أبو علي الحاتمي
أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي من الشخصيات القوية التي غابت أخبارها عن الناس فلم يعرفها منهم إلا القليل؛ وسبب ذلك يرجع إلى أن جمهورنا لا يعرف من أعيان الشعر والنثر والنقد إلا من وصلت إليه من آثارهم ضبابات كافية تميط اللثام عن بعض الجوانب من أدبهم المجهول، ونحن من بين الأمم لا نعرف من أدبنا القديم إلا قليلًا؛ لأن نهضتنا الحديثة تشبه يقظة المخمور الذي ينظر حواليه فتتراءى له صور وأشباح لا يميزها إلا بجهد شديد، من أجل ذلك قل عندنا من صحت عزيمته على النظر إلى أدب العرب بمثل ما ينظر الأوربيون إلى أدب اليونان والرومان، وسيرى القارئ في هذا الفصل بوارق من ذهن الحاتمي تشعره بأن من المخجل أن ينسى مثل هذا الرجل في عصر يزعم ناشئوه أنهم طلاب مجد، وأنهم حريصون على وصل ما انقطع من تراثهم الفكري المجيد.
مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالمه. وقد وجدت حذاق المتقدمين، وأرباب الصناعة من المحدثين، يحترسون في مثل هذه الحال احتراسًا يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان، حتى يقع الاتصال، ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء، وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم، ولطف أفكارهم، واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم، وكأنه مذهب سهلوا حزنه، ونهجوا درسه.
فأما الفحول الأوائل ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين فمذهبهم التعالم عن كذا إلى كذا، وقصارى كل أحد منهم وصف ناقته بالعتق والنجابة والنجاء، وأنه امتطاها فادّرع عليها جلباب الليل، وربما اتفق لأحدهم معنى لطيف يتخلص به إلى غرض لم يعتمده، إلا أن طبعه السليم، وصراطه في الشعر المستقيم، نضا بتاره، وأوقد بالبقاع ناره. فمن أحسن تخلص شاعر إلى معتمده قول النابغة الذبياني:
أليس في هذه الفقرات دليل على أن الحاتمي كان بعيد الغور في نقد الشعر؟ ألا تسمو نظراته هذه إلى أدق ما وصل إليه النقاد في العصر الحديث؟ وأي تمثيل أصدق من تمثيل القصيدة بالإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض؟ يضاف إلى ذلك جرأته في رمي الجاهليين ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين بقلة الفهم لأسرار الصناعة، وقصر ذلك على المحدثين الذين توقدت خواطرهم ولطفت أفكارهم واعتمدوا أفانين البديع. وإنما عدننا ذلك جرأة؛ لأن الرأي الغالب في تلك الأيام كان يميل إلى تفضيل القدماء واختصاصهم بالإمامة في الشعر ورمي من عداهم بالتخلف والإسفاف، على أن الحاتمي لم يفته أن يقرر أن البدوي الجاهل قد يغترف من قليب قلبه ويستمد عفو هاجسه فيأتي بالمعجز الذي يعز أحيانًا على العارفين بأسرار البيان.
وقد خدمت سيف الدولة — تجاوز الله عن فرطاته — وأنا ابن تسع عشرة سنة، تميل بي سنة الصبا وتنقاد بي أريحية الشباب بهذا العلم، وكان كلفًا به علقًا علاقة المغرم بأهله، منقبًا عن أسراره، ووزنت في مجلسه تكرمة وإدناء وتسوية في الرتبة — ولم تسفر خداي عن عذاريهما — بأبي علي الفارسي وهو فارس بالعربية وحائز قصب السبق فيها منذ أربعين سنة، وبأبي عبد الله بن خالويه وكان له السهم الفائز في علوم العربية تصرفًا في أنواعه، وتوسعًا في معرفة قواعده وأوضاعه، وبأبي الطيب اللغوي وكان كما قيل: حتف الكلمة الشرود حفظًا وتيقظًا، وتنازعت العلماء ومدحت في مصنفاتهم، وعددت في الأفراد الذين منهم أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وأبو سعيد المعلى، واتخذت بعضًا ممن كان يقع الإيماء عليه سخرة، وأنا إذ ذاك غزير الغرارة، تميد بي أسرار السرور، ويسري عليَّ رخاء الإقبال، وأختال في ملاءمة العز في بلهنية من العيش وخفض من النعيم، وخطوب الدهر راقدة وأيامه مساعدة.
فعلام يدل هذا الكلام؟ ألا يدل على أن الحاتمي كان مفتونًا بنفسه أشد الفتنة، ومسرفًا في الزهو أشنع الإسراف؟ وقد نفهم أن يدافع الرجل عن نفسه فيذكر من مناقبه ومحامده ما يشاء حين يرى الجمهور يجحد فضله، ويطمس محاسنه، ولكنا نعرف كذلك أن هذا لا يقع إلا من المشغوفين بالشهرة والصيت؛ لأنهم يتوهمون دائمًا أنهم مغبونون، وأن الجمهور لفضلهم كنود.
وقد اصطدم كبرياء الحاتمي بكبرياء المتنبي، وكانا متعاصرين يضمر كلاهما لصاحبه أقتم ألوان البغضاء. والشاعر والناقد حين يختصمان يصلان إلى أبشع صور التحامل والعدوان، ولا سيما إذا اصطبغت الخصومة بصبغة سياسية ظاهرها التعصب للأدب وباطنها التحزب الشنيع، وهذا هو الذي وقع في خصومة الحاتمي والمتنبي؛ فقد كان الحاتمي صديقًا أو تبعًا للوزير المهلبي، وكان المهلبي يبغض المتنبي بغضًا شديدًا لترفعه عن مدحه واتصاله بأنداده من الوزراء والرؤساء، وكذلك تربص الحاتمي وانتظر قدوم المتنبي إلى بغداد ليناظره ويؤلب العامة عليه ويزهدهم في شعره، فتم له من ذلك ما أراد.
ترك الحاتمي رسالتين في نقد المتنبي؛ أولاهما: خلاصة ما جرى في المجلس الذي تلاقيا فيه لأول مرة، وهي رسالة مغرضة بالطبع؛ لأنه تكلم وحده وقص ظروف المناظرة على هواه، ولكن ذلك لا يمنع من أن نصدق الحاتمي حين يذكر أنه ضايق المتنبي؛ لأننا نعرف أن كل ناقد أقوى من كل شاعر؛ لأن كل معول يؤثر في كل بناء، والناقد يستطيع كل شيء متى استباح لنفسه الظلم واختلاق العيوب، والمتنبي كان رجلًا واسع الشهرة، والمشاهير في الغالب جبناء، يتوهم أكثرهم أن سوء القالة يذهب بأمجد الأعمال، ويأتي على أرفع الأقدار، وبعض هذا الوهم صواب.
وقد رأيت بعد الاطلاع على هذه «الرسالة الحاتمية» أن صاحبنا نال من المتنبي باللطف ما لم ينله بالعنف، فقد أخذ يسرد كلمات أرسططاليس ثم يعقبها بشعر المتنبي، فاستطاع بذلك أن يفضح المتنبي فضيحة شنعاء. وفي الحق أن هذا العمل كان غاية في اللؤم من جانب الحاتمي؛ لأن حكم المتنبي تبدو فطرية لأول وهلة، وذلك سر سحرها في أنفس القراء، ولكنها تبدو متكلفة مصنوعة حين تقرن إلى ما نقلت عنه من كلام أرسططاليس، وذلك سهم من النقد مسموم.
ومن أمثلة ذلك أن يقول المتنبي:
وقول المتنبي:
وقول المتنبي:
وقول المتنبي:
وقول المتنبي:
وقول المتنبي:
والرسالة الحاتمية تقع في خمس عشرة صفحة نقد بها مؤلفها نحو عشرين ومائة بيت من شعر المتنبي، وهي كما أشرنا طعنة نجلاء يهون بجانبها كل ما لقي المتنبي من خصومه المسرفين.
ولكن لا يتوهم القارئ أن الحاتمي أصاب في كل ما رمى به المتنبي من سرقة معاني أرسططاليس، فقد يتفق الرجلان أحيانًا في المعنى وينفرد المتنبي بجمال الصورة.
فقول المتنبي:
وقول المتنبي:
وقول المتنبي:
ولنا أن نأخذ على الحاتمي وقوفه عند أرسططاليس، كأن المتنبي لم يعرف فيلسوفًا سواه، وهذا يشعر بأن أرسططاليس كان معروفًا جدًّا عند العرب لذلك العهد، حتى استطاع الحاتمي أن يرجع إليه طائفة كبيرة من حكم المتنبي، ويشعر كذلك بأن الشعراء كانوا يتصرفون فيما يقرءون تصرف الخبرة والعقل، فقد نظر المتنبي إلى قول أرسططاليس: «ليس جمال الإنسان بنافع له إذا كان ميت الحس من العلم.»
ثم أداره في نفسه وما زال به حتى أغرقه في لجة من الشعر حين قال:
ولنا أن نلاحظ أن الرسالة الثانية للحاتمي أوفر أدبًا من رسالته الأولى عن المتنبي، وقد يكون السبب في ذلك أنها كتبت بعد موت الشاعر، بدليل قوله في أول المراجعة: «قال المتنبي رحمه الله!»
هذا؛ وكان الحاتمي متين الشعر، كما كان رصين النثر، وهو الذي يقول:
وهو القائل في قصر الليل:
وهو القائل في وصف الثريا: