أحمد بن يوسف المصري
في أوائل سنة ١٩١٥ أرشدنا الأستاذ حسنين مخلوف إلى قراءة كتاب «المكافأة» لأبي جعفر أحمد بن يوسف المصري، فاقتنيته وقرأته، ولكني وجدته كتابًا عاديًّا لا روح فيه، ثم عدت إليه في هذه الأيام (صيف سنة ١٩٣٠) وأنا في باريس، فدهشت لبعد ما بين الإحساسين: شعوري بتفاهة الكتاب سنة ١٩١٥، وشعوري بنفاسته سنة ١٩٣٠، ورجعت أختبر نفسي وأمتحنها لأعرف السر في هذا البعد الهائل بين تقديرين مختلفين أشد الاختلاف نحو كتاب واحد، فانتهيت إلى أن الكتاب هو هو بالطبع لم يتغير، لا في وضعه ولا في أسلوبه، ولكني أنا الذي تغيرت، ففي سنة ١٩١٥ كنت من المعجبين المفتونين بأسلوب بديع الزمان والخوارزمي والصابي وابن العميد، وكان كتَّاب الصنعة المتأنقون أقرب الناس إلى نفسي، وأحبهم إليَّ، وأبعدهمم تأثيرًا في تكوين مشاعري الفنية والأدبية، فقد كنت أحفظ عن ظهر قلب مقامات بديع الزمان، ومقامات الحريري ونهج البلاغة، ومقادير عظيمة جدًّا من مختار ما كتب الخوارزمي والصاحب بن عباد وابن زيدون، ومن إليهم من الكتاب الذين أرادوا أن يكون النثر فنًّا خالصًا يسامي الشعر ويباريه في الزخارف والتهاويل والوزن والقافية؛ لأن أكثر النثر المصنوع مقفى موزون، وإن لم يجر وزنه وتقفيته على وتيرة واحدة.
وكنت أحفظ كذلك أكثر ما في زهر الآداب والأمالي والعقد الفريد من خطب الأعراب وأحاديثهم وحكمهم، وفقراتهم المأثورة في الأوصاف والتشبيهات، فاطمأنت نفسي إلى أن النثر الجيد هو النثر الذي يعنِّي الكاتب ويشقيه باختيار الألفاظ والتعابير، وأن الكاتب البليغ هو الصَّنع الفنان الذي ترى جهده وصنعه وفنه في كل لفظة وكل جملة؛ بحيث ترى في رسالته أو خطبته ما تراه في الأعمال الفنية الدقيقة من مظاهر البراعة والحذق ودقة النظم ومتانة التراكيب، من أجل ذلك رأيت في كتاب المكافأة يوم ذاك أثرًا ينقصه الفن، ويبدو هامدًا لا حسَّ فيه ولا روح.
ثم شاء الله أن أتعمق في دراسة الأدب العربي والأدب الفرنسي، وأن أقبل بنوع خاص على ما كتب النقاد الفرنسيون الذين أطالوا القول في دراسة أسرار البلاغة مقرونة بدرس نفوس الكتاب وسرائرهم وضمائرهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وألوان حياتهم، فعرفت أن هناك جمالًا غير جمال الصنعة البراقة التي تهيج الحواس، هناك جمال النفوس الصافية، والأرواح الملهمة، والقلوب الحساسة، التي تفيض على العالم من فيض الحكمة والعقل، وتسكب على الوجدان ما يوقظه ويحييه من نمير العطف والحنان.
