قابوس بن وشمكير
في سنة ١٣٤١ﻫ نشرت المطبعة السلفية كتابًا صغيرًا اسمه «كمال البلاغة» على نفقة المكتبة العربية ببغداد، فمن الواجب في رأس هذا البحث أن نسدي الشكر لحضرتي الفاضلين نعمان الأعظمي ومحب الدين الخطيب على عنايتهما بإحياء هذا السفر النفيس.
وكمال البلاغة هذا مجموعة صغيرة من رسائل شمس المعالي قابوس بن وشمكير المتوفى سنة ٤٩٣، أما قابوس بن وشمكير فشخصية جذابة شغلت أرفع مكان بين كُتاب القرن، وسار ذكرها بين أدباء الأندلس حتى عده ابن شهيد ضريعًا لبديع الزمان. وهو ملك من ملوك الديلم على جرجان وطبرستان، قام بأعباء الملك سنة ٣٦٦، ولقبه الخليفة الطائع لله «شمس المعالي» ولكن فتنة نشأت في الشرق بين عضد الدولة بن بويه وأخيه فخر الدولة في السنة الأولى من حكم قابوس كان من نتائجها أن انهزم فخر الدولة ولجأ إلى قابوس فأكرمه ورعاه، فأحفظ ذلك عضد الدولة الذي أغار على مملكة قابوس فاستولى عليها سنة ٣٧١، وفر قابوس لاجئًا إلى خراسان، وبعد سنتين استطاع فخر الدولة أن يعود إلى ملكه وكانت بلاد قابوس في جملته، ففكر قابوس في الاستفادة من هذا الظرف، ولكنه موطل لنية كان يخفيها الوزير ابن عباد، فلما توفي فخر الدولة سنة ٣٨٧ أعد قابوس حملتين عسكريتين واسترد ملكه سنة ٣٨٨، ولكن عصره كان مملوءًا بالقلاقل والاضطرابات فانتهى الأمر بخلعه وتولية ابنه، وكانت له نهاية محزنة نشأت عن ثورة الشعب الذي أكرهه على الفرار إلى بسطام حيث قضى نحبه هناك.
كان قابوس من الملوك الأدباء، وكان للظروف القاسية التي عاناها في حياته السياسية أثر بليغ في طبع مواهبه الأدبية بذلك الطابع المحزن الذي يغلب على شعره ونثره، وهو يذكر بالمعتمد بن عباد الأندلسي، فكلاهما بكى ملكه وحظه ومجده، ولننظر كيف يقول قابوس حين استولى ابن بويه على بلاده وأخرجه منها حائرًا كاسف البال:
وله في هذه الأبيات التي يحفظها أكثر المتأدبين، وقد وصلت إلى أغلب الجماهير لعناية المؤلفين باختيارها في المجموعات الأدبية:
وله أيضًا هذه القطعة يعرض بمن رفعتهم الأيام بعد خفض وأعزتهم بعد هوان:
وبمناسبة شعر قابوس نذكر له هذين البيتين وهما من أروع ما قيل في التشبيب:
صام عن جواب ما نفد إليه، ونام عما لزمه في حق الاعتماد عليه.
وسماه مجنحًا؛ لأنه شبهه بشيء له جناحان من قِبل أن في أوله سجعًا وفي آخره سجعًا وبينهما واسطة، فكلمة (صام) في أول القرينة الأولى تقابل كلمة (نام) في أول القرينة الثانية.
ولا يعجبني أن يكسو ضوء مكارمه كلف الخمول، ويأذن لطوالع معاليه بالأفول.
وسماه كذلك لكثرة ما فيه من التمثيلات.
أين الطبع الذي هو للصدود صدود، وللتألف ألوفٌ ودود.
وسماه كذلك؛ لأن اسمه مشتق من الجنس، ولأن بعض الكلام منه جنس لبعض، فالصدود وصدود من جنس واحد، والتألف وألوف من جنس واحد.
