أبو الحسن الجرجاني
إن للرجل الذي نتحدث عنه في هذا الفصل فضلًا على علوم اللغة العربية يجب أن يعرفه طلاب الأدب والبيان.
فأبو الحسن هذا قاضٍ من كبار القضاة عند الشافعية، ولكنه بالرغم مما يحيط بوظيفة القضاء من قيود الرزانة وأغلال الوقار؛ رجل طليق العقل، حي الإحساس، حر الوجدان، يلقي إلى فطرته القياد فيما يعمل وما يقول. وأي خسارة كانت تُرزَأ بها الآداب العربية لو توقر هذا الرجل وترهب وألقى بنفسه في تيار الجمود! وأي خطر كان يحدق بالقضاء لو أصم هذا القاضي مشاعره وأمات ذوقه، ودفن إحساسه، وأغمض عينيه عما في هذا العالم من فنون السحر، وضروب الفتون!
أفتحسب القضاة بنجوة عمَّا تعرض له النفس الإنسانية من ظلمات الفتن وعواصف الأهواء؟ إن أول صفات القاضي — فيما أعتقد — أن يكون «إنسانًا» له في حياته ما يخضع له من مطامع العقل، وأماني النفس، وحاجات الفؤاد، وإلا فكيف يحكم بين الناس وهو لا يحس بما تدين له النفس الإنسانية من نزوات المشاعر، وهفوات العقول؟
ولد أبو الحسن علي بن عبد العزيز في مدينة جرجان سنة ٢٩٠ للهجرة، وجرجان هذه مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان، كما ذكر ياقوت، وقد خرج منها عدد من الأدباء والعلماء والفقهاء والمحدثين، وكانت لعهد من عُرفت بهم من كبار الباحثين مشهورة بالصناعة الفنية، والفواكه الكثيرة، فكان فيها الإبريسيم الجيد الذي لا يستحيل صبغه، والذي كان يُحمل إلى جميع الآفاق، وكان بها كثير من النخل والزيتون، والجوز والرمان، وكان بها ما شاء القناص من الأجادل والزرازير، والظباء واليعافير، وكانت فوق هذا كله مشهورة بالخمر، وفيها يقول ابن خريم، أو الأقيشر اليربوعي — تردد في ذلك صاحب معجم البلدان:
ونرى أن لوفرة ما كان بجرجان من الفواكه ولشهرتها بالخمر تأثيرًا فيما كان لأهلها من رقة الحس، ودقة الذوق، وفي ظلال هذه المدينة المفتنة في تنسيق المزارع والمصانع نشأ أبو الحسن الذي برع من تقدمه من الكاتبين في أساليب البيان.
ولقد ظلت جرجان أثيرة لديه طول حياته، وكان الصاحب بن عباد فيما قال يقسم له بها من إقباله وإكرامه أكثر مما يتلقاه به في سائر البلاد.
قال: وقد استعفيته يومًا من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فأنشدني:
ثم قال: قد فرغت من هذا المعنى في العينية؛ يريد قوله:
قال: والأصل فيه قوله تعالى: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ. ورغبة الرجل في أن يكرم في وطنه وبين أهله من الأماني الإنسانية التي تحدث بها الشعراء في مختلف الأجيال.
ويبين في الفصل الثاني أنه يرمي بكتابه إلى غرض ديني وغرض دنيوي؛ فيبين من الوجهة الدينية كيف طمس الله معالم الشرك، وأوضح معارف الحق، ويترك من الوجهة الدنيوية أثرًا يذكر به عند الصاحب بن عباد … وهذا الاتجاه يدل على أن هذا الرجل كان يستخدم التاريخ في نشر الدعوة الإسلامية، واستخدام التاريخ في الأغراض الدينية والسياسية يحمل المؤرخ على مكاره كثيرة ينجو منها من يحاول أن يجعل التاريخ صورة صادقة للأمم والشعوب، وقد يكون للصاحب بن عباد مثلًا ميلٌ خاص إلى بعض الأحزاب الإسلامية، ولهذا أثره المحتوم في كتاب يوضع بنيته وإرشاده، وتلك خطة قد تكون نبيلة باعتبار ما ترمي إليه، فطالما اعتزت الأمم بما قد يصور به ماضيها من شتى التهاويل، ولكنها خطة خطرة على التاريخ.
أما تأليفه في الأدب فقد بقي لنا منه «كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه» وسنعود إليه. وأما آثاره الأدبية فلم يبق منها إلا طائفة من الشعر المختار هي عدتنا في تصوير نفس ذلك القاضي الأديب.
كانت نفس القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني نفسًا غالية؛ فقد ترك لنا في شعره صورة لنفسه الأبية العزيزة، التي حرمت عليه طيبات الحياة؛ إيثارًا للعزة والألفة والكرامة، وصونًا للعرض من الدنس، وإبعادًا للمروءة عن مواطن الابتذال. وسيرى القارئ حين تقدم له صورة تلك النفس الغالية، الغالية، ولو شئت لكررتها ثلاثًا، سيرى فيها عزاءً له إن كان من الذين وقفت نفوسهم الأبية في سبيل ما يشتهون من بسطة الرزق، وصولة الجاه. ومن ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فينقل ما نكتب عن هذه النفس إلى من خلعوا نفوسهم عند أبواب المطامع، وأقبلوا على مصارع الفضل مهطعين؟
لقد عزت نفس قاضي القضاة وأسرفت في التصون، إن كان في التصون إسراف، وما زالت به تصده عن مواطن الشبهات ومظان الريب والظنون حتى زينت له العزلة والانفراد، وشعره في هذا المعنى مثال من الأمثلة العليا التي يعتز بمحاكاتها كبار النفوس. فليسمع أهل العلم كيف يصف نفسه ذلك العزيز الأنوف:
وفي هذا المعنى يقول من كلمة ثانية:
في هاتين الكلمتين صورة لتلك النفس المعذبة التي قضى عليها الفضل بالشقوة والحرمان، وأشرف ما وصف به ذلك القاضي حظه من العزة تصويره للطيبات تعرض عليه عرضًا فيأباها إيثاره للصون وحرصه على الجلال، يتمثل هذا في قوله:
وقوله:
وقوله:
ويرحم الله من يعاني ثورة النفس، وقسوة الزمان!
وما أحب أن أترك هذه الناحية من أبي الحسن الجرجاني قبل أن أقف القارئ على لون آخر من ألوان تلك النفس، فقد رأى كيف يثور على زينة الحياة الدنيا سخطًا على ما يصحبها من مواقف الهوان، فلينظر كيف يعتذر من انقباضه عن أخويه، وكيف يلمح برفق ولطف إلى ما طوي عنه إباؤه من أسباب النعيم، وكيف أنس بالوحدة والوحشة هربًا من مواقع الظنون، وكيف جعل نفوره من العالم سجية فطر عليها منذ قضى الله أن يلقي به في ظلمات هذا الوجود، وذلك حيث يقول:
كان القاضي أبو الحسن الجرجاني من المغرمين بالتغريد على أفنان الجمال، وشعره في وصف الملاحة ذو أفانين وشجون، فقد نراه يترنم بمظاهر الحسن، ويتغنى بما فضح الشباب من أسرار الصباحة؛ كقوله في الخد المورد والطرف الكحيل:
وقوله في مغازلة النديم:
وقوله في فتنة الألحاظ:
وقوله في اختلاس التقبيل:
وقوله في القسم بجنود الجمال:
وهذه القطع التي اخترناها من شعره في الأوصاف الحسية تمثله شره الحواس، وله في هذه المعاني أشعار طريفة يقضي العرف الاجتماعي بأن لا تنشر في مثل هذا الكتاب، فلنطوها عن القارئ طاعة للتقاليد، وإحساس هذا القاضي بالجمال جعله يختلق الأسباب ليفصح عما يعنِّي نفسه من أعلال الوجد الدفين، ولننظر كيف يتحدث عن سحر العيون وهو يشكو الزمان إذ يقول:
وفي تصيد أسباب الغزل وموجبات التشبيب يقول في تفدية حبيب نال من دمه مبضع الطبيب:
وقد يلهو هذا القاضي الأديب عما في الجمال من نعيم الحواس، ويعود إلى بكاء ما ذهب من أنسه في أيامه السوالف، ولياليه الخوالي، فيذكرنا بلوعة الشريف الرضي الذي كاد ينفرد برقة الحنين، ولننظر كيف يذوب روحه وهو يناجي النسيم:
وكيف يقول في خطاب الديار، ديار الأنس المفقود:
وقد أطلق الشاعر خياله في هذه الأبيات فأضحت معانيه كأنها خيال في خيال. أليس يذكر أن عيشه الغض كان:
ولكن من ذا الذي ينكر جمال هذا الخيال؟ أو من ذا الذي لا يروقه نوم جفون الخطوب؟
ومن جيد الشعر قوله في الحنين إلى ليالي بغداد:
راجع هذا الشعر أيها القارئ وقلب النظر في ثنايا ذلك الروح الحزين، فسترى تلك اللوعة الدفينة وذلك الوجد الدخيل يرجعان إلى الكلف بمظاهر الحسن، والظمأ إلى معاهد تلك الظباء التي تحالفت لحاظها أن لا يداوى لها صريع، أو يبرأ منها جريح، أو يُبكَى في ظلالها قتيل، وما أضيع الدمع المسفوح فوق أفنان الجمال!
وما أحب أن يغفل القارئ عن رقة الشوق في هذين البيتين يصف بهما الشاعر معاهد تلك الظباء:
والعجيب في هذا الشعر أن تصور نفس المحب في غربته ونواه وهى تأنس بديار الأحباب فوق ما يأنس المقيم! أهذا حق؟ أهذا مما يشهد به الوجدان؟ قد يكون ذلك. وغيري عنده الخبر اليقين!
ولكن أين أنس الظاعن من نعيم المقيم؟ وأين روح الذكرى من نشوة الاصطباح بوجوه الملاح؟ ومن يدري لعل من أنس بهم هذا الغريب أعانتهم غربة على نسيان العهود!