وعرفت أن النثر قد يكون مصنوعًا أدق الصنع من دون أن نرى فيه أثرًا للسجع والجناس والتورية والمطابقة والازدواج، وأن ما يسمى بالمحسنات البديعية ليس كل شيء في صناعة الكتابة، فقد يشقى الكاتب في وضع الجملة وصياغة الأسلوب من غير أن يحس القارئ أنه أمام نثر مصنوع، وهذا النوع من الصنعة أدل على الحذق والمهارة وقوة الطبع وعبقرية الخيال، إن هذا النوع من الصنعة يقنع القارئ بأنه أمام نثر مطبوع لا أثر فيه للجهد والعنت في تخير الألفاظ ورصف التراكيب، ومثله مَثَل المناظر الطبيعية؛ فقد يقف المشاهد أمام زهرة مبرقشة مزخرفة تغلب فيها الخطوط والتصاوير، أو تُعرض عليه سمكة ملونة تلوينًا دقيقًا يزيغ البصر ويثير الحس، ثم لا يحسب الإنسان أن في هذه السمكة أو تلك الزهرة فنًّا وصنعة؛ لأنه يظنها هكذا خلقت، ولا يدري أن الطبيعة صنعتها عن عمد وذكاء.
وكذلك نقرأ الآثار الأدبية التي تنقصها الصنعة الظاهرة فنحسبها مطبوعة، وذلك خطأ مبين، فكل شاعر يصنع قصيدته، وكل كاتب يصنع رسالته، وكل خطيب يصنع خطبته، والفرق بين المصنوع والمطبوع أن الأول يبدو فيه أثر التكلف ومحاولة الإبداع، أما الثاني فيصدر عن طبيعة سخية لبقة تعودت الإتقان والإجادة؛ بحيث يظن أنها تبدع ما تبدع بلا كلفة ولا عناء.
غير أنه ينبغي أن نقيد أن هناك جمهورين من القراء: جمهور المبتدئين الذين تروقهم الصنعة الظاهرة ولا يكادون يفهمون غرائب الصنعة الدقيقة، ولهذا الجمهور الساذج كتاب يحسنون التلوين والتزيين والتهويل، مثلهم مثل الباعة الذين يعرضون على الجمهور الساذج طرائف الثياب المخططة المبهرجة وهي ثياب ظريفة خلابة لا تُكلِّف صانعيها جهدًا كبيرًا، ولكنها تروق العامة وتفتنهم، وتبدو لهم غاية في التجريد والإبداع.
وهناك الجمهور الثاني جمهور المثقفين ثقافة أدبية عالية، وهؤلاء يفهمون دقائق الفنون الأدبية، ويفرقون بين الصنعة السطحية والصنعة الخفية التي لا يجيدها إلا الأفذاذ القلائل من فحول الكتاب، هذا الجمهور المثقف هو الذي يشقي الكاتب المتفوق، ويحمله على مراعاة الذوق الأدبي والحاسة الفنية؛ لأنه يعرف كيف تقع الكلمة من الكلمة، وكيف تؤدِّى الجملة ما وضعت له تأدية صحيحة لا نقص فيها ولا إسراف.
والكاتب البليغ حقًّا هو الذي يضع الألفاظ على قدود المعاني وضعًا رشيقًا مهندمًا يفتن العقل والذوق؛ بحيث لا يودُّ القارئ المثقف لو حذفت لفظة أو زيدت لفظة، ومَثَل هذا الكاتب مَثَل الصيدلي البارع الذي يُحسن تركيب الدواء، فهو شخص مسئول يركب أجزاء الدواء بمقادير معينة محدودة يؤخذ بعضها بالقطارة وبعضها بالميزان، وهو يعلم أن الدواء لو نقص منه جزء، أو زيد عليه جزء، لأصبح ضارًّا أو غير مفيد. ومَثَل الكاتب البليغ مع جمهوره المثقف مثل التاجر المتأنق الذي يتخير أجمل الملابس وأدقها صنعًا، فقد تبدو بضاعته عادية لا رونق فيها عند من لا يفرقون بين المركب والبسيط، ولكنها تظهر نفيسة ثمينة عند من ألفت عيونهم وأذواقهم دقائق النسج، وغرائب الصنع، ومثل هذا التاجر خليقٌ بأن يرضى بالعدد القليل من عشاق الذخائر والأعلاق، فإن فهم النفائس يحتاج إلى ثقافة خاصة لا تتاح لكل مخلوق.
