الفصل الثاني
مقامات بديع الزمان١
ألَّف بديع الزمان مقاماته بعد وصوله إلى نيسابور سنة ٣٨٢،
٢ والمتفق عليه عند كتَّاب التراجم أنها كانت أربعمائة، ونحن نرجح أنها كانت
خمسين، بدليلين:
- الأول: أنه عارض بها أربعين حديثًا أنشأها ابن دريد، والمعارضات كانت تتقارب
دائمًا في الكمية.
- الثاني: أن مقاماته لم يحفظ منها غير خمسين، فليس بمعقول أن يضيع من آثاره
خمسون وثلثمائة مقامة، مع أن آثاره لم يضع منها إلا القليل.
يضاف إلى ذلك أن الحريري حين عارض بديع الزمان لم ينشئ في معارضته غير خمسين مقامة،
ثم صار عدد الخمسين هو الرقم المتبع فيما كتب في هذا النوع من الأقاصيص.
في مقامات بديع الزمان نماذج من القصة القصيرة، ففيها «العقدة» وتحليل الشخصيات،
والمقامة المضيرية التي تكلمنا عنها في «الفكاهات» تمثل هذا الفن، وكذلك المقامة
البغدادية التي أشرنا إليها في الجزء الثاني، وهاتان المقامتان هما أبرع ما قص بديع
الزمان.
وفيما عدا ما وفق إليه في نظم بعض الأقاصيص نراه يقف حيث وقف من قبله ابن دريد؛ فيرسل
العظة، أو يسوق الوصف، أو ينمق الفكاهة، أو يقضي بأحكام أدبية أو فلسفية، من دون أن
يهتم بالعقدة القصصية، وإليك هذا المثل:
حدثني عيسى بن هشام قال: بينا نحن بجرجان في مجمع لنا نتحدث، ومعنا يومئذ رجل
العرب حفظًا ورواية وهو عصمة بن بدر الفزاري، فأفضى بنا الكلام إلى ذكر من أعرض
عن خصمه حلمًا، ومن أعرض عنه احتقارًا، حتى ذكرنا الصلَتان العبدي والبعيث وما
كان من احتقار جرير والفرزدق لهما، فقال عصمة: سأحدثكم بما شاهدته عيني، ولا
أحدثكم عن غيري؛ بينما أنا أسير في بلاد تميم مرتحلًا تجيبة، وقائدًا
جنيبة،
٣ عنَّ لي راكب على أورق،
٤ جَعْد اللغام،
٥ فحاذاني حتى إذا صك الشبح بالشبح، رفع صوته ﺑ «السلام عليك» فقلت:
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته! مَن الراكبُ الجهير الكلام، بتحية الإسلام؟
فقال: أنا غيلان بن عقبة. فقلت: مرحبًا بالكريم حسبُه، الشهير نسبُه، السائر
منطقهُ! فقال: رحُب واديك، وعزَّ ناديك، فمن أنت؟ قلت: عصمة بن بدر الفزاري.
قال: حياك الله نعم الصديق، والصاحب والرفيق!
وسرنا فلما هجَّرنا
٦ قال: ألا تغوِّر
٧ يا عصمة، فقد صهرتنا الشمس؟ فقلت: أنت وذاك! فملنا إلى شجرات
ألاء،
٨ كأنهن عذارى متبرجات، قد نشرن غدائرهن، لأثلاث تناوحهن، فحططنا
رحالنا ونلنا من الطعام، وكان ذو الرمة زهيد الأكل، وصلينا بعد، وآل كل واحد
منا إلى ظل أثلة يريد القائلة، واضطجع ذو الرمة، وأردت أن أصنع مثل صنيعه،
فوليت ظهري الأرض، وعيناي لا يملكهما غمض، فنظرت غير بعيد إلى ناقة
كوماء
٩ قد ضحيتْ، وغبيطها ملقى، وإذا رجل قائم، يكلؤها كأنه عسيف أو
أسيف،
١٠ فلهيت عنهما — وما أنا والسؤال عما لا يعنيني؟ ونام ذو الرمة
غِرارًا،
١١ ثم انتبه، وكان ذلك في أيام مهاجاته لذلك المريِّ، فرفع عقيرته
وأنشأ يقول:
أمن مَيَّةَ الطلل الدارسُ
فلم يبق إلا شجيج القذال
١٤
ومستوقدٌ ما له قابس
وحوض تثلَم من جانبيه
ومحتفل دارس طامس
إذا جئتها ردني عابس
رقيب عليها لها حارس
ستأتي امرأ القيس مأثورةٌ
يغني بها العابرَ الجالس
هم القوم لا يألمون الهجاء
وهل يألم الحجر اليابس؟
فما لهمُ في العلا مركب
ولا لهمُ في الوغى فارس
إذا طمح الناس للمكرمات
فطرهم المطرق الناعس
فلما بلغ هذا البيت تنبه ذلك النائم وجعل يمسح عينيه ويقول: أذو الرميمة
يمنعني النوم بشعر غير مثقف ولا سائر؟ فقلت: يا غيلان، من هذا؟ فقال: الفرزدق،
وحمي ذو الرمة فقال:
سيعقلهم عن مساعي الكرام
عقال ويحبسهم حابس
فقلت: الآن يَشرق
٢١ ويثور،
٢٢ ويعم هذا وقبيلته بالهجاء. فوالله ما زاد الفرزدق على أن قال:
قبحًا لك يا ذا الرميمة أتعرض لمثلي بمقال منتحل؟ ثم عاد في نومه كأن لم يسمع
شيئًا، وسار ذو الرمة وسرت معه، وإني لأرى فيه انكسارًا حتى افترقنا.
