حكايات ابن الأنباري
وأنا لا أتهمه بالاختراع، ولكنه روى أحاديث قصيرة تلوح عليها علامات الصنع، من ذلك ما رواه أنه مات رجل كان يعول اثني عشر ألف إنسان، فلما حمل على النعش صرَّ على أعناق الرجال، فقال رجل في الجنازة:
وعبارة: «مات رجل كان يعول اثني عشر ألف إنسان» صريحة في خلق هذه الحادثة للإشادة بنبل الأخلاق العربية.
ولنقيد أن ما يرويه ابن الانباري لا صنعة فيه، فهو يجري في لغة مقبولة لا يلتزم فيها السجع ولا الازدواج، ويمكن الاطمئنان إلى أنه كان يتحدث عن أخبار كانت معروفة في عصره بشيء يسير من الترتيب لم يصل قط إلى مثل هذا ما صنعه ابن دريد.
إن سوارًا صاحب رحبة سوار وهو من المشهورين قال: انصرفت يومًا من دار الخليفة المهدي، فلما دخلت منزلي دعوت بالطعام فلم تقبله نفسي، فأمرت به فرُفع، ثم دعوت جارية أحدثها وأشتغل بها فلم تطب نفسي، فدخل وقت القائلة فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة لي فأسرجت وأحضرت فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه مال، فقلت: ما هذا؟ فقال: ألفا درهم جئت بها من مستغلك الجديد. قلت: أمسكها معك واتبعني.
فأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر، ثم مضيت في شارع الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم فعطشت فقلت للخادم: أعندك ماء تسقينيه؟ قال: نعم، ثم دخل وأحضر قلة نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل فناولني فشربت، وحضر وقت العصر فدخلت مسجدًا على الباب فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي إذا أنا بأعمى يتلمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد. قلت: فما حاجتك؟ فجاء حتى جلس إلى جانبي وقال: شممت منك رائحة طيبة، فظننت أنك من أهل النعيم، فأردت أن أحدثك بشيء. فقلت: قل. قال: ألا ترى إلى باب هذا القصر؟ قلت: نعم. قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان، وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها وعميت، فقدمت هذه المدينة، فأتيت صاحب هذه الدار لأسأله شيئًا يصلني به فأتوصل إلى سوار؛ فإنه كان صديقًا لأبي. فقُلْتُ: ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان. فعرفته، وإذا هو كان أصدق الناس إليَّ، فقلت له: يا هذا، إن الله — تبارك وتعالى — قد أتاك بسوَّار ومنعه من الطعام والنوم والقرار حتى جاء به فأقعده بين يديك. ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه، وقلت: إذا كان غد فسر إلى منزلي.
ثم مضيت وقلت: ما أحدَّث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذا. فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي، فلما دخلت إليه حدثته بما جرى لي فأعجبه ذلك، وأمر لي بألف دينار فأُحضرتْ فقال: ادفعها إلى الأعمى. فنهضت، فقال: اجلس. فجلست، فقال: أعليك دين؟ قلت: نعم. قال: كم دينك؟ قلت: خمسون ألفًا. فحدثني ساعة، وقال: امضِ إلى منزلك. فمضيت إلى منزلي، فإذا بخادم معه خمسون ألفًا وقال: يقول لك أمير المؤمنين: اقضِ بها دينك. قال: فقبضت ذلك منه، فلما كان من الغد أبطأ عليَّ الأعمى وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئته، فقال: قد فكرت البارحة في أمرك. قلت: يُقضَى دينه ثم يحتاج إلى القرض أيضًا، وقد أمرت لك بخمسين ألفًا أخرى. قال: فقبضتها وانصرفت، فجاءني الأعمى فدفعت إليه الألف دينار، وقلت له: قد زرق الله تعالى بكرمه وكافأ على إحسان أبيك وكافأني على إسداء المعروف إليك. ثم أعطيته شيئًا آخر فأخذه وانصرف.
وهذه القصة أطول من سابقتيها، وهي خالية من الشعر الذي حُلِّيت به الأولى، والفكاهة التي بنيت عليها الثانية، وتتضمن الدعوة إلى البر والمعروف بما اشتملت عليه من حسن الجزاء.
وهذا النمط من القَصص الأخلاقي كان كثير الذيوع في القرن الثاني والثالث والرابع، ومن أشهر مَن كتب فيه أبو جعفر أحمد بن يوسف أحد كتاب الدولة الطولونية، وسنعود إليه في بحث خاص.