المقامات
العرب كجميع الأمم لهم قصص وأحاديث وأسمار وخرافات وأساطير يقضون بها أوقات الفراغ، ويصورون بها عاداتهم وطباعهم وغرائزهم من حيث لا يقصدون؛ ففي أي بقعة من البقاع العربية نجد الناس يسمرون تحت ضوء القمر في ليالي الصيف، أو حول المواقد في الشتاء، ولو استمعنا إليهم لوجدنا لهم على سذاجتهم طرائف من القصص تدل على لباقة وذكاء، وقد أتيح لي في أحيان كثيرة أن أختبر طبقات العامة من المصريين والسوريين والحجازيين والتونسيين فرأيت لهم نوادر غريبة تشوق الخيال.
وتلك القصص الطليقة التي تقال في غير تحفظ ومن غير فن؛ هي المصدر الأول لكتاب ألف ليلة وليلة الذي شغل الأوربيين والأمريكيين بما فيه من المفاجآت المدهشة والأحلام العجيبة، التي صورت به النزعات المكبوتة في تلك الطبقات التي أضناها الاستبعاد واليأس والرق الاجتماعي زمنًا غير قليل. ولو أن كاتبًا أراد أن يجمع كتابًا على طراز ألف ليلة وليلة لوصل إلى ما يريد من غير مشقة ولا عناء، فلا تزال تلك الطبقات تحلم وتتخيل وتبتكر ما شاءت لها حياتها الاجتماعية من أنواع القصص الخلاب الذي يمثل ما ترجو وما تخاف، ولكن هذا النوع من القصص ليس هو النوع الذي نريد أن نتحدث عنه في هذا الباب، إنما نريد أن نتكلم عن القصص الذي وضع قصدًا، والذي أراد أصحابه أن يدوِّنوا به بعض الأوصاف عن طريق الحكايات الصغيرة، أو يذيعوا بعض النوادر والفكاهات، أو يعطوا بعض الجوانب التاريخية صورة مغرضة يخدمون بها بعض الأحزاب، أو يشرحوا بعض النظريات الفلسفية والأدبية، أو يصفوا بعض الحوادث الغرامية، وما إلى ذلك مما يشوق القلوب والعقول والأذواق.
وأظهر أنواع الأقاصيص في القرن الرابع هو فن المقامات، وهي القصص القصيرة التي يودعها الكاتب ما يشاء من فكرة أدبية، أو فلسفية، أو خطرة وجدانية، أو لمحة من لمحات الدعابة والمجون. وكان المعروف أن بديع الزمان الهمذاني هو أول من أنشأ فن المقامات، ولم أجد فيمن عرفت من رجال النقد من ارتاب في سبق بديع الزمان إلى هذا الفن، وإنما رأيت من يعلل سبقه بنزعته الفارسية؛ إذ كان الفرس — فيما يظن بعض الناس — أحرَصَ من العرب على القصص، وأعرَفَ بمصنوع الأحاديث.
هذا مع اعترافي بأن البديع — رحمه الله — سباق غايات، وصاحب آيات، وأن المتصدِّي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته، ولله در القائل:
وقد دهش المسيو مرسيه حين عرضت عليه هذا النص في باريس، وعجب كيف اتفق الناس مع هذا على أن بديع الزمان هو منشئ فن المقامات، ثم سألني: ألا يمكن الارتياب في قيمة كلام الحصري في هذا الموضوع؟ فأجبته بأنه تحدث بأسلوب يدل على أنه كان مفهومًا في أوائل القرن الخامس أن بديع الزمان إنما عارض ابن دريد وحاكاه. فارتضى هذا الجواب ثم قال: يظهر أنه ضاع علينا من تاريخ الأدب العربي شيء كثير.
وقد واصلت البحث لأرى صدى هذه الفكرة في مؤلفات القدماء فلم أجد من أفردها بجهد خاص، وإن كنت رأيت ياقوت الحموي نقل ما كتبه صاحب زهر الآداب حين ترجم لبديع الزمان، ونقلُ ياقوت لهذا النص من غير تعقيب مظهر من مظاهر القبول.
