السجع والازدواج
بيَّنا في فصل سلف أطوار السجع في النثر الفني، ورأى القارئ كيف كان كُتَّاب القرن الأول والثاني والثالث يتنقلون بين لونين من الصياغة الفنية: هما السجع والازدواج.
فلنذكر الآن أن التزام السجع صار من خصائص النثر الفني في القرن الرابع، وأن كُتَّابه لا يتحررون من السجع إلا إلى فن قريب منه هو الازدواج، ولم يخرج من كُتَّاب هذا العصر إلى الحرية في الصياغة الفنية إلا عدد قليل.
وطائفة تؤثر الازدواج وتسجع من حين إلى حين، وعلى رأسهم: ابن العميد والتوحيدي والآمدي والرضي والباقلاني والعسكري والحاتمي وابن شُهيد.
وطائفة تؤثر الحرية في الصياغة الفنية، فلا تسجع ولا تزاوج إلا قليلًا، ومن هؤلاء: ابن مِسكويه والمرزباني وابن فارس والجرجاني والأصفهاني والتنوخي وأحمد بن يوسف المصري.
لما مات ركن الدولة سنة ٣٦٦ اجتمع ذو الكفايتين أبو الفتح وعلي بن كامه أحد أمراء الديلم والأعيان، وتعاهدا وتواثقا وتحالفا وبذل كل واحد منهما الإخلاص لصاحبه في المودة في السر والعلانية، والذب والتوقير، عند الصغير والكبير، واجتهدا في الأيمان الغامسة، والعقود الموثقة، ودبرا أمر الجيش، ووعدا الأولياء وردا النافر، وركبا الخطر الحاضر، وعانقا الخطب العاقر، وباشر كل ذلك أبو الفتح خاصة بجد من نفسه، وصريمة من رأيه، وجودة فكره، وصحة نيته، وتوفيق ربه، فلما ورد مؤيد الدولة الري من أصفهان وصادف الأمر متسقًا، ولحق كل فتق مرتتقًا، بما تقدم من الحزم فيه؛ ونفذ من الرأي الصائب عنده، أنكر الزيادة الموجبة للجند فكرهها، ودمدم بذكرها، فقال له أبو الفتح: بها نظمت لك الملك، وحفظت لك الدولة، وصنت الحريم، فإن خالفت هذه الزيادة هواك فأسقطها؛ فاليد الطولى لك. وكان ابن عباد قد ورد وحطبه رطب، وتنوره بارد، وأمره غير نافذ، هذا في الظاهر.
فأما في الباطن فكان يخلو بصاحبه ويوثبه على أبي الفتح بما يجد السبيل إليه من الطعن والقدح، فأحس بذلك ابن العميد فألَّب الأولياء على ابن عباد حتى كثر الشغْب، وعظم الخطب، وهمَّ بقتله، وقال الأمير: ليس من حق كفايتي في الدولة وقد انتكث حبلها وقويت أطماع المفسدين فيها؛ أن أُسام الخسف، والأحرار لا يصبرون على نظرات الذل، وغمزات الهوان. فقال له في الجواب: كلامك مسموع، ورضاك متبوع، فما الذي يبرد فورتك عنه؟ قال: ينصرف إلى أصفهان موفورًا، فوالله لو طالبته منصفًا يرفع الحساب لما نظر فيه ليعرقن جبينه، ولئن أحس الأولياء الذين أصطنعهم بمالي وأفضالي بكلامه في أمري، وسعيه في فساد حالي ليكونن هلاكه على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف، ومن المزن إذا نطف. فقال له: لا مخالف لرأيك، والنظر لك، والزمام بيدك.
فخرج ابن عباد من الري على صورة قبيحة متنكرًا بالليل، وذلك أنه خاف الفتك والغيلة، وبلغ أصفهان وألقى عصاه بها، ونفسه تغلي، وصدره يفور، والخوف شامل والوسواس غالب، وهمَّ أبو الفتح بإنفاذ من يطالبه، ويؤذيه ويهينه، ويعسفه، فأحس هو بالأمر، فحدَّثني أبو النجم قال: عمل على ركوب المفازة إلى نيسابور ما ضاق عطنه، واختلف على نفسه ظنه، وإنه لفي هذا وما أشبهه حتى بلغهم أن خراسان قد أزمعت الدلوف إليها، وتشاورت في الأطلال عليهم، فقال الأمير لأبي الفتح: ما الرأي وقد نما إلينا ما تعلم من طمع خراسان في هذه الدولة، بعد موت ركن الدولة؟ فقال أبو الفتح: ليس الرأي إليَّ ولا إليك، ولا الهم عليَّ ولا عليك، ها هنا من يقول لك أنت خليفتي ويقول لي أنت كاتب خليفتي، يدبر هذا بالمال والرجال، وهو الملك عضد الدولة أخوك. قال: فاكتب إليه وأشعره، وأشع ما قد منينا به وأشهره، وسله يداوي هذا الداء.
