ابن فارس
أما وفاته — رحمه الله — فكانت بالري في صفر سنة ٣٩٥ هجرية، وقد دفن بجوار قاضي القضاة علي بن عبد العزيز الجرجاني.»
وكان ابن فارس حريصًا على تدوين ما يأخذه عن أبيه، وقد أثبت ابن الأنباري شاهدًا على ذلك الحرص نكتفي بالإشارة إليه. وذكر ياقوت أن ابن فارس حدث عن أبيه أنه قال: حججت فلقيت بمكة ناسًا من هذيل فجاريتهم ذكر شعرائهم فما عرفوا أحدًا منهم، ولكنني رأيت أمثل الجماعة رجلًا فصيحًا وأنشدني:
أم البيعة الهاشمية وعلي يقول: ليت العشرة منكم برأس من بني فراس؟ أم الأيام الأموية والنفير إلى الحجاز، والعيون إلى الأعجاز؟ أم الأمارات العدوية وصاحبها يقول: وهل بعد البزول إلا النزول؟ أم الخلافة التيمية وصاحبها يقول:
طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام؟ أم على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل: اسكتي يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهلية ولبيد يقول:
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
أم قبل ذلك وقد روي عن آدم عليه السلام:
أم قبل ذلك وقد قالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وما فسد الناس، وإنما اطرد القياس، وما أظلمت الأيام، وإنما امتد الظلام. وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويسمى المرء إلا عنصباح؟»
كان ابن فارس وسطًا في شعره ونثره؛ فلم يكن يُسف حتى يصل إلى وصمة الإعياء، ولم يكن يعلو حتى يصل إلى جودة البيان، ونثره في جملته بين واضح مقبول، يعجبني منه قوله في تقريح رجال الفقه والحديث على اللحن وترك الإعراب: «وقد كان الناس قديمًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب، فأما الآن فقد تجوزوا حتى إن المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نبَّها قالا: (ما ندري ما الإعراب وإنما نحن محدثون وفقهاء) فهما يسران بما يساء به اللبيب! ولقد كلمت بعض من يذهب بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العليا في القياس، فقلت له: ما حقيقة القياس وما معناه؟ ومن أي شيء هو؟ فقال: (ليس عليَّ هذا، وإنما عليَّ إقامة الدليل على صحته).
فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو، ونعوذ بالله من سوء الاختيار!»
وللقارئ أن يتأمل هذه الجملة فسيراها جيدة المعنى نقية الأسلوب، وسيرى كيف وصل الكاتب إلى ما يرمي إليه من التهكم اللاذع بالفقهاء والمحدثين من غير أن يلجأ إلى غرابة المعاني وجلجلة الألفاظ، وفي هذه الجملة أيضًا دلالة على أن غفلة الفقهاء عن اللغة العربية قديمة العهد، وليست من سيئات العصر الحديث.
أما شعر ابن فارس فهو على قلته يكاد يقف عند شكوى الزمان، من ذلك قوله وقد قل ماله، وكثر دَيْنه، ولم يغنه علمه:
وقوله في كثرة همومه وتعزيه بالهرة والكتاب والمصباح إذا أوى إلى بيته المقفر الجديب:
وقد يستظرف دفاعه عن البخل والحرص؛ إذ يذكر أن المال المضنون به يخسر الحمقى لخدمة صاحبه، فقد يكرم الرجل لغناه قبل أن يكرم لفضله، وفي هذا المعنى يقول:
وقد يستجاد قوله في التعاضي عن هفوات الصديق:
ومن طريف الإشارة إلى ضعف حجج النحاة قوله في فتور الجفون:
لابن فارس مؤلفات كثيرة لم يبق منها إلا القليل، والذي يعنينا هو «الصاحبي» الذي قدمه إلى الصاحب بن عباد، وهو كتاب متوسط الحجم يقع في ٢٣٢ صفحة بالقطع الكبير، طبعته المطبعة السلفية في سنة ١٩١٠ طبعًا جيدًا، نقلًا عن نسخة صحيحة بخط المرحوم الشيخ الشنقيطي من مكتبته بدار الكتب المصرية، وقد نقلها — رحمه الله — عن نسخة في إحدى مكاتب القسطنطينية قرئت على المؤلف في سنة ٣٨٢ﻫ، وعلى ظهرها بخطه ما يفيد إجازة القراءة والنسخ. قال المرحوم الشنقيطي: «وكانت مقابلتي إياه صفحة صفحة: لا أبتدئ الصفحة إلا بعد مقابلة الصفحة التي كتبتها قبلها، فتمت كتابته في آن واحد ولله الحمد.»
أما قيمة الكتاب من الوجهة العلمية فستظهر حين نناقش ما فيه من مختلف الأبحاث.
يحار الباحث في تحديد حياة ابن فارس العقلية، ومرجع هذه الحيرة هو ظهور هذا الرجل بلونين مختلفين كل الاختلاف، أما سبب هذه الحيرة فهو إغفال المتقدمين تاريخ آثار هذا اللغوي الأديب، فقد نعرف أنه راجع كتاب الصاحبي في سنة ٣٨٢، ولكنا لا نعرف في أى سنة من سني حياته العلمية وضع رسالته في الرد على محمد بن سعيد الكاتب، والفرق بعيد جدًّا بين رسالته هذه وكتابه ذاك، فهو في «الصاحبي» رجل حذر هيوب يحسب مسايرة العقل جريمة، ويعد التفكير من جملة الذنوب، ولكنه في رسالته إلى ابن سعيد باحث مملوء بالغيرة والحمية لكل حق ولكل جديد.
ومن هذه العبارة أخذ الشيخ بخيت — فيما نظن — قوله في رينان: «ذلك الرجل الذي يدعي أنه فيلسوف.»
وحقًّا إن الفلسفة لا تزيد عن أنها «التي يقال لها الفلسفة»، ورينان لا يزيد على أنه «الرجل الذي يدعي أنه فيلسوف»، وسبحان من أغنانا عما ترك المبدعون في العلوم والفنون!
وكذلك كان يرتاب أكثر المتقدمين في العلوم العقلية، ويرونها خطرًا على العقائد، كما يفعل المتأخرون اليوم، وهذا كله هرب من البحث وإخلاد إلى الخمول، وإلا فكيف يبعد الناس عن دينهم كلما توغلوا في درس حقائق الأشياء؟
نترك هذه الناحية من عقلية ابن فارس التي تمثل لنا رأيه ورأي أمثاله في فهم ما توحي به العقول، وننتقل إلى الجانب المشرق من حياته العقلية فنراه يمثل بنا انقسام أهل ذلك العصر إلى طائفتين تقتتلان؛ تدعو إحداهما إلى الاكتفاء بما ترك المتقدمون من الآثار الأدبية، وتدعو أخراهما إلى الإبداع والتجديد في عالم الآداب. ويكفي أن يعرف الباحث أن من رجال ذلك العصر من أنكر اختيار الشعر اكتفاء بديوان الحماسة ليرى أن «الرجعية» كانت تفتك بأحلام أولئك الناس، وأن الصراع بين القديم والجديد يكاد يتصل بالحياة الفكرية في جميع الأجيال.
وفي رسالة ابن فارس إلى محمد بن سعيد صورة لهذه الخصومة العقلية التي شهدها رجال القرن الرابع، فلنتركه يتكلم ولننظر كيف يدافع عن شعراء عصره المبدعين؛ إذ يقول في خطابه إلى ابن سعيد: «ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبب إليك الإنصاف! وسبب دعائي هذا لك إنكارك على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتابًا في الحماسة، وإعظامك ذلك، ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، ويرد المنهل الذي يؤمه لاستدرك من جيد الشعر ونقيه، ومختاره ورخيه، كثيرًا مما فات الأُوَل. فلماذا الإنكار ولِمَ الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادة المتقدم؟ ولم تأخذ بقول من قال: «ما ترك الأول للآخر شيئًا»، وتدع قول الآخر: «كم ترك الأول للآخر»، وهل الدنيا إلا أزمان ولكل زمن منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأفهام ونتائج العقول؟ ومن قصر الآداب على زمان معلوم ووقفها على وقت محدود؟ ولِمَ ينظر الآخر مثل ما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل ذلك مثل رأيه؟
وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوازل الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟
أوما علمت أن لكل قلب خاطرًا ولكل خاطر نتيجة؟ ولم جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره، ولم يجز أن يؤلف مثل تأليفه؟ ولم حجرت واسعًا وحظرت مباحًا وحرمت حلالًا وسددت طريقًا مسلوكًا؟ وهل «حبيب» إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولم جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذ عنه في الأبواب التي شرعها فيه؟ أمر لا يدرك ولا يدرى قدره!!
تلك هي الناحية المشرقة من حياة ابن فارس العقلية، وهي كما يرى القارئ تختلف عن سابقتها أشد الاختلاف. وقد ذكر صاحب اليتيمة جزءًا كبيرًا من هذه الرسالة فليرجع إليها من يطلب المزيد، ولكنا نرى من البر بالأدب أن نذكر نماذج من الشعر المحدث لعهد ابن فارس، وكانت تضيق به نفوس الرجعيين إذ ذاك، وهو يستجيد قول يوسف بن حمويه المعروف بالمنادي، وكان من أهل قزوين:
ويستجيد قول أحمد بن بندار:
ويستجيد قول بعض رجال الموصل:
إلى هنا وقف القارئ على شيء من حياة ابن فارس يقربة إليه بعض التقريب إن لم يمثله كل التمثيل، فلنأخذ في نقد آرائه في فقه اللغة العربية والكشف عما فيها من مظان الخطأ ومواقع الصواب.