فهذه المقامة ليست أقصوصة، وإنما هي خبر من الأخبار التي كثر اختراعها في الأدب
القديم، والتي تمثل بعض العادات والتقاليد، وتصف ما يقع بين الناس من ألوان الخصومات
والأحقاد، وقد يمكن مع ذلك إضافتها إلى الأقاصيص الوصفية التي لا يراد بها الإغراب في
العقدة والشخصيات، وإنما تجري على نمط الأحاديث.
ومن مظاهر الضعف عند بديع الزمان ومن حاكاه وقوفه عند شخصية واحدة، فأبو الفتح
الإسكندري يتنقل من قصة إلى قصة، وعيسى بن هشام يحدثنا في كل مرة عن دهشته من كشف
شخصيته، مع أنه كان يكفي أن يشتبه عليه أمره مرة أو مرتين، ولكنه في جميع الأحوال يضل
عن عرفانه، ولا يتبينه إلا بعد كشف اللثام. غير أن لعيسى بن هشام مواقف لا يذكر فيها
أبو الفتح، كما وقع في المقامة الأهوازية، والمقامة البصرية، والمقامة الصفرية،
والمقامة الخلفية.
وبديع الزمان مغرى برسم السوآت، والمقامة الشامية، والرصافية والدينارية من شواهد
ذلك، وله غرام بالأهاجي المقذعات — وكان هذا الفن مما يقصد إليه كتَّاب القرن
الرابع
٢٣ — فقد اتفق لعيسى بن هشام أن يفكر في التصدق بدينار على أشحذ رجل في بغداد،
وذكر له اسم أبي الفتح الإسكندري، فمضى إليه فوجده في رفقة، قد اجتمعت في حلقة، فقال:
يا بني ساسان؟ أيكم أعرف بسلعته، وأشحذ في صنعته، فأعطيه هذا الدينار؟ فقال الإسكندري:
أنا! وقال الآخر من الجماعة: لا، بل أنا! ثم تناقشا وتهارشا، فقال عيسى بن هشام: ليشتم
كل منكما صاحبه، فمن غلب سلب، ومن غزَّ بزَّ!
فقال الإسكندري يهجو صاحبه:
يا برد العجوز، يا كربة تموز، يا وسخ الكوز، يا درهمًا لا يجوز، يافسوة
التنين، يا خجلة العنين، يا حديث المغنين! يا سنة البوس،
٢٤ يا ضرطة العروس، يا كوكب النحوس، يا وطأة الكابوس، يا تخمة الرءوس!
يا أم حُبَين،
٢٥ يا رمد العين، غداة البين، يا فراق المحبين، يا ساعة الحين، يا
مقتل الحسين، يا ثقل الدين، يا سمة الشين! يا بريد الشُّوم، يا طريد اللوم، يا
ثريد الثوم، يا دية الزقوم، يا منع الماعون، يا سنة الطاعون! يا بغي العبيد، يا
آية الوعيد، يا كلام المعيد! يا أقبح من حتى في موضع شتى! يا دودة الكنيف، يا
فروة الصيف، يا تنحنح المُضيف إذا كُسِر الرغيف! يا جشاء المخمور، يا نكهة
الصقور، يا وتد الدور، يا خزونة
٢٦ القدور، يا أربعاء لا تدور، يا طمع المقمور! يا ضجر اللسان، يا بول
الخصيان، يا مؤاكلة العميان، يا شفاعة العريان، يا سبت الصبيان! يا كتاب
التعازي، يا قرارة المخازي، يا بخل الأهوازي، يا فضول الرازي! والله لو وضعت
إحدى رجليك على أروند، والأخرى على دماوند، وأخذت بيدك قوس قُزح وندفت
٢٧ الغيم في حجاب الملائكة ما كنت إلا حلاجًا!
وقال الآخر:
يا قُراد القرود، يا لبود اليهود، يا نكهة الأسود، يا فسوة السود، يا ضرطة في
السجود، يا عدمًا في وجود! يا كلبًا في الهراش، يا قردًا في الفراش، يا قرعية
بماش،
٢٨ يا أقل من لاش! يا دخان النفط، يا صنان الإبط، يا زوال الملك، يا
هلال الهلك! يا أخبث ممن باء بذلِّ الطلاق، ومنع الصداق! يا وحل الطريق، يا ماء
على الريق! يا محرك العظم،
٢٩ يا معجل الهضم، يا قلح الأسنان،
٣٠ يا وسخ الآذان! يا أَجرَّ من قَلس، يا أقل من فَلْس!
٣١ يا أفضح من عَبرة، يا أبغى من إبرة! يا مهب الخف، يا مدرجة الأكف!
يا كلمة ليت، يا وكف البيت، يا كيت وكيت! والله لو وضعت استك على النجوم، ودليت
رجليك في التخوم، واتخذت الشِّعْرَى خفًّا، والثريا رفًّا، وجعلت السماء
منوالًا، وحكت الهواء سربالًا، فسدَّيته بالنسر الطائر، وألحمته بالفلك الدائر،
ما كنت إلا حائكًا!
