روايات الأغاني
وشهرة الأصبهاني وكتابه مستفيضة فلا حاجة لإعادة ما يعرفه الناس، وإنما أريد هنا أن أنصَّ على ناحيتين في الأصبهاني وكتابه لم أجد من تنبه لهما من الباحثين، ولهاتين الناحيتين أهمية عظيمة في فهم الحياة الأدبية، وسيكون لهما أثر عظيم في دعوة المؤلفين إلى الاحتياط حين يرجعون إلى كتاب الأغاني يتلمسون الشواهد في الأدب وفي التاريخ.
الناحية الأولى خاصة بالأصبهاني: تلك الناحية هي خلقه الشخصي؛ فقد كان الأصبهاني مسرفًا أشنع الإسراف في اللذات والشهوات، وقد كان لهذا الجانب من تكوينه الخلقي أثر ظاهر في كتابه، فإن كتاب الأغاني أحفل كتاب بأخبار الخلاعة والمجون، وهو حين يعرض للكتَّاب والشعراء يهتم بسرد الجوانب الضعيفة في أخلاقهم الشخصية، ويهمل الجوانب الجدِّية إهمالًا ظاهرًا يدل على أنه كان قليل العناية بتدوين أخبار الجدُ والرزانة والتحمل والاعتدال.
وهذه الناحية من الأصبهاني أفسدت كثيرًا من آراء المؤلفين الذين اعتمدوا عليه، ونظرة فيما كتبه المرحوم جورجي زيدان في كتابه تاريخ أدب اللغة العربية، وما كتبه الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء تكفي للاقتناع بأن الاعتماد على كتاب الأغاني جرَّ هذين الباحثين إلى الحط من أخلاق الجماهير في عصر الدولة العباسية، وحملهما على الحكم بأن ذلك العصر كان عصر شك وفسق ومجون.
ولا أريد بهذا أن أحكم بأن الأصبهاني كان يتعمد الاختلاق، وأن الجمهور في العصر العباسي كان مغمورًا بالطهر والعفاف، كلا؛ فقد قلت غير مرة: إن الحياة الإنسانية مزيج من الشك واليقين، والحلم والجهل، والهدى والضلال، وإن الإنسان لا يكون خيرًا محضًا ولا شرًّا محضًا، وإنما بقاؤه في أن تكون سرائره مسرحًا لنوازع الغي والرشد، والبر والفجور، ولكني أريد أن أقول: إن إكثار الأصبهاني من تتبع سقطات الشعراء، وتلمس هفوات الكتَّاب، جعل في كتابه جوًّا مشبعًا بأوزار الإثم والغواية، وأذاع في الناس فكرة خاطئة هي اقتران العبقرية بالنزق والطيش والخروج على ما ألفت الجماهير من رعاية العرف والدين.
أما الناحية الثانية فهي خاصة بكتاب الأغاني: تلك الناحية هي نظم ذلك الكتاب، ففي مقدمته عبارات صريحة في الدلالة على أن مؤلفه قصر اهتمامه — أو كاد — على إمتاع النفوس والقلوب والأذواق، فهو كتاب أدب لا كتاب تاريخ، وأريد بذلك أن المؤلف أراد أن يقدم لأهل عصره أكبر مجموعة تغذَّي بها الأندية ومجامع السمر ومواطن اللهو ومغاني الشراب، وإنه ليحدثنا في المقدمة بأنه أتى في كل فصل من كتابه بِفقَر إذا تأملها قارئها لم يزل متنقلًا بها من فائدة إلى مثلها، ومنصرفًا فيها بين جد وهزل، وآثار وأخبار، وسير وأشعار متصلة بأيام العرب المشهورة، وأخبارها المأثورة، وقصص الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام.
وأحب أن يتأمل القارئ قوله: «رونق يروق الناظر ويلهي السامع»؛ فهذا التعبير هو الوصف الصادق لما اختار الأصبهاني أن يدور عليه كتابه، حين أراد أن يقدِّم ما راقه من أيام العرب وقصص الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام، وخصوصًا إذا لاحظنا أن كلامه يشعر بأنه مستعد لإهمال ما فيه بعض الفائدة إذا خلا من ذلك الرونق الذي «يروق الناظر ويلهي السامع». فهو إذن يساير القراء المتطلعين إلى النواحي الطريفة من أخبار الملوك والخلفاء والوزراء والكتاب والشعراء، ولهذا النحو في التأليف قيمة عظيمة جدًّا إذا فهمه القارئ على وجهه الصحيح؛ فهو دليلٌ على خصوبة التصور والخيال، وبرهان على أن كتَّاب اللغة العربية لم يحرموا من القصص الشائق الخلاب، ولم يفتهم أن يقدِّموا لأوقات اللهو والفراغ ما تحتاج إليه العقول المكدودة، والنفوس المحزونة من طرائف الأقاصيص وغرائب الأسمار.
ولأضرب المثل بما قصَّه صاحب الأغاني من أخبار عمر بن أبي ربيعة، وهي أخبار ظنها كثير من الباحثين صورة لحياة الحجاز في القرن الأول للهجرة، وقد حدثني المسيو ماسنيون بأن لأشعار عمر بن أبي ربيعة وحوادثه أهمية عظيمة من هذه الناحية، وأنا قد اعتمدت بالفعل على كتاب الأغاني حين فصَّلت أحاديث مَن عرف ذلك الشاعر من الملاح في الطبعة الثالثة من كتابي «حب ابن أبي ربيعة وشعره»، ولكنني دعوت القارئ إلى الاحتراس، وبينت له أنني أريد أن أرسم من ابن أبي ربيعة صورة جذابة تشبه صورة ميسيه عند الفرنسيين، وجوت عند الألمان، وبيرون عند الإنجليز. وأنا أستبيح هذا النحو من استغلال كتب الأدب والتاريخ؛ فإن الأدب يقصد به إمتاع القلوب كما يراد به إقناع العقول، ومتى نص الكاتب على أن وجهته فنية محضة وأن منحاه أدبي صِرف؛ فقد أبرأ ذمته عند من يريد أن يتخذ من أقاصيص الأدب صورة صادقة لحياة الأشخاص، وما أحاط بهم من مختلف البيئات وشتى الظروف، وكذلك فعلت حين قلت: «إن كثيرًا من حوادث ابن أبي ربيعة الغرامية من صنع الخيال، وقد قبلناه على علاته، واكتفينا بالإشارة عند التمهيد لأخبار الملاح؛ إذ كانت حوادث ابن أبي ربيعة التي أضيفت إليه تدلنا على شيئين:
فهي أوَّلًا علامة على أن المتقدمين أنسوا بروحه وأسلموا قلوبهم لوحيه، فأبدعوا في ظلال ذكراه ما شاء الخيال من أحاديث الحب الظافر والهوى الغلاب.
لكن صاحب الأغاني لم يفعل شيئًا من ذلك، وإنما ساق أخبار ابن أبي ربيعة كلها على أنها حقائق، وساقها مروية بالسند، والرواية بالسند شيء ساحر فُتن به كثير من الناس، وظنوه علمًا دقيقًا له آداب وشروط، واعتمادًا على هذا العلم الدقيق اطمأن أكثر الباحثين إلى روايات الأغاني فضلُّوا وأضلُّوا في حقائق التاريخ.
قلت: إن صاحب الأغاني كان يهتم بالنواحي الطريفة من السير والأخبار، فلأذكر من أدلة ذلك أنه حدَّثنا بسنده عن ابن أخي زرقان عن أبيه قال: أدركت مولى لعمر بن أبي ربيعة شيخًا كبيرًا، فقلت له: «حدَّثني عن عمر بحديث غريب.» وكلمة «حديث غريب» هذه لها معناها فيما نحن بسبيله من أخذ الرواة بالتلفيق والاختلاق، فإن البحث عن الأوضاع الغريبة من أحاديث عمر بن أبي ربيعة يدل على ظمأ تلك النفوس إلى النادر المستطرف من القصص والأحاديث، وما عسى أن يكون ذلك الخبر الغريب؟ هو خبر يشبه من أكثر نواحيه قصة حج أبي نواس التي اخترعها ابن دريد.