إذا حالف فأحسبه قد خالف، وإذا أعار فأحسبه قد أغار.
وسماه كذلك لتشابه صور الكلمات في الخط: فحالف وخالف في صورة واحدة، وكذلك أعار وأغار.
قد خلد ذلك في بدائع الأخبار، وكتب بسواد الليل على بياض النهار.
أما نحن فقد راجعنا هذه الرسائل غير مرة، ورأيناها حقًّا من الذخائر النادرة، ولكننا لا نوافق اليزدادي على تقرير أن هذه الأربعة عشر نوعًا من البديع لا توجد في كلام غير كلام قابوس، فهي في جملتها ترديد للصنعة التي عرف بها المتقدمون، وكل ما تمتاز به هو شدة الأسر، واطراد الفن في جميع أجزائها بحيث يمكن أن يقال: إن هذا الرجل كان ينحت الكلام كما ينحت المثال الصخر ليخلق منه غرائب التماثيل.
يغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليه أجنحة الطواويس.
فإن هذه أخيلة متنافرة لا جامع بينها ولا رباط، ولو حللت ما فيها من استعارة لأعياك الأمر وضاق بك المجال، وهي في جملتها شعوذة عقلية، وإن بدت لبعض الناس نهاية في الحسن والرواء.
له كلام، بل مدام، بل نظام من الياقوت، بل حب الغمام.
فإن الانتقال من هذه الصور مضلل للخيال، وكل ما عند الكاتب أنه عرض ما مر بذهنه من مختلف الأشكال.
لا يعجبني أن يكسو ضوء مكارمه كلف الخمول، ويأذن لطوالع معاليه بالأفول.
فإن الرابط بين هذه الصور صعب؛ لأنه قابل بين المنسم والسنام، ثم انتقل فقابل بين الصفير والزئير، وأبعد من هذا انتقاله في قوله: «وما ساجلت ببعيثي جريره.» فإن القارئ يحتاج إلى تأمل وتفكير في تصور هذه القرينة الأخيرة، إلى أن يتاح له من يفهمه أنها إشارة إلى البعيث وجرير من بين الشعراء.
الدنيا شجرة ثمرتها النوائب، وبيضة مضمنها العجائب.
فإن الانتقال من الشجرة إلى البيضة شطط غير مقبول.
فإن هذه الأخيلة قليلة الائتلاف.
وهذه القطعة التي نعدها من المبالغات والتهويلات، ألا تدلنا على شيء؟ إنها تدلنا على أن الإنسان كان يحلم منذ أجيال بالتحكم في الأرض والسماء، والماء والهواء. إن هذا الكلام الذي نراه مبالغة لو قاله إمبراطور ألمانيا بالأمس، أو قاله ملك إنجلترا اليوم، لما رأى الناس فيه شيئًا من الغلو والإسراف، فقد استطاع الإنسان في هذا الجيل أن يكمد ضوء الشمس والقمر وأن يسخر الهواء، وأن يؤلف بين النار والماء، وأن يسد مناخر الرياح، وأن يطبق أجفان البروق، وأن يبدل الطبائع من حال إلى حال، وقد ألبس الليل ضوء النهار، ولم يبق إلا أن ينبت العشب على البحار.
إن دراسة الآدب القديمة تعطينا صورًا عجيبة من أحلام الإنسانية، فهذا الطيران الذي أصبح قوة القوى في هذا العصر كان حلمًا يتردد كثيرًا في أخيلة الأقدمين؛ فقد تصوروا لسليمان بساط الريح، وقدروا أن سيكون في الجنة طيارون، ولم يتمثلوا الملائكة إلا مجنحين؛ لأنهم كانوا يرون القوة الكاملة في أن يطير الإنسان من أفق إلى أفق، ومن قطر إلى قطر، كلما بعثته الدواعي وأهابت به الظروف.
