نقد النثر الفني
ينبغي أن نقيد في صدر هذا الكتاب أن النقاد لم يعطوا للنثر ما أعطوا للشعر من العناية؛ فلسنا نجد في كتب النقد تلك الأبحاث المطولة التي يراد بها رد معاني الكتاب إلى مصادرها الأولى على نحو ما فعلوا في درس معاني الشعر وبيان المبتكر منها والمنقول، فقد نجدهم يتعقبون المعنى حين يرد في بيت من الشعر فيذكرون أجديدٌ هو أم قديم، ثم يذكرون مَن أُخِذ عنه إن كان قديمًا، ويبينون الفرق بين المعنى في صورته الأولى وبينه في صورته الثانية، وقد يزيدون فيذكرون الأدوار التي مر بها المعنى منذ عُرف عن الجاهليين، ويبينون درجات مَن تناوله من الشعراء.
وليس في اللغة العربية كتاب منثور شُغل به النقاد غير القرآن، على أن شُغْل النقاد بالقرآن لم يكن عملًا فنيًّا بالمعنى الصحيح للنقد الأدبي، فقد كان مفروضًا في كل من يكتب عن القرآن أن يُظهر عبقريته هو في إظهار ما خفي من أسرار ذلك الكتاب المجيد، وليس هذا من النقد في شيء، إنما النقد أن يقف الباحث أمام الأثر الأدبي موقف الممتحن للمحاسن والعيوب، من أجل ذلك وُسم أكثر ما كُتب عن القرآن باسم الإعجاز؛ لأن النقاد اطمأنوا إلى أن القرآن هو المثل الأعلى الذي تقف عنده حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان.
والواقع أن الشعر أقرب إلى النفس من هذه الناحية، وهو بالذاكرة أعلق، وعلى الألسنة أسْير، بفضل القوافي والأوزان.
وهذا حق من جانب وخطأ من جانب آخر؛ هو حق من حيث تنويهه بفضل النثر في المصالح المعاشية والسياسية والإدارية؛ لأن النثر هو الأداة الصالحة للتفاهم في شئون الحرب والسلم والتجارة والزراعة والصناعة، وما إلى ذلك من شئون العمران، ولكنه خطأ من حيث يعطي للنثر جوانب هي أقرب إلى الشعر؛ فالدعاء إلى الألفة والنهي عن الفرقة والتهاني بالعطايا والتعازي في الرزايا من الموضوعات التي كان الشعر فيها أصلح أداة من النثر، وأقدر على تسجيل العواطف والأحاسيس، وامتلاك القلوب والنفوس.
والثعالبي صدق في نصه على أن ما يشتغل به الكُتَّاب يقضي بأن يكونوا ذوي آداب كثيرة ومعارف مفننة؛ فإنه يكاد يغلب على جمهور الشعراء في اللغة العربية فراغ الأفئدة وفقر الرءوس، والشعراء المتفوقون عند العرب هم الشعراء المثقفون الذين استطاعوا أن ينافسوا كبار الباحثين من أصحاب المذاهب وأرباب الأقلام، فأبو نواس وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وابن المعتز وابن الرومي وأبو تمام والبحتري والشريف الرضي والمتنبي، كل أولئك كانوا من أهل العلم الوافر العميق، وكانوا فوق ذلك أصحاب مطامع وأهواء في الملك والسياسة، وكانوا لا ينامون إلا على سر مبيَّت أو غرض دفين.
ونظرةٌ إلى شعراء العصر الحاضر تعطينا ما يؤيد هذه الفكرة؛ فالشعراء النابهون في عصرنا هم الذين لابسوا رجال الملك، واتصلوا بالجماهير اتصال استثمار واستغلال؛ فقد كان شوقي شاعر القصر، وكان حافظ شاعر الشعب، كما كان البارودي شاعر السيف، وقد خمل مَن خمل مِن الشعراء الذين قعدت بهم ثقافتهم، ووقفت بهم هممهم عند الإكفاء بمضغ الكلام الموزون!
