مقدمة
لقد كانت التقاليد التوراتية، حتى وقت قريب، تلقي ضوءًا على الماضي، ولكنها قد صارت الآن بحاجة إلى إلقاء الضوء عليها من قِبَل ذلك الماضي، الذي بدأ يتضح بشكل مستقل عن المواقف المسبقة والمسلمات المفروضة. وبتعبير آخر، فإن كتاب التوراة لم يعد نقطة الانطلاق، بل خط النهاية في دراستنا التاريخية. فعندما نفلح في كتابة تاريخ لفلسطين مستقل عن الصورة الخيالية التي تقدمها الأسفار التوراتية؛ يمكن عند ذلك أن نطرح أسئلة تتعلق بكيفية نشوء الأسفار التوراتية، ثم نجيب عليها، أما الاستمرار في اعتبار التوراة نوعًا من الكتابة التاريخية، فلن يؤدي إلى مزيد من التعمية على التاريخ فقط، بل سيبقى عقبة قائمة أمام فهم الكتاب ومضامينه ورسالته.
تنتمي الأسفار التوراتية، من حيث شكلها ومضمونها ودوافع كتابتها، إلى جنس كتابي يمكن وصفه بجنس الجمع التراثي. فالهاجس الذي يدفع محرري ومعيدي صياغة تلك التقاليد الأدبية المتفرقة التي صيغت منها الأسفار؛ ليس هاجسًا تاريخيًّا بل هاجسًا تراثيًّا، فهم يعملون على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركة ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، ويرتبونها في تسلسل زمني ينسجها إلى بعض، وذلك من خلال منظور أيديولوجي مفروض عليها من الخارج، يعكس الوضع الفكري للقائمين على التحرير وإعادة الصياغة في الفترات المتأخرة. إن ما يحرك محرر التوراة، باعتباره قاصًّا وجامع تراث شعبي موغل في القدم، هو العقدة القصصية التي تقود إلى الإفضاء بمضمون ديني يُظهر كيفية تداخل الإلهي بالدنيوي، وتوجيهه له، ومن دون التفات إلى الحدث المُحقَّق والخبر المُدقَّق. أما الترتيب الزمني (الكرونولوجي) لأحداث القصة الواحدة، وللقصص المتتابعة المُلصَق بعضها ببعض، فلا يعني أن همَّ النص هو همٌّ تاريخي، فمثل هذا الترتيب الزمني للأحداث هو شأن أسلوبي بالدرجة الأولى، وهو مستلزم ضروري في الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية على حد سواء. فالقاص والمؤرخ يقدمان لنا جملة من الأحداث التي تتحرك في زمنٍ ماضٍ، وبشكل يتسلسل من الأقدم إلى الأحدث في حلقات يمسك بعضها ببعض بشكل منطقي. إلا أن ما يميز التاريخ كجنس كتابي عن الأدب، هو النية المسبقة للكاتب، وموقفه من مادة عمله. فالمؤرخ ينظر إلى الماضي باعتباره شأنًا واقعيًّا وحقيقيًّا، ويسعى جادًّا من أجل التفريق بين الخيالي والواقعي، مركزًا على ما يمكن لنا معرفته، والتحقق من وقوعه، خلال الفترة التي يسلط عليها الضوء. أما الأديب، فيتحرك في ماضٍ من صنعه، ويقدم أحداثًا ممكنة التحقق من منظور منطقي ظاهري. وبين المؤرخ والأديب يأتي موقع جامع التراث الذي يبحث عن التسويغ التاريخي الشكلي في المادة التي يقدمها، من دون اختبار وتدقيق للروايات التي يعمل على جمعها وتصنيفها، وهنا قد يتم استبعاد ما حصل فعلًا لصالح رغبة الكاتب في تصديق سلسلة ما من الأحداث، مدفوعًا بموقفه الأيديولوجي المسبق، ويغيب الحقيقي والواقعي في ضباب الخيالي.