وإني لأنتظر أن يحقق الإنسان الحاضر جميع الخيالات التي مرت بذهن الإنسان الغابر، فقد كان الإنسان يضيف إلى الجن جميع القوى التي يعجز عن إدراكها وسائله المادية، ونظرةٌ في كتاب ألف ليلة وليلة، أو ما شاكله من كتب الخرافات والأساطير، ترينا أن الإنسان كان يضيف إلى الجن أعمالًا غريبة معقدة هي اليوم أيسر ما يأتي به الإنسان في أعوام الحروب، وستتبدل تبعًا لتطورات الاختراع أوضاع كثيرة من مصطلحات البلاغة والبيان، فتصبح أكثر المجازات حقائق، وتمسي أكثر المبالغات تعابير عادية لا شطط فيها ولا جموح، وسينتظر أن يكون للإنسان الحاضر أوهام جديدة، وخيالات طريفة، بالقياس إلى ما حققه من أوهام أسلافه الماضين، وستكون الأجيال المقبلة مشغولة بتحقيق الأحلام الجديدة التي يتصورها الإنسان الحديث.
ولا يعلم إلا الله ما سيكون من مصير الحلم الأعظم حلم الخلود، فقد تشبث الإنسان بهذا الحلم في جميع أدواره التاريخية، وعز عليه أن تكون أيامه في هذه الدنيا هي كل ما يملك من حظوظ الحياة، وليس مذهب تناسخ الأرواح الذي تعلق بأهدابه الأقدمون إلا تعزية لهذا الإنسان الفاني الذي يزعجه أن يقصر وجوده على سنوات معدودات، وقد راعت جميع الديانات هذه الأمنية الإنسانية فقررت في ثقة مصحوبة الرفق والعطف أن سيكون للإنسان حياة أخرى هي أعلى وأبقى من حياته الدنيا، وأن سيكون له جنة ونعيم، وروح وريحان، ولا أكتم القارئ أنني أعجب كيف يعيش الناس في بعض أنحاء الصين في ظلال المعتقدات الجافة التي تنذر بأن لا حياة بعد الموت، وأن لا رجعة للإنسان بعد فراق دنياه.
إن الإنسان ليسعى للخلود بوسائل شتى، منها هذه الآثار المادية والمعنوية التي يُفني الناس فيها أعمارهم ليكون لهم بعد الموت لون من ألوان الوجود، والذين لا يستطيعون أن يسمعوا التاريخ صوتهم، وأن يفرضوا بقاءهم في أذهان الأحياء، يأملون أن يصلوا بطريق الخير والبر إلى ملكوت السموات، علهم يعيشون خالدين بين المتقين والأبرار.
إني لأذكر — وأنا أكتب هذا — أن دنونزيو شاعر إيطاليا كاد يمس بالجنون حين رأى لأول مرة طيارة تحلق في الأجواء، ولِمَ ذلك؟ لأن الشاعر الذي يحس الحياة ويفهمها ويتذوقها بأكثر مما يتذوقها سائر الناس يدرك القيمة المعنوية لهذه البراعة الإنسانية التي حولت الأحلام إلى حقائق، ومكنت الرجال من ناصية السماء، ولا ندري كيف يكون شعور الإنسان حين يكشف له الغطاء عن عالم الأرواح، فهذه هي الأمنية الباقية التي يحلم بتحقيقها الأحياء.
إن طائفة من المخترعات التي يتمتع بها الناس والتي صارت مألوفة لا غرابة فيها، كانت لأول ظهورها من الغرائب والأعاجيب، وإن كشف أسرار الكهرباء ليبشر بمستقبل عظيم جدًّا للإنسانية، فقد يكون ما وصلنا إليه قشورًا من المعارف الأولية في هذا الباب، فليت شعري كيف يحيا الناس بعدنا؟ بل ليت شعري كيف عاش الناس قبلنا، وكيف كانت علوم الفراعنة يوم بنوا الأهرام؟
في اللحظة التي أكتب فيها هذه الملاحظات أقاسي بعض الألم في الأمعاء، ومع هذا الضعف أشعر بوحشة شديدة كلما فكرت في قصر حياتي على طائفة من الأعمال الأدبية التي لا تقدم الإنسانية إلا بمقدار ضئيل، ويزيد وحشتي كلما ذكرت أن الإنسان سيحتاج إلى أجيال طويلة حتى يبرأ من وحشيته وبداوته، ويعرف كيف فضل السلام، وكيف تكون ثمرات العالم أدوات إحياء، لا قذائف إفناء، وليس أمامي إلا هذا الأمل الصغير؛ وهو أني سأعود إلى العالم عن طريق الذكريات، كما عاد قابوس بن وشمكير فشغلني به، وشغل معي جماعة من الأساتذة بجامعة باريس بعد أن فارق العالم بعشرة قرون.
ونعود بعد هذا فنذكر أن قابوس بن وشمكير يلتزم الصنعة في أكثر ما يكتب، حتى في الموضوعات الفلسفية.
وللقارئ أن يسأل: أكان لهذا الملك الأديب فلسفة يكتب عنها بلغة مثقلة بالسجع والموازنة والجناس؟
وفي رأي قابوس أن هذا سيكون أظهر لقدرة الباري — عز شأنه — ولا ينبغي أن يقال: لماذا لم يخلق الله العالم كذلك منذ البداية؛ لأنه لا يقال لقادر حكيم تظهر منه القدرة بعد القدرة والبدعة بعد البدعة، وكان لكل متأخر منها على متقدم مزية وشرف، وفضيلة كمال: «هلا فعل ذلك في الأول؟»؛ لأن الفعل كلما كان المستأنف منه أشرف مما سلف، والأخير خيرًا مما سبق، كان أدل على قدرة الصانع وحكمة المبدع.
وقد أتاحت لنا هذه الأماني أن نعود فنتأمل تقلبات العوالم المختلفة نشأتها البعيدة إلى وجودها الحاضر، ولكن رويدًا، فأنا أكتب هذا في غرفة مغلقة النوافذ، مسدولة الستائر، لا يهديني فيها غير الكتاب والمصباح، وليس لدي من وسائل التحقيق غير الخيال، ومع هذا فليسمع القارئ إن شاء:
إن علماء طبقات الأرض؛ علماء الجيولوجيا يقولون مثلًا: إن جزيرة مدغشقر أكبر من أن تكون جزيرة، إنما هي قارة، ولكنها مع ذلك ليست مستقلة منذ خلقت، فإن هناك دلائل جيولوجية تدل على أنها انفصلت من أفريقيا في عهود ما قبل التاريخ، فهل يدري القارئ في كم مليون من السنين كونت الطبيعة بوغاز موزنبيق؟ وهل يعرف في كم أمد من الآماد استطاعت الطبيعة أن تكون لمدغشقر وجودًا خاصًّا بحيث تفترق في حيوانها ونباتها عن أفريقيا بعض الافتراق؟ إن مدغشقر تختص بنوع فذ من أنواع الغربان، ففيها وحدها يكون الغراب الأسود الظهر، أبيض الصدر، كأنه يستعد لحفلة ساهرة! ففي كم جيل شاب ذلك الغراب الذي جهل الشاعر وجوده حين قال:
ألا يمكن أن يكون هذا التطور المبطئ جدًّا الذي يتناسب بطؤه مع خطورة هذا العالم المترامي الأطراف، ألا يمكن أن يكون سنة مطردة من سنن الطبيعة تتحول بها الموجودات من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال، في مدى ما لا نعرف ولا نفرض من طوال الأجيال؟
إذن فلنسمح للإنسانية أن تحلم بأن سيكون من نتائج هذا التطور أن تظفر بوضع آخر من أوضاع العالم؛ هو الخلود، وما ذلك على الله بعزيز.