والثعالبي بعد كلماته تلك يذكر في أسباب تقدير النثر على الشعر، أن الشعر تصوَّن عنه الأنبياء، وترفَّع عنه الملوك. وهي حجة واهية وسبب ضعيف، فالشعر أقرب الفنون إلى أرواح الأنبياء، وأنا لا أتصور الأنبياء إلا شعراء، وإن جهلوا القوافي والأوزان؛ لأن الشعر الحق روحٌ صرف، والنبوة الحقة شعرٌ صُراح. أما الملوك فترفُّعهم عن الشعر لا يحط من قدره، ولا يغض من شأنه، والملوك لو استطاعوا أن يضموا إلى قواهم المادية تلك القوة الروحية لكان حظهم أوفى الحظوظ، ولكن شواغل الملك وتكاليف السياسة اليومية تصرف العقل والحس والخيال عن إجادة الشعر الذي يتطلب صفاء النفس وجلاء الوجدان.
وربما كان أظرف نقد وجِّه للشعر والشعراء ما قصه الثعالبي إذ قال: وقد أفصح عبد الصمد بن المعذل عن حقيقة الحال في انحطاط رتبة الشاعر لاشتغاله بخلاف المراشد، حيث قال لأبي تمام، وقد قصد البصرة وشارفها:
فالشاعر على هذا الوضع لا يبرح دامع العين في سبيل الحب، أو قلق النفس في سبيل المال، وحياته إذن مقسمة بين ذلين: ذل الهوى وذل السؤال.
غير أنه ينبغي ألا نفتن بهذا الكلام فتنة باقية، وأن نفهم أن جماله يرجع إلى أنه سخرية تدل على براعة وذكاء، فإنه إن جاز لنا أن نلوم الشعراء على إسفافهم حين يطمعون في عطايا الملوك، فإنَّا لا نستطيع أن نأخذ عليهم أن تُفْتَن عيونهم بالحسن، وأن تخفق قلوبهم بالوجد، فإن للشاعر رسالة يؤديها إلى العالم؛ هي فهمه العميق لأسرار الجمال، ثم غناؤه الساحر في تقديس الحسن المصون، والشاعر الملهم حين يفهم المعاني الروحية لصباحة الوجوه، وأسالة الخدود، ورشاقة القدوم، يعود وهو قيثارة إلهية يمضي رنينها ساحرًا أخَّاذًا لا يملك الغض منه إلا صُمُّ السامع أو غُلْف القلوب.
وهذا كلام ضعيف لا يتناسب مع عقل مثقفٍ كعقل ابن رشيق؛ لأنه إذا صح أن يشبَّه الشعر بالعقد المنظوم، فإنه لا يصح أن يشبَّه النثر بالدر المنثور؛ لأن النثر منظوم أيضًا، والكاتب يؤلف بين الكلمات ويزاوج بين الألفاظ بنفس الدقة التي يعنى بها ناظم العقد، واللؤلؤ المنثور له قيمته دائمًا؛ لأن اللؤلؤة هي هي في قيمتها ونفاستها، ولن يضيرها أن تسقط من بين حبات العقد وأن تقع حيث يشاء الإغفال، أما اللفظة فتفقد قيمتها الأدبية وهي منفردة؛ إذ كان سحرها يرجع إلى موقعها من التركيب بلا فرق بين الشعر والنثر.
وهذا كلام يحتمل النقض، فإن مدح الرجل نفسه، إن جرى مجرى الدفاع والمفاخرة، صح وقوعه في النثر، وشواهد ذلك كثيرة من خطب الخلفاء والولاة ورسائلهم، فليست خطب علي بن أبي طالب في جملتها إلا إشادة بشرفه وتنويهًا بقربه من الرسول، أما الفخر الذي يجري مجرى الزهو والخيلاء فهو مردود في الشعر والنثر، وإن كان الشعر أصلح الفنين للتغني بكرم الأعراق وشرف الأحساب.
وكان المسيو مرسيه يظن أن في هذه العبارة دلالة على أنهم كانوا إذ ذاك لا يستحبون الكلام المسجوع، فوجهت نظره إلى أن لهذه العبارة معنى آخر: ذلك أن السجع فن رقيق، لا يصلح في مثل ذلك المقام، وهو مقام تهديد ووعيد.
قلنا: إن الموضوعات هي التي تحدد نوع الصياغة، فلنعد إلى ذلك بكلمة حاسمة فنقول: إذا كان موضوع القول متصلًا بالمشاعر والعواطف والقلوب كان الشعر أوجب؛ لأن لغته أقدر على التأثير والإمتاع، وإذا كان الموضوع متصلًا بأعمال العقل والفهم والإدراك كان النثر أوجب؛ لأن لغته أقدر على الشرح والإيضاح والإفهام والتبيين والإقناع، ومن أجل ذلك نرى الفقهاء واللغويين والنحويين ورجال العلوم الصرفة كالفلكيين والرياضيين لا يجيدون الشعر إلا قليلًا؛ لأن اتجاهاتهم العقلية تصرفهم عن تلقي الوحي والإلهام؛ إذ كان الشعر في صميمه ينفر من النفوس المعقدة ويأنس بالنفوس الصافية التي تسيطر عليها القوة أو الوداعة، وتغلب على أصحابها الثورة أو السكون، ولا يفهمون من العالم إلا جوانبه الأخاذة التي تصرخ بالعظمة البالغة، أو ترمي بالقلب في سعير الحب وفتنة الجمال.
ونعود فنذكر أن كُتَّاب القرن الرابع كان يغلب عليهم الشعر، فكانوا يلجئون إلى القريض في المواطن التي لا يحسن فيها غير القريض، وحِرْص كُتَّاب القرن الرابع على إجادة الشعر يدل على مغالاتهم في الصنعة، فإن الشعر أدخَلُ في الفن من النثر، ولكن ليس معنى هذا أنهم كانوا جميعًا من الشعراء المتفوقين، كلا! فإن عبد العزيز بن يوسف الذي كان يقرنه الصاحب الى الصابي لم يكن جيد الشعر، والقطع التي وصلت إلينا من شعره باردة الأنفاس، والتوحيدي أُثِر عنه شعر قليل، وهو مع قلته ضعيف.
وهناك كُتَّاب كان شعرهم أجود من نثرهم، وكانوا من المبرزين في الصناعتين؛ منهم أبو العلاء المعري صاحب اللزوميات وسقط الزند، وهما من دواوين الشعر الممتازة في اللغة العربية، وصاحب رسالة الغفران التي تعد من آيات النثر العربي؛ ومنهم الشريف الرضي وهو من أفذاذ الشعراء، وينسب إليه جزء كبير من نهج البلاغة؛ ومنهم أبو عامر بن شهيد أحد كُتَّاب الأندلس وشعرائها، وهو من أفراد المجيدين في المنظوم والمنثور، والشعر عليه أغلب.
ولنذكر نماذج من شعر هؤلاء الكُتَّاب لندل على تفوقهم في الصناعتين تفوقًا يجعل منزلتهم في النثر الفني أعلى وأرفع؛ إذ كان النثر عند هؤلاء فنًّا خالصًا لا يفضله الشعر بغير القوافي والأوزان.
فمن ذلك قول ابن العميد في معشوقه وقد فُصِد:
وقال الصاحب بن عباد في رجل كثير الشرب بطيء السكر:
وقال بديع الزمان في طبائع الناس:
والنظام الذي يظهر حسنه في النثر غير واضح، ولكن القلقشندي يفسره فيذكر أن الشعر محصور في وزن وقافية يحتاج الشاعر معهما إلى زيادة الألفاظ، والتقديم فيها والتأخير، وقصر الممدود، ومد المقصور، وصرف ما لا ينصرف، ومنع ما ينصرف من الصرف، إلى غير ذلك مما تلجئ إليه ضرورة الشعر، فتكون معانيه تابعة لألفاظه، والكلام المنثور لا يحتاج فيه إلى شيء من ذلك، فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه.
وتفسير القلقشندي لرأيه غير كافٍ ولا سديد؛ فإن الشعر الذي نوازن بينه وبين النثر ليس هو الشعر الذي تكون معانيه تابعة لألفاظه، وإنما هو الشعر المحكم الذي تكون فيه الألفاظ دائمًا تبعًا للمعاني، والنظم الجديد يفرض ذلك في الشعر والنثر على السواء.
ونقل القلقشندي عن «مواد البيان» أن العرب كانت أحسَّت بانحطاط رتبة الشعر عن الكلام المنثور، كما حُكِي أن امرأ القيس بن حجر همَّ أبوه بقتله حين سمعه يترنم في مجلس شرابه بقوله:
وخلاصة هذا الفصل أن التأليف في نقد النثر كان قليلًا بالإضافة إلى التأليف في نقد الشعر، ويرجع ذلك إلى أن القدماء كانوا يرون الشعر أرفع فنون الجمال، أما النثر فكان في نظرهم أداة من أدوات التعبير عن الأغراض العلمية والسياسية والدينية، ولذلك كانوا حين ينقُدونه يتوجهون في الأغلب إلى ما فيه من معانٍ وأغراض قبل أن يعنوا بالنظر في أساليب الإنشاء؛ ظنًّا منهم أن الدقة لا تُطلب إلا من الشعراء.
ونحن نرى أن الوقت حان للعناية بالنثر ونقده وإحلاله المحل الأوَّل من جهود الباحثين والناقدين، فإن النثر اليوم هو صاحب السلطان في المشرق والمغرب، والكُتَّاب يحتلون اليوم مكانة يصعب أن يتسامى إليها الشعراء؛ لأن النثر هو الأداة الطبيعية لنشر الآراء والمذاهب والعقائد، وزماننا مجنون بالسرعة في كل شيء، والشعر — كفنٍّ دقيق مثقل بالقوافي والأوزان — غير خليق بتقديم ما تحتاج إليه العقول صباح مساء من ألوان الغذاء العقلي والوجداني، وهو حين يجود يظل مقصورًا على بعض النوازع القلبية والنفسية التي لا تستريح إليها الجماهير إلا في لحظات الفراغ.
وليس معنى هذا أن الشعر زالت دولته، لا، فإنه لا تزال لدينا جوانب وجدانية تتشوف إلى التغني بالشعر البليغ؛ لأن الطبيعة لا تزال تتألق في خلق دواعي الشعر، ولا يزال في الدنيا نجوم تتألق، وأزهار تتفتح، ولا تزال الأرض تذلل خدها لمن يمشي عليها من أسراب الظباء.
وإنما نريد أن نَقْدِر النثر حق قدره، وأن نبين مناهجه ومذاهبه ممثلة في كُتَّاب القرن الرابع؛ لأنه في رأينا أوَّل عصر في اللغة العربية أراد فيه الكُتَّاب أن يستبدوا بمعاني الشعراء وألفاظهم وتعابيرهم، وأن يروضوا القلم الطليق على التحليق في جميع الأجواء.
هوامش
وعرض الثعالبي لبعض المعاني التي وردت في نثر الصاحب بن عباد مسروقة من شعر المتنبي. اليتيمة (١ / ٨٧)، وكذلك عرض لإحدى رسائل الصابي فبيَّن أن بعض ألفاظها مأخوذ من فصل كَتَبَه جعفر بن محمد بن ثوابة عن المعتضد إلى ابن طولون. اليتيمة (١ / ١٩١)، وفي وفيات الأعيان (١ / ١٥–١٦) كلام لإبراهيم الصولي عما أضاف إلى نثره من معاني الشعراء.
وفي مطالعاتنا نجد كتبًا كثيرة ألفت في النثر، لا نعرف أهي من قبيل المجموعات أم من باب النقد أم من علم البيان؛ لأن أصولها لم تصل إلينا، وهي تدل على أن المتقدمين اهتموا بالدراسات النثرية، ولكننا لا نزال نرى أن الشعر استبد بجهود أكثر النقاد، ولم يخلص للنثر من عنايتهم إلا القليل.
ولنقيد أن نقد النثر الذي انصرف عنه أكثر الباحثين هو فن غير الفن الذي عرف بأدب الكتاب، ووضعت فيه أبحاث كثيرة منها: «الرسالة العذراء» التي قدمناها مع مقدمة بالفرنسية إلى مدرسة اللغات الشرقية في باريس، ونشرناها في سنة ١٩٣١، و«أدب الكتاب» للصولي، و«كتاب الكتاب» لابن درستويه، وما إلى ذلك من الدراسات التي تتصل في الأغلب بأحوال الكتاب من الوجهة الديوانية والاجتماعية، وأهم كتاب في هذا الباب هو «صبح الأعشى» الذي يعد أنفع ما صنف في أدب الكتاب، على أن هذا النوع من التأليف حافل بالملاحظات الفنية التي تقربه من (النقد الأدبي) وإن لم تَسْمُ به إلى المصنفات الممتعة التي قصرها أصحابها على دراسة آثار الشعراء.