وهنا يحدثنا عيسى بن هشام أنه لم يدر أيهما يؤثر؛ فما منهما إلا بديع الكلام، عجيب
المقام، ألد الخصام.
وهذا النمط من الإنشاء لا يراد به إلا الظهور بقوة القريحة، وغنى اللغة، وخصب الخيال،
وهو يمثل هذر الخضريين وسفاهاتهم وميلهم إلى شناعة القيل والقال. وعند مراجعة هذه
الأهاجي تجد فيها عبارات طريفة تبعث الضحك إلى ثغر الحزين:
وهل في الدنيا أبرد من «تنحنح المُضيف، إذا كُسر الرغيف»؟!
وهل في الحياة أثقل من «شفاعة العريان، وسبت الصبيان»؟
والوصف من الفنون المقصودة في مقامات بديع الزمان، وهو يفتنُّ فيه من موضع إلى موضع،
وانظر قوله في المقامة الأسدية:
… إلى أن اتفقت لي حاجة بحمص، فشحذت الحرص، في صحبة أفراد كنجوم الليل،
أحلاس
٣٢ لظهور الخيل، وأخذنا الطريق ننتهب مسافته ونستأصل شأفته، ولم تزل
أسنمة النجاد،
٣٣ بتلك الجياد، حتى صارت كالعِسيِّ، ورجعتْ كالقِسِيِّ،
وتاح
٣٤ لنا وادٍ في سفح جبل ذي ألاء وأثل كالعذارى يسرحن الضفائر، وينشرن
الغدائر، ومالت الهاجرة بنا إليها، ونزلنا نَغور
٣٥ ونغوِّر
٣٦ وربطنا الأفراس بالأمراس، وملنا مع النعاس، فما راعنا إلا صهيل
الخيل، ونظرت إلى فرس يجذُّ قوى الحبل بمشافره، ويخذ خد الأرض بحافره، ثم
اضطربت الخيل فأرسلت الأبوال، وقطعت الحبال، وأخذت نحو الجبال، وطار كل واحد
منا إلى سلاحه فإذا السبع في فروة الموت قد طلع من غابه، منتفخًا في إهابه،
كاشرًا عن أنيابه، بطرف قد مُلئ صلفًا، وأنف قد حُشِي أنفًا، وصدر لا يبرحه
القلب، ولا يسكنه الرعب، وقلنا: خطب والله! وتبادر إليه من سرعان الرفقة
فتي:
أخضر الجلدة
٣٧ في بيت العرب
يملأ الولو إلى عَقد الكَرَب
بقلب ساقه قدر، وسيف كله أثر، وملكته سورة الأسد فخانته أرض قدمه، حتى سقط
ليده وفمه، وتجاوز الأسد مصرعه، إلى من كان معه، ودعا الحَين أخاه، بمثل ما
دعاه، فصار إليه، وعقل الرعب يديه، فأخذ أرضه، وافترش الليث صدره، ولكني رميته
بعمامتي، وشغلت فمه، حتى حقنت دمه، وقام الفتى فوجأ بطنه، حتى هلك الفتى من
خوفه، والأسد للوجأة في جوفه، ونهضنا في أثر الخيل فتألفنا منها ما ثبت، وتركنا
ما أفلت، وعدنا إلى الرفيق لنجهزه.
فلما حثونا التراب فوق رفيقنا
جزعنا ولكن أي ساعة مجزعِ
وعدنا إلى الفلاة وهبطنا أرضها، حتى إذا ضمرت المزاد، ونفد الزاد أو كاد
يدركه النفاد، ولم نملك الذهاب ولا الرجوع، وخفنا القاتلَين الظمأ والجوع، عنَّ
لنا فارس فصمدنا صمده، وقصدنا قصده. ولما بلغنا نزل عن حرِّ فرسه
٣٨ ينقش الأرض بشفتيه، ويلقى التراب بيديه، وعمدني من بين الجماعة
فقبل ركابي، وتحرَّم بجنابي، ونظرت فإذا وجه يبرق برق العارض المتهلل، وقوام
متى ما ترقَّ العين فيه تسهل،
٣٩ وعارضٌ قد اخضر، وشارب قد طر، وساعد ملآن، وقضيب ريان، ونجاد تركي،
وزي ملكي، فقلنا: مالك، لا أبا لك! فقال: أنا عبد بعض الملوك، همَّ من قتلي
بهمٍّ،
٤٠ فهمتُ على وجهي إلى حيث تراني، وشهدَتْ شواهدُ حاله، على صدق
مقاله.
ثم قال: أنا اليوم عبدك، ومالي لك. فقلت: بشرى لك وأدَّاك سيرك إلى فِناء
رحب، وعيش رطب! وهنأتني الجماعة، وجعل ينظر فتقتلنا ألحاظه، وينطق فتفتننا
ألفاظه، والنفس تنازعني فيه بالمحظور، والشيطان من وراء الغرور، فقال: يا سادة!
إن في سفح الجبل عينًا وقد ركبتم فلاة عوراء،
٤١ فخذوا من هناك الماء، فلوينا الأعنة إلى حيث أشار، وبلغناه وقد
صهرت الهاجرة الأبدان، وركب الجنادب العيدان، فقال: ألا تقيلون في هذا الظل
الرحب، على هذا الماء العذب؟ فقلت: أنت وذاك! فنزل عن فرسه ونحَّى
منطقته،
٤٢ وحلَّ قُرطُقته.
٤٣ فما استتر عنا إلا بغلالة تنم على بدنه، فما شككنا أنه خاصم
الولدان، ففارق الجنان، وهرب من رضوان، وعمد إلى السروج فحطها، وإلى الأفراس
فحشها،
٤٤ وإلى الأمكنة فرشها، وقد حارت البصائر فيه، ووقفت الأبصار
عليه
٤٥ …
وقلت: يا فتى! ما ألطفك في الخدمة، وأحسنك في الجملة! فالويل لمن فارقته،
وطوبى لمن رافقته! فكيف شكر الله على النعمة بك؟ فقال: ما سترونه مني أكثر!
أتعجبكم خفتي في الخدمة، وحسني في الجملة، فكيف لو رأيتموني في الرفقة؟ أريكم
من حذقي طرفًا لتزدادوا بي شغفًا؟ فقلنا: هات! فعمد إلى قوس أحدنا وفوَّق سهمًا
فرماه في السماء، وأتبعه آخر فشقه في الهواء، وقال: سأريكم نوعًا آخر، ثم عمد
إلى كنانتي فأخذها وإلى فرسي فعلاه، ورمى أحدنا بسهم أثبته في صدره، وطيَّره من
ظهره. فقلت: ويحك: ما تصنع؟! فقال: اسكت يا لُكَع! والله ليشدن كل منكم يد
رفيقه، أو لأُغِصنَّه بريقه! فلم ندر ما نصنع وأفراسنا مربوطة، وسروجنا محطوطة،
وأسلحتنا بعيدة، وهو راكب ونحن رجالة، والقوس في يده يرشق بها الظهور، ويمشق
بها البطون والصدور، وحين رأينا الجِدَّ، أخذنا القِد
٤٦ فشد بعضنا بعضًا، وبقيت وحدي، لا أجد من يشد يدي، فقال: اخرج
بإهابك عن ثيابك! فخرجت، ثم نزل عن فرسه وجعل يصفع الواحد منا بعد الآخر،
ويقول: أقمت قضيبك، فخذ نصيبك! … إلخ.
والقصة في جملتها فكاهة، ولكن الوصف ظاهر فيها كل الظهور، وفيها فقرات تعد من آيات
الوصف السابغ، والحركة قوية في تلك الأقصوصة، والمناظر تتوارد في حياة وانسجام، وعند
تأمل ما انتهت إليه نجد الغرض في غاية من التفاهة، فكأن بديع الزمان ما كان يقصد غير
هذه الأوصاف.
والمقامة الخمرية قصدًا لوصف الصهباء، فيحدثنا عيسى بن هشام أنه كان في عنفوان شبيبته
عدَّل ميزان عقله، وعدل بين جِده وهزله، فجعل النهار للناس، والليل للكاس، وأنه اجتمع
في بعض لياليه مع إخوان الخلوة فما زالوا يتعاطون نجوم الأقداح، حتى نفد ما معهم من
الراح، ثم دعتهم دواعي الشطارة، إلى حان الخمارة، والليل أخضر الديباج، مغتلم الأمواج،
فلما أخذوا في السبح، ثوَّب منادي الصبح، فخنس شيطان الصبوة، وتبادروا إلى الدعوة،
وقاموا وراء الإمام، قيام البررة الكرام، بوقار وسكينة، وحركات موزونة، وإمامهم يجدُّ
في خفضه ورفعه، ويدعوهم بإطالته إلى صفعه! حتى إذا رجع بصيرته، ورفع بالسلام عقيرته،
تربع في ركن محرابه، وأقبل بوجهه على أصحابه، وجعل يطيل إطراقه، ويديم استنشاقه، ثم
قال: أيها الناس، من خلط في سيرته، وابتلي بقاذورته، فليسعه ديماسه،
٤٧ دون أن تنجسنا أنفاسه، إني لأجد منذ اليوم، ريح أم الكبائر من بعض القوم،
فما جزاء من بات صريع الطاغوت، ثم ابتكر إلى هذه البيوت؟!
وأشار إمام المسجد إلى عيسى بن هشام وأصحابه فتألبت عليهم الجماعة حتى مزقت أرديتهم،
وأدمت أقفيتهم، فأقسموا لا عاودوا الشراب، وأفلتوا وما كادوا يفلتون، وسألوا من مر بهم
من الصبية عن إمام تلك القرية، فأجابهم الصبية بأنه الرجل التقي أبو الفتح الإسكندري؛
فقالوا: سبحان الله! ربما أبصر عِمِّيت، وآمن عفريت! والحمد لله لقد أسرع في أوبته، ولا
حرمنا الله مثل توبته. وجعلوا بقية يومهم يعجبون من نسكه، مع أنهم كانوا يعجبون من فسقه
… ثم شرع عيسى بن هشام في الوصف فقال: ولما حشرج النهار أو كاد، نظرنا فإذا برايات
الحان أمثال النجوم، في الليل البهيم، فتهادينا بها السراء، وتباشرنا بليلة غراء،
ووصلنا إلى أفخمها بابًا، وأضخمها كلابًا، وقد جعلنا الدينار إمامًا، والاستهتار
لزامًا، فدُفعنا إلى ذات شكل
٤٨ ودل، ووشاح منحل، إذا قتلت ألحاظها، أحيت ألفاظها، فأحسنت تلقينا، وأسرعت
تقبل رءوسنا وأيدينا، وأسرع من معها من العلوج، إلى حط الرحال والسروج، وسألنا عن خمرها
فقالت:
خمرٌ كريقي في العذو
بة واللذاذة والحلاوة
تذر الحليم وما عليـ
ـه لحلمه أدنى طلاوة
كأنما اعتصرها من خدي، أجداد جدي، وسربلوها في القار بمثل هجري وصدي، وديعة الدهور،
وخبيئة جيب السرور، وما زالت تتوارثها الأخيار، ويأخذها الليل والنهار، حتى لم يبق إلا
أرج وشعاع، ووهج لذاع، ريحانة النفس، وضرة الشمس، فتاة البرق،
٤٩ عجوز الملق، كاللهب في العروق، وكبرد النسيم في الحلوق، مصباح الفكر،
وترياق سم الدهر، وبمثلها عُزِّر
٥٠ الميت فانتشر، ودووي الأكمه فنظر.
ثمَّ ينتقلُ عيسى بنُ هشام فيحدثنا بعدَ هذا الوصف أنهم قالوا: هذه الضالة وأبيك،
فمن
المطرب في ناديك؟ ولعلها تُشعشَع للشَّرب، من ريقك العذب!
وأنها أجابتهم بأن لها شيخًا ظريف الطبع طريف المجون، مر بها يوم الأحد في دير
المربد، فوقعت بينهما الخلطة، وتكررت الغبطة، وذكر لها من وفور عرضه، وشرف قومه في
أرضه، ما عطفها عليه. واشتاق عيسى بن هشام إلى رؤية هذا الشيخ الذي يجمع بين ظرف الطبع
وطرافة المجون، فإذا هو أبو الفتح الإسكندري إمام المسجد في صباح الأمس!
أكان بديع الزمان يريد بهذه المقامة أن يعرض ببعض الأشياخ الذين يظهرون بسمت مشرق،
وينطوون على زيغ موبق؟
لا، إن بديع الزمان نفسه مرتاب، ولذلك نراه يُنطق أبا الفتح بهذه الأبيات:
أنا من يعرفه كل
تهام ويماني
أنا من كل غبار
أنا من كل مكان
ساعةً ألزم محرا
بًا وأخرى بيت حان
وكذا يفعل من يعـ
ـقل في هذا الزمان
ومن المقامات التي أريدَ بها مجرد الوصف المقامة الحمدانية، وهي في وصف الخيل، وهي
مشهورة، وقد شرحها صاحب «زهر الآداب».
أكثر بديع الزمان في مقاماته من الكلام على الشعر والشعراء، فأنطق أبا الفتح في
المقامة العراقية بهذه الأسئلة
الطريفة:
هل قالت العرب بيتًا لا يمكن حله؟
٥٢
وهل نظمت مدحًا لم يعرف أهله؟
٥٣
وهل لها بيت سمج وضعه، وحسن قطعه؟
٥٤
وأي بيت يشج عروضه، ويأسو ضربه؟
٥٧
وأي بيت يعظم وعيده ويصغر خطبه؟
٥٨
وأي بيت هو أكثر رملًا من يبرين؟
٥٩
وأي بيت هو كأسنان المظلوم،
٦٠ والمنشار المثلوم؟
٦١
وأي بيت يسرك أوله ويسوؤك آخره؟
٦٢
وأي بيت يصفعك باطنه، ويخدعك ظاهره؟
٦٣
وأي بيت لا يخلق سامعه، حتى تذكر جوامعه؟
٦٤
وأي بيت هو أطول من مثله، وكأنه ليس من أهله؟
٦٧
وأي بيت هو مهين بحرف، ورهين بحذف؟
٦٨
وفي المقامة الشعرية ينطقه بهذه الأمثلة:
أي بيت شطره يرفع، وشطره يدفع؟
٦٩
وأي بيت نصفه يغضب، ونصفه يلعب؟
٧٠
وأي بيت إن حرك غصنه، ذهب حسنه؟
٧١
وأي بيت يأكله الشاء، متى شاء؟
٧٣
وأي بيت حله عقد، وكله نقد؟
٧٤
وأي بيت نصفه مد، ونصفه رد؟
٧٥
وأي بيت إن أفلتناه، أضللناه؟
٧٦
وأي بيت قام، ثم سقط ونام؟
٧٧
وأي بيت أوله يطلب، وآخره يهرب؟
٧٨
وأي بيت ضاق، ووسع الآفاق؟
٧٩
وفي المقامة القريضية ينطق عيسى بن هشام وأبا الفتح الإسكندري بأسئلة وأجوبة تعين
خصائص الشعراء المتقدمين. وإليك هذا الحوار:
عيسى بن هشام (مخاطبًا أبا الفتح): يا فاضل، اُدنُ فقد منيت، وهات فقد أثنيت.
أبو الفتح: سلوني أجبكم، واسمعوا أعجبكم!
عيسى بن هشام: ما تقول في امرئ القيس؟
أبو الفتح: هو أوَّل من وقف بالديار وعرصاتها، واغتدى والطير في وكناتها، ووصف
الخيل بصفاتها، ولم يقل الشعر كاسبًا، ولم يجد القول راغبًا، ففضل من
تفتق للحيلة لسانه وانتجع للرغبة بنانه.
عيسى بن هشام: فما تقول في النابغة؟
أبو الفتح: يثلب إذا حنق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا وهب، ولا يرمي إلا
صائبًا.
عيسى بن هشام: فما تقول في زهير؟
أبو الفتح: يذيب الشعر والشعر يذيبه، ويدعو القول والسحر يجيبه.
عيسى بن هشام: فما تقول في طَرَفة؟
أبو الفتح: هو ماء الأشعار وطينتها، وكنز القوافي ومدينتها، مات ولم تظهر أسرار
دفائنه، ولم تفتح أغلاق خزائنه.
عيسى بن هشام: فما تقول في جرير والفرزدق؟ وأيهما أسبق؟
أبو الفتح: جرير أرق شعرًا وأغزر غزرًا، والفرزدق أمتن صخرًا، وأكثر فخرًا،
وجرير أوجع هجوًا، وأشرف يومًا، والفرزدق إذا افتخر أجزى، وإذا احتقر
أزرى، وإذا وصف أوفى.
عيسى بن هشام: فما تقول في المحدَثين من الشعراء والمتقدِّمين منهم؟
أبو الفتح: المتقدِّمون أشرف لفظًا، وأكثر في المعاني حظًّا، والمتأخرون ألطف
صنعًا، وأرق نسجًا.
وهذا وذاك يبيِّن كيف كان كُتَّاب القرن الرابع يعنون بدراسة الشعر وتعقب أخبار
الشعراء، وإنما لنجد مصداق ذلك في مكان آخر؛ إذ يحدثنا عيسى بن هشام بأن «البليغ من لم
يقصر نظمه عن نثره، ولم يزر كلامه بشعره»، وقد أسلفنا القول بأن مدرسة القرن الرابع
النثرية تعتمد في أسسها على المذاهب الشعرية من حيث الصنعة والخيال.
ولم يكتف بديع الزمان بالخوض في الشئون الأدبية، بل تعداها إلى المعضلات الكلامية؛
فعرض لمذهب المعتزلة بالتحقير والتسفيه، واتخذ المتكلم من بين المجانين، إذ حدثنا أن
عيسى بن هشام قال: دخلت مارستان البصرة ومعي أبو داود المتكلم فنظرت إلى مجنون تأخذني
عينه وتدعني، فقال: إن تصدق الطير
٨١ فأنتم غرباء. فقلنا كذلك. فقال: من القوم، لله أبوهم؟ فقلت: أنا عيسى بن
هشام، وهذا أبو داود المتكلم. فقال: المتكلم؟ قلت: نعم، فقال: شاهت
٨٢ الوجوه وأهلها! إن الخيرة لله لا لعبده، والأمور بيد الله لا
بيده،
٨٣ وأنتم يا مجوس هذه الأمة تعيشون جبرًا،
٨٤ وتموتون صبرًا
٨٥ وتساقون إلى المقدور قهرًا، ولو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل
إلى مضاجعهم.
٨٦
أفلا تنصفون؟ إن كان الأمر كما تصفون، وتقولون: خالق الظلم ظالم، أفلا تقولون: خالق
الهُلْك هالك؟ أتعلمون يقينًا أنكم أخبث من إبليس دينًا؛ قال: رب بما أغويتني، فأقر
وأنكرتم، وآمن وكفرتم، وتقولون خُيِّر فاختار، وكلا فإن المختار لا يبعج بطنه، ولا يرمي
من حالق ابنه؛ فهل الإكراه، إلا ما تراه، والإكراه مرة بالمِرة
٨٧ ومرة بالدرة، فليخزكم أن القرآن يبغضكم، وأن الحديث يغيظكم، إذا سمعتم
مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ألحدتم، وإذا
سمعتم «زُويت الأرض فأُريتُ مشارقَها ومغاربَها» جحدتم، وإذا سمعتم «عرضت عليَّ الجنة
حتى هممت أن أقطف ثمارها، وعرضت علي النار حتى اتقيت حرها بيدي» أنغضتم
٨٨ رءوسكم، ولويتم أعناقكم، وإن قيل: عذاب القبر؛ تطيرتم، وإن قيل: الصراط؛
تغامزتم، وإن ذكر الميزان قلتم: من الفرغ كفتاه، وإن ذكر الكتاب قلتم: من القِد
دفتاه.
يا أعداء الكتاب والحديث بم تطيرون؟ أبالله وآياته ورسوله تستهزئون؟ إنما مرقت مارقة
فكانوا خَبَث الحديث، ثم مرقتم منها فأنتم خَبَث الخبيث. يا مخانيث الخوارج ترون رأيهم
إلا القتال، وأنت يا ابن هشام تؤمن ببعض وتكفر ببعض، سمعت أنك افترشت منهم
شيطانة،
٨٩ ألم ينهك الله — عز وجل — أن تتخذ منهم بطانة؟ ويلك هلا تخيرت لنطفتك،
ونظرت لعقبك! ثم قال: الله، أبدلني بهؤلاء خيرًا منهم وأشهدني ملائكتك!
٩٠
ثم يحدثنا ابن هشام أنه بقي هو وأبو داود لا يحيران جوابًا، ويتبين بعد المراجعة أن
ذلك المجنون كان أبا الفتح الإسكندري «ينبوع العجائب».
ولبديع الزمان مقامة تدل على نحو من فساد الحياة الاجتماعية في بغداد لذلك الحين هي
المقامة الرصافية، وقد شرح فيها حيل اللصوص، وهي حيل فيها القبيح والطريف، عددتها
فرأيتها تجاوز السبعين حيلة، وما أظن قرائي ينتظرون أن ألخص تلك المقامة الشريرة فهم
عنها أغنياء! على أن أكثر تلك الحيل لا ينفع اليوم — فلا يأسف بعض الناس! لأن أوضَاع
الناس وطرق المعاش تغيرت في الدنيا عما كانت عليه منذ عشرة قرون في بغداد، ولعلَّ
اللصوص المحدثين اخترعوا من الحيل ما لو رآه بديع الزمان لبدت له حيل بغداده ألاعيب
صبيانية!
وفي المقامة الرصافية قصة ماجنة أظرف المجون، ولكنها لا تروى في هذا الكتاب، وقد
أسقطها المرحوم الشيخ محمد عبده من طبعته، وبقيت في طبعة استانبول، وخلاصتها أن عيسى
بن
هشام عنَّ له على سطح البيت سواد فنظر فإذا هو غلام كانت له مع ابن هشام سابقة إدلال.
فتحدث مع جاريته حديثًا فهم منه اللص أن في البيت ذخائر يهون بجانبها العرض. وتمت
الخديعة، وخرج من البيت وهو خزيان، وصح لابن هشام أن يقول: «وفتش الغلام البيت؛ فلم يجد
سوى البيت.»
وهو تهكم ظريف!
بديع الزمان مفطور على الفكاهة، وهي منثورة في رسائله ومقاماته، وفي هذا الكتاب طرف
مما تخيرناه.
٩١ فلنشر في هذا الفصل إلى حديث عيسى بن هشام حين طال شَعره، واتسخ بدنه، فقد
سأل غلامه أن يختار له حمامًا وحجامًا «وليكن الحمام واسع الرقعة، نظيف البقعة، طيب
الهواء، معتدل الماء، وليكن الحجام خفيف اليد، حديد الموسى، نظيف الثياب، قليل
الفضول».
ودخل الحمام، فدخل على أثره رجل وعمد إلى قطعة طين فلطخ بها جبينه ووضعها على رأسه،
ثم خرج ودخل آخر فجعل يدلكه دلكًا يكد العظام، ويغمزه غمزًا يهد الأوصال، ويصفر صفيرًا
يرش البزاق، ثم عمد إلى رأسه يغسله، وما لبث أن دخل الأول فلطم الثاني لطمة قعقعت
أنيابه، وقال: يا لُكَع! ما لك ولهذا الرأس وهو لي؟ ثم عطف الثاني على الأول فضربه ضربة
هتكت حجابه، وقال: بل هذا الرأس حقي وملكي وفي يدي. ثم تلاكما حتى عييا، وتحاكما إلى
صاحب الحمام فقال الأول: أنا صاحب هذا الرأس؛ لأني لطخت جبينه، ووضعت عليه طينه، وقال
الثاني: بل أنا مالكه؛ لأني دلكت حامله، وغمزت مفاصله!
فقال الحمامي: ائتوني بصاحب الرأس أسأله، ألك هذا الرأس أم له؟
وأتيا عيسى بن هشام فقالا: لنا عندك شهادة.
الحمامي
(مخاطبًا عيسى بن هشام)
:
يا رجل، لا تقل غير الصدق، ولا تشهد بغير الحق، وقل لي: هذا الرأس
لأيهما؟
عيسى بن هشام
:
يا عافاك الله! هذا رأسي قد صحبني في الطريق، وطاف معي بالبيت العتيق، وما
شككت أنه لي!
الحمامي
:
اسكت يا فضولي!
ثم مال الحمامي إلى أحد الخصمين وقال: يا هذا إلى كم هذه المنافسة مع الناس، بهذا
الرأس؟! تسلَّ عن قليلِ خطرِه، إلى لعنة الله وحرِّ سقره، وهبْ أن هذا الرأس ليْسَ،
وأنَّا لم نر هذا التيس!
وكانت النتيجة أن خجل عيسى بن هشام ولبس ثيابه وانسل من الحمام.
وللقارئ أن يتأمل الدعابة في هذه الأقصوصة فإنها في غاية من الظرف.
أما قوله: «اسكت يا فضولي!» فهو في هذا الموضع من وثبات الخيال.
وبجانب الأوصاف والفكاهات وضع بديع الزمان طائفة من العظات، كأنه أراد أن يودع
مقاماته أظهر ظروب البيان، من ذلك ما حدثنا أن أبا الفتح الإسكندري لما جهز ولده
للتجارة أوصاه فقال:
يا بني، إني وإن وثقت بمتانة عقلك، وطهارة أصلك، فإني شفيق، والشفيق سيئ
الظن، ولست آمن عليك النفس وسلطانها، والشهوة وشيطانها، فاستعن عليهما نهارك
بالصوم، وليلك بالنوم، إنه لَبوسٌ ظهارته الجوع، وبطانته الهجوع، وما لبسهما
أسد إلا لانت سورته، أفهمتهما يابن الخبيثة؟! وكما أخشى عليك ذاك فلا آمن عليك
لصين؛ أحدهما الكرم واسم الآخر القرم،
٩٢ فإياك وإياهما؛ إن الكرم أسرع في المال من السوس، وإن القرم أشأم
من البسوس.
٩٣
ودعني من قولهم: إن الله كريم، إنها خدعة الصبي عن اللبن، بل إن الله لكريم،
لكن كرم الله يزيدنا ولا ينقصه، وينفعنا ولا يضره، ومن كانت هذه حاله، فلتكرم
خصاله، فأما كرمٌ لا يزيدك حتى ينقصني، ولا يريشك حتى يبريني، فخذلان لا أقول
عبقري، ولكن بقري.
٩٤ أفهمتهما يابن المشئومة؟! إنما التجارة، تنبط الماء من الحجارة،
وبين الأكلة والأكلة ريح البحر، بيد أن لا خطر، والصين غير أن لا سفر، أفتتركه
وهو معرض ثم تطلبه وهو معوز؟ أفهمتهما لا أم لك؟! إنه المال، عافاك الله! فلا
تنفقن إلا من الربح، وعليك بالخبز والملح، ولك في الخل والبصل رخصة ما لم
تُذِمهما،
٩٥ ولم تجمع بينهما.
واللحم لحمك وما أراك تأكله، والحلو طعام من لا يبالي على أي جنبيه يقع،
والوجبات عيش الصالحين، والأكل على الجوع واقية الفوت، وعلى الشبع داعية الموت،
ثم كن مع الناس كلاعب الشطرنج، خذ كل ما معهم واحفظ كل ما معك!
يا بني قد أسمعت وأبلغت، فإن قبلت فالله حسبُك، وإن أبيت فالله
حسيبك.
٩٦
وهناك المقامة الوعظية وقد رصعها بأبيات من الشعر متحدة القافية والوزن، وهو فن يجيده
بديع الزمان.
وهناك مقامات كثيرة نحسبها انتُهبتْ من رسائله، وهي بعيدة عن منحى القصص، وأغلب الظن
أنها رتبت كذلك على أيدي بعض النُّسَّاخ.
وبديع الزمان في مقاماته رجل حرص وحذر وارتياب، ولا يُنطق أبا الفتح بالحكمة إلا
اقتناصًا للمال، ففي المقامة الكوفية يُطرق باب عيسى بن هشام فيسأل من المنتاب؟ فيجيب
الطارق: «وفد الليل وبريده، وفل الجوع وطريده، وحرٌّ قاده الضر، والزمن المر، وضيفٌ
وطؤه خفيف وضالته رغيف، وجار يستعدي على الجوع، والجيب المرقوع، وغريب أوقدت النار على
سفره، ونبح العوَّاء في أثره، ونبذت خلفه الحصيات، وكنست بعده العرصات، نضوه طليح،
وعيشُه تبريح، ومن دون فرخيه مَهَامِه فيح.»
٩٧
ويهش عيسى بن هشام لهذا السائل الأديب فينفحه بالمال ويقول: زدني سؤالًا أزدك نوالًا!
فيقول الطارق: ما عُرض عرف العود، على أحرَّ من نار الجود، ولا لُقي وفد البر، بأحسن
من
بريد الشكر، ومن ملك الفضل فليواسِ، فلن يذهب العرف بين الله والناس.
ويطرب عيسى بن هشام لهذا السجع الجميل ويفتح الباب فيرى السائل أبا الفتح فيقول:
«شدَّ والله يا أبا الفتح ما بلغتْ منك الخصاصة!»
فيبتسم أبو الفتح وينشئ يقول:
لا يغرنك الذي
أنا فيه من الطلبْ
أنا في ثروة تشقُّ
لها بردة الطرب
أنا لو شئت لتخذ
ت سقوفًا من الذهب
أنا طورًا من النبيـ
ـط وطورًا من العرب
وفي المقامة القردية يفضل الحمق على العقل ويقول:
الذنب للأيام لا لي
فاعتب على صرف الليالي
بالحمق أدركت المنى
ورفلت في حلل الجمال
وخلاصة القول أن مقامات بديع الزمان تحفة من تحف النثر الفني في القرن الرابع، وقد
أردنا أن نطيل بها الطواف ليتعرف إليها القارئ، فقد كان مفهومًا عند كثير من الناس أنها
ألاعيب لفظية ليس فيها من المعاني ما يستحق الدرس، ولكنا بعد مواجهتها مرة ومرة رأينا
فيها من أمارات العقل والذكاء وخفة الروح ما يوجب الإعجاب، وكنا نحفظها في الحداثة، غير
أنا لم نكن ندرك خطرها كما تمثلت لنا في هذه الأيام.
في تلك المقامات بعض العيوب، ولكن أي عمل فني سلم سلامة مطلقة من العيوب؟
ونؤكد للقارئ أننا لم نكشف من محاسنها إلا قليل، فليعد إليها يطالعها في فهم وروية،
وليتأمل بصفة خاصة قرار الألفاظ والتراكيب وصوغ الأمثال.
وسيرى القارئ في الجزء الثاني لمحات من سيرة بديع الزمان وتحليل رسائله، ولكن ذلك
لا
يغني عن العودة إلى مقارنة المقامات بالرسائل واستخلاص صورة الحياة الاجتماعية لذلك
العهد من آثار ذلك الكاتب الثجاج.
هوامش