الفصل الثاني
كان مطمئنًّا إلى أن الدنيا تنتهي عن يمينه بهذه القناة التي لم يكن بينه وبينها إلا خُطواتٌ معدودة … ولِمَ لا وهو لم يكن يرى عَرْضَ هذه القناة، ولم يكن يُقدِّر أنَّ هذا العرض ضئيلٌ بحيث يستطيع الشاب النشيط أن يَثِب من إحدى الحافتيْن فيبلُغ الأخرى؟! ولم يكن يُقدِّر أن حياة الناس والحيوان والنبات تتَّصل من وراء هذه القناة على نحو ما هي من دونها، ولم يكن يُقدِّر أن الرجل يستطيع أن يعبر هذه القناة ممتلئةً دون أن يبلُغ الماءُ إبطَيْه، ولم يكن يقدِّر أن الماء ينقطع من حينٍ إلى حينٍ عن هذه القناة، فإذا هي حفرةٌ مستطيلة يعبَث فيها الصبيان، ويبحثون في أرضها الرِّخوة عما تخلَّف من صِغار السَّمك فمات لانقطاع الماء عنه.
على أنه كان يجد في هذه الدنيا الضيِّقة القصيرة المحدودة من كلِّ ناحية ضروبًا من اللهو والعبَث تملأ نهارَه كلَّه.
ولكنَّ ذاكرة الأطفال غريبة، أو قلْ: إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة؛ فهي تتمثل بعض هذه الحوادث واضحًا جليًّا كأن لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء، ثم يمَّحِي منها بعضها الآخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد.
يذكر صاحبنا السِّياج، والمزرعة التي كانت تنبسط من ورائه، والقناةَ التي كانت تنتهي إليها الدنيا، و«سعيدًا» و«كوابس» وكلاب العدَويِّين، ولكنه يحاول أن يتذكر مصير هذا كله فلا يظفر من ذلك بشيء، وكأنه قد نام ذات ليلة ثم أفاق من نومه فلم ير سياجًا ولا مزرعة ولا سعيدًا ولا كوابس، وإنما رأى مكان السياج والمزرعة بيوتًا قائمة وشوارع منظَّمة، تنحدر كلها من جسر القناة ممتدةً امتدادًا قصيرًا من الشمال إلى الجنوب، وهو يذكر كثيرًا من الذين كانوا يسكنون هذه البيوت رجالًا ونساءً، ومن الأطفال الذين كانوا يعبثون في هذه الشوارع.
وهو يذكر أنه كان يستطيع أن يتقدَّم يمينًا وشِمالًا على شاطئ القناة دون أن يخشى كلاب العدَويِّين أو مَكْرَ سعيدٍ وامرأته. وهو يذكر أنه كان يقضي ساعاتٍ من نهاره على شاطئ القناة سعيدًا مبتهجًا بما سمع من نغمات «حسن» الشاعر يتغنَّى بشعره في أبي زيد وخليفة ودياب، حين يرفع الماء بشادوفه ليسقيَ به زرعه على الشاطئ الآخر للقناة. وهو يذكر أنه استطاع غير مرة أن يعبر هذه القناة على كتف أحد إخوته دون أن يحتاج إلى خاتم الملك، وأنه ذهب غير مرة إلى حيث كانت تقوم وراء القناة شجراتٌ من التوت فأكل من توتها ثمراتٍ لذيذة. وهو يذكر أنه تقدَّم غير مرة عن يمينه على شاطئ القناة حتى وصل إلى حديقة المعلِّم وأكل فيها غير مرة تفاحًا، وقُطف له فيها غير مرة نعناعٌ وريحان، ولكنه عاجزٌ كلَّ العجز أن يتذكَّر كيف استحالت الحالُ وتغيَّر وجه الأرض من طوره الأول إلى هذا الطور الجديد.