أبو بكر الباقلاني
وليس في هذه الفقرة شيء جديد، فإن شكوى الزمان من الظواهر الإنسانية التي يجدها المطلع في أكثر ما أثر عن القدماء والمحدثين، ورجال الدين خاصة يكثرون من التبرم بمعاصريهم ووصفهم بالزيغ والإلحاد والفسوق، فليس معنى هذا الكلام أن أهل القرن الرابع كانوا أكثر الناس شبهات وأضاليل، ولكن معناه أنهم كانوا كذلك في نفس المؤلف، وفي هذا ما يدفعه إلى التأهب لمناضلة المرتابين في إعجاز القرآن.
ونحب في بداية هذا الفصل أن نحدد موقفنا في درس كتاب الباقلاني عن الإعجاز، ونقرر — في صراحة — أننا لا نريد عرض مسألة الإعجاز على بساط البحث من جديد، وإنما يهمنا أن نتبين كيف كان القدماء يفهمون النقد، وكيف كانت مذاهبهم في وزن الكلام البليغ، فكتاب الباقلاني في نظرنا صورة للحياة الأدبية في أنفس الناقدين من رجال القرن الرابع، وليس حجة في تقدير القرآن؛ لأن وزنه أخف من أن يفصل في تلك المسألة الدقيقة؛ مسألة الكلام المعجز الذي يسمو ببلاغته على ما يتطلع إليه فرسان الفصاحة والبيان.
وهناك جانب آخر لا نذكر أن من الباحثين من أشار إليه؛ وهو جمع المحاولات الأدبية التي حاولها خصوم القرآن، ففي تلك المحاولات صورة من صور النقد لها قيمة في أنفس من يعنون بتاريخ الآداب، ونحن كمؤرخين للأدب يهمنا أن نستقصي جهد الطاقة ما تناثر هنا وهناك من محاولات الناقدين بدون تفريق بين الخطأ والصواب، فإن ذلك في جملته يمكننا من درس الحياة الأدبية دراسة علمية بعيدة عن مطارح الأوهام والظنون.
ولم ينقد الباقلاني معلقة امرئ القيس إلا ليبين للقارئ أن تلك القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتًا بينًا في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والتسهل، والاسترسال والتوحش والاستكراه، فهي على ذلك كلام ينحت من الصخر تارة، ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء، ويختلف اختلاف الأهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه وتتقاذف به أسبابه، ومثل هذا الكلام لا يقارَن بالقرآن الذي يصفه بأنه «قول يجري في سبله على نظام، وفي وصفه على منهاج، وفي وضعه على حد، وفي صفاته على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق مختلفة مؤتلفة، ومؤتلفة متحدة، ومتباعدة متقاربة، وشارده مطيع، ومطيعه شارد، وهو على متصرفاته واحد؛ لا يستصعب في حال ولا يتعقد في شأن.»
ونتيجة هذا — من وجهة تاريخية — أن الباقلاني ومعاصريه رأوا أنه في الإمكان أن يوازنوا بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن، وإن لم يتحد الموضوع، وسبيل ذلك أن تبين محاسن القصيدة ومساويها، ويشرح فيها المبتذل والطريف والمقبول والمرذول، ثم يقابل ما سلم فيها بالسورة التي توازيها في الكمية ليظهر ما في السورة من المحاسن التي لم يشنها ضعف ولا تهافت ولا فضول.
وهذا النحو من النقد يعد من المحاولات البارعة في الأدب العربي، ولا عيب فيه إلا التحامل والإسراف، فإن خصوم القرآن كانوا يأبون إلا الوصول إلى شواهد يحكمون لها بالفضل، والباقلاني كان يعمد إلى القصائد التي يعرف فيها الضعف ليصل دائمًا إلى الحكم للقرآن بالفضل، وقد بلغ به التحامل أن طعن في قول البحتري:
وزعم أن أسلم منه وأبعد من الخلل قول كشاجم:
قوله: «عندك» حشو وليس بواقع ولا بديع وفيه كلفة، والمعنى الذي قصده أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء، وفيه شيء آخر لأنه يذكر أن حسنها لم يحسن في تهييج وجده وفي تهييم قلبه، وضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى والحب.
هذا كلام الباقلاني، وهو كلام سقيم يدل على أنه لم يفهم بيت البحتري على الإطلاق! وعلى هذا النمط من التحامل أفسد الرجل تلك الطريقة الجميلة؛ موازنة قصيدة من الشعر بسورة من القرآن، وكيف تنتظر العدل من حَكَمٍ يكتب صحيفة الاتهام على هواه؟
إن الذي يوازن بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن يجب عليه أن يكون مستعدًّا للحكم بالعدل، وهذا لا يتيسر لناقد يرى من همه أن يبحث عن مساوي القصيدة ويطمس محاسنها أو يتجاهلها أو يغض من قيمتها، وهو في مقابل ذلك يجد في البحث عن محاسن السورة القرآنية وإبراز مزاياها، ولا يستبيح لنفسه التفكير في وضع ألفاظها أو معانيها أو أغراضها أو أسلوبها موضع النقد، وهذا كافٍ في تجريح ما هموا به قديمًا من الموازنة بين أثرين؛ أحدهما من الشعر، وثانيهما من القرآن.
وتقع بعد ذلك مسألة شغل بها أكثر الباحثين في إعجاز القرآن؛ وهي إعجاز غير القرآن من كلام الله؛ كالتوراة والإنجيل والصحف الربانية.
ومعنى ذلك أن الباقلاني يرى أن غير القرآن من كلام الله لم يكن معجزًا؛ لأن الله لم يصفه بذلك، وتكون النتيجة أن نسبة الكلام إلى الله لا تعطيه صفة الإعجاز إلا إذا وصف الله كلامه به وتحدى المعارضين إليه كما تحداهم إلى القرآن.
ونحن نسأل: لماذا لم يصف الله التوراة والإنجيل بالإعجاز؟ ولماذا لم يمنح تلك الكتب المزية التي منحها القرآن؟
وقد توقع الباقلاني أن يوجه إليه هذا السؤال، وكذلك عرض لنا رأيًا له قيمته في فهم القدماء لخطر اللغة العربية ومقارنتها بما سبقها أو عاصرها من اللغات، وهو يرى أن اللغات التي كتبت بها التوراة والإنجيل لا يتأتى فيها من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز، وإنما يقع فيها التقارب في البيان.
فإن سأل القارئ: أكان الباقلاني يعرف من اللغات الأجنبية ما يمكنه من الحكم بأن اللغة العربية انفردت من بين سائر اللغات بالتفاضل في وجوه الفصاحة؟ فإنا نجيب بالنفي.
والفكرة في ذاتها سخيفة؛ لأن فضل اللغة العربية لا يرجع إلى ما فيها من كثرة المترادفات، إذ كانت هذه المترادفات من الثروات الضائعة لا يحتاج إليها إلا عند اللغو والتطويل، والقرآن نفسه الذي اتفقوا على سموه لم يعتمد على المترادفات في كثير ولا قليل، وإنما هو كلام طلق يجري إلى غاية في غير تعمل ولا اعتساف.
والمسيو مرسيه غير منصف في هذا الموضوع؛ لأنه في تقريره اهتم بجمع الهنات والعيوب، وكان الظن به أن لا يتناسى أن المترادفات التي كان منها خمسون اسمًا للحجر ومائة للسيف وخمسمائة للأسد ليست مترادفات جمعت من اللغة القرشية وهي أساس لغتنا العربية، وإنما هي كلمات «تصيدها» الرواة من مختلف أرجاء الجزيرة؛ حبًّا في المبالغة والإغراب.
فمن يبلغ الباقلاني وابن فارس أن ما كان غرة في زمانهم أصبح في زماننا من أعراض الأمراض.
وذلك التمحل من جانب الباقلاني ساقه إلى تقرير «أن الشعر لا يتأتى في تلك الألسنة على ما قد اتفق في العربية، وإن كان قد يتفق فيها في صنف أو أصناف ضيقة لم يتفق فيها البديع ما يمكن ويتأتى في العربية وكذلك لا يتأتى في الفارسية جميع الوجوه التي تتبين فيها الفصاحة على ما يتأتى في العربية».
وهذه التهم التي كان يوجهها القدماء إلى اللغات الأجنبية يقدمها الأجانب اليوم إلى اللغة العربية، فلغتنا في أذهان كثير من أهل الغرب والشرق لا يتأتى فيها الشعر على ما قد اتفق في الإنجليزية والفرنسية والألمانية مثلًا «وإن كان قد يتفق فيها في صنف أو أصناف ضيقة» فما أعجب ما تتشابه التهم على اختلاف الأجيال!
وللقارئ أن يذكر أن هذا «الغرور القومي» كانت له مضار ومنافع، فمن مضاره أنه صرف العرب عن نقل الشعر الفارسي واليوناني؛ ظنًّا منهم أن في شعر امرئ القيس مثلًا غنى عن شعر هوميروس. ومن منافعه أنه أغراهم بالاعتزاز بشعرهم ولغتهم حتى ظنوا أن الإعجاز لا يتأتى وقوعه في غير اللغة العربية التي حسبوها تفردت بالتصرف في الاستعارات والإشارات.
وقد يكون حظ القدماء أجمل من حظنا في هذا الباب، فنحن اليوم نؤمن بأن اللغة العربية كسائر اللغات لا يتفق فيها الإعجاز لذاتها، وإنما يقع الإعجاز حيث تكون العبقرية في القلوب والعقول.
ونؤمن بأن في اللغات ضروبًا من التصرف في القول قد لا يتفق مثلها أحيانًا للغة العربية، ولكنا لم ننقل من الشعر الأجنبي شيئًا يقارب ما نقله أسلافنا من الفلسفة الأجنبية، وانصرف كثير من شبابنا عن دراسة الشعر القديم فحرموا من تراث الأسلاف وكان لهم فيه معين من الفن لا ينضب ولا يغيض.
ووقف المجددون في الشعر موقف التردد والحيرة؛ فلا هم عرب ينسجون على منوال الفرزدق والبحتري والمتنبي، ولا هم في طبعهم فرنجة يجيدون محاكاة بيرون وجوت ولامرتين.
وقد جاء في كتاب «إعجاز القرآن» ما يفيد أن القرآن ليس من جنس كلام العرب!
فما هي حجة الباقلاني؟ حجته أن العرب لم يأتوا بمثله، وأن منهم من خشع له بدون أن يدرك معناه، ومن أمثلة ذلك: أن جماعة بعثوا بعتبة بن ربيعة إلى الرسول — وكان عتبة حسن الحديث، عجيب الشأن، بليغ الكلام — فلما وصل إلى الرسول طمعًا في أن يأتي أصحابه بما عنده، قرأ عليه النبي سورة «حم. السجدة» من أولها حتى انتهى إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ.
فوثب عتبة مخافة العذاب.
ذلك ما قرره الباقلاني، وما نحسب أحدًا يرتاب في أن ذا محض اختلاق؛ فإنه لا يعقل أن يؤمن الرجل بما لا يفهم، ومن المرجح أن مثل هذه الأقاويل مما وضعه الرواة والقصاص.
والقارئ يرى تناقضًا بين هذه الفقرة وبين الفقرة التي نقلناها آنفًا، وهذا التناقض وقع بين سياقين فصل بينهما بنحو مائتي صفحة، فللباقلاني عذره حين غاب عنه هنا ما أثبته هناك.
فخلاصة الفقرة الأولى: أن القرآن ليس من جنس كلام العرب؛ لأنه اتفق لأحدهم أن خشع له بدون أن يستطيع حكاية لفظه أو معناه.
وخلاصة الفقرة الثانية: أن القرآن من جنس كلام العرب، ولولا ذلك لاحتجوا في رده بأنه خارج عن عرف خطابهم، أو اعتذروا بذهابهم عن معرفة معناه بأنهم لا يتبين لهم وجه الإعجاز فيه؛ لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم.
ونحب أن نفصل رأينا في هذه المسألة ونحن نرى أن الفوارق بين اللغات تنحصر في الألفاظ والأساليب؛ فاللغة تكون غير عربية إذا كانت ألفاظها أو أساليبها أعجمية، وقد يتفق مثلًا أن نفتح كتابًا تركيًّا أو فارسيًّا فنرى إحدى صفحاته تغلب فيها الكلمات العربية، أو تكون بعض الجمل في ألفاظ عربية ولكننا لا نفهم شيئًا؛ لأن الأسلوب غير عربي.
وقد تكون جملة وضعت في ألفاظ أعجمية ورتبت في وضعها على الأسلوب العربي، ولكننا لا نفهمها؛ لأن ألفاظها غير عربية، ومن هنا يتضح أن العرب فهموا بلا جدال ألفاظ القرآن ومعانيه؛ لأنه عربي اللفظ والأسلوب، ولا عبرة بما حكاه الباقلاني من أن بعض العرب عجز عن تأدية ما سمعه من آي القرآن؛ لأن هذا يخالف المعقول والمنقول، ويناقض ما منَّ به القرآن على منكريه من أنه بلسان عربي مبين.
بقي نوع آخر من وجوه التفاضل في الكلام وهو المعنى، ونحن نرى أن سر الفصاحة والبلاغة يرجع إلى ما في المعنى من قوة وروح، ومن المتفق عليه أنه لا يكفي أن يكون المعنى صحيحًا ليكون الكلام بليغًا، ألا ترى أنه لا يوجد أصدق من قول من قال:
ولكن من الذي يقيم وزنًا لصدق هذا الكلام؟ إن هذا الصدق هو التفاهة بعينها، وقد رأى بعض النحاة أن البديهيات لا تسمى كلامًا، ومن رأي ذلك البعض أن من يقول: «السماء فوقنا والأرض تحتنا» لم يقل شيئًا، ولا يضاف ما يلفظ به إلى الكلام المفيد.
وعلى هذا لا يكفي أن يكون الكلام صادقًا ليكون بليغًا، وإنما يجب أن يكون مع صدقه طريفًا يستهوي العقل والقلب، ومن أمثلة ذلك قول قريط بن أنيف:
وهذه القطعة من بدائع الشعر العربي، وهي قطعة خالدة ستظل قوية بارعة ما بقي في العالم ناس يفهمون سر العربية، ومع هذا لا تستطيع أن تجد فيها ألفاظًا يعز على غير قائلها الوصول إليها، أو أسلوبًا في التعبير يتميز عن غيره من الأساليب، وجمالها كله يرجع إلى دقة المعنى وطرافته، وتخير الألفاظ تخيرًا يجعلها تتمثل في المعنى كتلة واحدة. فقوله مثلًا:
هذا البيت يمكن رجع طرافته إلى كلمة «أبدى ناجذيه» وكلمة «طاروا» وهاتان ليستا كلمتين، وإنما هما المعنى تجسم في لفظتين فرضهما السياق، وقوله:
فقوة هذا البيت ترجع إلى قوله: «وإن كانوا ذوي عدد»، وقوله: «وإن هانا»، وفيهما أيضًا يتجسم المعنى في قوة وروح، وقد بلغ هذا الشاعر أقصى غايات التهكم في قوله:
وقد تجد من الشعر ما تخلو معانيه وألفاظه من الروعة الظاهرة، ولكن قوة الروح تصل به إلى أسمى غايات الإبداع، ومثال ذلك قول حطان بن المعلى يشكو فقره وما وضع القدر في رجليه من قيود الأهل والذرية:
وهذا كما يرى القارئ يرجع إلى الناحية اللفظية أو الفنية، ونحن نرى غير ذلك؛ فنرى أن محمدًا عليه السلام اجتذب العرب لأنه نبي ولم يجتذبهم لأنه فنان، فالفن الكلامي لم يكن جديدًا عند العرب، وإنما كان الجديد عندهم أن يأتيهم رجل منهم بأساليب من الفكر والعقل والوجدان غير التي كانوا يألفون، ولو رجعنا إلى حزب المعارضة لعهد الرسول لرأيناه لا ينكر إلا ما جاء به القرآن من معان وأغراض، ولم يتعرض مطلقًا لما جاء به من ألفاظ وأساليب، فالمعركة كانت تدور رحاها حول ما في القرآن من الدعوة إلى توحيد الله — عز شأنه — وإفراده بالقدرة والجبروت، ولو تأملنا قليلًا لرأينا أن الذي يروعنا من الشاعر الواحد هو ما تنفرد به بعض قصائده أو أبياته من دقة المعنى أو طرافة الخيال.
ومن هنا صح للنقاد القدماء أن يقولوا عن بعض الشعراء: «لو قال هذا وسكت لكان أشعر الناس.»
وصح لهم أيضًا أن يقولوا: «أشعر الناس النابغة إذا رغب، والأعشى إذا شرب، وامرؤ القيس إذا طرب، وعمرو بن كلثوم إذا غضب.»
وهذا كلام دقيق جدًّا؛ لأنه يضيف قوة الشعراء إلى خصائصهم النفسية والروحية؛ فالشاعر شاعر لأنه يتحدث عن ذات نفسه وعن ضميره وروحه ووجدانه، فهو فيما يرجع إلى جوهر نفسه أفصح منه فيما يتعلق بنوافل الأغراض.
وفي مصر والشرق العربي كانت المنازعات الأدبية تدور حول الفكرة؛ فالنزاع الأدبي القديم بين محمد عبده ومعاصريه كان نزاعًا حول فكرة، والنزاع بين قاسم أمين ومعاصريه كان يدور حول فكرة، والخصومات العنيفة التي وقفت بين علي يوسف وعبد العزيز جاويش كانت حول فكرة، والنزاع القريب جدًّا بين الجديد والقديم كان نزاعًا حول فكرة، وما نحسب أحدًا ممن هاجموا المنفلوطي كان ينكر أن أسلوبه جيد، ولكن الذين هاجموه ادعوا أنهم يحاربون في شخصه فكرة المحافظة على قديم التقاليد.
ولا جدال في أن الألفاظ والأساليب تتلون وتتشكل بلون الفكرة التي تسيطر عليها، وعلى هذا الأساس وجد الأسلوب الجزل والأسلوب الرقيق، فالرقة والجزالة من مقتضيات المعاني لا الألفاظ، فالمعنى الجزل له لفظ جزل، والمعنى الرقيق له لفظ رقيق، فإذا غلبت الرقة على شاعر مثل البهاء زهير فمرجعها إلى الفكرة؛ لأنه شاعر وديع يعبر عن معانٍ وديعة يلهم أمثالها أصحاب الوداعة والرقة من الشعراء المترفين، وإذا غلبت الجزالة على شاعر مثل المتنبي فمرجعها أيضًا إلى الفكرة؛ لأنه شاعر طامع في أسمى ما يطمح إليه فحول الرجال وهو الملك والتغلب والسيطرة والسلطان.
أفبعد هذا البيان يدهش ناس مما أشرت إليه مرة من أن السلامة والتعقيد والرقة والجزالة والوضوح والغموض كلها صور للنفس الإنسانية التي تفصح عما يطيف بها من معان وأفكار وآراء وأغراض؟
وبعد هذا وذاك: أكان القرآن كلامًا من جنس كلام العرب أم كان لونًا من التعبير يختلف عما عرفوه وألفوه كل الاختلاف؟
هو كلام من جنس كلامهم ومن جوهره ومعدنه، ولكنه يمتاز بقوة المعنى وقوة الروح، فإن قيل: ولِمَ تعذر عليهم أن يأتوا بشيء من مثله؟ فإنا نجيب بأن القرآن نفسه فصل في هذه المسألة حين قال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
فلنتأمل جيدًا عبارة: إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ففيها الجواب كل الجواب، وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعًا أنبياء حتى يصلوا إلى ما وصل إليه مواطنهم وزعيمهم وسيدهم محمد بن عبد الله الذي صدقت كلمتهم فيه قبل نبوته حيث لقبوه بالصادق الأمين؟
وقد كان من القدماء من يرى أن البلاغة لا ترجع إلى المعاني؛ لأن المعاني في رأيهم يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما ترجع البلاغة إلى جودة اللفظ وصفائه.
أما نحن فنلقي العجم والقرويين جانبًا ونحصر البلاغة في جمهور المثقفين، ثم نقرر أن الألفاظ ملك للجميع يجدونها حيث أرادوا في المعاجم والدواوين، ولا يبقى موضعًا للجهد والعنت أو العبقرية إلا المعاني والأغراض، ومن العبث أن نظن أن البلاغة لا تخرج عن المناورات اللفظية، فإن هذا إسراف في تقدير الزخرف وامتهان لصولة العقول. إن الألفاظ في مقدور كل شاعر وكل كاتب وكل خطيب، ولكن المعجز حقًّا هو الفكرة، وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزنًا للصناعة الفنية، ولكن معناه أننا نقرر أن الفكرة تجيء أولًا ويجيء الورق ثانيًا كما يقول الفرنسيون.
وقد رأى ناس قول الباقلاني: «ليس القرآن من جنس كلام العرب.» فقرروا خاطئين أن القرآن يخالف ما درجت عليه البلاغة العربية من حيث الأسلوب، ولو سألتهم عن تحديد معنى (الأسلوب) لعجزوا عجزًا مبينًا؛ لأن الأسلوب في رأينا هو الصورة الظاهرة لعقل الكاتب وروحه وفكرته ومرماه، وليس في مقدور أحد من المتفوقين في علوم البلاغة أن يحدد الأسلوب تحديدًا منطقيًّا يجمع خصائصه ويمنع ما يتطرق إليه من غريب الأوصاف، أو أن يدلنا على خواص أسلوب القرآن دلالة واضحة بريئة من عوارض اللبس والغموض، فإن ألفاظ القرآن كألفاظ كل كلام عربي مبين لا تمتاز باللفظ ولا بالأداء، وإنما تمتاز بالمعنى والغرض والروح.
فإن أراد أحد شاهدًا على ما نقول فإنا نفتح المصحف عرضًا بدون تخير ثم ننقل آيات لنسأله أن يعين ما جاء فيه غريبًا عن الأساليب العربية، ولنختر خمس آيات من مطلع سورة الأنبياء اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ۖ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ.
فأين تكون غرابة الأسلوب في هذه الآيات الخمس؟ وأين يكون السياق الفني الغريب عن الأعراب؟ أليس مرجع الروعة في هذه الآيات إلى المعنى والروح؟ أترونها تمتاز بالسجع؟ وكيف والسجع كان معروفًا قبل القرآن؟ أترون ألفاظها متخيرة منتقاة؟ هو ذلك، ولكن كيف يدور اختيار الألفاظ؟ أترون لاختيار الألفاظ مدارًا غير موجبات المعاني والأغراض؟ فإن كانت هذه الآيات الخمس لا تكفي فإلى القارئ شواهد أخر من القرآن المجيد، يقول الله — عز شأنه: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا.
وأنا أشهد صادقًا أني ما فكرت في هذه الآية إلا دهشت من سمو هذا النصح النبيل، فأين يكون جمال هذه الآية؟ أترونها من جنس غير جنس كلام العرب كما زعم الباقلاني؟ هيهات! إن ألفاظها تشبه جميع الألفاظ، وتركيبها لا يتميز بشيء عن غيره من التراكيب.
ولكن الجمال هنا في المعنى الشريف الذي قضى به القرآن، وذلك المعنى هو الدعوة إلى إيثار العدل في جميع الأحوال من غضب وسكون وحب وشنآن، وقد راجعت صديقًا أديبًا في هذه الآية فأراد أن يلتمس الجمال الفني في كلمة وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ فإن صح افتراض ذلك الصديق فإنا نسأل أيضًا: ومن أين ظفرت تلك الكلمة بمعنى الإعجاز؟ أليس مرجع ذلك إلى ربطها بالمعنى الذي اقتضاه السياق؟ على أنه من الخير أن نسوق الآية كاملة لنتبين كيف يمكن أن تكون بعض أجزاء الآية الواحدة أقوى من بعض: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ.
ألا ترون إن أنصفتم أن كلمة اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ تقل في قوتها عن كلمة وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا فما هو سبب التفاوت؟ لا يظن أحد أن مرجع التفاوت هو الأسلوب، فإن القرآن تفرد في رأي مخالفينا بوحدة الأداء والتعبير، فلم يبق من فرق بين صدر الآية وعجزها غير تفاوت المعنى، والتفاوت هنا جاء من أن صدر الآية معنى بكر لا يجري إلا على ألسنة الحكماء والأنبياء، على حين نرى عجز الآية يؤدي معنى مفهومًا لدى جميع الناس.
ثم لننظر قوله جل ثناؤه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ. هذه من غرر الآيات القرآنية: فأين يقع منها الحسن؟ أترونه في اللفظ؟ أترونه في الأسلوب؟ وكيف وهي ألفاظ يجدها من يريد في أسلوب واضح يدركه جميع المخاطبين ويستطيعه جميع الكاتبين. إن الجمال هنا في الروح العالي؛ حيث يخاطب الله الآثمين وقد ألقى بهم في نار الجحيم.
نترك شواهد القرآن جانبًا؛ لأنها من المواطن الشائكة، ونوضح نظريتنا بشواهد من النثر الجيد والشعر البليغ.
قيل لأعرابي يسوق مالًا كثيرًا: لمن هذا المال؟ قال: لله في يدي!
تأملوا عبارة: «لله في يدي» لتروا أنها من نوادر الكلام الجيد البليغ، ثم انظروا أترون فيها شيئًا غير جمال المعنى؟
كتابي هذا كتاب مَعني بمن كتب له، واثق بمن كتب إليه، وأرجو أن لا يضيع حامله بين الثقة والعناية، والسلام.
أفترون هنا جديدًا في لفظ أو في أسلوب؟ إن الطرافة كلها تنحصر في المعنى لو تنظرون.
وكتب أحد الأمراء يوصي بعض قواد الجيش: «وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرًا من احتيال عدوك عليك.»
وهذا كلام نادر قلما تجود بمثله القرائح، فأين يكون جماله؟ أترونه في شيء غير المعنى؟
عُدْ مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملًا.
وهي نصائح عادية وأبلغها جميعًا قوله: «فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملًا.»
أفترون الجمال هنا — جمال البلاغة — في شيء غير المعنى؟
والشعر ما جماله وما عذوبته؟ انظروا قول ابن الأحنف:
إن صدر هذا البيت عادي لا طريف فيه، ولكن تأملوا عجزه حيث يقول «فعندكم شهوات السمع والبصر»، ألا ترون أنه معنى نادرٌ نفيسٌ وفيه وحده جمال البيت؟ ألا ترون أن لفظة «شهوات» لم تكن أوفى ولا أدق إلا حيث قرنت بالسمع والبصر وتحاشت ما عداهما من نعيم الحواس؟
وانظروا قول قيس بن ذريح:
وهذا من الكلام الجيد، فهل كانت جودته في غير معناه؟ أليس كل ما هنا من روعة يعود إلى تشبيه الزوجة الصالحة بالأم الرءوم، وتشبيه العاشق المهجور بالطفل اليتيم؟
وانظروا قول جميل بن معمر:
وقد تقولون: إن جمال هذا الشعر في رقته وعذوبته، ولكن أترون الرقة والعذوبة إلا صورة ظاهرة لروح الشاعر وما يضمره لمعشوقته من عطف وحنان؟ ألم أقل لكم: إن الرقة والجزالة هي صفات للمعاني تتمثل في أشباح الألفاظ!
ولو أننا عدنا إلى كتب النقد لرأينا أن القدماء كانوا يجعلون المعنى أساس الصورة؛ بحيث يعد الشاعر سارقًا للمعنى وإن غيَّر من صوره.
ومن ذلك قول البعيث:
أخذه الفرزدق فقال:
وأنا مع هذا كله من أعرف الناس بقدر الألفاظ والأساليب، فلست أنكر أن الشعراء والكتاب والخطباء يتفاوتون في الصياغة الفنية، ولكنني أومن قبل كل شيء بالمعنى والروح، وأرى الألفاظ على لسان الشاعر والكاتب والخطيب تشبه أدوات الحرب وأسلحة القتال في أيدي الرجل، فالسيف هو السيف في يد البطل وفي يد الجبان، ولكنه في يد البطل موت أزرق الناب، على حين نراه في يد الجبان أقل غناء من العصا في يد الوليد. والخيل هي الخيل، ولكن الجواد لا يكون جوادًا إلا إذا اعتلى صهوته فارس مغوار، وهو تحت الرجل الرخو أشبه شيء بالحمار «تحت الفلاح العبيط»، والمرأة هي المرأة، ولكنها بين يدي الرجل الغزل أنضر منها في حضرة الرجل البليد!
والكتاب المجيدون الذين أجمع الناس على احترامهم تتفاوت أيامهم تفاوتًا شديدًا؛ فهم في بعض الأيام من فرسان البلاغة وأعيان البيان، وهم في أيام أخر يسفون ويتهافتون، فما سبب ذلك؟ السبب معروف فإن روح الكاتب يتأثر بمزاجه وظروفه وموضوعه تأثرًا بليغًا، فلو كان الأسلوب هو سر البلاغة لتحتم أن يكون الكاتب بليغًا في جميع أحواله، وهذا محال، فلم يبق إلا أن يكون للبلاغة سر آخر غير الأسلوب، وذلك السر هو المعنى والروح، وليست المعاني الجيدة بطائعة للكاتب في كل لحظة، ولا الروح القوي بمواتيه في كل حين. أيفهم قوم الآن أن القرآن من جنس كلام العرب في اللفظ والأسلوب؟ أيفهمون الآن أن القرآن يمثل النثر العربي في العصر الذي نزل فيه، وأن سر إعجازه راجع إلى روحه ومعانيه؟
والواقع أن السجع موجود في القرآن في مواطن كثيرة، ولا ينكره إلا معاند لا يفقه ما يقول، ومن أمثلته: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (الطارق: ١١–١٤).
ومن أمثلته أيضًا: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (البروج: ١–٧).
وكذلك: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ * فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (التكوير: ١–٢٤).
ولا أطيل في سرد الآيات المسجوعة، ففي السور المكية شواهد كثيرة على السجع والازدواج.
وهذا كلام ساقط ضعيف، فالسجع موجود في القرآن، ولكن الرجل يأبى أن يعترف به؛ لأن الاعتراف بوجوده في القرآن يتضمن الاعتراف بأنه غير خارج عن أساليب كلام العرب، والإعجاز في رأيه ينحصر في الأسلوب، وما دمنا سلمنا بأن القرآن معجز فإنه يجب أن نؤمن بأنه غير مسجوع، وإلا ساوينا بينه وبين سائر الكلام!
ونحن لا ندري كيف اتفق للباقلاني وأصحابه من الأشعرية أن يفهموا هذا الفهم العقيم، ولا ندري كيف صح له أن يحتم نفي السجع من القرآن قياسًا على نفي الشعر، بل يزيد على ذلك أن نفي السجع أوجب؛ لأنه كان أسلوب الكهان، والمسألة كلها لعب في لعب وضلال في ضلال؛ لأن اختصاص السجع بالكهان حديث خرافة، والمعقول أن السجع كان عند أهل الجاهلية لونًا من الزخرف الفني يلجأ إليه الكاتب والخطيب رغبة في التأثير، ولم يغلب السجع على الكهان إلا لأنهم كانوا أكثر من غيرهم ثقافة وأدبًا؛ إذ كانوا قادة الجماهير في الجاهلية.
والسجع في القرآن لا يمنع من إعجازه؛ لأن الإعجاز كما أسلفنا مرجعه إلى سمو المعنى وقوة الروح، والرسول رجل من العرب تفرد من بينهم بتبليغ الرسالة إلى قومه، فمن الواضح أنه ينقلها إليهم في أجمل ما عرفوا من الأساليب، ونفي الشعر عن القرآن ليس معناه أن الشعر غير صالح للإعجاز كما توهم الباقلاني، ولكني أرجح أن الشعر لعهد النبوة لم يكن من تقاليده الاهتمام بالشئون الجدية، وخاصة المسائل الروحية والدينية، ولذلك نجد القرآن يعرِّض بالشعر ويتهم الشعراء باللغو والفضول والهيام في أودية الخيال. والشعر مع هذا في أسلوبه لعهد النبوة كان أضيق من أن يتسع لشرح المشاكل الدينية والاجتماعية التي أطال في شرحها القرآن، ومن هذا يتبين أن عدم تبليغ الرسول رسالته شعرًا لم يكن معناه أنه تحامى الشعر لئلا يشارك العرب في أساليبهم كما ظن الباقلاني وأصحابه الأشعريون.
وخلاصة هذه الفكرة أن الكلام لا يكون سجعًا إلا إذا كان المعنى فيه تابعًا للفظ، ولا ندري من أين أتى الباقلاني بهذه القاعدة، والصواب أن خير السجع ما كان اللفظ فيه تابعًا للمعنى، كما أشار إلى ذلك غير واحد ممن كتبوا في فنون البيان، ونحن إذا تأملنا السجع في القرآن رأينا اللفظ فيه تابعًا المعنى، ونرى القرآن في مواطن كثيرة يضحي بفواصل السجع في سبيل المعنى، لا كما يفعل المتكلفون حين يضحون بالمعنى في سبيل السجع.