إن اعتبار النقل أساسًا لإدراك الحسن والقبح هو في
الحقيقة هدم للعقل؛ لأنه في هذه الحالة لا وظيفة له في
الإدراك ولا موضوع له للإدراك. فما دامت الصفات ليست
ثابتةً في الأفعال، فبطبيعة الحال يخبر الشرع بها في النقل
وتقتصر وظيفة العقل حينئذٍ على فهم النقل ليدرك بدوره حسن
الأفعال وقبحها،
٢ وهذا في حد ذاته هدم لنظرية العلم التي يقوم
عليها علم أصول الدين والتي تجعل العقل إحدى وسائل العلم
وأن شرطه النظر، وأن الحجة العقلية تظل ظنية ولا تتحول إلى
يقينية إلا بحجةٍ عقلية ولو واحدة.
٣ إن تفاوت الناس في استخدام العقول لا يعني
طعنًا فيها، بل يعني وجود فروقٍ فردية بينها. وتظل بداهة
العقل واحدة في جميع البشر، ولكن تختلف درجات تغليفها
الاجتماعي. الاستعداد الطبيعي واحد ولكن فروق النشأة
والتربية ونظم الحكم ومقدار المجتمع في التخلف والتقدم كل
ذلك يُحدِث تفاوتًا في استخدام العقول. وهذا لا يعني أن
الله هو الذي جعل العقول متفاوتة وإلا كان ظلمًا وجورًا.
٤ إن حقائق العقل بالرغم من كونها عادات الناس
إلا أنها تظل حقائق للعقل، ووجودها في مجرى العادات لا
ينفي كونها حقائقَ عقلية.
٥ ولماذا التشكيك في الحقائق البشرية والقيم
العامة؟ ولماذا لا يكون القبح في قتل الناس وأخذ أموالهم
وأذاهم وقتل المرء لنفسه وإباحة حرمات الناس؟ لماذا تصور
الله وكأنه يقف لهذه الحقائق بالمرصاد، يهدمها ويقلبها
ويغيرها وكأن الشريعة عبث وتناقض لا تهدف إلى رعاية مصالح
الناس والدفاع عن الحرمات والأخذ بحقوق المظلومين؟ ولماذا
يتصور الله وكأنه ضد الحياة وعقل الإنسان؟ ولماذا تصور
الشرائع لا معقولة؟ المقتول في سبيل الله يضحي بنفسه في
سبيل قيمةٍ أعظم، حياة الجماعة وبقاء الأمة، حرصًا على
الحياة. والختان قوةٌ جنسية. والركوع رياضة بدنية. ولماذا
ندرس في مدارسنا إذن حكمة الصيام والصلاة والصوم؟ والإحرام
رفض لمظاهر المدنية في اللباس وعود إلى الإنسان الطبيعي.
فالإنسان بدن وروح وليس حلةً وثيابًا وزينةً.
٦ إن القضاء على إدراك العقل هو قضاء على الحكمة
من الشريعة وقضاء على التعليل وهو أساس الشرع في الجمع بين
المتماثلات والفرق بين المختلفات. إن هدم العقل هدم
للشريعة؛ فالشريعة تقوم على العقل. ويؤدي هدم العقل
والشريعة إلى الوقوع في التماثل بين الإنسان والله. فإذا
قال الله اعبدوني واسجدوا لي فإن الإنسان لا يقول ذلك عن
نفسه، وبالتالي يؤدي هدم العقل والشريعة إلى تمثيل الله
بالإنسان، في حين أن إثبات العقل وحكمة الشريعة يؤدي إلى
تنزيه الله.
٧ الكفر قبح لأنه إنكار للمبادئ ولحقائق العقول
وليس لأن الله حرمه. وإباحة الكفر تقية حفاظ على الحياة
وليس هدمًا للحقائق.
٨ وكيف تستوي الحقائق بالنسبة إلى الله؟ وكيف لا
تكون أفعاله مرجحة بالنسبة إلى الإنسان لصالحه؟ إن كلامه
مُعلَّل بالهدى والصلاح؛ ولذلك أرسل الأنبياء. وإن أسوأ
أنواع الأفعال الحرة هي حرية استواء الطرفين التي يستحيل
فيها الفعل من الأساس. وإن هدم العقل في إدراك الحسن
والقبح هو عود إلى الإرادة والعلم والمسبق وبها ينتفي
الفعل الحر أساسًا وليس العقل وحده. وإن جعل العقل تابعًا
للإرادة الإلهية، أي للرضا والسخط هو جعله عقلًا تابعًا
لشيءٍ آخرَ سواه، وبالتالي يفقد قدرته على الإدراك ويتحول
إلى عقل مبرِّر تابعًا لإرادة الآمر والناهي. بل ويظل
العقل حائرًا تبعًا لتقلبات الإرادة وتغيراتها؛ وبالتالي
يفقد ثباته واتزانه. وهل غاية الأمر والنهي الإدراك أم
التنفيذ؟ هل غايتهما نظرية أم عملية؟ إن الأمر والنهي لا
يمكنهما أن يعطيا حسنًا أو قبحًا بل يعطيان فقط توجيهاتٍ
عملية للسلوك. وإذا ما تم السلوك تنفيذًا للأوامر والنواهي
بلا عقل مدرك للحسن والقبح، فإن ذلك يحيل الإنسان إلى مجرد
آلة للتنفيذ أو متفرج يُفعَل به ما يشاء وهو طيِّع مطيع.
لا يعترض لأنه لا يفهم، ويكون جوهر الإيمان في هذه الحالة
الطاعة العمياء وليس العقل المستنير. وهل يتحدد الحسن
والقبح بالثواب والعقاب المترتبَين على طاعة الأوامر
واجتناب النواهي؟ إن الجزاء والعقاب بعديان لاحقان بالفعل
بعد أن يتم. وما فائدة أن يعرف الإنسان الحسن والقبح في
الأفعال بعد أن تتم وينال الثواب على الطاعة والعقاب على
المعصية؟ ولماذا هذا الصراع بين الله والعقل وتحديد أيهما
حاكم وأيهما محكوم عليه؟ ولا يقال إن العقل قد حكم أن الله
هو الحاكم؛ فالعقل لا يهدم نفسه، ولا يرضى بسلطان سواه.
وهذا نوع من لوي الحقائق وقولها إلى المنتصف والتشدق
بالدفاع على العقل والرضا بحكمه، فلو كان العقل هو الحكم
فهو الحكم بأنه هو الحاكم ولا حاكم سواه.
٩ إن خلق الله
للعقل مُسلَّم ومعترف
به، ولكن ذلك لا يعني أنه لا وظيفة له ولا حكم، وأن العقل
بمجرد خلقه لا يدين بالولاء إلا لنفسه، ولا يظل أسير خلقه
حتى تُمحى وظيفته؛ لذلك يشكر المنعم، ويصبح شكر المنعم
واجبًا وكأن الله قد خلق العقل ليعيره به أو ليقضي على
استقلاله؛ فيصبح نقصه دليلًا على كمال الله وتبعيته دليلًا
على استقلال الله، وكأن خلق العقل كان مجرد ذريعة للقضاء
على حكمه.
١٠ إن ضبط الوقائع بقانونٍ عقلي خير من ضبطها
بإرادةٍ مشخصة، فقانون العقل ثابت في حين أن الإرادة
متغيرة. صحيح أن الإرادة ضد الهوى والانفعال ولكنها أيضًا
رضا وسخط وهي أمور متغيرة ومتقلبة. وإن كانت ثابتة فحكمها
حكم العقل ويكون العقل بها أولى. لا شك أننا لو شئنا
المزايدة في الإيمان والدفاع عن الله وهدم العقل وتدمير
الإنسان لقلنا إن الله حاكم على العقل وهو المحكوم. الله
هو الخالق له، وهو المالك لكل شيء، وهو الحاكم على كل شيء.
وأين مكان الخطر؟ وأي موقف نوجد فيه نحن؟ هل الله في خطر
أم أن العقل في خطر؟ هل ندافع عن حاكمية الله أم حاكمية
العقل؟ هل نحن المدافعون عن الله أم نحن بشر ندافع عن حقوق
البشر؟ قد لا يملك الإنسان أمام المزايدة إلا الصمت خوفًا
من قهر العامة وثقل التاريخ وسطوة الحكام. ومع ذلك فالدفاع
عن حكم العقل هي مهمة الجيل دفاعًا عن حقوق الناس وأعمالًا لعقولهم.