فأبو نواس حين رجع من حجه اجتذبه جماعة من حسان النساء، وما كاد يطمئن إلى ظفره بما كان يشتهي من جميل الصيد حتى دخل عليه جماعة من العبيد في حالة جارحة بدَّدت ما نظم من ساحر الأحلام، وابن أبي ربيعة في حجه تعرض لنسوة من جواري بني أمية فخلبنه ووعدنه بتذكرة طيبة تكون تحفة له كلما تذكر أنسه بهن في أيام الطواف، فلما بعث غلامه ليتسلم التذكرة عاد ومعه صندوق لطيف مقفل مختوم، كان يظن أنه أودع طيبًا أو جواهرَ، ففتحه فإذا هو مملوء من المضارب وهي الكيرنجات، وإذا على كل واحد منها اسم رجل من مُجَّان مكة، وفيها اثنان كبيران، على أحدهما الحارث بن خالد وهو يومئذ أمير مكة، وعلى الآخر عمر بن أبي ربيعة. وإذا كانت المضارب الكيرنجات هي آلات السفاد؛ فقد تم التشابه بين قصة عمر وقصة أبي نواس.
أتيت عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين وهو في مجلس قومه من بني مخزوم، فانتظرت حتى تفرَّق القوم ثم دنوت منه ومعي صاحب لي ظريف وكان قد قال لي: تعال حتى نهيجه على ذكر الغزل، فننظر هل بقي في نفسه منه شيء؟ فقال له صاحبي: يا أبا الخطاب — أكرمك الله — لقد أحسن العُذري وأجاد فيما قال، فنظر عمر إليه ثم قال له: وماذا قال؟ قال: حيث يقول:
ثم مضى يهيجه بالشعر حتى طرب، وحدثهما بحديث وُصف بأنه «حديث حلو»، وتلك الحلاوة لها معناها أيضًا، فهي نص على أنه وضع ليكون فكاهة طريفة يتنقل بها السامرون في مجالس الشراب. ويتلخص الحديث في أن خالدًا الخرِّيت صاحب عمر حدثه عن نسوة مررن به قبيل العشاء لم ير مثلهن في بدو ولا حضر، فيهن هند بنت الحارث المرية، وأشار عليه بأن يأتي متنكرًا ليسمع من حديثهن ويتمتع بالنظر إليهن ولا يعلمن من هو. فقال له عمر: ويحك! وكيف أخفي نفسي؟ فأشار إليه بأن يلبس لبسة أعرابي ثم يجلس على قعود فلا يشعرن إلا به وقد هجم عليهن، فأطاع عمر ثم وقف بقرب النسوة وأنشدهن ما سألن إنشاده من شعر كثيِّر وجميل والأحوص ونُضيْب.
وبعد لحظات تغامز النساء وجعل بعضهن يقول لبعض: كأنا نعرف هذا الأعراب، ما أشبهه بعمر بن أبي ربيعة! ثم مدت هند يدها، فانتزعت عمامته وألقتها عن رأسه، ثم قالت: هيه يا عمر! أتراك خدعتنا منذ اليوم؟ بل نحن والله خدعناك واحتلنا عليك بخالد فأرسلناه إليك لتأتينا على أسوأ هيئة، ونحن كما ترى! ثم قالت بعد أن أخذ في الحديث: ويحك يا عمر! اسمع مني، ولو رأيتني منذ أيام وأصبحت عند أهلي فأدخلت رأسي في جيبي فنظرت إلى حري فإذا هو ملء الكف ومنية المتمني، فناديت: يا عمراه يا عمراه! فصاح عمر: يا لبيكاه يا لبيكاه! ومد في الثالثة صوته، إلى آخر الحديث.
ونحن نجد لهذه القصة أشباهًا كثيرة من حيث الغرض والأسلوب، فقد حدَّث ابن دريد أن رجلًا جلس إلى مجنون ليلى في ظل شجرة فقال: ما أشعر قيسًا حيث يقول:
فقال المجنون أنا أشعر منه حيث أقول:
وللحديث بقية، وفي هذا ما يكفي لبيان الأسلوب الذي كان يجري عليه الرواة في تصوير العشاق الذين تسلَّوا أو يئسوا، وما كان يعمل أرباب الفضول في تهييج ما كانوا يكتمون من أسرار الوجد الدفين …
ويشبه هذين الحديثين ما رواه محمد بن خلف بسنده عن علي بن عاصم إذ قال: «قال لي رجل من أهل الكوفة من بعض إخواني: هل لك في عاشق تراه؟ فمضيت معه فرأيت فتى كأنما نزعت الروح من جسده، وهو مؤتزر بإزار ومرتدٍ بآخر، وإذا هو مفكر وفي ساعده وردة، فذكرنا له بيتًا من الشعر فتهيج وقال:
وما روي عن هند بنت الحارث في استدرجها لعمر واستقدامه بأسوأ هيئة يشبه ما روي عن الثريا بنت علي، حين دست من يخبره بأنه سمع عند رحيله عن الطائف صوتًا وصياحًا عاليًا على امرأة من قريش اسمها اسم نجم في السماء، وقد ذهب عنه اسمه، فقال عمر: الثريا؟ قال: نعم، وكان قد بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة، فوجَّه فرسه إلى الطائف يركضه ملء فروجه وسلك طريق كداد — وهي أخشن الطرق وأقربها — حتى انتهى إلى الثريا، وقد توقعته وهي تتشوف له فوجدها سليمة، فأخبرها الخبر فضحكت وقالت: أنا والله أمرتهم لأختبر ما لي عندك!
ومن أحلى القصص التي رواها صاحب الأغاني عن محمد بن خلف قصة عمر مع فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، وخلاصتها أن امرأة أقبلت عليه وهو في فِناء مضربه وغلمانه حوله فسلمت عليه وسألته: هل لك في محادثة أحسن الناس وجهًا وأتمهم خَلقا وأكملهم أدبًا وأشرفهم حسبًا؟ قال: ما أحبَّ ذلك إليَّ! فاشترطت عليه أن يمكنها من عينيه فتشدهما وتقوده حتى إذا توسط الموضع الذي تريد حلَّت الشد، ثم تفعل به ذلك عند إخراجه حتى تنتهي به إلى مضربه. فقبل عمر، ثم قادته إلى امرأة لم ير مثلها قط جمالًا وكمالًا، فسلم وجلس، ثم كان بينها وبينه حوار انتهى بطرده، فعاد إلى مضربه كاسف البال، ثم عادت المرأة في اليوم التالي فقادته مرة ثانية انتهت بمثل ما انتهت به المرة الأولى من الإخفاق، وظلت الحال على ذلك أيامًا حتى اهتدى عمر إلى أنها فاطمة بنت عبد الملك، في حديث شائق طويل.
هنا دلنا صاحب الأغاني على ارتيابه في بعض الأخبار، ولكن لماذا يذكر ما يرتاب فيه كما يقع إليه؟ يذكره لأنه يريد أن يقدم ما يروق الناظر ويلهي السامع، كما أشرنا من قبل، ولكن لا يفوتنا أن نشير إلى أن هذا الخبر الذي حدثنا الأصبهاني بأنه مصنوع هو كذلك منقول عن جماعة من الرواة، كان يصح أن يحتج بروايتهم من يصدَّقون كل شيء روي بأسانيد، لو لم ينص الأصبهاني على أنه مدسوس.
وفي رأيي أن أكثر أخبار عمر بن أبي ربيعة وُضع تفسيرًا لشعره؛ لأن كل قصيدة من قصائده تشير إلى حادثة من حوادثه الغرامية، وقد صنع الرواة مثل هذا الصنع في أخبار أبي نواس، فقد لفَّقوا حديثًا يشرح قوله في جٍنان:
واخترع الرواة كذلك قصة طريفة لتفسير أبيات أبي نواس التي مطلعها:
وقد تنبه كثير من الباحثين إلى ما دُسَّ على أبي نواس، ولم أجد من أشار إلى ما دُسَّ على عمر بن أبي ربيعة، مع أن الرجلين يشتركان في أن كلًّا منهما قضى معظم حياته في اللهو والعبث والمجون. وإذا جارينا صاحب الأغاني في الاستدلال على وضع الشعر بضعفه، فإن في شعر ابن أبي ربيعة قصائد كثيرة تغلب عليها الضعف والانحلال، حتى ليبعد معظم شعره عن المتانة التي عرفتْ في عصره وطبع عليها عدد من قصائده الطوال.
هذا، ولو مضينا نحصي ما في روايات الأغاني من التلفيق لطال بنا القول، فلنكتفِ بهذا، ولنسجل مرة ثانية أن الأصبهاني أراد أن يكون كتابه معرضًا لما تجمَّع بين أيدي معاصريه من طرف الأقاصيص، فليعتبره القارئ كتاب أدب لا كتاب تاريخ.
وبعض من روى عنهم ابن بسَّام يكثر النقل عنهم في كتاب الأغاني، وخاصة عمر بن شبة والزبير بن بكار. وابن بسام هذا من رجال القرن الثالث، وفي كتابه عن عمر دليل على أن أخبار ذلك الشاعر كانت معروفة قبل الأصبهاني بنحو قرن أو يزيد، وكانت موضع عناية المؤلفين.
ولو وصل إلينا كتاب ابن بسام لعرفنا الفرق بين طريقته وطريقة أبي الفرج في صياغة الأخبار، ولكننا على أي حال نرجح أن أبا الفرج له يدٌّ في تلوين تلك الأخبار ووضعها في قوالب يغلب عليها اللهو والمجون، فهو لم يخلقها كلها؛ لأن عبث ابن أبي ربيعة كان مشهورًا قبل ذلك، ولكنه نفخ فيها من روحه، وصاغها بلباقة وافتنان.
ولو خلَّينا الأخبار المروية جانبًا، ونظرنا فيما حدَّث به أبو الفرج عن نفسه، لعرفنا مبلغ حذقه في وضع الأقاصيص.
- (١)
قال أبو الفرج: خرجت أنا وأبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن علي بن عيسى — رحمه الله — ماضيين إلى دير الثعالب في يوم من سنة ٣٤٥ للنزهة، ومشاهدة اجتماع النصارى هناك، والشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير، وفيه جماعة من أولاد كتَّاب النصارى من أحداثهم، وإذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش تتمايل وتتثنى كغصن الريحان في نسيم الشَّمال. فضربت بيدها إلى يد أبي الفتح وقالت: يا سيدي، تعال اقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط هذا الشاهد. فمضينا معها، وبنا من السرور بها وبظرفها وملاحة منطقها ما الله به عليم، فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كأنه الفضة، وأومأت إلى الموضع فإذا فيه مكتوب:
خرجتْ يوم عيدهافي ثياب الرواهبِفتنت باختيالهاكل جاءٍ وذاهبلشقائي رأيتهايوم دير الثعالبتتهادى بنسوةكاعب في كواعبهي فيهم كأنها الــبدر بين الكواكبفقلت لها: أنت والله المقصودة بهذه الأبيات. ولم نشك أنها كتبت الأبيات، ولم نفارقها بقية يومنا، وقلت لها هذه الأبيات وأنشدتها إياها ففرحت:
مرَّت بنا في الدير خُمصانهساحرةُ الناظر فتانهأبرزها الذكران من خدرهاتعظم الدير ورهبانهمرَّتْ بنا تخطر في مشيهاكأنما قامتها بانههبت لنا ريح فمالت بهاكما تثنَّى غصن ريحانهفتيَّمت قلبي وهاجت لهأحزانه قدمًا وأشجانهوحصلت بينها وبين أبي الفتح عشرة بعد ذلك، ثم خرج إلى الشام وتوفي بها، ولا أعرف لها خبرًا بعد ذلك.١٢ - (٢)
وقال في كلمة ثانية: كنت في أيام الشبيبة والصبا آلف فتى من أولاد الجند في السنة التي توفي فيها معز الدولة، وولَّى بختيار، وكانت لأبيه حال كبيرة ومنزلة من الدولة ورتبة، وكان الفتى في نهاية حسن الوجه، وسلاسة الخلق، وكرم الطبع، ممن يحب الأدب ويميل إلى أهله، ولم يترك قريحته حتى عرف صدرًا من العلم وجمع خزانة من الكتب حسنة. فمضت لي معه سِير لو حفظت لكانت في كتاب مفرد من مكاتبات ومعاتبات، وغير ذلك مما يطول شرحه، منها أنني جئته يوم جمعة غدوة فوجدته قد ركب إلى الحلبة، وكانت عادته أن يركب إليها في كل يوم ثلاثاء ويوم جمعة، فجلست على دكة على باب دار أبيه في موضع فسيح كان عمَّرها وفرشها، فكنا نجلس عليها للمحادثة إلى ارتفاع النهار، ثم ندخل إذا أقمت عنده إلى حجرة لطيفة كانت مفردة له لنجتمع على الشراب والشطرنج وما أشبههما، فطال جلوسي في ذلك اليوم منتظرًا له، فأبطأ وتصبح من أجل رهان كان بين فرسين لبختيار، فعرض لي لقاء صديق، فقمت لأمضي ثم أعود إليه، فهجس لي أن كتبت على الحائط الذي كنا نستند إليه هذه الأبيات:
يا من أظل بباب دارهويطول حبسي لانتظارهوحياة طرفك واحورارهومجال صدغك في مدارهلا حُلتُ عمري عن هواك ولو صَليتُ بحرَّ نارهوقمت.
فلما عاد قرأ الأبيات وغضب من فعلي لئلا يقف عليه من يحتشمه، وكان شديد الكتمان لما بيني وبينه مطالبًا بمثل ذلك مراقبةً لأبيه، إلا أن ظرفه ووكيد محبته لي وميله إليَّ لم يدعه حتى أجاب بما كتب تحتها، ورجعت من ساعتي فوجدته في دار أبيه، فاستأذنت عليه فخرج إليَّ خادم لهم فقال: يقول لك: لا التقينا حتى تقف على الجواب عن الأبيات، فإنه تحتها، فصعدت الدكة فإذا تحت الأبيات بخطه:ما هذه الشناعة؟ ومن فسَّح لك في هذه الإذاعة؟ وما أوجب خروجك عن الطاعة؟ ولكن أنا جنيت على نفسي وعليك؛ ملَّكتك فطغيت، وأطعتك فتعديت، وما أحتشم أن أقول: هذا تعرُّض للإعراض عنك، والسلام.
فعلمت أنني قد أخطأت، وسقطت — شهد الله — قوَّتي وحركتي، فأخذتني الندامة والحيرة، ثم أذن لي فدخلت فقبَّلت يده فمنعني، وقلت: يا سيدي، غلطة غلطتها، وهفوة هفوتها، فإن لم تتجاوز عنها وتعفُ هلكت. فقال لي: أنت في أوسع العذر بعد أن لا يكون لها أخت. وعاتبني على ذلك عتابًا عرفت صحته، ولم تمض إلا مُديدة حتى قُبض على أبيه وهرب، فاحتاج إلى الاستتار فلم يأنس هو ولا أهله إلا بكونه عندي. فأنا على غفلة إذ دخل في خف وإزار، وكادت مرارتي تنفطر فرحًا، فلقيته أقبِّل رجليه وهو يضحك ويقول: يأتيها رزقها وهي نائمة! هذا يا حبيبي بخت من لا يصوم ولا يصلي في الحقيقة — وكان أخف الناس روحًا وأقلعهم لبادرة — وبتنا في تلك الليلة عروسين لا نعقل سكرًا! واصطحبنا وقلت هذه الأبيات:
بت وبات الحبيب ندمانيمن بعد نأي وطول هجراننشر قفصية معتقةبحانة الشط منذ أزمانوكلما دارت الكئوس لناألثمني فاه ثم غنانيالحمد لله لا شريك لهأطاعني الدهر بعد عصيانولم يزل مقيمًا عندي نحو الشهر حتى استقام أمر أبيه، ثم عاد إلى داره.١٣فهذه الأخبار التي رواها أبو الفرج عن نفسه تعيِّن اتجاهاته الذوقية في الحياة.
ومن هنا جاء غرامه بتعقب أخبار الخلاعة والمجون فيمن ترجم لهم من الشعراء.