وكذلك الكاتب المبدع والفنان الذي يدق فنه وتسمو صنعته على كثير من العقول والأذواق؛ يجب أن يطمئن إلى أن جمهوره معدود الأفراد، فليس له أن ينتظر جماهير كثيرة تصفق له وتستعيده وتشيد بذكره في الأندية والأسواق، وإلا عاد رجلًا عاميًّا لا إباء له ولا عزة ولا كبرياء، فإن الخرز مهما راجت سوقه وصنعت منه ملايين العقود لن يصل في أي ذهن إلى مساماة اللؤلؤ المكنون الذي كتب عليه الخمول وظل سجين الأصداف، وفي ذلك عزاء لمن أفردتهم عبقريتهم، وأقصتهم عن الجماهير، فعاشوا في أوطانهم غرباء.
كتاب المكافأة طبع سنة ١٩١٤ بمطبعة الجمالية بالقاهرة بعناية الأديب الفاضل أمين عبد العزيز أفندي، الذي ظفر بنسخة منه من أحد باعة الكتب بنابلس وقد أهداه إلى أستاذنا البحاثة أحمد زكي باشا، وهو يقع في ١٢٨ صفحة بالقطع الكبير، وعليه بعض تعليقات، وفيه أغلاط كثيرة يمكن استدراكها لو طبع مرة ثانية. أما المؤلف فهو أبو جعفر أحمد بن يوسف المصري، وكان أبوه يوسف بن إبراهيم يكنى أبا الحسن، وكان من جلَّة الكتاب بمصر.
قال ياقوت: ولا أدري كيف كان انتقاله إليها عن بغداد. مات أحمد بن يوسف نحو سنة ٣٤٠ ﻫ، وله من التصانيف: سيرة أحمد بن طولون، وسيرة هارون بن أبي الجيش، وأخبار غلمان بني طولون، وكتاب المكافأة، وكتاب أخبار الأطباء … إلخ. وكان حسن المجالسة، جيد الكتابة، حسن الشعر، قد خرج من شعره أجزاء. حدثنا عن نفسه قال: «كان أبو الفياض سوار بن شراعة الشاعر صديقًا لي، ومائلًا إليَّ، فلما اعتزم على الرجوع إلى العراق سألني أن أكتب له شيئًا من شعري، فكتبت له مقدار خمسين ورقة. وكان يستحسنه ويعجب به، فصار إلى بغداد وعرضه على جماعة الأحرار، وأحسن وصفي لهم بسلامة مذهبه وطهارة نيته، ودخل محمد بن سليمان مصر وقد رد البريد بها إلى أبي عبيد الله أحمد بن صالح، فسأل عند دخوله إياها عن أحمد بن يوسف، فأحضر أحمد بن يوسف، كاتبًا كان لأحمد بن وصيف ولابن الجصاص بعده، فقال له: تعرف أبا الفياض؟ قال: لا. فقال لهم: ليس هذا الرجل الذي طلبت. فأحضرت، فلما رآني استشرف إليَّ وقال: تعرف أبا الفياض؟ فقلت: ذكرك الله وإياه بكل صالحة! نعم، وكان خلًّا لي. فقال: هل أنشَدَك من شعره:
ونحن نأسف لأن ضاع شعر أحمد بن يوسف الذي كان ينقل إلى مصر سكان العراق.
كتاب المكافأة مصدر عظيم من مصادر الأدب والتاريخ، نعرف منه اتجاه العقول وسيرة الناس في مصر في أواخر القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع. والمصريون لذلك العهد — كما وصفهم صاحب المكافأة — كانوا يقاسون ألوانًا من الظلم والاضطهاد، وكانوا في أنفسهم مزيجًا من العرف والنكر، والخير والشر، والغدر والوفاء، فقد كان فيهم المحسنون والمتصدقون، كما كان فيهم اللصوص وقطاع الطريق، وهذه الحال تذكِّر بما كنت أسمع في طفولتي من أخبار المناسر التي كانت تبيت الناس فتنزل عليهم في هدآت الليل وهم يديرون السواقي في أطراف الحقول. واللص المصري في كتاب المكافأة هو نفسه اللص المصري الذي كانت أخباره متعة السامرين إلى عهد قريب؛ فهو رجل فاتك جريء نهاب سفاك، ولكنه مع ذلك رجل ذو مروءة وشهامة يفي بالعهد ولا ينقض الميثاق.