وعندي أن من أسباب غفلة مؤرخي الآداب عن كشف هذا الخطأ أن ابن دريد سمى قصصه (أحاديث) في حين أن بديع الزمان سمى قصصه مقامات.
وقد دهش الدكتور طه حسين أيضًا حين أطلعته على ما وصلت إليه في تحرير هذه الفكرة، وقال: إن ابن دريد كان رجل لغة ورواية، ولم يعرف أنه كان كاتبًا ممتازًا، فكيف أثار بديع الزمان بما ابتكر من الأحاديث؟ ثم عاد فقال: ارجع إلى كتاب الأمالي للقالي وانظر الأحاديث التي نقلها عن الأعراب، فإن رأيته يروي عن ابن دريد — وكان أستاذه — فاعلم إذن أن الأربعين حديثًا التي ذكر صاحب زهر الآداب أنه اخترعها لم تكن شيئًا آخر غير هذه القصص التي حلَّى بها القالي كتابه.
وقد انتقلت المقامات بعد ذلك إلى كلام المعتفين الذين يتوسلون إلى الأغنياء بكلام مسجوع، وكثيرًا ما نجد عندهم أمثال عبارة: «ارحموا مقامي هذا»، يريدون الموقف، ثم صار المقام يطلق على ما يقال من الكلام في تلك المواقف. والمقام في الأصل المجلس، ففي القرآن: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (مريم: ٧٣)، وفي شعر زهير:
ومع أن ابن دريد هو المبتكر لفن المقامات، فإن عمل بديع الزمان في هذا الفن أقوى وأظهر، وطريقته في القصص تختلف عن طريقة ابن دريد، والذين كتبوا مقامات بعد ذلك لم يكن في أذهانهم غير فن بديع الزمان، فهو بذلك منشئ هذا الفن في اللغة العربية، ولم تسمَّ تلك القصص بعد ذلك أحاديث كما سماها ابن دريد، وإنما سميت مقامات كما سماها بديع الزمان.
ثم جاء الحريري فصير فنَّ المقامات شريعة أدبية، وقد انتشرت مقاماته في جميع الأقطار العربية، وصارت مضرب المثل في الفصاحة والبيان، ويعد الحريري أشهر من نظم المقامات، وإليه يرجع الفضل في ذيوع هذا الفن الجميل.
ومضى الكتَّاب بعد ذلك يترسلون على هذه الطريقة في جميع العصور حتى اليوم، ولم يمضِ عصر لم تحفظ فيه مقامات، ونظرةٌ فيما كتب بروكلمان في دائرة المعارف الإسلامية، أو ما دوَّن في فهرس دار الكتب المصرية؛ ترينا كيف افتنَّ الكتَّاب في تلك الأقاصيص.
وقد لاحظنا أن كل ما كتب من المقامات يرجع في جوهره إلى فن بديع الزمان، فالصورة واحدة من حيث السجع والازدواج، وطريقة القَصص واحدة، والافتتان في الموضوعات هو كذلك من مبتكرات بديع الزمان، حتى الطريقة التعليمية التي عرفت في مقامات السيوطي وابن الجوزي والقلقشندي هي أيضًا مما ابتكر بديع الزمان، والفرق يرجع إلى صور الثقافات في مختلف العصور، فبديع الزمان صوَّر مشكلات عصره، والحريري مثَّل معضلات زمانه، والسيوطي فصَّل أوهام الناس وعلومهم في أيامه، وجاء محمد المويحلي في العصر الأخير، فوضع كتابًا في نقد الحياة الاجتماعية في مصر، تأثر فيه سجع بديع الزمان، وحفظ من رسومه من اسم راويته عيسى بن هشام.
