الوصف
وأطنبوا في وصف المعاني الوجدانية — كما أطنبوا في وصف المرئيات — فتكلموا عن أهواء النفس ونزعاتها؛ كوصف الحب والوجد، والحقد والبغض، والكرم والنبل، وعرضوا لما يقع لأهل المهن وللرؤساء من الهنَّات والعورات.
كل ذلك بطريقة مقصودة تدل على أنه كان لهم برنامج خاص لم يعرفه أسلافهم. ولهذا المذهب عيوبه ومزاياه؛ فعيبه أنه حملهم على التكلف والإسراف، وميزته أنه دفعهم إلى تنظيم أفكارهم، وترتيب أغراضهم، فإن القارئ يرى لهم قوة في تصوير المرئيات والمعنويات لا يجدها إلا قليلًا عند من سبقهم من الكتَّاب، وذلك بفضل هذا الاتجاه الذي جعل من عصرهم «مدرسة وصفية» لا نراها في عصر الخلفاء، ولا عهد بني أمية، ولا أوائل أيام بني العباس.
ولا ننكر أن الكتَّاب السابقين أجادوا الوصف في كثير من الموضوعات، ولكنا نقرر أن كتَّاب القرن الرابع عمدوا إلى كل ما يقع عليه الحس، أو يجري في الخاطر، أو ينقده العقل، فوصفوه وصفًا مفصلًا مقصودًا بطريقة لم يفكر في مثلها المتقدمون.
ولقد مكننا الثعالبي في كتابه «سحر البلاغة» من تعابير كثيرة عن الأوصاف التي عني بها كتَّاب ذلك العصر، نثبت شيئًا منها في هذا الفصل ليرى القارئ صدق ما نراه من قصد كتَّاب ذلك العهد إلى إجادة الوصف.
-
ماء كالزجاج الأزرق، غدير كعين الشمس.
-
ماء كلسان الشمعة، في صفاء الدمعة، يسبح في الرضراض، سبح النضناض.
-
ماء أزرق كعين السِّنور، صاف كقضيب البلور.
-
غدير ترقرقت فيه دموع السحائب، وتراترت عليه أنفاس الرياح الغرائب.
-
نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد، نثر كالسحر أو أدق، ونظم كالماء أو أرق.
-
رسالة كالروضة الأنيقة، وقصيدة كالمخدرة الرشيقة.
-
نثر كما تفتح الزهر، ونظم كما تنفس السَّحر.
-
سكين كأن القدر سائقها، والأجل سابقها، مرهفة الصدر، مخطفة الخصر، يجول عليها فرند العتق، ويموج فيها ماء الجوهر، كأن المنية تبرق من حدها، والأجل يلمع من متنها، ركبت من نصاب أبنوس، كأن الحدق نفضت عليه صبغتها، وحب القلوب كسته لباسها، أخذ لها حديدها الناصع بحظ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج، فكأنها ليل من تحت نهار، أو مجمر أبدى سنا نار، ذات غِرار ماض، وذباب قاض.
-
سكين أحن من التلاق، وأقطع من الفراق، تفعل فعل الأعداء، وتنفع نفع الأصدقاء.٣
وقد ظلت أمثال هذه التعابير الوصفية منبعًا يستقي منه الكتَّاب والشعراء إلى العصر الحديث. والنقاد في مصر يعجبون بقول حافظ إبراهيم في وصف الصهباء:
صدور كالإغريض، أو صدور البزاة البيض.
كأنها أطواق الحمام، وصدور البزاة البيض، وأجنحة الطواويس، وسوالف الغزلان، ونهود العذارى الحسان، وغمزات الحدق الملاح.
فمٌ كأنه أقحوانة لم تتصوَّح، ووردة لم تتفتح، يضحك عن جمان، ويتنفس عن ريحان، وينطق عن ألحان، وخدود كنار أخدود، أو تفاح، أو ماء وراح، أو الشفق في الصباح.
مأخوذ أيضًا من كتَّاب ذلك العهد.
كأنه جاء برأس خاقان، أو أدال دولة بني مروان، أو أن الإيوان داره، والهرمين آثاره، وعصام بن شهبر حاجبه، وعمرو بن بحر كاتبه، والحجاج غلامه، والحماسة كلامه.
قد أسكرته خمرة الكبر، واستغرقته لذة التيه، كأن كسرى حامل غاشيته، وقارون وكيل نفقته، وبلقيس إحدى داياته، وكأن يوسف لم ينظر إلا بطلعته، وداود لم ينطق إلا بنغمته، ولقمان لم يتكلم إلا بحكمته، والشمس لم تطلع إلا من جبينه، والغمام لم يبد إلا من يمينه.
وكذلك يمكن رد أكثر التعابير الوصفية التي كان يغرم بها فريق من كتاب الصنعة في العصر الحاضر أمثال المبكيِّ على أدبهم الرفيع: محمد المويلحي ومحمد السباعي ومحمد هلال.
وكأن القرن الرابع يؤدي للقرون التي تليه ما أخذه عن القرون التي سبقته، فقد كان كتَّابه مولعين بحل الشعر القديم؛ لا يرون معنى بديعًا، ولا خيالًا طريفًا إلا اقتبسوه وأضافوه إلى ثروتهم النثرية، يشهد بذلك ما أشار إليه الثعالبي في مقدمة «سحر البلاغة» من أنه ضمَّن كتَابه بعض ألفاظ الجاحظ وابن المعتز، وما نجده في مقامات بديع الزمان من حل بعض الأبيات الجاهلية، وكانوا كذلك يغيرون على شعراء عصرهم فيأخذون معانيهم الجيدة، كما فعل الصاحب بن عباد حين اغتصب بعض معاني المتنبي وأدخلها في رسائله، وكذلك فعل الصابي والخوارزمي وابن العميد.
وقد أشاع كتَّاب القرن الرابع نظرية «الفن للفن» فقد عودوا القراء تذوق الكتابة البليغة، وحببوا إليهم النثر المصنوع، فأصبح المتأدبون يتأملون مواقع الألفاظ، وقرار التراكيب، وصارت فنون البديع من تورية وجناس وطباق أصولًا فنية يجد القارئ لذة ومتعة حين يراها وقعت موقعًا حسنًا، وأصابت الغرض الذي وضعت له، ولو كان غرضًا لفظيًّا لا يتوقف عليه تمام المعنى المراد.
وإذا كان كتَّاب العصر الحاضر لا يستطيبون أكثر آثار ذلك العصر، ويرون بلاغتها بلاغة لفظية، فلأنهم أسرفوا في مهاجمة النثر الفني الذي غلبت عليه الصنعة، حتى صارت صدورهم تضيق كلما رأوا سجعًا أو جناسًا أو طباقًا، أو أي محسِّن وقع عن قصد، مع أن المتأدب لا يقبل على آثار ذلك العصر إلا عجب لتلك القرائح القوية، وتلك الطبائع السليمة، التي سمحت لأولئك الناس بالتعمق في وصف ما شهدته أعينهم، وأحسته أنفسهم، من غرائب العوالم المحسوسة والمعقولة، بطريقة فنية هي وحدها تتطلب دقة في الفهم، وقوة في العقل، وسلامة في الذوق.
وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه، ففاح نسيم نشقه، وسطعت رائحة عبقه، فتعلقت به الرواة، وتعطرت به السراة.
وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكير الفكر، وسبكته بمشاعل النظر، وخلصته من خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز، في معنى وجيز.
وقال الصيرفي، خير الكلام ما نقدته يد البصيرة، وجعلته عين الروية، ووزنته بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيفه ولا سماع يبهرجه.
وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار التدبير، فصار بابًا لبيت البيان، وعارضة لسقف اللسان.
وقال الصباغ: أحسن الكلام ما لم تنض بهجة إيجازه، ولم تكشف صبغة إعجازه، وقد صقلته يد الروية من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألف عذارى الألباب.
وقال الحائك: أحسن الكلام ما اتصلت ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوفًا منيرًا، وموشى محبرًا.
وقال البزاز: أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه، فلم يستعجم عنك نشر، ولم يستبهم عليك طي.
وقال الجمال: البليغ من أخذ بخطام كلامه، فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالًا، والإيجاز له مجالًا، فلم يندَّ عن الآذان، ولم يشذ عن الأذهان.
وقال المخنث: خير الكلام ما تكسرت أطرافه، وتثنت أعطافه، وكان لفظه حلة، ومعناه حلية.
وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم، وصفَّاه راوق الفهم، وضمته دنان الحكمة، فتمشت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقته، وفي العقول حدته.
وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر دواء بيانه سقم الشبهة استطلقت طبيعة فشفي من سوء التفهم، وأورث صحة التوهم.
