الفصل الثاني عشر
أبو عامر بن شهيد
ابن «شهيد» اسم يطلق على عدة رجال من أعلام الأندلس، ينتسبون إلى شهيد بن عيسى بن
شهيد، مولى معاوية بن مروان بن الحكم، وكان من سبي البربر، وقيل: إنه رومي.
١ وأشهر بني شهيد أبو عامر أحمد بن عبد الملك، وهو حفيد ابن شهيد وزير الناصر
عبد الرحمن الأموي، وكان ابن شهيد الوزير معروفًا بالدهاء وحسن التدبير،
٢ وكان كذلك من أبرع الشعراء وهو الذي يقول:
ترى البدر منها طالعًا فكأنما
يجول وشاحاها على لؤلؤ رطب
بعيدة مهوى القرط مخطفة الحشى
ومفعمة الخلخال مقعمة القلب
٣
من اللاء لم يرحلن فوق رواحل
ولا سرن يومًا في ركاب ولا ركب
ولا أبرزتهن المدام لنشوة
وشدو كما تشدو القيان على الشرب
٤
ولد أبو عامر سنة ٣٨٣ﻫ وقد ورث عن أجداده الغرام بمظاهر الصبوة والفتوة، والشغف
بملاعب الحسن والجمال، ولم يقدر له أن يظفر بما ظفر به أجداده من أسباب الجاه والمال
والملك؛ لأن ثقل سمعه حجبه عن الاتصال بالملوك والوزراء،
٥ ولكنه انقاد لشبابه وهواه، وأسلم زمامه لفطرته وطبعه، فجاء شعره ونثره في
أعلى درجات البيان.
كان هم أبي عامر أن «يعيش»، ولذلك أجمع من عرضوا لذكره على وصفه بالتهتك.
٦
والعيش في عرف أبي عامر بن شهيد، هو مجموعة من الحسن والخمر والأدب، فالحياة عنده
وجه
أصبح، أو كأس مترعة، أو رسالة أنيقة، أو قصيدة بديعة، فإن خلت الدنيا من بعض ذلك فهي
لغو وفضول، وعيش الأديب فيها عبء ثقيل.
وما ظن القارئ برجل يبيت في الكنائس لينعم بما فيها من الخمر العتيق والحسن الطريف،
ثم يقول في وصف القسيس والدير والرهبان:
ولرب حانٍ قد شممت بديره
خمر الصبا مزجت بصرف عصيره
في فتية جعلوا السرور شعارهم
متصاغرين تخشعًا لكبيره
والقس مما شاء طول مقامنا
يدعو بعود حولنا بزبوره
يهدي لنا بالراح كل مخفر
كالخشف خفره التماح خفيره
٧
يتناول الظرفاء فيه وشربهم
أو يتعرض لجارية من أهل قرطبة ذهبت للصلاة (وأمامها طفل لها كأنه غصن آس أو ظبي يمرح
في كناس) فتنصرف مروعة خشية أن يفضحها بشعره، فيتبعها ويقول:
وناظرة تحت طي القناع
دعاها إلى الله بالخير داعي
سعت خفية تبتغي منزلًا
لوصل التبتل والانقطاع
تناغي غزالًا بروض اليفاع
١٠
وجالت بموضعنا جولة
فحل الربيع بتلك البقاع
أتتنا تبختر في مشيها
فحلت بواد كثير السباع
وريعت حذارًا على طفلها
فناديت يا هذه لا تُراعي
فولت وللمسك في ذيلها
على الأرض خط كذيل الشجاع
١٢
وكان مع تهتكه كريم النفس محمود الخلال حتى لتراه أشرف الناس إذ يقول:
إن الكريم إذا نالته مخمصةٌ
أبدى إلى الناس شبعًا وهو طيان
١٣
يحني الضلوع على مثل اللظى حرقًا
والوجه غمرٌ بماءِ البشر ملآن
أو حين يقول:
ألمتُ بالحب
١٤ حتى لو دنا أجلي
لما وجدت لطعم الموت من ألم
كلا الندى والهوى قدمًا ولعت به
١٥
ويلي من الحب أو ويلي من الكرم
وذكر ابن حيان أن أبا عامر (كان من أصح الناس رأيًا لمن استشاره، وأضلهم عنه في ذاته،
وأشدهم جناية على حاله ونصابه، وكان له من الكرم والجود انهماك مع شرب وبطالة حتى شارف
الإملاق).
١٦
ومن العجيب في تشابه الحظوظ أن النقاد الفرنسيين يصفون (لافونتين) بهذا الوصف؛
فيذكرون (أنه كان من أصح الناس رأيًا لمن استشاره، وأضلهم عنه في ذاته)،
١٧ وما أكثر ما يتشابه رجال الأدب في سوء الحال!