١١ وهل هي
قضية سلطة من الحاكم؟ وهل صورة الحاكم باستمرار هي صورة
الحاكم المطلق الذي يفعل ما يشاء، ما حسَّنه حسن وما
قبَّحه قبيح؟ وإن لم يفعل فهل ذلك يكون أحد مظاهر نقصه
وطعن في كماله ونيل من سلطانه؟
١٢ وهل هذه هي صورة الله أم صورة الدكتاتور؟ صورة
الله أم صورة الطاغية؟ وما أسهل أن يأتي الحاكم بعد ذلك
ويأخذ مكان الله في قلوب العامة فيُحسِّن ويقبِّح، ويصبح
العقل خاضعًا له وتابعًا لإرادته، ويصبح الحسن تابعًا
لرضاه والقبح تابعًا لسخطه. ولا معقب على إرادته ولا
مراجعة عليها من أحد. يفعل ما يشاء، يسالم من يشاء ويحارب
من يشاء، يصالح من يشاء ويعادي من يشاء، وليس في العالم
سواه، وليس في الوجود إلاه.
(١-١) هل يمكن إنكار العقل قبل النبوة؟
وقد بلغ هدم العقل إلى حد إنكار وظيفته كليةً قبل
النبوة وكأن الإنسانية كانت قبلها أحط من الحيوان لم
تعرف إلى العقل سبيلًا. وصحيح أن الإنسانية قد تطورت
وبلغت استقلالها واكتمل وعيها بانتهاء النبوة، ومع ذلك
فطليعة الإنسانية الممثلة في فلاسفتها ومُفكِّريها
وحكمائها قادرون على التوصل إلى الحقائق البشرية
العامة. فقد امتنع قابيل عن قتل أخيه هابيل حتى لا
يبوء بإثمه، لأن تحريم قتل النفس حقيقةٌ إنسانيةٌ
عامة. قد يُقال لقد عرفت الإنسانية النبوة من آدم،
فآدم إنسان ونبي؛ وبالتالي لا توجد فترةٌ زمنية استقل
فيها العقل بنفسه. العقل والوحي متزامنان. ولا توجد
إنسانية قبل آدم كان العقل فيها بمفرده. وبالتالي يكون
الحديث فقط قبل بعثة محمد وقبل ختام النبوة وقبل ظهور
الإسلام أي في المراحل السابقة على الوحي التي لم يكن
العقل قد اكتمل فيها بعد. فإثارة السؤال الآن والعقل
قد اكتمل، والإنسانية قد استقلَّت لا معنى له، سؤالٌ
نظريٌّ خالص، وافتراضٌ صرف، ورجوع إلى الوراء، وإسقاط
من الحاضر في الماضي، من مرحلة كمال العقل إلى مرحلة
نقصانه كعقلٍ جمعيٍّ عام، وتوهم فترة قد انقضت ولم تعد
موجودة بالفعل. والإنسانية لا ترجع إلى الوراء، ولا
يمكن إسقاط الحاضر على الماضي أو التفكير بشعورٍ مستقل
في مرحلةٍ سابقة عليه. ولا يكون القصد من ذلك إلا ضياع
استقلال الوعي الحالي والإيهام بأننا في مرحلةٍ سابقة؛
فيطغى الماضي على الحاضر، ويضيع التقدم، ويسقط التاريخ
من الحساب، ويضيع نضال الإنسانية في سبيل تقدمها
واكتمالها هباءً.
فالعقل قادر قبل البعثة على أن يدرك الفائدة في
الحال وفي المآل، وأن يدرك أن الأفعال تحاسَب وتجازى،
تُثاب وتعاقب، وقد كانت قوانين الجزاء معروفة في تاريخ
البشرية قبل ورود الشرع، وأن التكليف لا يبدأ إلا
بوجود الشرع، وكأن الإنسان عاجز عن التمييز بين الخير
والشر، وبين الصواب والخطأ اعتمادًا على العقل وحده
قبل ورود الشرع.
١٣ إن الحقائق الأخلاقية مثل الحسن والقبح
مثل الحقائق الرياضية يقدر العقل على الوصول إليها دون
تعليم أو شرع أو نبوة أو اكتساب؛ فهي أقرب إلى الحقائق
الفطرية. إن إنكار الحسن والقبح العقليَّين إنكار
لاستقلال القوانين الخلقية وهدم لموضوعية القيم.
١٤ ولا يمكن أن يثبت الحسن والقبح بالشرع لأن
الشرع لا يثبت إلا بالعقل، وبالتالي يقع الفكر في الدور.
١٥ فالعقل أساس الشرع، والقدح في العقل قدح
في الشرع بإجماع علماء الأصول وجمهور الأمة. ولو كان
الحسن والقبح من الله لحسن منه الكذب وذلك إبطال
للنبوات. ولا يمكن أن تكفي المعجزة في إثبات صدق النبي
لإمكانية صدورها على يد كاذب، هذا إذا كانت المعجزة،
وهي الدليل الخاص، دليلًا على صدق النبوة أصلًا.
١٦ وكيف يجوز في الشرع الزيادة والنقصان
وكأنه لا أساس له من عقل أو واقع؟ إن مرحلة التجريب قد
انتهت أثناء الوحي عن طريق النسخ. واستقر الشرع
واستتبَّ وتأسس في العقل وفي الطبيعة. وكيف يبلغ
التغيير والتبديل درجة قلب الحق باطلًا والباطل حقًّا،
وقلب الحلال حرامًا والحرام حلالًا بمجرد تغيير إرادة
الشارع؟ ذلك بالضبط ما يحدث في مجتمعاتنا الحالية
عندما تُسَنُّ القوانين وتبدل بإرادة الشارع دون أن
تؤسس في العقل أو في الطبيعة ودون ابتغاء مصلحة أو
اتقاء مفسدة. فإذا ما اكتمل الشرع بعد أن يتحقق في
الواقع أصبح تعبيرًا عن العقل والطبيعة، وثابتًا بثباتهما.
١٧ قد يكون العقاب وحده هو الذي يرد به الشرع
أي جزاء الفعل القبيح، أمَّا الثواب على الفعل الحسن
فلا يحتاج إلى ورود الشرع، ويمكن معرفته بالعقل قبل
ورود الشرع؛ فالعقل لا يقر بالعقل على الفعل القبيح
وكأن العقاب كالثواب ينشأ من طبيعة الفعل. الثواب على
الحسن بالطبيعة والعقاب على القبح بالشرع.
١٨
ولماذا يكون إثبات الشرع وحاجة الإنسان إلى النبوة
على حساب العقل وابتداءً من حدوده؟ إن اختلاف قوى
الإنسان، الذاكرة والتخيل والتفكُّر بين الشدة والضعف
لا تعني حاجته إلى من يقوِّيها، فإنها من سمات
الإنسان. وقد تكون على هذا النحو أحد مظاهر قوته
وأعمال حريته. كما أن تفاوت الناس في إدراك النافع
والضار أو الحسن والقبيح ليس ذريعة لفرض الوصايا عليه
وإعلان قصور العقول، بل يمكن تجاوزها بتعاون البشر
والخبرات المشتركة وتبادل المعارف والعلوم، والنصيحة
المشتركة والتنبيه والتذكير، وفي الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وهو أحد مظاهر ممارسات الحرية.
ولماذا الشعور بالدونية أمام قوةٍ أخرى أسمى وأعظم
عقلًا وإرادةً مع أن الإنسان سيد الكون وأعظم من
الجبال والمحيطات والأنهار؛ لأنه قادر على تسخيرها
لصالحه، ولديه عقلٌ قادر به على معرفة أسرار الكون
وإدراك قوانين الطبيعة، وهو الوحيد الكائن الحر الذي
قبل تأدية الأمانة وتحقيق الرسالة؟
١٩ لماذا الإعلان عن قصور العقل وبيان حدوده
والأكرم للإنسان بيان قواه وإمكانياته اللامحدودة؟
لماذا الإعلان عن أن الإنسان في حاجة إلى هادٍ يهديه،
ومرشد يرشده؟ لِمَ هذا الإحساس بالتقصير والقصور وأن
الإنسان في حاجة إلى وصي وهو النبي؟ ولماذا تثبت
النبوة على أنقاض العقل؟ إن إرجاع الحسن والقبح إلى
الذات العاقل ثم إيقاعه في نسبية الأهواء والانفعالات
وتفاوت الأمزجة والطبائع واختلاف الظروف والمواقف كل
ذلك يفضي إلى إلغاء العقل والإغراق في الإشراق أو يؤدي
في النهاية إلى هدم العقل لإفساح المجال للنبوة وكأن
النبوة مكملة للعقل إن لم تكن مضادةً له. وذلك في
الحقيقة تدمير للعقل من أجل إفساح المجال للنبوة؛
فالغاية البداية بالعقل لهدمه، وإثبات الحسن والقبح
لإثبات النبوة، العقل مجرد وسيلة وليس غاية، بداية
وليس نهاية، مقدمة وليس نتيجة، وهو أقرب إلى النفاق
منه إلى العلم، وتضحية بالعدل أيضًا من أجل التوحيد
بطريقةٍ أذكى من الجبر الذي لا يعترف بشيء أصلًا لا في
التوحيد فينكر الحرية ولا في العدل فينكر الحسن والقبح العقليَّين.
