النسيب
النسيب من الموضوعات التي احتكرها الشعر عند العرب، وتلك نزعة طبيعية؛ فإن النسيب والغزل من أرق ألحان الغناء، وذلك يفرض أن تؤدى تلك المعاني في كلام مقفى موزون، ولم نجد في المجموعات الأدبية مختارات نثرية في النسيب؛ لأن مصنفي المجموعات كانوا يفهمون أن الغزل لا يخرج عن الأنفاس الشعرية.
ونحو: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ.
فهذه كلها أوصاف تدخل في باب النسيب، ونُسب إلى إحدى النساء حديث في وصف الرسول هو أيضًا نسيب؛ لأنها تكلمت عن أوصافه الحسية التي تعين أنه إنسان جميل، ووصف الجمال من ألوان النسيب.
ففي هذه الأقصوصة تعابير غزلية لا تخفى على فطنة القارئ.
هي زينة الحضور، وباب من أبواب السرور، ولذكرها في المغيب، والبعد عن الرقيب، أشهى إلينا من كل ولد ونسيب، بها عرف فضل الحور العين، واشتيق بها إليهن يوم الدين.
لا متع الهوى بملكه، ولا ملَّى بسلطانه! وقبض الله يده، وأوهن عضده! فإنه جائر لا ينصف في حكم، ولا يقصر في ظلم، ولا يرعوي للذم، ولا ينقاد لحق، ولا يبقى على عقل وفهم، لو ملك الهوى وأطيع لرد الأمور على أدبارها، والدنيا على أعقابها.
وقال رجل من فزارة لرجل من بني عذرة: تعدون موتكم في الحب مزية، وإنما ذلك من ضعف البنية وعجز الروية.
وهذه العبارة جذوة من جذوات التشبيب.
لولا البقيا على الضمائر، لبحنا بما تجنه السرائر، لكن نيران الحب تتدارك بالإخفاء، ولا تعاجل بالإبداء، فإن دوامها مع إغلاق أبواب الكتمان، وزوالها في فتح مصارع الإعلان.
لولا حركات من الابتهاج أجد حسها عند رؤيتك في نفسي لا أعرف لها مثيرًا من مظانها إلا مؤانستك لي، لأبقيت عليك من العناء، وخففت عنك مئونة اللقاء، لكني أجد من الزيادة بك عندي أكثر من قدر راحتك في تأخرك عني فأضيق عن احتمال الخسران بالوحدة منك.
والكلمة الأولى غزل خالص، والثانية بين الغزل والإخوانيات، ولكنها تفيض بروح النسيب.
جعلت فداك! بعث إليَّ أبو نصر مولاك بكتاب منك إليَّ يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما أعرف من معانيه، لظننت أن الرسول غلط بي فيه، فما لنا ولك يا أبا عبد الله، تدعنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها، ورجونا السلامة من شرها، أفسدت قلوبنا، وعلقت أنفسنا، فلا أنت تريدنا، ولا أنت تتركنا!
وما ذكرته من شوقك إليَّ لولا أنك حلفت عليه لقلت:
قد تركت — جعلت فداك — ما كرهت من العتاب في الشعر وغيره، وقلت أبياتًا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد، وأستقبل الشمال وأتنسم أرواحكم فيها، ثم يكون ما الله أعلم به، وإن كنت تكرهها تركتها إن شاء الله:
والشعر في هذه الرسالة أغلب؛ وفقًا للتقاليد الأصلية في النسيب.
ليس من قدري — أدام الله سعادتك — أن أقول لمثلك: جعلت فداك. لأني أراك فوق كل قيمة نضيرة، وثمن معجز، ولأن نفسي لا تساوي نفسك، فتقبل في فديتك على كل حال، فجعلني الله فداء ساعة من أيامك! اعلم أيها السيد العليُّ المنزلة أنه لو كان لبعدك من شدة الخطب أمر يقف على حدِّه النعت لاجتهد أن يصف من ذلك ما عسى أن يعطف به زمام قلبك، وتحنو على الرقة والتحفي أثناء جوانحك، ولكن الذي أصبحت وأمسيت ممتحنًا به فيك منع من كل بيان، ونزع عن كل لسان، والحب أيها الملك، لم يشبه قذى ريبة ولم يختلط به قلب معاب، فلا ينبغي لمن كرمت أخلاقه أن يعاف مقاربة صاحبه المدل بحزم نيته، والذي أتمناه أيها المولى اللطيف مجلسٌ أقف فيه أمامك، ثم أبوح بما أضنى جسدي، وفتت كبدي، فإن خف ذلك عليك، ورأيت نشاطًا من نفسك إليه، كنت كمن فك أسيرًا، وأبرأ عليلًا، وسلك من الخير سبيلًا يتوعر سلوكها على من كان قبله، ويكون بعده، ثم أضاف إليَّ منة لا يطيقها جبل راسٍ ولا فلك دائر، فرأيك أيها السيد المعتمد الإسعاف قبل أن ينذرني الموت فيحول بيني وبين ما خدعت إليه النفس مواصلًا برًّا، إن شاء الله تعالى.
