في الحركات القلمية والعقلية
مقدمة
كانت الشام من البلاد ذات الثقافة العريقة منذ عهد حضارة الفينيقيين وحضارة رأس شمرا. أما بعد الاحتلال الروماني فقد عددنا أسماء طائفة من أئمة العلم، والفلسفة، والفقه، والأدب، والتشريع، والمحاماة في مقدمة الباب الخامس. وقد كان لمدارس أنطاكية وقيسارية وبيروت وتدمر ودمشق وحلب في العهد الروماني أثر كبير في إيجاد حركات علمية وعقلية ذات صيت عالمي مشهور.
- أولهما: أن العرب الفاتحين كانوا ينظرون بحذر شديد إلى رجال الدين والتشريع، وهم رجال العلم في الدولة البيزنطية.
- ثانيهما: أن حركة العلم في الدولة العربية كانت بعدُ في عهد الإنشاء؛ فقد كان العرب أمة أمية، ولم يكن عمل الخلفاء الراشدين في هذا الحقل ذا أثر كبير، وكذلك كان الحال في الفترة الأولى من عهد بني أمية، ولكن على الرغم من ذلك فإن بداية بعض الحركات العلمية قد ظهرت وهذا تبيانها.
(١) القرآن
في ولاية يزيد بن أبي سفيان على الشام كتب إلى عمر بن الخطاب يقول: إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم فأعِنِّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم. فبعث إليه بمعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وقال لهم: ابدءوا بحمص، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، فذهب عبادة إلى حمص، وأبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. وهذه أول بعثة علمية تركت الحجاز إلى الشام، يرجع الفضل فيها إلى عمر، كما يرجع إليه الفضل في جمع القرآن للمرة الأولى. قال زيد بن ثابت: أُرسلت إلى أبي بكر فأتيته فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال لي: إن القتل قد استحرَّ بالقُرَّاء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل في القراء في المواطن كلها، فيذهب كثير من القرآن، فأرى أن يُجمع القرآن بالحال. فقلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟
فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله له صدري.
(٢) الفقه والحديث
نزل الشام بعد الفتح الإسلامي جماعة من كبار الفقهاء، الذين نشئوا في مدرسة الرسول الكريم وسمعوا أقواله وأحاديثه، وتأدبوا بآدابه؛ منهم: أبو الدرداء الذي بعث به عمر لتعليم المسلمين في دمشق، والذي تولى قضاء دمشق في خلافة عثمان ومات سنة ٣٢ﻫ، ومنهم أبو ذر الغفاري الصحابي الزاهد الفقيه الجليل، ومنهم عبد الرحمن بن غنم الأشعري، الصحابي الذي بعثه عمر إلى الشام لتفقيه الناس، ومنهم فضالة بن عبيد الصحابي الذي ولاه معاوية قضاء دمشق وأمَّره على غزو الروم بحرًا. وقد نبغ من الشاميين جماعة نشئوا على هؤلاء الرجال أمثال: بلال بن أبي الدرداء الذي تولى قضاء دمشق (؟–٩٣)، وشهر بن حوشب الأشعري المحدث (؟–١٠٠)، وأبو مسلم الخولاني شيخ دمشق وزاهدها وعالمها، وغيلان بن مروان الدمشقي، الفقيه المتكلم، أحد كبار المعتزلة.
(٣) الشعر
نبغ في الشام جمهرة من الشعراء الفحول؛ فقد كان الشعر أرقى الشُّعب العلمية في ذلك العصر. وقد كان للخلفاء الأمويين كمعاوية ويزيد ومروان حب للشعر وتقدير لأهله، بل كان يزيد شاعرًا مفلقًا يحب الشعر وأهله، ويجزل العطاء على قوله، وكان فحول الشعر في هذا العصر جرير والفرزدق والأخطل، وهؤلاء الثلاثة وإنْ كانوا عراقيين إلَّا أنهم عاشوا في كنف شعراء أمية. والحق أن الشعر ازدهر أيَّ ازدهار في عصر معاوية وأخلافه لأسباب سياسية واجتماعية وأدبية، فصَّلتها كتب الأدب، وقد انقسم الشعراء في هذه الفترة إلى أحزاب؛ فحزب عليٍّ له شعراؤه ومنهم: النعمان بن بشر الأنصاري (؟–٦٥)، ويزيد بن مفرع الحميري (؟–٦٩)، وأبو الأسود الدؤلي (؟–٩٩).
وحزب معاوية له شعراؤه، ومنهم: مسكين بن عامر الدارمي (؟–٩٠)، وأعشى ربيعة عبد الله بن خارجة (؟–٨٥).
وحزب الزبير ومنهم: ابن قيس الرقيات (؟–٧٥).
وحزب الخوارج، ومن شعرائهم: الطرماح بن حكم (؟–١٠٠)، وعمران بن حطان (؟–٨٩)، وعبد الله بن الحجاج (؟–٩٥).
وحزب المستقلين اللاهين في الحجاز بعد أن أقصاها معاوية عن السياسة، ومن شعرائها: جميل بن معمر (؟–٨٢)، وعمر بن أبي ربيعة (؟–٩٣)، وعبد الله بن عمر العرجي.
وهناك طائفة أخرى من الشعراء، إلَّا أن هذا ليس مجال التفصيل في أخبارهم وأحوالهم.
(٤) الخطابة
ازدهرت الخطابة في هذا العصر؛ فقد كان الخلفاء والأمراء خطباء يعولون على الخطابة في إبلاغ الناس مقاصدهم، والتأثير عليهم في نشر مبادئهم وأغراضهم. قالوا: كان معاوية ويزيد من أخطب الناس، وكذلك كان كثير من الأمراء الأمويين خطباء مصاقع يعجبهم القول المُرتجَل والحكمة البليغة.