وتنتهي القصة بأن الغوري دعا اللص إلى المبيت عنده، وأنه مضى في الصباح إلى بعض القواد يخبره بحديث ذلك اللص الشريف، وأن القائد قال له: الطف لي فيه، فوالله لأنوهن باسمه، ولأكافئنه عنك، قال: «فرجعت إليه فأخبرته، فوالله ما ارتاع ولا اضطرب، ومضى معي، فأحسن تلقيه، وخلع عليه، وصيره سيارة لعمله، وضم إليه عدة وافرة.»
وللقارئ أن يعيِّن المعاني النفيسة في الفقرة الأخيرة، خصوصًا عبارة «فرجعت إليه فأخبرته فوالله ما ارتاع ولا اضطرب ومضى معي»، فإنها تدل على شهامة ذلك اللص، وإيمانه بقوة شخصيته، وجدارته بالتقدم إلى من يدعوه من كبار القواد.
أسلوب أحمد بن يوسف يستحق الدرس والنقد؛ لأن هذا الكتاب كان فنانًا يضع اللفظة في الموضع الذي لا يليق بها غيره، ولا تستقر في مكان سواه، وهو كاتب مقتصد لا يسجع، ولا يوازن بين الكلمات، ولا يزاوج بين الجمل، كأكثر معاصريه. ولكن هذا الاقتصاد كثير التكاليف؛ فمن الصعب أن يصل الكاتب إلى غرضه في عبارات موجزة خالية من شوائب الإسهاب والإطناب، وأسلوبه مع هذا الاقتصاد شائق أخاذ يغلب عليه الفن الجميل.
ففي هذه الأسطر القلائل عرض الكاتب مسألة خلقية دقيقة عرضًا لا إخلال فيه ولا تطويل، وللقارئ أن يتأمل قوله: «أمرد تأخذه العين»، فإني أستجيد هذا التعبير وأفضله على قول الثعالبي في ثمار القلوب: «أمرد تأكله العين» الذي أخذه أحد الشعراء فقال:
وجملة: «وأكلنا وهو يتأملني فلا يجد فيَّ شيئًا قدَّره» من الجمل العجيبة التي تؤدي في قصد وإيجاز ما تؤديه الكنايات البارعة التي تصل بالكاتب إلى غرضه من دون أن يخرج على قوانين الأدب والحياء. وقوله: «وانصرف وقد رأيت تبجيلي في حماليق عينيه» من العبارات الرائعة القوية التي لا تقع لغير الكتَّاب الموفَّقين.
ثم وثبت فجاءت بمال في كيس وقالت: يا سيدي، قد أحل الله لك معي ثلاث حرائر وما آثرتَه من الإماء، وقد سوغتك تزويج الثلاثة وابتياع الجواري من مال هذا الكيس، فقد أوقفته على شهواتك، ولست أطلب منك إلا ستري فقط.
القارئ حين يتأمل هذه العبارات يجدها بسيطة، ولكنها قوية الأثر في النفس، وأية دقة، أم أية بلاغة فاتت هذا الكاتب في مثل قوله: «استجدت الأم فحسن نسلك»، أو قوله: «إني سر من أسرار والدي كتمه عن سائر الناس، وأفضى به إليك، ورآك أهلًا لستره عليه، فلا تخفر ظنه فيك»، أو قوله: «ولحقتني السن، فصارت حاجتي إلى الصواب أكثر منها إلى الجماع.»
هذه العبارات هي أنسب وأدق ما يتخير للحديث عن مثل هذه الشئون التي تمس الحياة الزوجية، وهي حياة تبنى على أساس الصدق والعدل والحب الخالص من شوائب النزق والرعونة والشهوات. فمن البلاغة أن يعبر عنها في قصد وإيجاز بعيدين عن طنطنة الإسهاب.
وهي عبارات ساذجة ولكنها تؤدي ما وضعت له تأدية صحيحة تثير العطف وتبعث الحنان.
وقد رأيتك لا تزيد من رغبت إليه فيما تحدوه على برك، وتحثه لما أغفل من أمرك، على نص مكارم من سلف، وترى أنه يهش إلى مساجلتهم، فلا يبلغ في هذا أكثر من إحراز الفضيلة للمرغوب إليه، ولا يوجد في الراغب فضيلة تحثه على شفيع قصده، ولو عدلت عن مكارم من رغب إليه، إلى حسن مكافأة من أنعم عليه، لكانت لك ذرائع يمت بها الراغب، توجِد للمرغوب إليه سبيلًا إلى الإنعام.
فإن الشطر الأخير من هذه الفقرة غارق في لجة من الإبهام.
- (أ) المصريون، حتى المثقفون منهم ثقافة عالية، يقولون: «ست» في مكان «سيدة»، وهي كلمة مصرية قديمة أدخلها أحمد بن يوسف في لغته الفصيحة مجاراة للغة الحديث.١١
- (ب) والذين يعيشون في الأقاليم المصرية يذكرون المنادي الذي ينادي في الطرقات قبيل العشاء ليبلِّغ الناس أوامر الحكومة، ويذكرون كيف يختم نداءه بهذه العبارة «والذي يخالف يستاهل ما يجري عليه» وكلمة «يستاهل» عربية فصيحة مخففة عن «يستأهل» بمعنى يستحق، وفي مثل هذا التعبير يقول ابن يوسف: «فقال أبو عباس: سيعلم ما يجري مني عليه.»١٢
- (جـ) القاعدة العامة في النحو أن الفعل يفرد مع الفاعل المثنى والجمع، فتقول: حضر الأفضلان وحضر الأفضلون، ولا يثنى الفعل ولا يجمع إلا في لغة ضعيفة يسميها النحاة لغة «أكلوني البراغيث» والعياذ بالله! ولكن المصريين في لغة الحديث يطابقون بين الفعل والفاعل في الإفراد والجمع فيقولون مثلا: حضروا الغائبون. وكذلك نجد ابن يوسف يجاري أحيانًا لغة الحديث فيقول: «فلما مضى نصفه اشتهوا عليَّ صبياني حلوى في العيد.»١٣
- (د) اللغة الفصيحة تطلق كلمة زوج على الرجل والمرأة بدون إلحاق التاء للدلالة على التأنيث، وفي القرآن الكريم: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ، ولا يقال: زوجة إلا في كتب المواريث، ويذكرون أن الإمام الشافعي كان يكره أن يقول: «زوجة»، فكان يقول «المرأة» إذا اقتضى الحال ذلك، ولكن المصريين في لغتهم يقولون: زوج وزوجة مجاراة للقاعدة العامة التي تفرق بين المذكر والمؤنث بعلامة من علامات التأنيث، وكذلك نجد ابن يوسف يقول: «ولو كان الذي يطلب من الزوجة حسن صورتها … إلخ.»١٤
- (هـ) ويقول أحمد بن يوسف: «فلما غسل يده دفعت إليه ثلاثة دنانير، واعتذرت إليه من تقصيري في حقه.»١٥ وعبارة: «قصر في حقه» لا تزال مستعملة إلى اليوم بين المصريين في لغة الحديث.
- (و)
المصريون يسمون البنت أحيانًا «حُسنة» بضم الحاء، وكنت أحسبها تحريفًا عن حسناء، ولكن رأيت ابن يوسف يقول: «ملكت قلبي ملكًا لم تصل إليه حُسنة بحسنها»، ومن ذلك عرفنا أن كلمة «حسنة» كانت تجري إذ ذاك على لسان المصريين بمعنى جميلة، وهذه الصفة مهجورة في اللغة الفصيحة، وأكثر ما تستعمل في المذكر، ولكن قلما يكون ذلك بدون إضافة، فهم يقولون: فتى حسن الوجه، ويندر أن يكتفوا بالصفة من غير تخصيص.
- (ز) المصريون يشبعون تاء الخطاب في مخاطبة المؤنثة فيقولون: «فعلتيه» بدلا من «فعلته»، ويحذفون النون من «تفعلين»، وكذلك نجد ابن يوسف يقول: «جزاء ما قدمتيه ما تسمعيه مني»١٦ بدلًا من «جزاء ما قدمته ما تسمعينه مني»، ويقول: «يا أختي تغيظيني»١٧ بدلًا من «تغيظينني» وهو نوع من التخفيف في لغة الحديث أدخله الكاتب في اللغة الفصحى.
- (ح)
المصريون يسمون السفينة «مركبًا» وكذلك يسميها ابن يوسف فيقول: «ركبت مركبًا أريد الفسطاط من تنيس، وحملت فيه تجارة لي ما كنت أملك غيرها.» وكلمة مركب في لغته مذكرة، وهي كذلك عند أكثر البحارة في النيل، وإن كنت أرى بعض أهل الريف يجرونها مجرى المؤنث خصوصًا أهالي سنتريس.
- (ط) المصريون يسمون الكيس الكبير جدًّا الذي توضع فيه الأمتعة «تليسًا» بفتح التاء وتشديد اللام مكسورة، وهذه اللفظة موجودة في كتاب المكافأة حيث يقول المؤلف: «ثم دعا بتليس من شعر … إلخ.»١٨
- (ي) كلمة (نفر) في اللغة الفصيحة تستعمل غالبًا بمعنى الجمع؛ ففي القرآن الكريم اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ؛ أي جماعة منهم، وفيه أيضًا: وَأَعَزُّ نَفَرًا بمعنى القوم والقبيلة، ولكن المصريين يستعملون كلمة نفر بمعنى شخص، فيقولون: خمسة أنفار مثلًا، وكذلك نجد ابن يوسف يقول: «فتخفرت أربعة نفر من القيسية»؛١٩ يريد أربعة أشخاص.
- (ك) والمصريون يقولون لمن يغلق الباب من الداخل: «أغلقه من عنده»، وكذلك يقول ابن يوسف: «دخلت البيت وأغلقته من عندي.»٢٠
- (ل) ويقول ابن يوسف على لسان قابلة أولاد خمارويه بن طولون: «فكنت أجاهد في مئونة ولدي، وإذا وقف أمري صرت إلى أختي فقلت: أقرضيني.»٢١ وعبارة: «وقف أمره» عبارة مصرية تساوي العبارة الجارية في الريف حين يقولون: «وقف الحال» بمعنى ضاق الأمر واشتد الكرب، وتقابلها في اللغة السورية عبارة: «مشى الحال»، ومنها الأغنية المشهورة «ماشي الحال، ماشي الحال.»
وأحب أن يتنبه القارئ إلى أن ما نسميه عبارات مصرية أو سورية أو يمنية أو مغربية؛ ليس إلا ترديدًا لأخيلة عربية صحيحة، وردت جملتها في الشعر البليغ والنثر الفصيح، ولكن غلب بعضها هنا وساد بعضها هناك؛ بحيث صح أن يقال: هذه عبارة مصرية، وتلك عبارة سورية … إلخ.
وليس من المنطق في شيء أن نسد آذاننا مرة واحدة عن اللهجات المتفرقة في الأقطار العربية، فإن اللغة الفصيحة تحتاج إلى مدد دائم من تلك اللهجات، ومثلها مثل النهر الكبير يحتاج — مع فيض منابعه الأصلية — إلى المدد المستمر الذي يصل إليه من روافده الصغيرة. وقد يوجد في اللهجات العامية نوع من الحرية والطلاقة والمرونة في بعض التعابير، فمن الأوفق أن يتسرب شيء من تلك السهولة إلى اللغة الفصيحة لتعود ألين وأسلس، ولتصير أقدر على التوضيح والتفهيم والتبيين.
والواقع أن فصاحة الكلمات وبلاغة التعابير ترجع في الأكثر إلى قبولها من ذوي الطباع السليمة، والأذواق المهذبة، ففي مقدور الكتَّاب أصحاب النفوذ في تكوين الملكات الفنية، والأذواق الأدبية، أن يضيفوا إلى قاموس اللغة الفصيحة بعض الكلمات المختارة في لغة الحديث، حتى تصبح تلك الكلمات بعد حين جزءًا من الثروة اللغوية، التي نرجو أن نستغني بها عن الاستعانة ببعض ألفاظ الأجانب وأخيلتهم، حين يعرض لنا معنى دقيق يحتاج إلى لغة أقدر وأصرح من لغة القدماء والمحدَثين، الذين وقفوا عند حدود ما رسمت المعاجم والقواميس.
ولكن لأي غرض وضع كتاب المكافأة؟
يظهر أن أحمد بن يوسف المصري كان غاية في النبل النفس، وقوة العقيدة، وطهارة الوجدان، كان مؤمنًا أصدق الإيمان بعدل الله ورحمته، وكان يثق ثقة مطلقة بأن المرء مجزيٌّ بعمله؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وكان فيما يظهر قد عرف من أخيار الناس وأشرارهم طوائف كثيرة مختلفة، أرته أنواعًا من الجزاء على أعماله الصالحة؛ فمنهم الوفيُّ الشكور، ومنهم الغادر الكفور، لذلك تأصلت في نفسه الحفيظة والموجدة تجاه الجاحدين الكاندين، الذين نسدي إليهم الخير والإحسان، ثم نلقى منهم عاديات الغدر والعقوق.
ونكاد نلمس في كلماته جمرات الغيظ، كلما مر ذكر الناقضين للعهد والناسين للمعروف، حتى لنذكر به تلك الزفرة المرة؛ زفرة يحيي بن طالب حين قال:
إن أشد على الممتحَن من محنته، عدوله في سعيه عن مصلحته، وتجنبه الصواب في بغيته.
ولم يؤتَ الجود من مأتًى هو أغمض من مغادرة حسن المكافأة، ولو أنعمت النظر فيها لوجدتها أقوى الأسباب في منع القاصد، وحيرة الطالب، ولو كانت توجد مع كل فعل استحقها لآثر الناس قاصديهم على أنفسهم، ولجروا على السنن المأثور عنهم.
فقال له المنصور: وما هذه القلادة؟ قال: قلدني في حياته، وأغناني عن غيره بعد وفاته.
فقال له المنصور: أحسنت، بارك الله عليك، وبحسن المكافأة تستحق الصنائع، وتزكو العوارف.
ثم أدخله في خاصته.
واستطرد المؤلف فقال: وقد مثَّل بعض الفلاسفة الحسنَ المكافأة بالحسام الصقيل، الذي يحدث له عند وقوع الشمس عليه انبعاث شعاع منه يجلو غياهب الأمكنة المظلمة، ويكون وفور شعاعه على حسب صقالته.
ومؤلف المكافأة يعتقد أن المحن والشدائد من أجمل ما يهب الله لعباده الذين يعدهم لعزائم الأمور، ويتمثل في خاتمة كتابه بقول بزرجمهر: «الشدائد قبل المواهب تشبه الجوع قبل الطعام، يحسن به موقعه، ويلذ معه تناوله.» وكلمة أفلاطون: «الشدائد تصلح من النفس بمقدار ما تفسد من العيش، والتترف يفسد من النفس بمقدار ما يصلح به العيش.» وقوله: «حافظ على كل صديق أهدته إليك الشدائد، والهُ عن كل صديق أهدته إليك النعمة.» وقوله أيضًا: «الترفه كالليل لا تتأمل فيه ما تصدره وتتناوله، والشدة كالنهار ترى فيها سعيك وسعي غيرك.» وقول أردشير: «الشدة كحل ترى به ما لا تراه بالنعمة.»
قلت: إن أحمد بن يوسف المصري كان قوي العقيدة، وأضيف إلى ذلك أن قوَّة عقيدته لم تكن لأنه قرأ في بعض الكتب أن الله موجود، أو لأنه سمع من هداة القسيسين والأحبار أو العلماء والوعاظ أن الله سريع الحساب، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم. لا، لا، فذلك إيمان المقلدين، إيمان الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على ملة وإنا على آثارهم مهتدون، ولكن إيمان بعدل الله ورحمته انبعث من نفس راضتها الحوادث على الاطمئنان الحق إلى وجود الله وحنان رفقه، وقسوة جبروته. وآية ذلك أن الأقاصيص التي أودعها كتاب المكافأة أكثرها مما شاهده في عصره، فبعضها وقع له بالذات، وبعضها وقع لأبيه، وجزء منها وقع لأناس عرفهم بالمجاورة والمعاشرة؛ سواء أكانوا من عامة الناس أم من حاشية بني طولون.
من أجل هذا نرى إيمان ابن يوسف إيمانًا قويًّا خالصًا بعيدًا كل البعد عن الإيمان الرسمي الذي يحرص عليه من يعيشون باسم الدين في أقطار الشرق والغرب، وإن كان ذلك لا يمنع أن يكون فيمن تصلهم بالدين صلات رسمية أبرارٌ ومتقون.
فإن كان القارئ في شوق إلى لمحة من ذلك الإيمان القوي؛ إيمان الرجل الذي عرف ربه كأنه يراه، فليقرأ قول أحمد بن يوسف في خاتمة كتابه: «وملاك مصلحة الأمر في الشدة شيئان: أصغرهما قوَّة قلب صاحبها على ما ينوبه، وأعظمهما حسن تفويضه إلى مالكه ورازقه، وإذا صمد الرجل بفكره نحو خالقه علم أنه لم يمتحنه إلا بما يوجب له مثوبة، أو يمحص عنه كبيرة، وهو مع هذا من الله في أرباح متصلة، وفوائد متتابعة، فإذا اشتد فكره تلقاء الخليقة كثرت رذائله، وزاد تصنعه، وبرم بمقامه فيما قصر عن تأميله، واستطال من المحن ما عسى أن ينقضي في يومه، وخاف من المكروه ما لعله أن يخطئه. وإنما تصدق المناجاة بين الرجل وبين ربه لعلمه بما في السرائر، وتأييده البصائر، ولله تعالى رَوح يأتي عند اليأس منه يصيب به من يشاء من خلقه، وإليه الرغبة في تقريب الفرج، وتسهيل الأمر، والرجوع إلى أفضل ما تطاول إليه السؤال، وهو حسبي ونعم الوكيل.»
وبعد، فقد كان كتاب المكافأة عميق الأثر في نفسي، وكان قبسًا من الهداية، أدفع به ظلمات الغواية في باريس، فهل أستطيع أن أحكم بأن إعجابي بذلك الكتاب هو أيضا مكافأة لمؤلفه — رحمه الله — وأن جهده في وضعه وتنسيقه لم يضِع، وأن حرصه على بث الفضيلة والتنفير من الرذيلة لم يضع، وأن إيمانه بالله — عز شأنه — لم يضع، وهيهات أن يضيع عند الله شيء، هيهات، هيهات!
كان أحمد بن يوسف مصريًّا، وأنا كذلك مصري، لقد لقي في مصر بعض الظلم، أكاد ألقى فيها كل الظلم، كان يحسن إلى كثير من الناس، فيفي له من يفي، ويغدر به من يغدر، وأنا في حدود طاقتي أبذل البر والمعروف، ثم ألقى من بعض من أحسن إليهم أشنع ألوان الجحود، وأتلفت إلى أصدقائي الأوفياء أعدهم فأقول: واحد، اثنان، ثلاثة، ثم أغمض عيني من لذعة الكمد الوجيع.
ولكن يبقى لي ذلك الكنز الذي لا ينفد ولا يفنى، وذلك المعين الذي لا ينضب ولا يغيض، يبقى لي الله الذي يعاملني بأجمل وأفضل مما أستحق، يبقى لي الله الذي تلمس يدي وترى عيني آثار رحمته وعدله، وتكاد تصافحه يمناي، وتكاد تصافحه يمناي، ولو شئت لمضيت في ترديد هذه الجملة، ولكن أين تقع التعابير من حقائق ما في القلوب!
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ.