ابن نباتة الخطيب
ويظهر مما كتب عنه أن الرجل كان قد فَنِيَ في الوعظ فناء تامًّا، وكان مشغوفًا بما يطمئنه على مصيره ومصير عمله، فكان لذلك يتمنى لو يرى الرسول في المنام، وقد صحت له هذه الأمنية، نقل ابن خلكان عن تاج الدين الكندي بإسناده المتصل إلى الخطيب ابن نباتة أنه قال: لما عملت خطبة المنام وخطبت بها يوم الجمعة رأيت ليلة السبت في منامي كأني بظاهر ميافارقين عند الجبانة، فقلت: ما هذا الجمع؟ فقال لي قائل: هذا النبي ﷺ ومعه أصحابه، فقصدت إليه لأسلم عليه، فلما دنوت منه التفت فرآني فقال: مرحبًا يا خطيب الخطباء! كيف تقول — وأومأ إلى القبور؟ قلت: لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقال لقالوا، قد شربوا من الموت كأسًا مرة، ولم يفقدوا من أعمالهم ذرة، وآلى عليهم الدهر ألية برة، أن لا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرة، كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدلوا في الأحياء مرة! أسكتهم والله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجددهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، يوم يعيد الله خلقًا جديدًا، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودًا، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا — وأومأت عند قولي: تكونون شهداء على الناس إلى الصحابة، وبقولي: شهيدًا إلى الرسول ﷺ — يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا.
فقال لي: أحسنت، ادن، فدنوت منه ﷺ فأخذ وجهي وقبله وتفل في فمي وقال: وفقك الله!
ومثل هذه الرؤيا يدل على منحى ابن نباتة وفهمه لواجبات الخطيب، ورؤيا الرسول لا تدل على شيء أكثر من شغل الرائي واتجاهاته الفكرية، فالرسول حين تراءى له في نومه لم يحدثه إلا بما يجب هو أن يتحدث به، وكان ابن نباتة مغرمًا بالكلام على الموت والمعاد، وكذلك وجه الرسول اهتمامه في المنام إلى سؤاله عن مصير أهل القبور، وملحقات الرؤيا تعطينا صورة من عقلية الواعظين، ولا تزال تلك الصورة موجودة إلى اليوم، فاجتذاب الرسول لوجه الخطيب وتقبيله إياه ثم تفله في فمه، وبقاء الخطيب بعد هذا المنام ثلاثة أيام لا يطعم طعامًا ولا يشتهيه مع غلبة ريح المسك على فيه، وموته بعد ذلك المنام بقليل؛ كل هذا من الصور العقلية التي تردد كل يوم بين طبقات الواعظين من الخطباء.
ويظهر أن صيت ابن نباتة وسمعته دفعت من بعده إلى تلمس أخباره عن طريق المنام، فقد قال ابن خلكان: رأيت في بعض المجاميع، قال الوزير أبو القاسم بن المغربي: رأيت الخطيب ابن نباتة في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ دفع لي ورقة فيها سطران بالأحمر وهما:
وهذا المنام الأخير فيه صور غريبة، فالله — عز شأنه — دفع إلى ابن نباتة ورقة، ولكن أي ورقة؟ هي صحيفة مكتوبة بالمداد الأحمر، وفيها بيتان من الشعر. فالرائي صور له وهمه أن المداد الأحمر أدل على القبول، وأن البراءة حين ترد شعرًا تكون أدل على العناية، وهذه الرؤيا تشبه ما قرأته — ولا أذكر أين — أن رجلًا رأى أبا نواس بعد موته، فقال له: ما فعل الله بك؟ فأجاب غفر لي بقولي:
هذا الجو الذي أحاط بابن نباتة، جو التقى والصلاح والزهد، أثر في خطبه أبلغ تأثير، فأفاض في ذكر الموت والبعث والحشر والميزان، وأطال فيما سيلقى المحسنون من الثواب، وما سيعاني المسيئون من العقاب، وهناك جو آخر أثر في خطبه وأعطاها صبغة قوية رهيبة، ذلك الجو هو اتصاله بسيف الدولة ابن حمدان، وكان سيف الدولة كثير الغزوات، فلهذا أكثر الخطيب من خطب الجهاد ليحض الناس عليه ويحثهم على نصرة سيف الدولة.
من الوجهة الفنية يعد ابن نباتة من أعرف الناس بصياغة الكلام، وهو يراعي فنون البديع مراعاة تامة، وسجعه حسن مقبول، وربما كان السجع أقرب فنون البديع إلى لغة الخطباء؛ فهو أسرع تأثيرًا في الجماهير التي لا تفطن إلا إلى الظواهر البراقة من حيلة البلاغة والبيان، وربما كان في اختيار الواعظين للسجع اتصال للتقاليد القديمة التي عرفت عن الكهان، والكهان هؤلاء كانوا رجالًا يؤدون في البيئات الجاهلية ما يؤديه الخطباء الواعظون في البيئات الإسلامية، والجمهور واحد أمام الفريفين؛ فهو دائمًا عامة الناس الذين يجدون فيما تحتوي السجعات من الألحان والأنغام والأوزان مثيرًا لما لا يدركون من النزعات الإنسانية الكامنة التي يهيجها النغم والإيقاع.
فقد قابل بين «صال» و«طال»، وبين «القضاء» و«العفاء»، وبين «أطرقوا» و«أخلقوا».
والموازنة في هذه الفقرات ظاهرة لا تحتاج إلى تعيين.
فيأيها الغفلة المطرقون، أما أنتم بهذا الحديث مصدقون، فما لكم منه لا تشفقون، فوَرَبِّ السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون.
هناك يقع الحساب على ما أحصاه الله كتابًا، وتكون الأعمال المشوبة بالنفاق سرابًا، يوم يقوم الروح والملائكة صفًّا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا.» وقوله أيضًا: «هنالك يرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، ويجمع من وجب له الثواب ومن حق عليه العقاب، فيضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
وأنا يعجبني الخيال في قوله: «أنضاء على الأنضاء»، يريد الحجاج الذين أنضاهم التقى والخوف على المطايا التي أنضاها السير والسرى. وقوله: «خواضًا لجج الرمضاء» فيه أيضًا خيال جميل، وإن كنت لا أستجيد إضافة اللجج إلى الرمضاء؛ لأن أيام الحج لا تكون دائمًا في القيظ الشديد.
أما من الوجهة العقلية فابن نباتة يقف دائمًا في حدود الأفكار السطحية، فيبدئ ويعيد في ذكر الموت والمعاد، ويتكلم على فضائل المواسم والشهور؛ فيستقبل أول السنة ويبين فضل يوم عاشوراء، ثم يخطب في فضل رجب، ثم يودعه ليستقبل شعبان، ثم يودع شعبان ليستقبل رمضان، وهكذا دواليك من الشئون التي تهم العوام. وأهم خطبه من الوجهة المعنوية خطب الجهاد، ولكنها أيضًا خطب يملؤها الصخب ويقل فيها الروح الملتهب والرأي السديد، وهي دائمًا دون خطب علي بن أبي طالب التي كان يحفظها ابن نباتة ويتأثرها في جميع مواقفه الخطابية.
ومهما يكن من شيء فقد استطاع ابن نباتة أن يملك ألباب الجماهير بخطبه، وعرف كيف تساس العامة وكيف تغرس في صدورها بذور التقى والإباء، واستطاع أن يؤدي الأغراض المرجوة من مثله في تعابير فصيحة لو أنها رزقت من العمق ما رزقته من السلاسة لكانت مثلًا في براعة الإنشاء، وعذر الرجل أنه كان يخاطب طوائف من الناس العمق في مخاطبتها عي، والتدلي في إفهامها إفصاح، ولكل مقام مقال.