضوعية في الشيء
والفعل أم مجرد وجهة نظر أي إنها معرفة وليست وجودًا؟ ألا
يؤدي ذلك إلى إثبات الشر الكوني على ما هو معروف في
الديانات الشرقية القديمة وعند الفلاسفة أنصار النظرية
الكونية؟ إن القبح ليس في الوجود بل في الأفعال التي تتحقق
وتصبح أوضاعًا اجتماعية. ولما كانت الأفعال حرة فالأوضاع
الاجتماعية تتغير طبقًا لها. فإن وقع القبح في الوجود من
الأفعال فإنه يكون قبحًا طارئًا متغيرًا سرعان ما يأتي
الحسن مكانه بالفعل الحر؛ فالحسن أقرب إلى طبائع الأشياء
وتكوين الفطرة. والحرية أقرب إلى الممارسة اليومية من
القهر والغلبة. فلا خطورة إذن من إثبات الصفات الموضوعية
للأفعال من إثبات الوجود الموضوعي للقبح؛ فالقبح عرض
والحسن جوهر. واحتمال وجود القبح تحدٍّ لحرية الإنسان
ودافع على ممارستها.