وفن المقامات الذي نشأ في القرن الرابع لم يعرف وطنًا عربيًّا، وإنما عاش في جميع الأقطار الإسلامية، فكان من أهل فارس والعراق والشام واليمن والحجاز ومصر والمغرب والأندلس كتَّاب برعوا في فن المقامات، وتفصيل هذه النقطة يحتاج إلى كلام طويل، على أنها أوضح من أن تحتاج إلى تفصيل.
وعند مقارنة مقامات بديع الزمان بمقامات الحريري يتبين لنا أن لغة بديع الزمان خالية من التكلف والاعتساف، ولا كذلك لغة الحريري التي تعد من أغرب نماذج النثر المصنوع، وعند الرجوع إلى آثار من تأثروا بفن المقامات نراهم في الأغلب تلامذة الحريري لا تلامذة البديع، فقد أولع أكثرهم بالصنعة والزخرف، ولم يأنس منهم إلى فطرته إلا القليل.
ونتيجة ما سلف أن القرن الرابع دان اللغة العربية بفن من فنون القَصص هو فن المقامات، وذيوع هذا الفن يرجع إلى أنه وافق السليقة العربية التي تميل إلى القصص القصير، والتي تميل إلى الزخرف في الإنشاء.
وقد ظن ناس أن فن المقامة هو فن القصة، وكذلك نراهم يذكرون المقامات كلما أُثير موضوع القصة في اللغة العربية، والواقع أن العرب بفطرتهم لم يكونوا يميلون إلى القصص المعقد الذي وجد كثير منه فيما أُثر عن اليونان القدماء، والذي ذاع عند الإنجليز والروس والفرنسيس والألمان.
ولا عيب في أن تخلو آثار العرب من القصص الطويل، فإن الفن الصحيح يرتكز أوَّلًا على الفطرة، ولم يكن العرب مفطورين على القصة التي تقرأ في أيام أو أسابيع، ولذلك خلا شعرهم ونثرهم من الآثار القصصية التي وجدت عند معاصريهم في الشرق والغرب.
وليس معنى هذا أن آثار العرب خلت خلوًّا تامًّا من القصة، ولكن معناه أن فن القصة من الفنون الدخلية على اللغة العربية، وقد يكون لبساطة الطبائع العربية أثر في وقوفهم عند القصص القصير، ومَثَل القصة في ذلك مَثَل الموسيقا، فقد كانت موسيقاهم بسيطة؛ لأن نفوسهم كانت بسيطة، فلما أخذت العواطف تتعقد وتشتبك أخذ القصص والموسيقا في التعقد والاشتباك.
ولهذا السبب عينه لم يفكروا في التمثيل، ولم ينقلوا عن اليونان شيئًا يذكر من القصص التمثيلية؛ لأن أسمارهم كانت تغنيهم عن التمثيل.
ولا ينسَ القارئ أن موقفنا دائمًا موقف المؤرخ للفنون الأدبية، ونحن من وجهة التاريخ نرى أن إبداع فن المقامات يعد فتحًا عظيمًا في اللغة العربية، ولا بد أن يكون معاصرو بديع الزمان تلفتوا إلى فنه تلفت الدهشة والاستغراب، وعدُّوه من كبار المبدعين.
وحسب بديع الزمان من المجد أنه ألهم الحريري مقاماته التي كانت سببًا في خلود هذا الفن الجميل، وقد ظلمه شوقي حين قال في رئاء المويلحي:
إن بديع الزمان شخصية نادرة المثال، وأسجاعه أحيانًا أرق من الزهر المطلول، ولكن المنصفين في الناس قليل.
ألم يجرؤ أحد المتحذلقين على ادعاء أن نثر بديع الزمان لا يقرأ إذا ترجم إلى لغة أجنبية؟
لقد ترجمنا نماذج من مقاماته ورسائله إلى اللغة الفرنسية فكانت تحفة في عين من رآها من الفرنسيس، ولكن أكثر المحدثين عندنا لا يعرفون أسرار الأدب القديم.