قلت: إن أبا عامر بن شهيد كان يحب الحياة حبًّا شديدًا، وكان يرى العيش كل العيش في
معاقرة الجمال والصهباء؛ فلنذكر الآن أنه كان لذلك من أشد الناس إحساسًا بكراهة الموت،
وقد بلغ من تفزعه أن شعر معاصروه جميعًا بألمه وامتعاضه وتهالكه على التشبث بأذيال
الحياة.
قال ابن بسام: «ولما طال بأبي عامر ألمه، وتزايد سقمه، وغلب عليه الفالج الذي عرض
له
في مستهل ذي القعدة سنة خمس وعشرين وأربعمائة، لم يعد له حركة ولا تقلب، وكان يمشي إلى
حاجته على عصا مرة، واعتمادًا على إنسان مرة، إلى قبل وفاته بعشرين يومًا فإنه صار
حجرًا لا يبرح ولا يتقلب، ولا يحتمل أن يحرك لعظيم الأوجاع مع ضغط الأنفاس وعدم الصبر
حتى هم بقتل نفسه.»
١٨
فلنتصور قسوة المرض التي تحمل رجلًا كابن شهيد على التفكير في الانتحار، ولنقرأ
محزونين قوله في ذلك:
أنوح على نفسي وأندب نبلها
إذا أنا في الضراء أزمعت قتلها
رضيت قضاء الله في كل حالة
عليَّ وأحكامًا تيقنت عدلها
أظل قعيد الداء تجنبني العصا
على ضعف ساق أوهن السقم رجلها
ألا رب خصم قد كفيت وكربة
كشفت ودار كنت في المحل وبلها
إلى خطبة لا ينكر الجمع فضلها
فمن مبلغ الفتيان أن أخاهمو
أخو فتكة شنعاء ما كان شكلها
عليكم سلامٌ من فتى عضه الردى
فلم ينس عينًا ثبتت فيه نبلها
يبين وكف الموت يخلع نفسه
وداخلها حب يهوِّن ثكلها
ولم يفت ابن شهيد أن يظل على عنف المرض ظريف الحس والروح، فقد حدث أبو بكر المصحفي
قال: دخلت يومًا على أبي عامر بن شهيد، وقد ابتدأت علته التي مات منها، فأنس بي وجرى
الحديث إلى أن شكوت له تجني بعض إخواني عليَّ ونفاره عني، فقال: سأسعى لإصلاح ذات
البين. فاتفق لقائي لذلك المتجني مع بعض إخواني وأعزهم عليَّ، فلما رآني موليًا عن ذلك
الصديق أنكر عليَّ، وسأل عن السبب الموجب فأخبره وزادا في مشيهما حتى لحقاني، وعزم
عليَّ في تكليم صاحبي، وتعاتبنا عتابًا أرق من الهوى، وأشهى من الماء على الظما، حتى
جئنا دار أبي عامر، فلما رآنا جميعًا ضحك وقال: من كان تولى إصلاح ما سررنا بفساده؟
قلنا: قد كان ما كان! فأطرق مليًّا ثم أنشد:
من لا أسمي ولا أبوح به
أصلح بيني وبين من أهوى
أرسلت من كبدي الهوى فدرى
كيف تداوى مواضع البلوى
وحدث المصحفي أيضًا قال: دخلت عليه يومًا في تلك العلة ومعي غلام وسيم من إخواننا،
وكان أبو عامر قبل ذلك يحب ممازحته فينافره، حتى خاطب أبو عامر بعض إخوانه بشعر مسه في
بطرف لسانه، فقال له ذلك الغلام: هجوتني يا أبا عامر دون أن تتثبت في أمري، ولا تعلم
من
سري ما يوجب ذلك، فقال: عليَّ تكفيره بما يمحوه من القراطيس والصدور. وكان ذلك إثر صلاة
العشاء الأولى، فطفنا بالجامع ثم انصرفنا إليه فأنشدنا:
ألا بأبي زائر في العتم
بوجه يجلي سواد الظلم
تكتم بالليل في ظله
وهل يمكن الصبح أن يكتتم
وقد أخذ ابن شهيد يخاطب بالشعر أحبابه وأصدقاءه خطاب الوداع فأرسل إلى أبي محمد بن
حزم هذه الأبيات:
ولما رأيت العيش ولى برأسه
وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي
تمنيت أني ساكن في عباءة
بأعلى مهب الريح في رأس شاهق
خليلي من ذاق المنية مرة
فقد ذقتها خمسين قولة صادق
كأني وقد حان ارتحالي ولم أفز
قديمًا من الدنيا بلمحة بارق
فمن مبلغٌ عني ابن حزم وكان لي
يدًا في ملماتي وعند مضايقي
عليك سلام الله إني مفارق
وحسبك زادًا من حبيب مفارق
فلا تنس تأبيني إذا ما فقدتني
وتذكار أيامي وفضل خلائقي
٢٢
وكان ابن شهيد يشعر أنه أهلٌ لأن يُبكى حين يموت، ويقول في ذلك:
سقى الله فتيانا كأن وجوههم
وجوه مصابيح النجوم الزواهر
إذا ذكروني والثرى فوق أعظمي
بكوا بعيون كالسحاب المواطر
يقولون قد أودى أبو عامر العلا
أقلوا فقدما مات أنباء عامر
هو الموت لم يُصرف بأجراس خاطب
بليغ ولم يُعطف بأنفاس شاعر
٢٣
ولم يجتنب للبطش مهجة قادر
قوي ولا للضعف مهجة صابر
يحل عُرى الجبار في دار ملكه
ويهفو بنفس الشارب المتساكر
وليس عجيبًا أن تدانت منيتي
يصدق فيها أولي أمر آخري
ولكن عجيب أن بين جوانحي
هوى كشرار الجمرة المتطاير
يحركني والموت يحفر همتي
ويهتاجني والنفس عند حناجري
٢٤
وهذا حقًّا عجيب، فإن ابن شهيد ظل يتلهف في أيام علته المهلكة إلى محبوب له اسمه
عمرو، وكان حبه له مشهورًا يعرفه القريب والبعيد، ولننظر كيف يتوجع وهو يخاطبه خطاب
المفارق المشتاق:
اقرا السلام على الأصحاب أجمعهم
وخص عمرًا بأزكى نور تسليم
وقل له يا أعز الناس كلهم
شخصًا عليَّ وأولاهم بتكريم
الله جارك من ذي منعة ظفرت
منه الليالي «بإلف» غير مظلوم
ما كان حبك إلا صوب غادية
طيبًا وحاشا بحبي فيك للوم
إن شاء صرف الردى تقديم أطوعنا
فقد رضيت حماك الله تقديمي
عشنا رفيقين في بر الهوى زمنا
حتى زقا بنوانا طائر الشوم
فشتت نوب الأيام ألفتنا
قسرًا ولم يغنها طبي وتنجيمي
وحسب القارئ أن يعلم أن آخر شعر قاله ابن شهيد هو هذه الأبيات، وفيها ودع إخوانه
ومحبوبه آخر وداع:
أستودع الله إخواني وعشرتهم
وكل خرق إلى العلياء سباقِ
٢٥
وفتية كنجوم الغرب نيرهم
يهدي وصليهمو بردي بإحراق
وكوكبًا لي منهم كان مغربه
قلبي ومشرقه ما بين أطواقي
الله يعلم أني ما أفارقه
إلا وفي الصدر مني حر مشتاق
فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا
وإن أمت فسيسقيه الردى الساقي
لا ضيع الله إلا من يضيعه
ومن تخلق فيه غير أخلاقي!
قد كان بردي إذا ما مسني كلف
لا يثلم الحب آدابي وأعراقي
إني لأرمقه والموت يضغطني
فأقتضي فرجة ترتد أرماقي
ثم أوصى أن يدفن بجنب صديقه أبي الوليد الزجالي، ويكتب على قبره في لوح رخام هذه
الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون، هذا قبر أحمد بن عبد الملك بن شهيد المذنب،
مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن
الجنة حق، والنار حق، والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث
من في القبور، ومات في شهر كذا من عام كذا.
ويكتب تحت هذا النثر هذه الأبيات وهو يخاطب بها صديقه المدفون:
يا صاحبي قم فقد أطلنا
أنحن طول المدى هجود!
فقال لي لن نقوم منها
ما دام من فوقها الصعيد
تذكر كم ليلة نعمنا
في ظلها والزمان عيد
وكم سرور همى علينا
سحابهُ ثرةً تجود
كلٌّ كأن لم يكن تقضَّى
وشؤمه حاضرٌ عتيد
حصَّله كاتب حفيظ
وضمه صادق شهيد
يا ويلتنا إن تنكبتنا
رحمة من بطشه شديد
يا رب عفوًا فأنت مولى
قصَّر في شكره العبيد
قال ابن بسام: وكان أبو عامر كثيرًا ما يخشى صعوبة الموت، وشدة السوق، فيسر الله
عليه، وما زال يتكلم ويرغب إلى الله أن يرفق به، ويكثر من ذكره، وقد أيقن بفراق الدنيا،
إلى أن ذهبت نفسه — رحمه الله — يوم الجمعة آخر يوم من جمادى الأولى سنة ست وعشرين
وأربعمائة، ولم يُشهد على قبر أحد ما شُهد على قبره من البكاء والعويل.
هوامش