وفيما بين أقصى يمين الاتجاه المحافظ الذي يمثله أولبرايت وتلامذته، وأقصى يسار الاتجاه المتحرر؛ تتدرج مواقف بقية الباحثين. فالبعض يرفض الأساس التاريخي لأسفار موسى الخمسة (والتي تتضمن قصص الآباء من إبراهيم إلى يوسف، وقصة الخروج من مصر)، ويبحث بالمقابل عن تاريخية أحداث الرواية التوراتية، ابتداءً من فترة يشوع أو فترة القضاة، عندما بدأ الإسرائيليون كمجموعة متمايزة بالاستقرار في كنعان. والبعض الآخر يرفض الأساس التاريخي لسفرَيْ يشوع والقضاة أيضًا، ويبحث عن تاريخية أحداث الرواية ابتداءً من تشكيل المملكة الموحدة لكل إسرائيل خلال القرن العاشر ق.م. وهناك فريق ثالث يرى أنه من غير المجدي البحث عن تاريخية الحدث التوراتي قبل القرن التاسع ق.م. عندما تبدأ أخبار إسرائيل بالظهور في سجلات آشور، وذلك لأول مرة في التاريخ. هذه المواقف المتباينة للباحثين المحدثين والمعاصرين، تعطينا فكرة واضحة عن المَأزِق الذي وصل إليه البحث التاريخي التوراتي.
إن أهم نتيجة يمكن أن نخرج بها من متابعة هذا الجدل الأكاديمي الدائر خلال القرن العشرين، ومن دراسة الوثائق التاريخية لثقافات الشرق القديم، ودراسة أحدث نتائج التنقيب الأثري في فلسطين؛ هي أن التقاليد التوراتية قد خلقت «إسرائيل» خاصة بها لا علاقة لها بإسرائيل التاريخية، وأن جُل البحث التاريخي — الذي تم حتى وقت قريب في مسألة أصول إسرائيل وتاريخها — قد انصبَّ على أُخيولة لا تمتلك من الوجود الواقعي إلا أقله. ولسوف نسير عبر صفحات هذا الكتاب في محاولة جادة لاكتشاف صورة إسرائيل في التوراة وفي التاريخ، والبحث عن التقاطعات الممكنة بينهما، من أجل معرفة حقيقة ما جرى في فلسطين من حوالي عام ١٢٠٠ق.م. (وهي الفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين أرض كنعان) إلى دمار أورشليم عام ٥٨٧ق.م.
في المرحلة الأولى من بحثنا، سوف نَعمِد إلى توضيح معالم «إسرائيل التوراتية» كما رسمتها الأسفار الخمسة المدعوة بالتاريخية، ثم نقوم بعملية استقصاء للوجود الموضوعي لهذه الإسرائيل اعتمادًا على النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لكل سفر على حدة. أما في المرحلة الثانية، فسوف ننتقل إلى دراسة أصول ومسار حياة «إسرائيل التاريخية» اعتمادًا على نتائج نقدنا السابق، وعلى علم الآثار الحديث المدعم بالعلوم المساعدة؛ مثل: علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ وبيئة العصور القديمة، وغيرها من العلوم التي صارت معونتها الميدانية والنظرية أمرًا لا غنى عنه لأي بحث أثري. وسوف يتم التركيز في هذه المرحلة على العلاقات الآرامية-الفلسطينية، والكشف عن دور مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكل من مملكتَيْ إسرائيل ويهوذا، وممالك شرقي الأردن، وبقية العالم السوري في مناطق غربي الفرات.
وأخيرًا سوف نتوقف في دراستنا عند أعتاب الفترة التي أدعوها بفترة التاريخ اليهودي في فلسطين. وهذا التاريخ اليهودي — الذي تأخذ ملامحه بالتوضح خلال العصر الفارسي (القرنين الخامس والرابع ق.م.) — لا علاقة له بالتاريخ الإسرائيلي، وليست الاستمرارية بين التاريخين سوى استمرارية كرونولوجية، لا تحمل صلة ثقافية حقيقية بين المرحلتين. إن ما بدا لنا، حتى الآن، من اتصال الإسرائيلي باليهودي، هو ابتداع أيديولوجي توراتي، استكمل المحررون التوراتيون من خلاله أُخيولتهم الأدبية الرامية إلى ابتكار أصول لليهودية المحدثة في فلسطين خلال العصر الفارسي والعصر الهيلينستي.
قد تبدو هذه الفكرة غريبة على قارئ التاريخ، وعلى معظم المتخصصين، ولكن ما يأتي من فصول هذا الكتاب كفيل بتوثيقها وبتوضيحها على أفضل وجه، وذلك وَفق منهجية علمية بعيدة عن السمة الإعلامية السياسية التي ميزت الخطاب التاريخي العربي حتى الآن، بتأثير وجود «إسرائيل ثالثة» في فلسطين اليوم، لا علاقة لها بإسرائيل التوراتية أو إسرائيل التاريخية.
G. Garbini: History and Ideology in Ancient Israel, London, 1988.
• The Archaeology of Palestine, London, 1949.
• The Biblical Period from Abraham to Ezra, New York, 1963.
• Yahweh and the Gods of Canaan, London, 1968.