وهذا كما يرى القارئ غزل عفيف يفيض بأرق أنفاس الوجدان.
وفي نسبته إلى غلمان من أولاد أنوشروان دليل على أن هذا الفن وصل إلى العرب من الفرس، والفرس المستعربون نقلوا إلى اللغة العربية فنونًا من القول كان يتحرَّج منها العرب، فهم الذين أذاعوا غزل المذكر في الشعر، وهم كذلك الذين أذاعوه في النثر؛ لأن هذه العواطف الرقيقة كانت مما يتحاماه العرب في بداوتهم، فلما تحضروا أقبلوا على هذه الفنون الناعمة التي سبقهم إليها الفرس واليونان بأزمان طوال.
ما ضاء لي نهار ولا دَجَا ليل مذ فارقتك، إلا وجدت الشوق إليك قد حزَّ في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشا خافقة، ودمعة مهراقة، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد بليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض، ممنوع من لذة الاغتماض قول بشار:
فانتظم وصف ما كنا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه، في شعره هذا، وذكرت أيضًا ما رماني به الدهر من فرقة أعزائي من إخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصائي الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرِّعنِيهُ من مرارة نأيهم، وبُعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتًا تقصر عن صفة وجدي، وكنه ما يتضمنه قلبي؛ وهي:
وقد قرئت هذه الرسالة في مجلس ابن المدبر فقال أحد الحاضرين: هذه رقعة عاشق لا رقعة خادم، ورقعة غائب لا رقعة حاضر! فضحك ابن المدبر وقال: نحن نتبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أدق من هذا وألطف.
لم أتخلف عن المسير إلى سيدي في عشية أمس لأرى وجهه المبارك، وأجيب دعاءه، إلا لعلة قد عرفتها فلانة، ثم خفت أن يسبق إلى قلبه الطاهر أني قد تخلفت بغير عذر، فأحببت أن تقرأ عذري بخطي، ووالله ما أقدر على الحركة، ولا شيء أسرَّ إليَّ من رؤيتك، والجلوس بين يديك، وانت يا مولاي جاهي وسندي، لا فقدت سندي! ولك رأيك في بسط العذر موفقًا.
وكتبت في أسفل الكتاب:
وكتب آخر الرقعة:
وفي القرن الرابع يظهر الغزل في النثر ظهورًا رائعًا؛ بحيث يمكن مقارنة الرسائل الغرامية بأقوى قصائد التشبيب، ولا يمكن الارتياب في قدرة كتَّاب القرن الرابع على إجادة هذا الفن وتفوقهم فيه، وتصرفهم في ضروبه تصرف المبدعين.
سألتني عمن شغفني وجدي به، وشغفني حبي له، وزعمت أني لو شئت لذهلت عنه، أو لو أردت لاعتضت منه، زعمًا لعمر أبيك ليس بمزعم! كيف أسلو عنه وأنا أراه، وأنساه وهو لي تجاه، هو أغلب عليَّ، وأقرب إليَّ، من أن يرخي لي عناني، أو يخليني واختياري، بعد اختلاطي بملكه، وانخراطي في سلكه، وبعد أن ناط حبه بقلبي نائط، وساطه بدمي سائط، وهو جار مجرى الروح في الأعضاء، متنسم تنسم الروح للهواء، إن ذهبت عنه رجعت إليه، وإن هربت منه وقعت عليه، وما أحب السلو عنه مع هناته، وما أوثر الخلو منه مع ملاته.
-
هي روضة الحسن، وضرة الشمس، وبدر الأرض.
-
هي من وجهها في صباح شامس، ومن شعرها في ليل دامس، كأنها فلقة قمر على برج فضة، بدر التم يضيء تحت نقابها، وغصن البان يهتز تحت ثيابها.
-
ثغرها يجمع الضريب والضرب، كأنه نثر الدر.
-
قد أنبت صدرها ثمر الشباب.
-
خرطت لها يد الشباب حقين من عاج.
-
كأنها البدر قرط بالثريا ونيط بها عقد من الجوزاء.
-
أعلاها كالغصن ميال، وأسفلها كالدعص منهال.
-
لها عنق كإبريق اللجين، وسرة كمدهن العاج.
-
نطاقها مجدب، وإزارها مخصب.
-
مطلع الشمس من وجهها، ومنبت الدر من فمها، وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، ومبادي الليل من شعرها، ومغرس الغصن من قدها، ومهيل الرمل من ردفها.
-
شادن فاتر طرفه، ساحر لفظه.
-
غلام تأخذه العين، ويقلبه القلب، وترتاح إليه الروح.
-
تكاد القلوب تأكله، والعيون تشربه.
-
جرى ماء الشباب في عوده فتمايل كالغصن، واستوفى ماء الحسن، ولبس ديباجة الملاحة.
-
كأن البدر قد ركب على أزراره، لا يشبع منه الناظر، ولا يروى منه الخاطر.
-
شادن منتقب بالدرر، ومكتحل بالسحر.
-
ماهو إلا نزهة الأبصار، ومخجل الأقمار، وبدعة الأمطار.
-
غمزات طرفه تخبر عن ظرفه، ومنطقته تنطق عن وصفه.
-
تخال الشمس تبرقعت غرته، والليل ناسب أصداغه وطرته.
-
الحسن ما فوق أزراره، والطيب ما تحت إزاره.
-
شادن يضحك عن الأقحوان، ويتنفس عن الريحان.
-
له عينان حشو أجفانهما السحر، كأنه قد أعار الظبي جيده، والغصن قده، والراح ريحه، والورد خده.
-
الشكل في حركاته، وجميع الحسن بعض صفاته.
-
قد ملك أزمَّة، وأظهر حجة الذنوب، كأنما وسمه الجمال بنهايته، ولحظه الفلك، فصاغه من ليله ونهاره، وحلاه بنجومه وأقماره، ونقشه ببدائع آثاره، ورمقه بنواظر سعوده، وجعله بالكمال أحد جنوده.
-
قد صبغ الحياء غلالة وجهه، ونشر لؤلؤ العرق عن ورد خده.
-
له طرَّة كالغسق، على غرة كالفلق.
-
جاءنا غي غلالة تنمُّ على ما يستره، وتحنو مع رقتها على ما يظهره.
-
وجهٌ بماء الحسن مغسول، وطرف بمرود السحر مكحول.
-
السحر في ألحاظه، والشهد في ألفاظه؛ كأنه خاصم الولدان، ففارق الجنان.
-
اختلس قامة الغصن، ووشح بمطارف الحسن، وحكى الروض غب المزن.
-
الجنة مجتناة من قربه، وماء الجمال يترقرق في خده، ومحاسن الربيع بين سَحره ونحره.
-
ما هو إلا خالٌ في خد الظرف، وطراز على علم الحسن، ووردة في غصن الدهر، ونقش على خاتم الملك، وشمس في فلك اللطف.٤١
هذا، ولعل القارئ لاحظ أن أكثر ما مرَّ به في هذا الفصل يرجع إلى غزل المذكر، وهو كذلك، فقد تحول النسيب في العصر العباسي إلى هذا الفن، وقل التشبيب بالنساء أو كاد، وخفَّ خطاب المذكر على ألسن الشعراء، حتى رأينا من يصف محبوبه، وهو يعني محبوبته، كأن خطاب المذكر أخف في اللغة وأسهل في توجيه الضمائر والإشارات، أو كأنه متابعة لما يقع من هذا النوع في اللغة الفارسية.
ولا ينسَ القارئ أن موقفنا دائمًا موقف المؤرخ، وليس في مقدورنا أن نحكِّم ذوقَ اليوم؛ ذوقَ القرن الرابع عشر؛ في ذوق القرن الرابع؛ فكُتَّاب عصرنا لا يتغزلون بالنثر، ومنهم من يلوِّن عواطفه في شعره وفقًا لتقاليد العصر الحاضر فيخاطب المؤنث وهو يريد المذكر، كما كان يتفق لبعض القدماء أن يخاطب المذكر وهو يريد المؤنث. ومؤرخ الأدب تفرض عليه الأمانة العلمية أن يصور الأدب كما كان، لا كما توجب تقاليد عصره أن يكون.
ومما سلف يتبين أن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أخطأ حين قرر في مقدمة كتابه «أوراق الورد» أن العرب لم تُؤْثر عنهم رسائل الحب، لتصح له دعوى التفرد بالسبق إلى هذا الفن الجميل، وهو يقف عند ما كُتَب في الشوق إلى المحبوبة، وذلك خطأ من الوجهة التاريخية؛ فإن أقطاب النثر الفني وجهوا غزلهم إلى المحبوب، وللأستاذ الرافعي أن يطعن في هذا باسم الأخلاق، أما نحن فنؤرخ الأدب في حيدة مطلقة، ونسايره أين سار، والأدب لا يفرق بين الخير والشر، لا يميز بين الجدِّ والمجون.
هوامش
ومما يحسن ذكره بهذه المناسبة أن المستشرقين الذين اهتموا بترجمة بعض القصائد الفارسية والعربية إلى الفرنسية ينقلون الخطاب من المذكر إلى المؤنث وفقًا لتقاليدهم الأدبية، فإن الكلام عن المعشوق بالتذكير غير مقبول في لغة الفرنسيس، وقد اتفق لي وأنا أكتب هذا الكتاب بالفرنسية أن أجاري ذلك الذوق، فقهرت بعض الضمائر ونقلتها من المذكر إلى المؤنث للتقاليد الفرنسية. والعرف يطغي أحيانًا فيأخذ قوة القانون.