وقال الكحال: كما أن الرمد قذى الأبصار فكذا الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
وقد يقال: إن هذا الحديث يدل على ذوق واضعه، فلا يكون دليلًا على الاتجاهات الوصفية في عصره، ونجيب بأنا نجد هذا الاتجاه في عدة مواطن من آثار ذلك العصر في الموضوع نفسه وهو وصف البلاغة، مثل: «البليغ من يجتني من الألفاظ أنوارها، ومن المعاني ثمارها.
ولكن أليس لهذا الزخرف قيمة في فهم ذلك العصر؟
بلى، إنه يدلنا على أن أولئك الناس عرفوا لغتهم معرفة جيدة، ووقفوا على أسرارها، وطرائق تعبيرها، وكان من همهم أن يرتبوا الألفاظ والمعاني والتعابير والأخيلة حتى استطاع كاتبهم أن يحشر أرباب الصناعات في صعيد واحد، ثم ينطقهم بأسرار البلاغة، فيتحدث كل واحد على طريقته وبأسلوبه الذي يختاره في مقر مهنته، وموطن عمله، وما نحسب كتَّاب القرن الأول مثلًا كانوا يفكرون في جمع شتات اللغة لتصبح طوع أفكارهم وأقلامهم على هذا النحو الفضفاض، وإنما كانوا يكتفون في الوصول إلى أغراضهم بالعبارة الواضحة الموجزة التي يفهمها خاصة الناس وعامتهم بلا عناء.
أما كتَّاب هذا القرن فقد أصبحوا في حاجة إلى صفوة من المتأدبين تقرأ لهم، وتفهم عنهم، وتنقل إلى الجماهير أسرار ما يكتبون؛ لأن لغتهم أصبحت من القوة بحيث لا يفهمها الجمهور بلا دليل، فليس كل قارئ ولا كل سامع بمستطيع أن يتذوق تشبيه الخط الجميل بأزهار الربيع، والألفاظ بقلائد النحور، والمعاني باللآلئ، ولا ان يدرك كيف تتمنى كل جارحة أن تكون أذنًا تلتقط درر الكلام وجواهره، أو عينًا تجتلي مطالعه ومناظره، أو لسانًا يدرس محاسنه ومفاخره.
إذن فالصنعة التي عرف بها كتَّاب القرن الرابع لها وجهان: وجهٌ جميل يدل على حذقهم وبراعتهم، ووجه آخر يدل على بعدهم من غاية البيان وهي الوضوح، فإن الإغراق في الصنعة باب من الغموض.
هوامش
وملاحظة كلام أهل المهن والصناعات مما تنبه له الجاحظ قال: قلت لملاح لي — وذلك بعد العصر في رمضان: انظر، كم بين عين الشمس وبين موضع غروبها من الأرض؟ قال: «أكثر من مرديين ونصف.» — والمردي عود يدفع به الملاح السفينة — وقال آخر: وقع علينا اللصوص، فأول رجل دخل علينا السفينة كان في طول هذا المردي، وكان فخذه أغلظ من هذه السكان، واسودَّ وجه صاحب السفينة حتى صار أشد سوادًا من هذا القير.
وأردت الصعود مرة في بعض القناطر وشيخ ملاح جالس، وكان يوم مطر وزلق، فزلق حماري فكاد يلقيني بجنبي، لكنه تماسك فأقعى على عجزه، فقال الشيخ الملاح: «لا إله إلا الله! ما أحسن ماجلس على كوثله!» — والكوثل: مؤخر السفينة.
وفي دار الكتب المصرية رسالة مخطوطة (رقم ٨٢م أدب) تحدث فيها أربعة وخمسون رجلًا (فشرط كل منهم أنه لا يكلم رفيقه إلا بعبارة تناسب حرفته، وكلما فرغ من نثره أتبعه ببيتين من شعره) وهي رسالة جاءت بعد القرن الرابع بزمان طويل، وتظهر عليها النزعة المصرية في الألفاظ والتعابير، وفيها أحيانًا نزعة شامية.
ومن طريف ما في هذه الرسالة ما جاء على لسان الجزار: ذبحتموني ذبح، ونحرتموني نحر؛ انتو عندكم مغني أحسن من خروف! بالله استغنموا أيام البدارى قبل انسلاخها عنكم، وأنت يا ساقي، يا فك النعجة وكبش المراح ما لنا عنك مراح وما جاء على لسان البرادعي: «أنا معكم كل ساعة في مذلة، وكم في بردعتي منكم مسلة، أنا أخيش وأتعب، وغيري ينط ويركب، فما أقبح حشو كلامكم، قطع الله حزامكم، وأنت يا ساقي ما بتكرمنا اسقينا حتى تلجمنا: