أبو الفضل بن العميد
أبو الفضل بن العميد هو محمد بن الحسين سيد كتاب اللغة العربية في القرن الرابع، وأعرف الوزراء لعهده بسياسة الملك، وبناية المجد، وكان معاصروه يسمونه «الجاحظ الثاني»؛ لتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، واطلاعه على ما دون الأقدمون في الأدب واللغة والفلسفة والتشريع، وما أحسبهم سموه الجاحظ الثاني في الكتابة؛ لأنه أكتب من الجاحظ وأعرف منه بأسرار الكلام البليغ.
كان ابن العميد باتفاق من ترجموا له أكتب أهل عصره، وأحفظهم للغة والغريب، وأكثرهم توسعًا في النحو والعروض واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات، وأعرفهم بشعراء الجاهلية والإسلام، وأدراهم بتأويل القرآن وحفظ مشكله ومتشابهه، وأبصرهم باختلاف فقهاء الأمصار، وأنفذهم سهمًا في الهندسة والمنطق وعلوم النفس والإلهيات.
ولهذا الخبر قيمته الأدبية فضلًا عن قيمته الخلقية، فهو من جهة الخلق دليل على تواضع ابن العميد وبره بالعلماء، ولكنه من الجهة الأدبية دليل على ميله إلى التعمق وشغفه بالاستقصاء، فكان من همه أن يحفظ دواوين القدماء، وأن يستدرك على قاصديه من أهل الأدب والرواية ما يقع في كلامهم من لحن أو حذف أو تصحيف.
وهذا كما يرى القارئ فهم دقيق، وسمو بالنقد إلى أبعد مما كان يتطلع إليه الناقدون من وزن المعاني والألفاظ؛ فالرجل يرى أن جودة الشعر تتصل بوزنه وقافيته ولفظه ومعناه وكلماته وحروفه، ثم تختلف عنده القوافي والأوزان باختلاف المعاني والأغراض، وتلك نظرة لا يدركها إلا الفحول.
فهل رأى القارئ أدق من هذه النظرة في تعقب الأشعار والأحاديث؟
على أن أدب النفس في صدر ابن العميد لم يقف عند هذه المعاني السلبية، بل تعدَّاه إلى الجرأة القاهرة والإقدام الغلاب «فإذا حضر المعارك وباشر الحروب فإنما هو أسد في الشجاعة لا يصطلى بناره، ولا يدخل في غباره، ولا يناوئه قرن، ولا يبارزه بطل، مع ثبات جأش، وحضور رأي، وعلم بمواضع الفرص، وبصر بسياسة العساكر والجيوش، ومكابدة الحروب»، وكان إلى هذه الخلال حسن التدبير إلى حد الإعجاز، فقد تولى الوزارة لركن الدولة بعد أن تقدمه قوم غلبهم الجند على أمرهم، وصارت مملكة ركن الدولة تحت سلطانهم ملعبًا للفتن والدسائس، وميدانًا للفوضى والاضطراب، فلما تولى ابن العميد الوزارة استقام الأمر، واستطاع بحزمه وقوة نفسه أن ينظم الأمور ويضبط الأعمال «وبسط عدله وأقام هيبته في صدور الجند والرعية حتى كان يكفيه رفع الطرف إلى أحدهم على طريق الإنكار فترتعد الفرائص وتضطرب الأعضاء، وتسترخي المفاصل» كما عبر ابن مسكويه، وهو عندنا صادق فيما وصف به ابن العميد.
وكان ابن العميد من الوزراء الممدَّحين، فقصده الشعراء من كل صوب، وساقوا إليه جياد المدائح، وللمتنبي فيه قصيدة رائية يحفظها أكثر الناس.
أيها الرئيس، إني لزمتك لزوم الظل، وذللت لك ذل النعل، وأكلت النوى المحروق انتظارًا لصلتك، والله ما بي من الحرمان، ولكن شماتة الأعداء، وهم قوم نصحوني فأغششتهم، وصدقوني فاتهمتهم، فبأي وجه ألقاهم، وبأي حجة أقاومهم، ولم أحصل من مديح بعد مديح، ومن نثر بعد نظم، إلا على ندم مؤلم، ويأس مسقم، فإن كان للنجاح علامة فأين هي وما هي؟ إلا أن الذين تحسدهم على ما مدحوا به كانوا من طينتك، وأن الذين هجوا كانت مثلك، فزاحم بمناكبك أعظمهم شأنًا وأنورهم شعاعًا، وأمدهم باعًا، وأشرفهم بقاعًا.
فحار رشيد ابن العميد ولم يدر ما يقول، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: هذا وقت يضيق عن الإطالة منك في الاستزادة، وعن الإطالة مني في المعذرة، وإذا تواهبنا ما دفعنا إليه استأنفنا ما نتحامد عليه. فقال ابن نباتة: أيها الرئيس، هذه نفثة مصدور منذ زمان، وفضلة لسان قد خرس منذ دهر، والغني إذا مطل لئيم! فاستشاط ابن العميد وقال: والله ما استوجب هذا العتب من أحد من خلق الله تعالى؟ … ولست ولي نعمة فأحتملك، ولا صنيعتي فأغضي عليك، وإن بعض ما أقررته في مسامعي ينغص مرة الحليم، ويبدد شمل الصبر، هذا وما استقدمتك بكتاب، ولا استدعيتك برسول، ولا سألتك مدحي ولا كلفتك تقريظي!
فقال ابن نباتة: صدقت أيها الرئيس، ما استقدمتني بكتاب، ولا استدعيتني برسول، ولا سألتني مدحك، ولا كلفتني تقريظك، ولكن جلست في صدر ديوانك بأبهتك، وقلت: لا يخاطبني أحد إلا بالرياسة، ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فإني كاتب ركن الدولة، وزعيم الأولياء والحضرة، والقيم بمصالح المملكة، فكأنك دعوتني بلسان الحال، ولم تدعني بلسان المقال!
فثار ابن العميد مغضبًا وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، وتقوض المجلس، وماج الناس، وسمع ابن نباتة وهو في صحن الدار مارًّا يقول: والله إن سف التراب والمشي على الجمر أهون من هذا! فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهينًا له، ومشتريه مما كسا فيه!
فلما سكن غيظ ابن العميد وثاب إليه حلمه التمسه من الغد ليعتذر إليه ويزيل آثار ما كان منه، فكأنما غاص في سمع الأرض وبصرها، فكانت حسرة في قلب ابن العميد إلى أن مات.
وقد نقلنا هذا الخبر على طوله لأهمية خاصة سيعرفها القارئ بعد لحظة، فإن راويه وهو ابن خلكان عاد فحدثنا أنه وجد هذه القصيدة وهذا المجلس منسوبين إلى غير ابن نباتة، وأنه كشف ديوان ابن نباتة فلم ير فيه هذه القصيدة وأنه وجدها في «مثالب الوزيرين» للتوحيدي منسوبة لأبي محمد عبد الرازق بن الحسن البغدادي وهذه لمخاطبة لشاعر من أهل الكرخ.
ونحن نأسف مر الأسف على أن لم نتمكن من الاطلاع على كتاب «مثالب الوزيرين»، ونخشى أن يكون ضاع أبد الآبدين، مع أنه كان موجودًا بالآستانة منذ ثلاثين عامًا، ولو أتيح لنا الاطلاع على هذا الكتاب لاستطعنا تخطئة ابن خلكان، فإننا نجزم جزمًا قاطعًا بأن هذا المجلس الذي نقلناه آنفًا من صنع التوحيدي، ولا يضيرنا أن النسبة لم تصح بطريقة علمية، فإنا نعرف التوحيدي معرفة قوية لطول ما صاحبناه وعاشرناه، ولو ألقيت جملة من كلامه في أكداس من الأوراق لميزناها لأول نظرة. فليكن الشاعر من يكون، وليكن المخاطب من يكون، فإن واضع المجلس هو التوحيدي على كل حال، ولا يبقى إلا أن نرجح أنه أداره على ابن العميد لا على غيره؛ لأن هذه الحفيظة من التوحيدي ما كانت لتثور في هذه القوة على رئيس غير ابن العميد الذي شغل بثلبه وتجريحه حينًا من الزمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
فاستطير ابن العميد فرحًا بهذه الرقعة البديعة وقال: الآن ظهر أثر براعته، ووثقت بجريه في طريقي، ونيابته منابي. ووقع له بألفي دينار.
ولكن هذا الفرح لم يدم طويلًا؛ لأن ذلك الوليد أخذ يمعن في أسباب الزهو والخيلاء، فكان يحمل رؤساء الجند وقوادهم على الخيول الفره بالمراكب الثقال ليسلموا له الرياسة. «حتى لا يأنف أحد من تقبيل الأرض بين يديه والمشي قدامه إذا ركب، مما لا يؤثره الأستاذ بالرئيس ولا يرضاه لسيرته، وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة، ويعمله أن ذلك لو كان مما يترخص فيه لكان هو بنفسه قد سبق إليه».
ولكن تلك العظات لم تغن شيئًا في تقويم ذلك الفتي، فكان أبوه يأخذه معه في أسفاره حتى لا تكون سيرته سببًا في تغير ركن الدولة على وزيره، واتفق أنه خرج أبو الفضل في إحدى سفراته واستصحب معه ابنه أبا الفتح، فلما كان في بعض الطريق — وكان يركب العماريات ولا يستقل على ظهور الدواب لإفراط علة النقرس وغيرها عليه — التفت حوله فلم ير في موكبه أحدًا، وسأل عن الخبر فلم يجد حاجبًا يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غير ابن مسكويه، فسأله فأخبره أن الجند بأسرهم مالوا مع أبي الفتح إلى الصيد.
وكانت وفاته — رحمه الله — بالري سنة ٣٥٩ بعد أن عانى ما عانى من القولنج والنقرس يعاودانه صباح مساء. ويقال: إنه رأى أكارًا في بستان يأكل خبزًا ببصل ولبن وقد أمعن فيه، فقال: وددت لو كنت كهذا الأكار آكل ما أشتهي! وكذلك كانت العافية أنفع وأجمل من الملك والجاه والمال، وهل تبسم الدنيا لإنسان عليل؟