النقد الأدبي عند ابن شهيد
وقد اجتهد في أن يخفي علينا تحامله على رجال النحو والتصريف والغريب، ويصبغ أحكامه بصبغة التعميم، ويبعد عن أذهاننا ما يريده من التخصيص، ولكنه غلب على أمره فصرح بشكواه من قلة إنصاف النحويين له وتسلطهم عليه وإسرافهم في ثلبه، فلنفهم هذا جيدًا قبل عرض آرائه لندرك أن أقواله مشربة بالضغن والحقد، وأنه لا ينبغي أن نتخذها أساسًا صالحًا لتقدير العلوم العربية من نحو وصرف واشتقاق؛ لأن تلك العلوم ضرورية، وليس من النفس أن نوافق ابن شهيد على الاستهانة بها وتحقير أهلها، وإن كنا نعرف أنها لا تكفي وحدها لمنح طلاب الأدب ملكة البيان.
يحدثنا ابن شهيد أن قومًا من المعلمين في قرطبة ممن أتوا على أجزاء من النحو وحفظ كلمات من اللغة ينحتون عن قلوب غليظة كقلوب البعران إلى فطن حمئة، وأذهان صدئة، لا منفذ لها في شعاع الرقة، ولا مدب لها في نور البيان، سقطت إليهم كتب في البديع والنقد فهموا منها ما يفهم القرد اليماني من الرقص على الإيقاع والزمر على الألحان، فهم يصرفون غرائبها تصريف من لم يرزق آلة الفهم، ولم يكن له آلة الصناعة، كالحمار الذي لا يمكنه أن يتعلم صناعة ضرب العود والطنبور لتدوير رسغه واستدارة حافره، وأنه لو جاز لحمار أن يغني:
ولا يكتفي ابن شهيد بمثل تلك الحملات في تحقير المعلمين، بل يضيف قول الجاحظ: إنا إذا اكترينا من يعلم صبياننا النحو والغريب قنع منا بعشرين درهمًا في الشهر، ولو اكترينا من يعلمهم البيان لما قنع منا إلا بألف درهم، وقد أمكنت هذه الكلمة ابن شهيد من إعلان رأيه في كتاب البيان والتبيين الذي ألفه الجاحظ وهو في رأيه كتاب لم يكشف فيه «عن وجه التعليم وصور كيفية التدريج»، ليرى القارئ كيف يكون وضع الكلام وتنزيل البيان، وكيف يكون التوصل إلى حسن الابتداء وتوصيل اللفظ بعد الانتهاء، ومن رأي ابن شهيد أن الجاحظ «استمسك بفائدته، وضن بما عنده غيرة على العلم، وشحًّا بثمرة الفهم»؛ لأنه عرف «أن النفع كثير والشاكر قليل»، ولذلك كان كتابه في البيان موقوفًا على أهله ومن كرع في حوضه، أما الجاهل والمبتدئ فلا نفع له من كتابه على الإطلاق.
ونحن لا نوافق ابن شهيد على ما رآه في كتاب البيان، ونفهم أن الجاحظ لم يخف شيئًا عن عمد، وإنما نفترض أن تلك كانت طريقة الجاحظ في التأليف، فهو ينتقل من فن إلى فن، ومن كلام إلى كلام، جريًا على طريقه في تسطير كل ما يمر بخاطره من ألوان الأدب والعلوم لأيسر المناسبات، وما نكاد نتصور أن التعليم كان من مبتغيات الجاحظ حتى يهتم بالترتيب والتبويب، وإنما نتمثله رجلًا يكتب لنفسه قبل كل شيء، ويرضي شهوته في تدوين عناصر الثقافة الأدبية والعلمية على طريقة كُتاب الموسوعات من القدماء الذين كانوا يخشون على العلم من الضياع، ويكفيهم أن يدونوا ما يسمعونه أو ينقل إليهم من مختلف الأقوال والآراء والشواهد والأمثال.