فكتب أبو الفرج وتلطف فصدر في الجواب: إن هذا لأمر عجاب، رجل مات وخلف مالًا، وله ابن، فلم يُحمل إليه من إرثه شيء زويًا عنه، واستئثارًا دونه، ثم يخاطب بأن يغرم شيئًا آخر من عنده، قد كسبه بجهده، وجمعه بسعيه وكدحه، هذا والله حديث لم نسمع بمثله! ولئن استُفتي الفقهاء في هذا لم يكن عندهم منه بتة إلا التعجب والاستطراف، ورحمة هذا الوارث المظلوم من وجهين: أحدهما أنه حرم ماله بحق الإرث، والآخر أنه يطالب بإخراج ما ليس عليه، وإن شاء حاكمت كل من سام هذا إلى من يرضى به.
فلما سمع مؤيد الدولة هذا، قال لأبي الفتح: ما ترى؟ قال: قد قلت، وليس لي قول سواه، هذا الرجل هو الملك والمدبر، والمال كله ماله، والبلاد بلاده، والجند جنده، والكل له، والاسم والجلالة عنده، وليس ها هنا إرث قد زُوي عنه، ولا مال استؤثر به دونه، والنادرة لا وجه لها في أمر الجند، وفيما لا تعلق له باللعب، أما خراسان فكانت منذ عشرين سنة تطالبنا بالمال، وتهددنا بالمسير والحرب، ونحن مرة نحارب، ومرة نسالم، وفي خلال ذلك نفرق المال بعد المال، على وجوه مختلفة، فأحسب أن ركن الدولة حي باقٍ، هل كان له إلا أن يدبر بماله ورجاله، وذخائره وكنوزه، أفليس هذا الحكم لازمًا لمن قام مقامه، وجلس مجلسه، وألقى إليه زمام الملك، وأصدر عنه كل رأي؟ وهل علينا إلا الخدمة، والنصرة والمناصحة، وكل ما سهل وصعب ما كان عليه ذلك بالأمس، ومن جهة الماضي.
فقال مؤيد الدولة: إن الخطب في هذا أراه يطول، والكلام يتردد، والمناظرة تربو، والفريضة تعول، والفرصة تفوت، والعدو يستمكن، وأرى في الوقت أن نذكر وجهًا للمال حتى نحتج به، ثم نستمد في الثاني منه، ونرضي الجند في الحال، ونتحزم في الأمر، ونظهر المرارة والشكيمة، بالاهتمام والاستعداد، حتى يطير الخبر إلى خراسان بجدنا واجتهادنا، وحزمنا واعتمادنا، فيكون ذلك مكسرة لقلوبهم، وحسمًا لأطماعهم، وباعثًا على تجديد القول في الصلح ورد الحال إلى العادة المألوفة.
فقال مؤيد الدولة: وكان ملقنا هذا ابن كامه وهو صاحب الذخائر والكنوز والجبال والحصون وبيده بلاد، وقد جمع هذا كله في دولتنا، وحازه من مملكتنا وأيامنا وبدولتنا، وهو مختوم ما فض مذ كان، ما تقول فيه؟ قال: ما لي فيه كلام، فإن بيني وبينه عهدًا ما أخيس به، ولو ذهبت نفسي! فقال: اطلب منه القرض. قال: إنه يستوحش ويراه بابًا من الغضاضة، وقدر القرض لا يبلغ قدر الحاجة، فإن الحاجة ماسة إلى خمسمائة ألف دينار على التقريب، ونفسه أنفع لنا، وأرد علينا، وأحصن لنا، وإلينا من موقع ذلك المال وبعد رأيه وتدبيره واسمه وصيته فوق المطلوب منه. قال: وإذ ليس ها هنا وجه فليس بأس بأن يطالع الملك بهذا الرأي ليكون نتيجته من ثمَّ.
قال: أنا لا أكتب بهذا فإنه غدر. قال: يا هذا، فأنت كاتبي وصاحب سري والزمام في جميع أمري، ولا سبيل إلى إخراج هذا الحديث إلى أحد من خلق الله، فإن أنت لم تتولَّ حارَّه وفارَّه وغثه وثمينه، ومحبوبه ومكروهه؛ فمن؟ قال: يا أيها الأمير، لا تسمني الخيانة! فإني قد أعطيته عهدًا يذر الديار بلاقع، ومع اليوم غد، ولعن الله عاجلة تفسد الآجلة! قال: إني لست أسومك أن تقبض عليه، أو أن تسيء إليه، أشر بهذا المعنى إلى الملك عضد الدولة وخلاك ذم! فإن رأى الصواب فيه تولاه دونك، وإن ضرب عنه أعاضنا رأيًا غير ما رأيناه، وأنت على حالك لا تنزل عنها ولا تبدلها، وإنما الذي يجب عليك في هذا الوقت بين يدي كتب حرفين أنه لا وجه لهذا المال إلا من جهة فلان، ولست أتولى مخاطبته عليه ولا مطالبته به؛ وفاء له بالعهد، وثباتًا على اليمين، وجريًا على الواجب، ولا أقل من أن تجيب إلى هذا القدر، وليس فيه شيء مما يدل على النكث والخلاف والتبديل. وما زال هذا وشبهه يتردد بينهما حتى أخذ خطه بهذا على أن يصدره إلى أخيه عضد الدولة بفارس.
فلما حصل هذا الخط عنده وجنَّ عليه الليل أحضر ابن كامه وقال له: أما عندك حديث هذا المخنت فيما أشار به على الملك في بابك وأورده عليه في حقك وأمرك، وأطماعه في مالك ونفسك وتكثيره عنده ما تحت يدك وناحيتك؟ فقال ابن كامه: هذا الفتى يرتفع عن هذا الحديث، ولعل عدوًّا قد كاده به وبيني وبينه ما لا منفذ للسحر فيه ولا مساغ لظن سيئ به. قال: ما قلت لك إلا بعد أن حققت ما قلت، ودع هذا كله في الريح، هذا كتابه إلى الملك بما عرفتك وخطه بيده فيه. قال علي بن كامه: أنا أعرف الخط ولكن هاتوا كاتبي، فأحضر كاتبه الخثعمي فشهد أن الخط خطه، فحال علي بن كامه عن سجيته وخرج من مسكنه وقال: ما ظننت بعد الأيمان المغلظة التي بيننا أنه يستجيز مثل هذا.
قال الأمير: أيها الرجل إنما أطلعك الملك على سر هذا الغلام فيك لتعرف فساد ضميره لك، وما هو عليه من هنات أخر، وآفات هي أكبر؛ فإنه هو الذي حرك من بخراسان، وكاتب صاحب جرجان، وألقى إلى أخينا بهمذان — يعني: فخر الدولة — أخبارنا، وهو عين لبختيار ها هنا، وقد اعتقد أنه يعمل في تحصيل هذه البلاد ويكون وزيرًا بالعراق، فقد ذاق من بغداد ما لا يخرج من ضرسه، إلا بنزع نفسه.
وكان أبو النصر المجوسي قد قدم من عند الملك عضد الدولة وهو يفتل الحبل ويبرم، ويهاب مرة ويقدم، وكان الحديث قد بيِّت بليل واهتم به قبل وقته بزمان. فقال علي بن كامه: فما الرأي الآن؟ قال: لا أرى أمثل من طاعة الملك في القبض عليه، وقد كنا على ذلك قادرين، ولكن كرهنا أن يظن بنا أن هجمنا على ناصحنا، ومربب نعمتنا، وناشئ دولتنا، فمهدنا عنك العذر، وأوضحنا لك الأمر. قال: فأنا أكفيكموه!
ثم قبض عليه وكان ما كان، واستُدعي ابن عباد من أصفهان، وولي الوزارة ودبرها برأي وثيق، وجد رتيق.
وما وقع في هذه الرسالة من المزاوجة واضح يدركه القارئ بأيسر مراجعة.
أما الطائفة الأخيرة فتكتب في حرية وطلاقة، وإن لم تخلُ آثارها النثرية من السجع والمزاوجة؛ ومن أشهر هولاء: أبو الفرج الأصفهاني الذي يترسل في بعض فقرات «الأغاني» ترسلًا سهلًا مقبولًا لا سجع فيه ولا ازدواج، وابن مسكويه الذي ينطلق إلى غرضه انطلاق السهم إلى رميته، والتنوخي الذي رقَّت على أسلة قلمه لغة القَصَص المسلسل، وأحمد بن يوسف المصري الذي دوَّن مشاهداته في لغة لا تعتمد في جمالها إلا على دقة المعنى وصفاء الأسلوب.
وأهم كُتَّاب هذا الفريق إخوان الصفاء الذين دوَّنوا ما عُرف لعهدهم من الآراء والمذاهب في أسلوب طلق خالٍ في جملته من التصنع والزخرف والغموض.
ويمكن القول بأن كُتَّاب المذاهب والآراء هم أخلص الناس من أوضار الصنعة بين كتَّاب القرن الرابع؛ لأن حرية الفكر تفرض حرية القول، والكاتب المفكر في شغل بفكره العميق عن تلمس أسباب التزويق والتهويل.
والقارئ حين يوازن بين الخبر المطول الذي نقلناه عن التوحيدي وبين هذا الخبر القصير الذي نقلناه عن ابن مِسكويه لا يمتري في أن التوحيدي كان خليقًا بأن يجعل من هذا الخبر القصير قصة طويلة يبدئ فيها ويعيد.
ولعل عضد الدولة نظر في هذا الوقت إلى ما وجد في سيرة المعتصم — رضوان الله عليه — وهل ينكر لبني هاشم أن يُقتدى بأقوالهم، أو يُهتدى بأفعالهم، وهم الأصدقون أقوالًا، والأكرمون أفعالًا، والأشرفون أنسابًا، جبال الحلوم، وبحار العلوم، وأعلام الهدى، وساسة الدين والدنيا، وفرسان الحروب والمحاضر، وأملاك الأسرَّة والمنابر، إلى مكارمهم ينتهي الكرم، وبمآثرهم تنجلي الظلم، المعتصم بينهم المعتصم.
وهذه القطعة تصور المعنى الذي وضعت له تصويرًا صحيحًا، ولكن النزعة العامية تغلب عليها، وينقصها ما يسميه علماء النقد «قوة الأسر»، وهذا المأخذ تجده أنَّى سرحت بصرك في رسائل إخوان الصفاء، فهم يقدمون إليك الموضوعات الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية في أسلوب يغلب عليه الانحلال، ولعل السر في ذلك يرجع إلى انعدام الشخصية؛ فالكاتب يعبر عن روح إخوانه وكأنه يلخص آراءهم، ولو كان يعبر عن نزعاته الذاتية لرجونا أن تكون حماسته أقوى وروحه أظهر، وعند ذلك تستطيع إغواء عقله ووجدانه فيصطبغ أسلوبه بألوان الخيال، وسترى في الجزء الثاني من هذا الكتاب كلامًا كثيرًا عن الأسلوب، وسترى أنه يتكون من عنصرين: المعنى والروح، فإذا وجد المعنى وحده كانت الكتابة علمية، وإذا أضيف إليه الروح كانت الكتابة أدبية؛ وذلك ما نعنيه بالنثر الفني.
ولك أن تنظر فيما كتب الفارابي أو كتب ابن حزم في الفلسفة لترى كيف تكون الكتابة العلمية التي يراد بها تقرير الحقائق، وشرح المذاهب، وعرض البراهين، فهي كتابة خالية من السجع والازدواج إلا في أحوال قليلة، والكاتب مشغول بسرد الحقائق لا تنميق الإنشاء، وهذه الكتابة صالحة كل الصلاحية للموضوعات العلمية والفلسفية، وليس خلوها من الفن إلا دليلًا على توفيق الكاتب، فليس كل موضوع بصالح للزخرف والتهويل.
وقد يكون من الخير أن نذكر الفرق بين كاتبين يشتغلان بالموضوعات الفلسفية ويختلفان في الأسلوب، فيكتب أحدهما كتابة علمية، ويكتب ثانيهما كتابة أدبية، كالفارابي والتوحيدي، والفرق بين مثل هذين الرجلين أن الأول كان مفكرًا قبل أن يكون كاتبًا، والثاني كان كاتبًا قبل أن يكون مفكرًا، فلما كتب الأول عجز عن التلوين والتزيين، ولما كتب الثاني وشَّى الفكرة بفنون من التصاوير والتهاويل، والأول أبقى في عالم الفكر، والثاني أخلد في عالم البيان، وكلا الأسلوبين ضروريٌّ في حياة العلوم والآداب.
هوامش
وأبو الفتح بن العميد هو ابن الكاتب المبدع أبي الفضل بن العميد، وكان شابًّا أديبًا ناصع البيان، ولكنه لم يرزق ما رزق أبوه من أصالة الرأي ورجاحة العقل، وكان طيشه من شر ما قاسى أبوه من هموم الحياة. راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب.