أحاديث ابن دريد
رأى القارئ أن بديع الزمان الهمذاني ليس المنشئ الأول لفن المقامات، وإنما حاكى أحاديث ابن دريد، فمن هو ابن دريد؟ وما عسى أن تكون الأربعون حديثًا التي أنشأها وفتح بها باب القَصص لبديع الزمان؟
ولد أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بالبصرة في خلافة المعتصم سنة ٢٢٣، ثم صار إلى عمان فأقام بها مدة، ثم صار إلى فارس فسكنها مدة، ثم قدم بغداد فأقام بها إلى أن مات سنة ٣٢١.
كان ابن دريد شاعرًا، ولكن أي شاعر؟! شاعر مُقِلٌّ، تحفظ له الأبيات والمقطوعات، وبعض القصائد، ولكنه كان يسكب روحه فيما ينظم من الشعر، فتسري معانيه قوية سحارة بلا جلبة ولا ضوضاء، كما تفعل الجفون النواعس بألباب الشعراء. خرج مرة يريد عمان فنزل تحت نخلة فإذا فاختتان تزقوان في فرعها فقال:
وهي أبيات تفيض بالرفق والحنان، وتمثل ائتلاف الطير أرق تمثيل، ولا يعرف قيمتها إلا من ألف مناغاة الطير في ضحوات الربيع وأصائل الخريف.
ومن شعر ابن دريد هذان البيتان:
وفي هذين البيتين صورة شعرية جذابة، والبيت الثاني يبدو وكأنه وثبة من وثبات الخيال.
وتذاكر جماعة يومًا المتنزهات في مجلس بعض الأمراء وابن دريد حاضر، فقال بعضهم: أنزه الأماكن غوطة دمشق، وقال آخرون: نهر الأُبلَّة. وقال آخرون: بل سغد سمرقند. وقال بعضهم: نهروان بغداد. وقال بعضهم: شِعب بوان بأرض فارس. وقال آخر: نوبهار بلخ. فقال ابن دريد: هذه متنزهات العيون، فأين أنتم من متنزهات القلوب؟ قالوا: وما هي يا أبا بكر؟ قال: عيون الأخبار لابن قتيبة، والزهرة لابن داود، وقلق المشتاق لابن أبي الطاهر، ثم أنشد:
وهذا حديث طريف كانت لفتةُ ابن دريد فيه لفتة الشاعر الفيلسوف؛ إذ يقول: «هذه متنزهات العيون، فأين أنتم من متنزهات القلوب؟» على أن في الشعر الذي أنشده كلمة تستوقف النظر، تلك الكلمة «تلاقي العيون» التي قدمها في متعة القلب على «درس الكتب» فهو رجل يرى الجمال في الطبيعة الناطقة، طبيعة الإنسان الجذاب التي يؤثرها على جمال الأنهار والبحار، والمروج الفيحاء، والرياض الغناء.
من الدلائل على خفة روحه وحلاوة نكته تلك الرؤيا التي قصها علينا إذ قال: سقطت من منزلي بفارس فانكسرت ترقوتي، فسهرت ليلي، فلما كان آخر الليل حملتني عيناي فرأيت في نومي رجلًا طويلًا أصفر الوجه دخل عليَّ وأخذ بعِضادتي الباب وقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر. فقلت: ما ترك أبو نواس شيئًا. فقال: أنا أشعر منه. فقلت: ومن أنت؟ قال: أنا أبو ناجية من أهل الشام، ثم أنشدني:
فقلت له: أسأت. قال: ولِمَ؟ قلت: لأنك قلت: (وحمراء) فقدمت الحمرة، ثم قلت: (بدت بين ثوبي نرجس وشقائق) فقدمت الصفرة. فألَّا قدمتها على الأخرى كما قدمتها على الأولى! فقال: وما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض! وقد رويتْ هذه القصة على نحو آخر في كتاب طبقات النحاة لابن الأنباري ص٣٢٤ فلتراجع هناك.
وكان ابن دريد فوق هذه المرونة العقلية جريئًا في بيته وفي درسه جرأة جامحة لا يسمو إليها ولا يقوى على تكاليفها إلا من وثق بأنه أمة وحده، وأن على الناس أن يسمعوا له طائعين. فإذا سمعت أنه ألف أكثر من عشرين كتابًا في اللغة والأدب، وأنه كان أعرف أهل زمانه بما ترك الأولون فاذكر بجانب ذلك أنه كان رجلًا مرحًا طروبًا، وأن نفسه اللعوب أوحت إليه أفانين من الأدب بهرت معاصريه، وأعطته في النثر قوة بارعة تجعله في الصف الأول من صفوف المبدعين.
ولكن ما هي آثاره النثرية؟
- أولًا: حديث ابن دريد في حج أبي نواس حديث ممتع خلاب، كتب بطريقة روائية تصلح تمام الصلاحية لأن تكون أساسًا لفن المقامات، ولست أشك الآن في أن هذا الحديث جزء من الأربعين حديثًا التي ابتكرها ابن دريد.
- ثانيًا: الأحاديث التي نقلها القالي عن ابن دريد تشتمل على طائفة من القصص المسجوعة تقرب في وضعها من قصته عن حج أبي نواس، وتصلح أيضًا أن تكون أساسًا لفن المقامات، فلا بأس من الاطمئنان إلى أنها شطر من الأربعين حديثًا التي عارضها بديع الزمان.
- ثالثًا: إذا غضضنا النظر عن الأحاديث القصيرة جدًّا التي نقلها القالي عن ابن دريد وعددناها مما رواه عن شيوخه، أو مما وقع إليه من كلام الأعراب؛ كان ما بقي من أحاديثه المتشابهة في القدر والوضع والأسلوب قريبًا من الأربعين.
- رابعًا: يلاحظ أن أكثر ما روى القالي عن ابن دريد من الأحاديث جرى على ألسنة ناس مجهولين؛ فأشخاصه يكونون حينًا من الأعراب، وتارة يكونون من أقيال اليمن الذين لا يعرف لهم اسم ولا يحفظ لهم تاريخ، وأحيانًا يكونون من النكرات التي لا يعرف لها وجود، وهذا دليل على الوضع والاختراع.
- خامسًا: لاحظ صاحب زهر الآداب أن الأربعين حديثًا التي ابتكرها ابن دريد جاء أكثرها مما تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع»، وأنها وقعت «في معارض عجمية وألفاظ حوشية»، ولو أننا تتبعنا ما نقله القالي من تلك الأحاديث لوجدنا الصنعة والإغراب ظاهرين فيها كل الظهور، وربما ساغ لنا أن نفترض أن ابن دريد تعمد أن يدس في أحاديثه بعض الألفاظ التي اتُّهِم بافتعالها وتوليدها؛ فقد اتهمه أبو منصور الأزهري في مقدمة كتاب التهذيب بإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامها، فكان من همه إذن أن يجري ما اتهم بافتعاله على ألسنة الأعراب لتسقط عنه تهمة الاختلاق.
بعد ذلك نرى من المهم أن نتناول بالتحليل بعض أحاديث ابن دريد، ولنذكر أولًا أن تلك الأحاديث في جملتها تمثل جانب الدعابة والفن من ذلك الرجل الخليع. وأي نكتة أدق وأرشق من قصة توضع مثلًا عن حج أبي نواس؟ إن رحيل أبي نواس إلى بيت الله الحرام هو في نفسه قصيد من قصائد المجون، فكان من الحتم أن يعنى بعض الكتَّاب المازحين بعرض تلك الشخصية عرضًا تلتقي فيه الفكاهة والسخرية بصورة توهم القارئ أن ما تحت عينيه جِدٌ صراح.
وكذلك فعل ابن دريد فأنطق أبا نواس بقصة طريفة حدثنا فيها أنه لقي في طريقه نصبًا؛ إذ انهمل المطر في أرض بني فزارة ففزع إلى بعض الخيام فإذا جارية مبرقعة ترنو بطرف مريض الجفون ساحر النظر، فاستسقاها، فمضت تتهادى في جسم خصب رشيق، وأحضرت إليه الماء، ثم كان منه حوار مملوء بالسفه واللؤم أراد به الوصول إلى معاينة ما تحت تلك الثياب من أسرار الجمال، ولكن طبل الرحيل صرفه فانصرف، وفي قلبه حسرة كامنة وكربٌ دخيل، فلما قضى حجه ورجع مر بتلك الخيام طامعًا في الصيد، ولكن مطامعه انتهت بخيبة مخجلة نكتفي في الإبانة عنها بهذه الإشارة، ونحيل القارئ على مقدمة الديوان ليرى كيف برع ابن دريد في السخرية من أبي نواس.
ثم ننظر بعد فنرى ابن دريد اهتم بتصوير الشمائل العربية، وكلف بنوع خاص بتقديم طائفة من الصور المختلفة من أحلام النساء في فهم الرجال، وإعجاب البنات بأعمال الآباء، وما يقع من الملاحاة بين الأزواج، والتواصي بين الشباب والكهول. كل ذلك بطريقة قوية أخاذة تجعل له مكانًا بين العالمين بالغرائز وأهواء النفوس.
وبمراجعة أحاديث ابن دريد نلاحظ أنه يتعقب أعيان الجاهلية فينطقهم بألوان من الحوار تمثل ما كان يحب العرب أن يعرف عن أسلافهم من كرم الطباع وشرف الأحساب، ولو بقيت لنا مقامات بديع الزمان كاملة لعرفنا إلى أي حدٍّ حاكى ابن دريد في هذا الباب، فإن قصة بشر بن عوانة التي اخترعها بديع الزمان نموذج طريف في ابتداع الأقاصيص …
إلى هنا عرفنا الفرق بين مقامات بديع الزمان وأحاديث ابن دريد، وعرفنا مَن السابق ومَن المسبوق، فلننظر ما ترك معاصروهم من هذا البدع الجديد.