الإخوانيات
هذا الفن لا يحتاج إلى تمهيد مطول في بيان أطواره النثرية، كما صنعنا في النسيب، فإنه فن قديم في اللغة العربية، وجد في النثر كما وجد في الشعر، غير أنه في النثر يسمى العتاب.
ومن المؤلفين من يطلق الإخوانيات والعتاب بدون تمييز على ما يقال شعرًا أو نثرًا في مناجاة الأصدقاء.
-
مودة سكنت الصدر، وحلت سواد القلب.
-
ودٌّ سليم الصفحة، أملس الجلدة، مشرق السحنة، واضح الجبهة.
-
مودة أدين بها عن خالص النفس، وأُودعها واسطة القلب، وأجمع عليها نواحي الصدر، وأحرسها من لواحظ الدهر.
-
قد اتخذنا المودة بيننا دينًا وخليقة، ورأيناها بين الناس مجازًا فأعدناها حقيقة.
-
لا أحول عن عهدك وإن حالت النجوم عن ممارِّها، ولا أزول عن ودِّك وإن زالت الجبال عن مقارِّها.
-
عهدك سجير فكري، وودك سمير ذكري.
-
صدري وعاء ودِّك، ولساني ناشر فضلك، وضميري وقف على عهدك.
-
الحال بيننا أربت على المودة والحرمة، وأرمت٢ على المشاركة والخلة، وعُدَّت في شواجر الرحم واللحمة، ومزجت الدم بالدم والمهجة بالمهجة.
-
محبة لا تتميز معها الأرواح، إذا ميزت الأشباح، ومخالصة لا تتباين بها النفوس والمهج، وإن تباينت الأشخاص والصور.
-
نحن كالنفس الواحدة؛ لا تجزُّؤ ولا انقسام، ولا تميز ولا انفصام.
-
لا أعظم كحق مودته حقًّا، ولا أرى بين النفسين فكيف بين المالين فرقًا.
-
أنت جارٍ مني مجرى أبعاض جسمي، وأعشار قلبي، وأنت جزء من نفسي، وناظم شمل أنسي.
-
أنت مني كالعين الناظرة التي تصان عما يقذيها، واليد الباطشة التي تحفظ مما يدويها.
-
هو شقيق روحه، وعديل حياته، وشريك دولته، وقسيم نعمته.
-
ما زال مستودع سري وجهري، ومشتكى بثي وحزني.
-
هو مني بمنزلة الولد، والعضو من الجسد.
-
العشرة رَضاع تثبت حرمته، والمودة لبان تلزم ذمته.
-
قد تقلبنا في أعطاف العيش، بين الوقار والطيش.
-
إخوان تطابقوا في الآراء، وتآلفوا في الأهواء، وتمالحوا في الطعام، وترضعوا بالمدام.
-
أنا أتهم عليك عيني، وإن كنت لا أتهم قلبي، وأرضي لمودتك نيتي، وإن كنت لا أرضي له طاقتي.
-
لا مرحبًا بعيش أتفرد به عنك، ويوم لا أكتحل فيه بك.
-
وددت أن أضرب بحضرتك أطناب عمري، وأنفق على خدمتك أيام دهري.
-
لا أزال أحن إليك، وأحنو عليك، يا ليت قلبي يتراءى لك فتقرأ فيه سطور ودي، وتقف منها على رأيي فيك!
-
إني لآسف على كل يوم فارغ منك، وكل لحظة لا تؤنسها برؤيتك.
-
أنت من لا يسافر ودي إلا إليه، ولا يرفرف طير محبتي إلا عليه.
-
قد ملت إليك فما أعتدل، ونزلت بك فما أرتحل، ووقفت عليك فما أنتقل.
-
أنا أتصبَّح باسمك، وأتفاءل بذكرك، وأحلم بوجهك، وأحتلب ضرع الشعر بذكرك.
-
ما في نفسي بقعةٌ أعمر من محلك، وأنضر من مسكنك، ولا في قلبي مكان إلا موشَّي بذكرك، مطرز باسمك.
-
عهدي لك أكرم العهود، ووفائي لك وفاء العِرق للعود.
-
شوقي إليك زادي في سفري وعتادي في حضري.
-
شوقٌ لو خُوِّف المجرمون بحره، وتُوعِّد المشركون بجمره، لما عُبِد صنم، ولا نقلت في الضلال قدم.
-
فرحة الأديب بالأديب، كفرحة المحب بالمحبوب، والعليل بالطبيب.
-
حالي بعدك حال عود زوى بعد ارتوائه، ونجم هوى بعد اعتلائه.
-
ودعت بوداعك العافية، وفارقت مع فراقك العيشة الراضية.
-
يا أسفي على غَفَلات العيش، ولحظات الأنس، إذ ظهائرنا أسحار، وليالينا نهار، وشهورنا أيام، وسنوننا قصار.
-
سقى الله أيامًا لو كان دهري عِقدًا كانت واسطته، أو كان عمري جِيدًا كانت قلادته.
-
أيامٌ حسنتْ فكأنها أعراس، وقصرتْ فكأنها أنفاس.
-
سلامٌ كأنفاس الأحباب، وأيام الشباب.
-
صرت عندك ممن محا النسيان صورته من صدرك، واسمه من صحيفة حفظك.
-
أنت سخيٌّ بمالك على من يطالبك، بخيلٌ بكتابك على من يكاتبك، تتوسع في ألوف، وتضايق في حروف.٣
في الأرض مجالٌ إن ضاقت ظلالك، وفي الناس واصلٌ إن رثَّت حبالك.
مأخوذ من قول معن بن أوس:
ولا يقدح في هذا المأخذ أن يحدثنا الثعالبي في مقدمة سحر البلاغة أنه حلَّ بعضه من نظم أمراء الشعر في زمانه، فإن ألفاظ الشعراء تواجه القارئ في أكثر ما ترك كتَّاب القرن الرابع، وعمل الثعالبي نفسه شاهد على ذلك.
قلت للهائم أبي علي: مَن تحب أن يكون صديقك؟ قال: من يطعمني إذا جعت، ويكسوني إذا عريت، ويحملني إذا كللت، ويغفر لي إذا زللت. فقال له علي بن الحسين العلوي: أنت إنما تريد إنسانًا يكفيك مئونتك، ويكفلك في حالك، كأنك تمنيت وكيلًا فسميته صديقًا. فما أحار جوابًا.
وقلت للنبوي — ولقيته بالدسكرة سنة خمس وستين — مَن تحب أن يكون صديقك؟ قال: من يقيلني إذا عثرت، ويقومني إذا ازوررت، ويهديني إذا ضللت، ويصبر عليَّ إذا مللت، ويكفيني ما لا أعلم وما علمت.
بسم الله الرحمن الرحيم
إني — حفظك الله وحفظني لك، وأمتعك بي وأمتعني بك — قد بلوتك طوال أيام أبي جعفر — قدس الله روحه — فوجدتك ذا شهامة فيما يناط بك، حسن الكفاية فيما يوكل إليك، كتومًا للسر إذا استُحفظته، حسن المساعدة فيما يجمل بك الوفاق عليه. وقد حداني هذا كله على احتبائك وتقريبك، وإدنائك وتقديمك، وغالب ظني أنك تعينني على ذلك بميمون نقيبتك، ومأمون ضريبتك، وجعلت دعامة هذا كله أني أجريك مجرى الصديق الذي يفاوض في الخير والشر، ويشارك في الغث والسمين، ويستنام إليه في الشهادة والغيب، ولي معك عينان؛ إحداهما مغضوضة عن كل ما ساءني منك، والأخرى مرفوعة إلى كل ما سرني فيك، فإن كنت تجد في نفسك على قولي هذا شاهدًا صدوقًا، وأمَّارًا نطوقًا، فعرفني لأعلم أن فراستي لم تفلْ، وحدسي عن طريق الصواب لم يمل، والحالة التي قد جددها الله لي هي محروسة لك، ومفرغة عليك، ومستقلة بك، فاشكرني فيها بخالصة الوفاء، أو تفرد بها إن شئت بحقيقة الصفاء، فلك الأمنة من حيلولة الاعتقاد، والسكونُ إلى عفة الاجتهاد.
«قلت: أما الوصف فحسن، وأما الموصوف فعزيز.»
والكلام في إخوانيات التوحيدي يطول إذا شئناه، فلنكتفِ بهذه الكلمات الطيبات.
أنا — أطال الله بقاء الشيخ الإمام — بصير بأبناء الذنوب، وأولاد الدروب، أعرفهم بشامة، وأثبتهم بعلامة، والعلامة بيني وبينهم أن يفسدوا الصنيع على ما صانعه، ويحرِّفوا الكلم عن مواضعه، ويرموا في الحكاية سهم الشكاية، ويجيلوا في الشكاية قدح النكاية، ثم لا يرون النكاية إلا السعاية، وإن أعوزهم الصدق مالوا إلى الكذب، وإن حلم لهم الجد عرضوا باللعب. ومن علاماتهم؛ قبح مقاماتهم، وإيراد ظلاماتهم مورد النصيحة لكبرائهم. ومن آياتهم كثيرة جناياتهم على الفضلاء، وشدة حنقهم على من لا يخطرهم بباله، ولا يحطبهم في حباله … والذي فاوضني القاضي في معناه، جلي في بابه ما حكاه، يجمع هذه الخصال وقيادة، وينظم هذه الأوصاف وزيادة، فلِمَ يَبعد الشيخ عن مثله أن يكذب؟ ألطهارة أصله، أم نجابة نسله، أم حصانة أهله، أم رجاحة عقله، أم ملاحة شكله، أم غزارة فضله؟! ولِم يجوز عليَّ ما حكاه؟ ألم يُؤْوِنِي طريدًا، ويلمني حصيدًا، ويؤنسني وحيدًا، ويصطنعني مبديًا ومعيدًا؟ وكان بقدري أنه إذا رآني أفعل شنيعًا، أو سمع أني ألفظ بنكر، لم يأل في تحسين أمري، فعل الوالد بولده، ونظر المولى لصنيعه أقرب.
وقد ترق الرسائل الإخوانية حتى تعود وكأنها رسائل حب؛ كالذي اتفق لأبي الفضل المكيالي، وأبي الفضل بن العميد، وقد أشرنا إلى بعض ذلك في ترجمة هذين الكاتبين في الجزء الثاني فليرجع إليه القارئ هناك.