الفصل العشرون
أليس الأمر كما أقول؟ ألست ترين أن أباك خير الرجال وأكرمهم؟ ألست ترين أنه قد كان كذلك خير الأطفال وأنبلهم؟ ألست مقتنعة أنه كان يعيش كما تعيشين أو خيرًا مما تعيشين؟ ألست تحبين أن تعيشي الآن كما كان يعيش أبوك حين كان في الثامنة من عمره؟ ومع ذلك فإن أباك يبذل من الجهد ما يملك وما لا يملك، ويتكلف من المشقة ما يطيق وما لا يطيق، لِيَجْنُبَكِ حياته حين كان صبيًّا.
لقد عرفته يا ابنتي في هذا الطَّور من أطوار حياته، ولو أني حدثتك بما كان عليه حينئذٍ لكذَّبتُ كثيرًا من ظنك، ولخيبتُ كثيرًا من أملك، ولفتحتُ إلى قلبك الساذج ونفسك الحلوة بابًا من أبواب الحزن، حرام أن يفتح إليهما وأنت في هذا الطور اللذيذ من الحياة، ولكني لن أحدثك بشيء مما كان عليه أبوك في ذلك الطَّور الآن، لن أحدثك بشيء من هذا حتى تتقدَّم بك السنُّ قليلًا فتستطيعين أن تقرئى وتفهمي وتحكمي، ويومئذٍ تستطيعين أن تعرفي أن أباك أحبَّك حقًّا، وجدَّ في إسعادك حقًّا، ووُفِّقَ بعض التوفيق لِأَنْ يَجْنُبَك طفولته وصباه.
نعم يا ابنتي! لقد عرفتُ أباك في هذا الطَّور من حياته، وإني لأعرف أن في قلبك رقة ولينًا، وإني لأخشى لو حدَّثتك بما عرفتُ من أمر أبيك حينئذٍ أن يملكك الإشفاق وتأخذك الرأفة فتُجهِشِي بالبكاء.
نعم! وإني لأعرف أنَّ فيك عبث الأطفال وميلهم إلى اللهو والضحك وشيئًا من قسوتهم، وإني لأخشى يا ابنتي إن حدَّثتك بما كان عليه أبوك في بعض أطوار صباه أن تضحكي منه قاسية لاهية، وما أحب أن يضحك طفل من أبيه، وما أحب أن يلهو به أو يقسو عليه، ومع ذلك فقد عرفتُ أباك في طَور من أطوار حياته أستطيع أن أحدثك به دون أن أثير في نفسك حزنًا، ودون أن أغريك بالضحك أو اللهو.
عرفته يُنفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونًا واحدًا، يأخذ منه حظَّه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء، لا شاكيًا ولا متبرمًا ولا متجلدًا، ولا مفكرًا في أن حاله خليقة بالشكوى. ولو أخذت يا ابنتي من هذا اللون حظًا قليلًا في يوم واحد لأشفقت أمُّك ولقدَّمت إليك قَدَحًا من الماء المعدنيِّ، ولانتظرت أن تدعو الطبيب.
وكان يُنفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألَّا تعرفيه.
كذلك كان يعيش أبوك جادًّا مبتسمًا للحياة والدروس، محرومًا لا يكاد يشعر بالحرمان، حتى إذا انقضت السنة وعاد إلى أبويه، وأقبلا عليه يسألانه كيف يأكل؟ وكيف يعيش؟ أخذ يَنْظِم لهما الأكاذيب كما تعوَّد أن ينظم لك القصص، فيحدثهما بحياة كلها رغد ونعيم، وما كان يدفعه إلى هذا الكذب حب الكذب؛ إنما كان يرفُق بهذين الشيخين ويكره أن ينبئهما بما هو فيه من حرمان. وكان يرفق بأخيه الأزهريِّ، ويكره أن يعلم أبواه أنه يستأثر دونه بقليل من اللبن، كذلك كانت حياة أبيك في الثالثةَ عَشْرةَ من عمره.
فإن سألتِني كيف انتهى إلى حيث هو الآن؟ وكيف أصبح شكله مقبولًا لا تقتحمه العين ولا تزدريه؟ وكيف استطاع أن يهيِّئ لك ولأخيك ما أنتما فيه من حياة راضية؟ وكيف استطاع أن يثير في نفوس كثيرٍ من الناس ما يثير من حسَد وحقد وضغينة، وأن يثير في نفوس ناس آخرين ما يثير من رضًا عنه وإكرام له وتشجيع؟ إن سألت كيف انتقل من تلك الحال إلى هذه الحال، فلست أستطيع أن أجيبك! وإنما هناك شخص آخر هو الذي يستطيع هذا الجواب، فسليه يُنبئْكِ.
أتعرفينه؟ انظري إليه! هو هذا المَلَك القائم الذي يحنو على سريرك إذا أمسيت لتستقبلي الليل في هدوءٍ ونومٍ لذيذٍ، ويحنو على سريرك إذا أصبحت لتستقبلي النهار في سرور وابتهاج، ألستِ مدينةً لهذا المَلَكِ بما أنت فيه من هدوء الليل وبهجة النهار؟!
لقد حنا يا ابنتي هذا المَلَكُ على أبيكِ، فَبَدَّله من البؤس نعيمًا، ومن اليأس أملًا، ومن الفقر غنًى، ومن الشقاء سعادةً وصفوًا.
ليس دَيْنُ أبيك لهذا الملَك بأقلَّ من دينك، فلتتعاونا يا ابنتي على أداء هذا الدَّين؛ وما أنتما ببالغَيْن من ذلك بعض ما تريدان.