وليس إنحاء ابن شهيد على النحو والغريب معناه أنه ينكر قيمة ذلك في البيان، كلا، وإنما يحتم أن يختار الكتاب أملح النحو وأفصح الغريب، وملاحة النحو هذه لم أرها عند أحد غير ابن شهيد، وهو يريد بها اختيار الوضع النحوي الذي يساعد على أداء المعنى، فقد يكون الكلام مستقيمًا من الوجهة النحوية ولا يكون مستقيمًا من الوجهة البيانية؛ فإن البلاغة في الواقع تبنى على سلامة التركيب.
والتركيب السليم لا يراد به التركيب الخالي من الغلط حين يراد وزنه بالموازين النحوية، وإنما هو التركيب الذي يستوفي الدقائق المعنوية التي يهتم بتقييدها علماء المعاني. أما فصاحة الغريب فهي عند ابن شهيد وضع اللفظة الغريبة في موضعها؛ بحيث لو وضعت مكانها كلمة مألوفة لتطرق إلى المعاني شيء من الإخلال، ولننظر كيف يقص علينا ابن شهيد بعض ما كان يقع له مع تلاميذه في هذا الباب:
«جلس إليَّ يوسف الإسرائيلي وكان أفهم تلميذ مر بي وأنا أوصي رجلًا عزيزًا عليَّ من أهل قرطبة وأقول له: إن للحروف أنسابًا وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيب النسيب، ومازج القريب القريب، طابت الألفة وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك حسنت المناظر؛ وطابت المخابر، أفهمت؟
قال: إي والله! قلت له: وللعربية إذا طلبت، وللفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر، أفهمت؟ قال: نعم، قلت: وكما تختار مليح اللفظ ورشيق الكلام فكذلك يجب أن تختار مليح النحو وفصيح الغريب وتهرب من قبيحه. قال: أجل. قلت: أتفهم شيئًا من عيون كلام القبائل:
فقال: إي والله! وقعت (خفاتًا) موقعًا لذيذًا، ووضعت (رميت) و(متن الطريق) موضعًا مليحًا، وسرى (غصن يراح مطير) مسرى لطيفًا. فقلت له: أرجو أنك تنسمت شيئًا من نسيم الفهم، فاغد عليَّ بشيء تصنعه.
قال ابن شهيد: «وكان ذلك اليهودي ساكتًا يعي ما أقول، فغدا ذلك القرطبي فأنشدني:
في أبيات تشبهه، وجاء اليهودي فأنشدني:
وبذلك تكون كلمة ابن العميد أسبق وأشمل من كلمة ابن شهيد؛ لأن ابن العميد يربط القوافي والأوزان بالمعاني، فليس كل وزن بصالح لكل معنى؛ لأن بعض القوافي والأوزان أرق وأضخم من بعض، كما أن بعض الألفاظ والمعاني ألطف أو أجزل من بعض، وفطنة الشاعر والكاتب هي التي تؤلف بين المعنى وبين لبوسه من ألفاظ وحروف وقوافٍ وأوزان.
وتلك قصة نعرف منها كيف كان الشعر الفصيح ينفع من يستجدون البقالين والقصابين في الأندلس، وكيف كانت تلين اللغة لمثل ابن شهيد حتى يخاطب بها في بلاغةٍ جميع الطبقات.
وهذا الذي يقوله ابن شهيد يحتاج إلى تحديد؛ فمن الحق أن هناك مواطن يحار فيها البليغ، وقد تبدو البلاغة في بعض الأحيان لونًا من اللغو والفضول، لعجز الكاتب والشاعر والخطيب عن غزو بعض النفوس، ولكن في تلك المواطن وحدها يحتاج إلى بيان الكتاب والخطباء والشعراء، وبمقدار فهم البليغ لما تعقد واستبهم من بعض الأهواء والميول يكون نجاحه في درك ما يتعسر على سواد المنشئين؛ لأن لكل صاحب شخصية مهما مكر صاحبها وخبث ولؤم جوانب من الضعف ينفذ إليها القول حين يتصل المنشئ بأسرار من يخاطبهم من أهل الشح والكنود.