٢٠ والعجيب أن يتم ذلك في كبرى الحركات
الإصلاحية التي قالت بالحسن والقبح العقليَّين إلى
منتصف الطريق، أشعرية في التوحيد اعتزالية في العدل،
خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، دعوةٌ عملية على
دعوةٍ نظرية غير مطابقة؛ لذلك كبا الإصلاح.
٢١
إن وجود موضوعات قد تتجاوز حدود العقل، ولا يتناولها
العقل، لا يطعن في العقل وقدرته على إدراك الحسن
والقبح في الأفعال. فهما في الأفعال وليسا في
المعتقدات، في السلوك وليسا في النظريات، في الحسِّيات
وليسا في المجرَّدات، في هذه الدنيا وليس في العالم
الآخر. ولماذا تكون العبادات مثل النظريات والعقائد
والأخرويات خارجة عن حدود العقل؟ إذ لا يوجد في
العبادات شيء لا يعرف وجه الفائدة فيه مثل أعداد
الركعات ومناسك الحج. العبادات الإسلامية كلها مفهومة
ومعروفة دلالاتها والحكمة منها حتى دروس الدين الأولية
مثل النظافة والرياضة والإحساس بالفقراء ووحدة الأمة …
الخ. الشرع قائم على العقل. وليس الشرع هو مظاهره
الخارجية، بل هو قوانينه وأهدافه من مقاصد إلى آخر ما
هو معروف في علم أصول الفقه في مقاصد الشريعة وإلا
استحال الاستدلال. ولماذا إرجاع الإسلام إلى المراحل
السابقة للوحي وقياس العبادات على بعض الاحتفالات في
الديانة الموسوية وضروب التوسل والزهادة في الديانة
العيسوية «لإثبات أنه» لا يمكن للعقل البشري أن
يستقلَّ بمعرفة وجه الفائدة فيه؟ قد تكون المراحل
السابقة لتطور الشرع في التاريخ أقل عقلانية من الشرع
في آخر مراحله بعد اكتماله. ولماذا تكون الجهود
الإنسانية الخالصة في الإبداع والخلق مفسدة سواء قبل
الوحي أو بعده؟ فالوثنية لها مآثرها كما أن لها
نقائصها. فلماذا تفسد الوثنية العقول وتنحرف بها عن
مسالك السعادة وقد كان فيها كبار المصلحين وقادة الفكر
الإنساني؟ وهل الدهري الذي لا يؤمن بالشرائع أو الذي
لم تصله الشرائع لا يعلم الحسن والقبح وأنه لا يقدر
على اجتناب الرذائل وممارسة الفضائل؟ هل كان البشر
كالحيوانات والبهائم قبل الشرع؟ إن كامل العقل قادر
على معرفة الحسن والقبح في الأفعال قبل ورود الشرع،
فالوعي الفردي مستقل عن الوعي الاجتماعي، وإلا فكيف
يظهر الأنبياء دعاةً ومصلحين في أقوامهم؟
٢٢ ولماذا يتم إنكار الحقائق العقلية العامة
وبداهاتها باسم الله وإمكانية تدميره لها والقضاء
عليها؟ ولماذا تنكر ضرورات العقل وهو أساس نظرية
العلم، وكأن الله واقف لها بالمرصاد يرى في شمول
الحقائق وعمومها تهديدًا له؟
٢٣ لماذا إنكار الحقائق مثل عدم جواز تكليف
ما لا يُطاق، استحقاق الذم والمدح، والثواب والعقاب
على الطاعة والمعصية؟ ولماذا لا يكون القبح محظورًا
على الإطلاق في العقل مثل كفر النعمة؟ أليس الكذب
والظلم والكفر قبحًا؟ وماذا يستفيد الله من قولنا إنه
هو المنعم وهو المقبِّح للكفر والظلم وإن العقل لا
يقبِّح شيئًا وإنه هو الحاكم بأحكام العقل؟ وما أسهل
أن يأتي الحاكم فيما بعدُ ويزحزح الله أو يأخذ مكانه
ويجعل نفسه هو المحسن والمقبح للأفعال. ولا يؤدي القول
بالحسن والقبح العقليين إلى الشرك؛ الشرك بين العقل
والله، فالله لا يجعل أحد مخلوقاته، وهو العقل، شريكًا
له. إن الله نفسه قد عرف بالعقل، وهدم العقل هدم لأساس
معرفتنا بالله. وكيف لا يحسن العقل شيئًا ولا يقبح
شيئًا؟ وكيف تنفي الحقائق وكأن الله قد أدى إلى هدم
الحقائق وأوقع البشرية في اللاإرادية والشك وإبطال
الحقائق، وهو ما نفاه علم أصول الدين من قبلُ في نظرية
العلم، وهل الله سوفسطائي؟
٢٤ وهل يستعلي الله ويثبت قوته بتدمير أحد
مخلوقاته — وهو جزء منها وهو العقل — وذلك بأن يصبح
الله حاكمًا على العقل وينفي حكم العقل على نفسه وعلى
الأشياء وعلى الأفعال؟ لماذا هدم الحقائق الإنسانية
العامة والتشكيك في القيم وإبعاد الظروف الاجتماعية
وكأن الله لا يعترف بحق ولا يسلم بقيمة، يفعل الظلم،
وتقوم شرائعه على التناقض والعبث؟ إن إنكار العقل هو
هدم للمصالح وجلب للمفاسد وقضاء على التعليل وهو أساس
التشريع، وبالتالي جعل المتكلم الأشعري الله عاملًا ضد
نفسه، وهادمًا شريعته بيده، وقاضيًا على العقل بحكمته.
٢٥
(١-٢) هل يمكن تحديد العقل قبل السمع؟
ويمكن إعطاء العقل دورًا محدودًا قبل السمع كأحد
الحلول المتوسطة بين هدم العقل كليةً قبل السمع وبين
جعل العقل مستقلًّا بذاته مدركًا قبل السمع ودون ما
حاجة إليه.
٢٦ فقد يكون العقل قادرًا على إدراك المعارف
العقلية وحدها دون الشرعية. فقد تكون المدركات العقلية
مثل حسن العلم والإيمان وقبح الجهل والكفر سواء بديهية
أو نظرية، وقد تكون سمعية مثل حسن الإثبات بالطاعات
وقبح ارتكاب المنهيات.
٢٧ وإذا كانت القبائح العقلية تعرف ضرورةً أو
استدلالًا، فإن القبائح الشرعية قد لا تعرف ضرورة على
الإطلاق، بل تعرف استدلالًا لأنه لا مدخل فيها للضرورة
إلا إذا ارتدَّت إلى الأصول. أمَّا القبائح العقلية
مثل الظلم والكذب فهي ضرورية. قد تعلم القبائح الشرعية
على الجملة وعلى التفصيل بالاستدلال. تعرف القبائح
العقلية ضرورة والشرعية استدلالًا.
٢٨ والحقيقة أن الفصل بين الأفعال العقلية
والأفعال الشرعية فصل لا مبرر له؛ الأفعال وحدة حية في
الشعور وقائمة على العقل وهادفة إلى غاية. ويمكن معرفة
جنس الأفعال الشرعية عقلًا إمَّا من الناحية البدنية
أو الشعورية أو الاجتماعية. ولا يهم أن يكون ذلك عن
ضرورة أو استدلال، فكلاهما طريقان للمعرفة. وإذا كانت
العلوم الشرعية جزءًا من العلوم النظرية الاستدلالية،
فكيف يحدث أن بعض الموضوعات تعلم بالعقل والأخرى
بالشرع؟ ولو جاوزت بعض الموضوعات العقل لانهدم العقل
وانهدمت العلوم النظرية. وكيف تعلم العلوم النظرية
بالعقل والأمور العملية بالشرع في حين أن الموضوعات
العقائدية أصعب فهمًا من الموضوعات العملية؟ وإذا كانت
غاية الوحي هي تعقيل السلوك وتنظير حياة الإنسان، فكيف
يتم ذلك في الأمور النظرية دون الأمور العملية؟ وهل
العقائد أكثر استعدادًا للتنظير من الشرائع؟
ويمكن للعقل أن يصل إلى حقائق الشرع دون الاعتماد في
ذلك على النقل، وإلا فلا مكان لإثبات وجود الصانع
وصفاته عقلًا بشرط المطابقة مع النقل وإلا كانت
كتأملات الفلاسفة التي يعتمد فيها على العقل الخالص
دون شرط المطابقة. والمطابقة هنا خارجيةٌ صرفة مع شيءٍ
آخر غير العقل، وكأن العقل لا يتطابق مع ذاته في نظرية
الاتساق مع الواقع وهو المعنى الشائع للمطابقة.
وقد يأتي حلٌّ متوسط بأن تحصل المعارف بالعقل ولكنها
لا تجب إلا بالشرع.
٢٩ ومناط التحقيق هو المعرفة لا الوجوب.
وسؤال الوجوب تالٍ على المعرفة. فإمَّا تجب عقلًا أو
تجب شرعًا. والقول بأن الله هو الذي حسَّن وقبح في
عقول بني آدم هو مسك للعصا من المنتصف، لا يرضي العقل
ولا الشرع.
٣٠ إذ لا حاجة لله لأن يحسن ويقبح من خلال
العقول؛ فهو قادر على التحسين والتقبيح من خلال
الأوامر والنواهي مباشرةً ما دام على الإنسان وجوب
الطاعة واجتناب المعصية. وهو أيضًا هدم للعقل وكأن
العقل غير قادر على أن يحسن ويقبح بنفسه، وكأن العقل
مجرد انفعال دون فعل، مستقبِل دون أن يكون مرسلًا،
مفعول دون أن يكون فاعلًا، وكأنه مجرد ذريعة للغير،
مظهر للعقل وليس حقيقة. ومع ذلك لا يرضى عن ذلك دعاة
هدم العقل، وينسب القول إلى دعاة إثبات العقول وكأن
الوسط يكون باستمرار أقرب إلى أحد الطرفين. وما القول
فيمن لم يشعر بذلك بعقله فيقبح ما يحسنه العقل ويحسن
ما يقبحه العقل ما دام الأمر ليس منه وليس من حكم
العقل؟ أين تكون إرادة الله؟ ألا يعتبر ذلك طعنًا في
إرادة الله وتشكيكًا في مرادها؟ وما القول في ضعاف
العقول؟ وكيف تعمل إرادة الله في العقول؟ وكيف تعمل
إرادة الله في العقول الضعيفة؟ ولماذا لم تقوَ عليها
فتصححها إذا ما اعتذر الإنسان بضعف العقل؟ وقد تكون
الحكمة هي طريق الوجوب التي تجمع بين العقل والله.
ولما كانت الحكمة تعبيرًا عن العقل يكون العقل طريق
الجمع بين نفسه وبين الله، ويكون هو المقياس وهو أحد
الطرفين في نفس الوقت ينال الثلثين والله الثلث.
٣١
وقد تأتي حلولٌ وسطٌ أخرى عن طريق إيجاد وظيفةٍ أخرى
للشرع غير وظيفة العقل، فلا تتنازع الاختصاصات، ويبقى
تقسيم العمل بينهما. وعلى هذا النحو قد تكون مهمة
الشرع الإخبار لا الإثبات، والإعلام لا التقنين.
٣٢ وقد يقتصر دور الله على فعل الأسماء لا
الأشياء. فالله له اللفظ، والإنسان له الشيء، والمعنى
مناصفةً بينهما. ولكن تظل الأشياء لُبَّ الألفاظ وجوهرها.
٣٣