أبو الفضل الميكالي
أسرة الميكالي أسرة قديمة العهد بالمجد في المدنية الإسلامية، وكان لهذه الأسرة كرامة وسلطان في القرن الثالث والرابع والخامس؛ فقد مدحهم البحتري وخدمهم ابن دريد، وتفيأ ظلالهم أبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني، وغيرهم من أعيان الكتاب والشعراء.
ومن أراد أن يسمع سر النظم، وسحر النثر، ورقية الدهر، ويرى صوب العقل، وذوب الظرف، ونتيجة الفضل، فليستنشد ما أسفر عنه طبع مجده، وأثمره عالي فكره، من ملح تمتزج بأجزاء النفوس لنفاستها، وتشرب القلوب لسلاستها، … وايم الله ما من يوم أسعفني فيه الزمان بمواجهة وجهه، وأسعدني بالاقتباس من نوره، والاغتراف من بحره، فشاهدت ثمار المجد والسؤدد تنتثر من شمائله، ورأيت فضائل أفراد الدهر عيالًا على فضائله، وقرأت نسخة الكرم والفضل من ألحاظه، وانتهبت فرائد الفوائد من ألفاظه، إلا تذكرت ما أنشدنيه — أدام الله تأييده — لابن الرومي:
وما أنس لا أنس أيامي عنده بفيروزآباد، سقاها الله ما يحكي أخلاق صاحبها من سبل القطر! فإنها كانت بطلعته البدرية، وعشرته العطرية، وألفاظه اللؤلؤية، ومحاسن أقواله وأفعاله التي يعيا بها الواصفون، أنموذجات من الجنة التي وعد المتقون، فإذا تذكرتها في تلك المرابع التي هي مراتع النواظر، والمصانع التي هي مطالع العيش الناضر، والبساتين التي إذا أخذت بدائع زخارفها، ونشرت طراف مطارفها، طُوي لها الديباج الخسرواني، ونُفي معها الوشي الصنعاني، فلم تشبه إلا بشيمه، وآثار قلمه، وأزهارها كلمه، تذكرت سحرًا وسيمًا، وخيرًا عميمًا، وارتياحًا مقيمًا، وروحًا وريحانًا ونعيمًا.
وأظهر الفنون التي كان يجيدها الميكالي هو فن الإخوانيات، ورسائله إلى أصدقائه مشربة بأنفاس الحنين، حتى لتحسبها رسائل عاشق لا رسائل صديق …
أنا أسأل الله تعالى أن يرد عليَّ برد العيش الذي فقدته، وفسحة السرور الذي عهدته، فيقصر من الفراق أمده، ويعلو للقاء حكمه ويده، ويرجع العيش الذي رقت غلائله، وصفت من الأقذاء مناهله، فلم أهنأ بعده بأنس مقيم، ولا تعلقت يومًا إلا بعيش بهيم.
كتابي، وأنا أشكو إليك شوقًا لو عالجه الأعرابي لما صبا إلى رمل عالج، أو كابده الخلي لانثنى على كبد ذات حرق ولواعج، وأذم زمانًا يفرق فلا يحسن جمعًا، ويخرق فلا ينوي رقعًا، ويوجع القلب بتفريق شمل ذوي الوداد، ثم يبخل عليهم بما يشفي الصدور والأكباد، قاسي القلب فلا يلين لاستعطاف، جائر الحكم فلا يميل إلى إنصاف، وكم أستعدي على صروفه وأستنجد وأتلظى غيظًا عليه وأنشد:
وصل كتاب مولاي وسيدي أبدع الكتب هوادي وأعجازًا، وأبرعها بلاغة وإعجازًا، فحسبت ألفاظه در السحاب، أو أصفى قطرًا وديمة، ومعانيه در السخاب، بل أوفى قدرًا وقيمة، وتأملت الأبيات فوجدتها فائقة النظم والرصف، عبقة النسيم والعرف، فائزة بقداح الحسن والظرف، مالكة لزمام القلب والطرف، ولا غرو أن يصدر مثلها عن ذلك الخاطر وهو هدف الفقر والنوادر، وصدف الدرر والجواهر. والله يمتعه بما منحه من هذه الغرر والأوضاح، كما أطلق فيها ألسنة الثناء والامتداح.
وكثيرًا ما أحكي للإخوان أني استغرقت أربعة أشهر بحضرته، وتوفرت على خدمته، ولازمت في أكثر أوقاتي عالي مجلسه، وتعطرت بغبار مركبه، فبالله يمينًا كنت غنيًّا عنها لو خفت إثمها أني ما أنكرت طرفًا من أخلاقه، ولم أشاهد إلا مجدًا وشرفًا من أحواله، وما رأيته اغتاب غائبًا، أو سبَّ حاضرًا، أو حرم سائلًا، أو خيب آملًا، أو أطاع سلطان الغضب في الحضر، أو تصلى بنار الضجر في السفر، أو بطش بطش المتجبر، ولا وجدت المآثر إلا ما يتعاطاه، والمآثم إلا ما يتخطاه.
ونعود فنذكر أن صلة الميكالي بأصدقائه وأُلافه انتهبت أجزاء نفسه؛ بحيث يمكن رجع أدبه إلى المعاني النفسية التي توحي بها الصداقة والألفة والحب، فأدبه مقسم بين كتاب شوق، أو رسالة عتب، أو كلمة توجع، أو خطاب اقتضاء، أو مألكة تهنئة، أو نميقة ثناء.
والظاهر من كلام عمر المطوعي في كتابه عن الشعراء أن الميكالي كان بليغ الأثر في أنفس معاصريه، وأن فريقًا منهم كان يؤلف الكتب بإرشاده وفي ضوء فكره. وهذا شبيه بالحق؛ لأن الميكالي فيما يظهر من شعره ونثره كان قوة عظيمة من القوى الأدبية، ولكن ينبغي الاحتياط في فهم هذه الفكرة، فقد كان الميكالي غنيًّا، وكان بيته ملجأ الشعراء والكتاب والمؤلفين، فلا مفر من أن يحسب لمجاملته حساب، وأن يقدر الناقد أنه قد ينسب إليه ما ليس له لمكانه من العلم والغنى والجاه.
صنعة الميكالي في شعره أظهر منها في نثره، فهو حين ينثر سهل الخليقة، فإذا نظم تكلف، وهو يؤثر الجناس على سائر أنواع البديع، وإلى القارئ قوله:
وقوله:
وهذا كما نرى تكلف ثقيل ممجوج.
وقد يترك الصنعة ويمضي على سجيته فيجيد، من ذلك قوله:
وقوله:
وجملة القول أن الجيد من نثره أكثر من جيد شعره، وهو في كلا الفنين صناع اليد ذكي الجنان.
وسلطانه على معاصريه له قيمته على أي حال، فليس الغنى ولا العلم مما يكفي لأن يكون للرجل حاشية وأنصار أوفياء، وإنما يرجع ذلك إلى رقة القلب وقوة العقل وخفة الروح، وهي المقومات الأساسية لحياة المفكر والأديب، وكذلك استطاع الميكالي أن يستعبد طائفة من أحرار القلوب والعقول بما كان له من صفاء الذهن، وقوة القريحة، وطهارة الوجدان.