وسر البلاغة لا يظهر إلا في المواطن التي تبدو مفروغًا من الكلام فيها، وميئوسًا من فائدة العود إلى شرحها وتفصيلها، فإن المنشئ لا يعجز إلا حيث يكون الجو جو بداهة وظهور بحيث يظهر كل بيان وكأنه حديث مردد معاد، عند ذلك يعرف البليغ الموفق كيف يحول المسائل الظاهرة إلى مشاكل عقلية وروحية واجتماعية، فينقل قلوب الجاحدين وعقولهم إلى جواء من البحث والتفكير، ويقفهم موقف الحيرة والتردد بين الخير والشر والبر والعقوق، فليس البليغ هو من يأتي فقط بالبِدْع الطريف، ولكن البليغ هو من يحول الموضوعات العادية إلى شئون جدية طريفة تتحلل فيها عزائم أهل الشح أو تنهض ضمائر أهل الجمود، وليس من الصحيح أن هناك ناسًا يصعب هدم بنيانهم، ولكن الصحيح أن هناك ناسًا لا يهدمون؛ لأنهم يهاجمون بمعاول محطمة من الهجو القبيح.
والبليغ يستطيع أن يصل دائمًا من طريق علم النفس إلى مكامن الضعف من نفوس الأقوياء الذين يتوقحون أمام دعوات الخير والبر والإحسان، ففي كل نفس مهما لؤمت جوانب خيرة غافية يقدر على إيقاظها البارعون من أهل البيان.
وجملة القول في هذا المعنى أن البلاغة ضرب من السياسة النفسية، ومن الساسة من تكون نظراتهم أشد خطرًا على أعدائهم من الجيوش والأساطيل، وكذلك البليغ يكون في أحيان كثيرة شرًّا مستطيرًا على المعاندين ممن يخاطبهم أو يراسلهم أو يحاورهم في جد أو في هزل، من قرب أو من بعد؛ لأن البلاغة ليست إلا نقل ما في الروح من حب أو حقد، أو عتب، أو ملام، وصب ذلك كله في رفق أو عنف في أفئدة من تخاطب أو تكاتب من عدو أو صديق، وذلك يفرض أن تفيض عنا البلاغة ونحن في أعلى درجة من درجات التيقظ والقوة، وفي أسمى أوج من الغضب أو الحنان؛ بحيث تكون أنفاسنا شواظًا يتلظى حين نهاجم ونفتك، ونسيمًا يتأرج حين نحنو ونعطف، أو وضع الكلام في ذهول ومن غير درس لأنفس المخاطبة فهو العي الذي استعاذ منه الخطباء، والإفحام الذي تهيب عواقبه الشعراء.
ومن الناس من يظن أن البلاغة ليست إلا سواد المداد في بياض القراطيس!
فمن كانت نفسه مستولية على جسمه كان مطبوعًا روحانيًّا يُطلع صور الكلام والمعاني في أجمل هيئاتها وأروق لباسها، ومن كان جسمه مستوليًا على نفسه من أصل تركيبه كان ما يطلع من الصور ناقصًا عن الدرجة الأولى في التمام والكمال وحسن الرونق.
فمن كانت نفسه هي المستولية على جسمه فقد تأتي منه في حسن نظام صور رائعة تملأ القلوب وتنعش النفوس، فإذا فتشت لحسنها أصلًا لم تجده، ولجمال تركيبها وجهًا لم تعرفه، وهذا هو الغريب أن يتركب الحسن من غير الحسن، كقول امرئ القيس:
وكل هذا جدير بالتأمل والدرس ففيه شرح لما استغلق على النقاد أزمانًا كثيرة، ألسنا نرى في بعض الرسائل والخطب والقصائد نماذج فاتنة، وهي مع ذلك خلو من غرائب المعاني؟ فلنعرف الآن أن السر في إعجابنا بأمثال تلك النماذج مرجعه إلى الطبع والروح، ونحن نستطيع تعليل ذلك بدرس من نعرف من الناس، فهناك أفراد غناؤهم قليل، ومحصولهم ضئيل، ومع ذلك نفتن بهم أحيانًا ونراهم أهلًا للحب والإعجاب، وهذا هو سر ذيوع كثير من الآراء الخفيفة الوزن، القليلة العمق، فإنها قد تصدر عن فطر سليمة، وطبائع شريفة، ينقصها العمق ولكنها غنية بالنبل والصفاء.
وهذه الأحكام متصلة أوثق اتصال بعلم النفس وعلم منافع الأعضاء، فليس من شك في أن للجسم تأثيرًا شديدًا على الروح حتى في صورته، والصور المقبولة تبعث في أصحابها روح الثقة بالنفس، وليس من المجازفة في شيء أن نتخذ من ذلك تعليلًا لهفوات العظماء، فهم في الأكثر أصحاب أهواء وشهوات، وذلك مظهر من مظاهر الاتساق بين عافية البدن وشباب الروح.
وابن شهيد وفيٌّ لمبدئه في ربط الصلة بين النفس والأعضاء، وقد حمله ذلك على النيل من الجاحظ والغض من قيمته العلمية والأدبية، ورميه بالغفلة والحمق، وقد خطأ أبا القاسم الإفليلي في تقديمه الجاحظ على سهل بن هارون. ومن رأي ابن شهيد أن حرمان الجاحظ من شرف المنزلة بشرف الصنعة مع تقدم ابن الزيات وإبراهيم بن العباس؛ إما أن يكون لأنه كان مقصرًا في الكتابة وجميع أدواتها، أو لأنه كان ساقط الهمة، أو لأن إفراط جحوظ عينيه قعد به؛ لأنه لا بد للملك من كاتب مقبول الصورة تقع عليه عينه، وأذن ذكية تسمع منه حسه، وأنف ذكي لا تذم أنفاسه عند مقاربته له، ولذلك استحسنوا من الكاتب أن يكون طيب الرائحة، سليم آلات الحواس، نقي الثوب، ولا يكون وسخ الضرس منقلب الشفة، مكحل الأظفور، وضر الطوق.
ربما أنكر قولنا في شرطه جمع أدوات الكتابة، فقيل: وأي أداة نقصت الجاحظ؟
قد تكون دمامة الجاحظ هي التي قعدت به كما قصر بابن شهيد نفسه ثقل سمعه، وكما تخلف صاحبه الأفليلي لورم أنفه، وإذ ذاك يكون للجاحظ عذره المقبول.
ولكن هل خطر ببال ابن شهيد أن هناك اختلافًا بينًا في تركيب النفوس؟ إننا نعرف بالتجربة أن للعقول شهوات، فقد تكون السياسة أشهى ما يسمو إليه أمثال سهل بن هارون، ولكن لا ريب في أن العلم أيضًا شهوة، وكان الجاحظ مفتونًا أشد الفتنة بدرس علم الحيوان، وكان كذلك مفتونًا بدرس طبائع الناس وغرائزهم في مختلف الطبقات، فليس من العيب أن يهتم بالصغائر في العلوم؛ لأن العلم في أصغر جزئياته لا ينال من العالم غير الإكبار والإجلال.
إن من العدل أن نزن الأمور بميزان آخر غير النجاح المؤقت الذي يظفر به الكتاب السياسيون، يجب أن نزن أقدار الرجال بما يبذلون من الجهود في أعمالهم الأدبية والعلمية، وإذ ذاك تمكن الموازنة بين ما عمل سهل بن هارون في ميدان السياسة وبين ما عمله الجاحظ في ميدان العلم، أما الموازنة بين حظوظهما الدنيوية فباب من الضلال، ويا ويل أهل الفضل إن قيست أقدارهم بمقياس ما يملكون من دراهم معدودات!