أبو عبد الله المرزباني
ولد في بغداد سنة ٢٩٧ وتوفي سنة ٣٨٤، وقيل: سنة ٣٧٨.
وليس لدينا من أخبار المرزباني إلا نتف يسيرة، وأظهر أخباره أنه كان رجلًا غنيًّا كريمًا يفضل على أساتذته وتلاميذه، وكانت داره مأوى لأهل العلم والأدب يبيتون فيها على الرحب والسعة حين يشاءون، ولم يكن يؤخذ عليه من الهفوات إلا إدمان الشراب، وكان من عادته في ذلك أن يضع بين يديه زجاجة حبر وزجاجة خمر، لا يزال يشرب ويكتب وهو مقسم الفكر والإحساس بين الواقع والخيال، وقد شعر — رحمه الله — بخطر ذلك على عقله وصحته، وظهر تململه حين سأله عضد الدولة مرة عن حاله، فقد أجاب: «كيف حال من هو بين قارورتين؟!» يعني: قارورة الحبر وقارورة الخمر.
وكان في حياته العقلية يؤثر مذهب المعتزلة؛ فقد صنف في أخبارهم كتابًا كبيرًا، وكان المعتزلة في تلك الأيام يقودون الحركة الفكرية والأدبية في الأقطار الإسلامية، وقد أُخذ عليه — سامحه الله — شيء من التسامح في رواية الحديث.
ويشتمل الفصل الثاني على ما روي من نعوت الشعراء وعيوبهم في أجسامهم وصورهم؛ كالسودان، والعور، والعميان والعمش والبرصان، وسائر ما يؤثر في الجسد من شعر الرأس إلى القدمين عضوًا عضوًا، ويشتمل الفصل الثالث على مذاهب الشعراء في دياناتهم؛ كالشيعة وأهل الكلام والخوارج والمتهمين واليهود والنصارى ومن جرى مجراهم، ويشتمل الفصل الأخير على من ترك قول الشعر في الجاهلية تكبرًا وفي الإسلام تدينًا، ومن ترك المديح ترفعًا، والهجاء تكرمًا، والغزل تعففًا، ومن أنفذ شعره في معنى واحد كالسيد بن محمد الحميري والعباس بن الأحنف ومن جرى مجراهما.
وله كتاب آخر اسمه «الرياض» ذكر فيه أخبار المتيمين من الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين، وفيه ذكر الحب وما يتشعب عنه وذكر ابتدائه وانتهائه، وما ذكر من أهل اللغة من أسمائه وأجناسه، واشتقاق تلك الأسماء بشواهد من أشعار الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين والمحدثين.
فقد عني الرجل بأن يجمع أخبار الشعراء ويرتبها ترتيبًا قد يعجز عنه أدباء اليوم فيضع للجاهليين كتابًا، وللمحدثين كتابًا، وعُني كذلك بأن يضع مؤلفات مستقلة في أكثر الشئون الأدبية؛ ككتابه عما وصف به العرب الصيف والشتاء، والحر والبرد، والغيوم والبروق، والرياح والأمطار، والرواء والاستقساء، وما دخل في جملتها من أوصاف الربيع والخريف، وكتبه عن الزهد والزهاد، والحجابة والحجاب، والعدل والسيرة، وأخبار الأولاد والزوجات والأهل وما جاء فيهم من مدح وذم، وكتابه عن الأنوار والثمار الذي ساق فيه طرفًا مما قيل في الورد والنرجس وجميع الأنوار من الأشعار، وما جاء فيها من الآثار والأخبار، وكتابه في نسخ العهود إلى القضاة، وكتابه عن أشعار النساء … إلخ.
ومن المدهش أنه ألف كتابًا في أخبار الشعراء سماه «المعجم» تحدث فيه عن نحو خمسة آلاف شاعر، وأثبت فيه أبياتًا لكل من تحدث عنهم من الشعراء، فمن الذي يعرف اليوم هذا المقدار من أسماء الشعراء مع أننا اجتزنا من تاريخ الأدب نحو خمسة عشر قرنًا، وكان المرزباني لم يجتز منه غير خمسة قرون؟
وقد راجعنا كتاب الموشح عدة مرات فلم نظفر للمؤلف بما يميزه عن غيره من مصنفي الروايات والأخبار، وإن كنا نعترف بأن الرجل أجاد الجمع والتنصيف، وقدم للقارئ معارض مختلفة مما أخذ على الشعراء، وأكثر ما أثبته لا نجده اليوم في غير كتابه، وإن كنا نعثر على أصوله مبعثرة هنا وهناك، فأنت حين تطلع على كتاب الموشح ترى مواده معروفة لك مستأنسة إليك بطول ما صادفتها في شتى المطالعات، ولكنك لو أردت أن تظفر بمجموعة ما قال النقاد القدماء عن الأخطل أو جرير مثلًا لما استطعت أن تجدها منظمة على نحو ما تجدها في هذا الكتاب، على أن المؤلف كثيرًا ما تظهر شخصيته فيُعرف رأيه ومذهبه في النقد؛ كقوله مثلًا في نقد قول الطائي:
ومعنى هذا أن الغريب الوحشي قد يحسن استعمالها إذا اطرد في كلام متأبد غريب، أما في الكلام السلس فاستعماله غير مقبول، وهو يوافق بعض الموافقة ما يراه الجاحظ من أن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس كما يفهم السوقي رطانة السوقي، والتفاهم عند المرزباني والجاحظ هو الأساس في اختيار الألفاظ؛ إذ كان الناس لا يقبلون الألفاظ أو يرفضونها إلا موصولة بما يألفون.
ففي هذه الفقرة تجن شديد على أبي تمام، وإزراء بإحسانه في تأليف مختاراته، وما أحسب الخاطر الذي مر ببال المرزباني مر ببال ناقد شريف القصد، فهو يرى أن أبا تمام قصر اختياره على الأشعار التي لم يسرق منها، وأنه طوى الأشعار التي يرجو أن يغير عليها، وأنه أراد أن يصرف المتأدبين بمختاراته عن الرجوع إلى الأصول التي سرق منها ما استجيد من شعره …
ولا أدري كيف يصح هذا من المرزباني إلا أن أرجح أنه كان من خصوم أبي تمام. وقد كان أبو تمام ابتلي في حياته وبعد مماته بمعارضة شديدة كادت تقتلع مجده من جذوره، وترمي به في هاوية العفاء، وسبب ذلك أن أبا تمام ظفر بشهرة قوية أخملت مئات الشعراء، والشهرة القوية تخلق الخصوم مخلقًا وترمي صاحبها بعداوات مسمومة لم يجترح في خلقها إثمًا ولا جناية، حتى صح للمرزباني على نزاهته أن يتهمه بسوء النية في تأليف المختارات، مع أن في الحماسة بابين لم نجد لهما مثيلًا في مجموعة أدبية؛ وهما باب المراثي وباب النسيب.
دخلت على أبي تمام الطائي وقد عمل شعرًا لم أسمع أحسن منه، وفي الأبيات بيت واحد ليس كسائرها، فعلم أني وقفت على البيت فقلت: لو أسقطت هذا البيت! فضحك وقال:
وأحيانًا قليلة يبسط القول بعض الشيء في النقد والمقابلة كما فعل في نقد قول امرئ القيس:
فقد بين أن أفضل منه قول الطرماح بن حكيم:
فالمعنى صحيح؛ لأن الشاعر جعله مثلًا لبؤس الدنيا الممازج لنعيمها، ولكن يلاحظ المرزباني أن العبارة غير مرضية؛ لأنا لم نر أحدًا أكل شهدًا بسم، وأجود من هذا البيت لفظًا وأصح معنى قول ابن الرومي:
وتلك ملاحظة دقيقة، وهي تذكر بما نقله عن أحد معاصريه وقد سأل أبا تمام: أخبرني عن قولك:
وقد أشار المرزباني في غير موضع إلى وحدة البيت، فقد تحدث عما أخذ على امرئ القيس في قوله يصف الليل:
فإنه لم يشرح ما أراد بالبيت الأول إلا في البيت الثاني، وهذا عيب عند العرب؛ لأن خير الشعر ما لم يحتج البيت منه إلى بيت آخر، وخير الأبيات ما استغنى بعض أجزائه ببعض إلى وصول القافية كقول الشاعر:
فإن قوله: «الله أنجح ما طلبت به» كلام مستغن بنفسه وكذلك باقي البيت. على أن في هذا البيت واو عطف عطفت جملة على جملة وما ليس فيه واو عطف أبلغ. وأجود من هذا قول النابغة الذبياني في اعتذاره إلى النعمان:
وقد أشار الجاحظ في بعض كتبه إلى هذه المسألة، ومن الخير أن ننبه القارئ إلى أن وحدة البيت لا تنافي وحدة القصيدة، وإن ظن ناس غير ذلك، فإن الوحدة في البيت يراد بها اتساق النغم والألحان؛ بحيث يصح الوقف في نهاية كل بيت، ولهذا قيمة في الرنة الموسيقية التي يحرص عليها شعراء العرب أشد الحرص، أما وحدة القصيدة فيراد بها وحدة الغرض، وذلك أن يقدر الشاعر لنفسه صورة شعرية يرسمها رويدًا رويدًا في نظام وانسجام إلى أن يتمها بتمام القصيدة.
ولأجل أن نبين للقارئ أن وحدة البيت ضرورية جدًّا لحفظ الموسيقا الشعرية ننقل له قطعة لأبي العتاهية خلت من وحدة البيت على نحو ما يخلو منها الشعر الفرنسي مثلًا، ولنتأمل كيف يقول:
وهذا النوع من الشعر كان يسميه القدماء «المضمن» وهو عندهم من الشعر المعيب؛ لأن خير الشعر في حكمهم ما قام بنفسه وكفى بعضه دون بعض، ولا نزال نحن نتبع أسلافنا فيما اطمأنوا إليه من خصائص القوافي والأوزان؛ لأن للإلف أثرًا شديدًا في تكوين الذوق، والشعر من الفنون التي تتحكم في قدرها الأذواق.
وهذا كلام دقيق وإن كنا لا نوافق ابن يزيد في استهجانه قول بعضهم في النحافة:
وقال الآخر يصف سرعة ناقته:
لأن في الإزراء بمثل هذه الأخيلة إزراء بمواهب الذكاء، فهناك أخيلة شعرية تجافي الحقائق في كثير من الأحيان، ولكنها تظل مع ذلك مقبولة يهش لها الذوق لدلالتها على ما وهب الشاعر من بارع الذكاء.
وقد استنكر النقاد قول المتنبي:
وعدوه غلوًّا غير مقبول مع أننا قد نستطيب قول بعض المولدين:
ولسنا نستطيب هذا لصحة معناه، وإنما نستطيبه للصورة التي قدمها الشاعر في وصف آثار النحول.
والمرزباني يهتم بتقييد ما يؤثر عن أخلاق الشعراء وتظهر في ثنايا كلامه نزعة الحقد على المشاهير، وإن اجتهد في إخفاء ذلك وحاول أن يصبغ كلامه بصبغة البحث الصرف، فقد حدثنا أن أهاجي البحتري للخلفاء والملوك أشبه بهجاء سفلة الناس ورعاعهم، وأنها تجمع بين سخافة اللفظ وهلهلة النسج والبعد عن الصواب، وأنه قد هجا نحوًا من أربعين رئيسًا ممن مدحهم منهم خليفتان: هما المنتصر والمستعين. وساق بعدهما الوزراء ورؤساء القواد ومن جرى مجراهم من أعاظم الكتاب والكبراء بعد أن مدحهم وأخذ جوائزهم، وأن حاله في ذلك تنبئ عن سوء العهد وخبث الطوية، وأنه نقل نحوًا من عشرين قصيدة من مدائحه لجماعة توفر حظه منهم عليها إلى مدح غيرهم وأمات أسماء من مدحهم أولًا مع سعة ذرعه بقول الشاعر واقتداره على التوسع فيه.
وظاهر هذه الكلمة نزيه، ولكنها تمثل شهوة خفية طالما التبس أمرها على الناقدين، على أن المرزباني مشكور على أي حال، فمن أمثال هذه الهفوات تنكشف جوانب من النفس الإنسانية، والناقد مسئول عن كشف ما يتعذر كشفه على الجمهور من أخلاق الشعراء والكتاب والباحثين.
ومن يدري! فلعل الناس يعيشون في رذائلهم أضعاف ما يعيشون في فضائلهم، ولست أريد بهذا كمية الحياة، وإنما أريد روحها وسرها، فإن النفس لا تجانب الجادَّة السوية إلا وهي ثائرة، والنفس في لحظات الثورة تحيا حيوات طويلة قوية يصغر بجانبها ما تقضيه في هدوء ووقار من طوال السنين، ولو أن المرزباني قدر أنه قد يجيء من رجال الأخلاق من يعلل هفوات البحتري بمثل ما عللنا لرأى أنه ليس مما يشفي النفس أن يبين أمر البحتري لمن لعله انستر عنه! وما الذي كان يقع لو ظلت صغائر البحتري مستورة وظفر بلسان صدق من الآخرين؟
هذا؛ وقد كنا نحب أن نطيل القول في نقد ما اشتمل عليه كتاب الموشح، وخاصة ما وقع بين شعراء العصر العباسي وبين رجال اللغة؛ كالأصمعي وابن الأعرابي، فإن ذلك يمثل النزاع بين القديم والحديث، وتلك إحدى المشاكل التي تتجدد على اختلاف العصور.
وفيما رواه المرزباني طائفة من الطرف والفكاهات كانت تحسن روايتها في هذا الكتاب، ولكنا نرى الاكتفاء بما أسلفناه، راجين أن يكون فيه كشف عن منهج المرزباني في إحياء الثقافة الأدبية، ونشر ما تداوله الناقدون من هفوات الشعراء.