الاستقراء
(١) تعريف الاستقراء
استقراء تام
استقراء ناقص
هذا هو الاستقراء الذي نقصده، فيجب التفرقة بينه وبين ما يسمى بالمنهج الاستقرائي المفصل بقواعد فرنسيس بيكون وستوارت مل المذكورة في كتب المنطق، فإن هذا المنهج أولى به أن يسمى «البحث عن العلة» من حيث إنه يحاول حصر علة ظاهرة ما في ظاهرة أخرى معينة. فإذا أفلحت المحاولة عرفت العلة من هذا الطريق معرفة محققة. أما ما نقصده فهو الاستدلال المتأدي من جزئيات عدة إلى الكلي الذي ننسبها إليه.
فأساس الاستقراء أو السبب الذي يخولنا الحق في الانتقال من الجزئيات إلى الكلي الشامل لها هو، في الاستقراء التام: أن المحمول الحاصل لكل الجزئيات هو محمول حاصل للموضوع المعادل لها، وهذا أمر بديهي. وفي استقراء الناقص هو: أن المحمول الحاصل لعدد كاف من جزئيات موضوع كلي في أحوال عدة وظروف مختلفة هو محمول حاصل لذلك الموضوع الكلي؛ وهذا أمر بديهي أيضًا. فإن تكرار المحمول في الجزئيات دليل على أن المحمول خاصية لازمة عن الماهية المشتركة بين الجزئيات، والثابتة فيها وسط تغير الأعراض، والضامنة لضرورة أفعالها وضرورة القوانين الطبيعية، وإلا كان التكرار بغير علة، وهذا غير معقول. وهكذا نطوي المسافة بين الجزئيات والكلي، ويرجع الاستقراء الناقص إلى الاستقراء التام، وتبطل دعوى الحسيين أن الاستقراء الناقص استدلال سفسطائي يذهب اعتسافًا من البعض المستقرأ إلى الكل، فيضع نتيجة كلية حيث لا يجيز انحصار الجزئيات سوى نتيجة جزئية، فحقيقة الاستقراء تلتئم من جزئيات مدركة بالحس ومن مبدأ يطبقه العقل. وما أدق وأبلغ ما قرره ابن سينا بهذا الصدد حيث قال (في منطق النحاة): «المجربات أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس، وذلك أنه إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء تكرر ذلك منا في الذكر (وهذا هو الوجه الحسي)، واقترن به قياس هو أنه لو كان هذا الأمر اتفاقيًّا عرضيًّا لا عن مقتضى طبيعته لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف (وهذا هو الوجه العقلي)، حتى إنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة فطلبت سببًا لما عرض من أنه لم يوجد.»
مما تقدم يتبين جليًّا تمايز الاستقراء والقياس تمايزًا جوهريًّا، لا كذلك الخطأ الشائع بأن القياس نزول من الكلي إلى الجزئي، وأن الاستقراء صعود من الجزئي إلى الكلي، فهما كالسلم الواحد يقطع في اتجاهين مختلفين، أجل كثيرًا ما ينتهي إلى نتيجة جزئية. ولكن هناك أقيسة صحيحة صادقة نتيجتها مضارعة ما صدقا للمقدمة الكبرى، كقولنا: «كل ناطق فهو ضحاك، والإنسان ناطق، فالإنسان ضحاك.» فظاهرٌ أن «ناطق وإنسان وضحاك» حدود متعادلة؛ إذ ليس يوجد ناطق وضحاك سوى الإنسان. حقيقة القياس أنه انتقال من مبدأ إلى نتيجة بين لزوم النتيجة عن المبدأ بقياس حدين إلى ثالث، وماهيته هي في هذا الارتباط بين الحدود الثلاثة، بغض النظر عن علاقات الكلية والجزئية، فما هذه العلاقات إلا اعتبار ثانوي منطقي.
(٢) المذهب الحسي والاستقراء
بعد هذا البيان لطبيعة الاستقراء والإيضاح لمبدئه، لم تعد هناك حاجة في واقع الأمر لذكر المذهب الحسي، ولا سيما أن رجاله لا يجيئون بشيء جديد في هذه المسألة. إن موقفهم فيها بسيط كل البساطة، لما كانوا ينكرون وجود المعنى المجرد في العقل، والماهية الثابتة في الأشياء، فإنهم لا يقبلون سوى الاستقراء التام، ولا يعتبرونه إلا كمجموع، ولا يؤمنون بالمجموع إلا إلى وقت لاعتقادهم أن التجربة غير مضبوطة بمبادئ أو قوانين، وأنها «مفتوحة دائمًا» قد تلد كل عجيبة. وإذن فليكن الاستقراء مجرد توقع آلي أو مجرد عادة يولدها التكرار، فنعتقد أن المستقبل سيكون شبيهًا بالماضي، ونتدرج في اعتقادنا بقيمة الاستقراءات من أضعف احتمال إلى الأشد فالأشد كلما تكاثرت التجارب المؤيدة لها ولم تعارضها تجربة واحدة. وهكذا نعود إلى تداعي الصور الذي ذكرناه عنهم في الفصول السابقة، فإنه ابتكارهم الأوحد وتكأتهم الفذة.
أما أن تداعي الصور يولد في الحس الباطن توقعًا آليًّا؛ فهذا أمر معلوم، وقد أشار إليه ابن سينا في النص الذي اقتبسناه منه، بعد أن أشار إليه أرسطو في نهاية «التحليلات الثانية». ولكنَّ هناك توقعًا عقليًّا أشار إليه أيضًا، وهو يستند على مبدأ كلي يغني عن تكرار التجارب أو لا يدع لهذا التكرار من قيمة سوى قيمة الدليل الظاهري. وإنا لنسأل الفلاسفة الحسيين: أليس يتعين تفسير التكرار أو الاطراد؟ وماذا عسى أن يكون تفسيره سوى أن الطبيعة خاضعة لقوانين؟ وعلام يدل تحقق توقعنا إن لم يدل على أن بين العقل والطبيعة توافقًا وانسجامًا؟ وكيف يستسيغوا أن يمجدوا الصلة الجوهرية بين المحمول والموضوع في القضية الاستقرائية وأن يردوا العِلِّيَّة إلى مجرد علاقة تعاقب، على حين أن أساطينهم واضعي مناهج البحث العلمي — كما يدعون — يعترفون بأن الغرض من هذه المناهج عزل «المقدم الضروري الكافي» من بين سائر المقدمات، واعتباره علة لتالٍ معين بسبب ما ظهر من اتفاقهما في الحضور والغياب ودرجة التغير. ماذا عسى أن يكون المقدم الضروري الكافي إلا أن يكون هو العلة؟ وماذا عسى أن يكون مثل هذا الاتفاق بين المقدم والتالي إلا أن يكون صلة جوهرية؟ إن الفلاسفة الحسيين لَيذعنون لهذه البديهيات في قرارة أنفسهم، وإنهم ليعلمون أن الواحد منا ومنهم متى وقف على العلة التي يبحث عنها أيقن بها لفوره دون انتظار تأييد مستقبل ودون تدرج في الاحتمال. ولكن اقتناعهم بمبدئهم يصرفهم عن الإذعان الصريح المطرد ويدفع بهم إلى العناد واللجاج.
إلى هنا نقف الحديث مع الحسيين ريثما نستأنف في مواضع أخرى، فقد قصرنا غرضنا في هذا الباب على تحليل أفعال العقل وبيان أصالتها، ومن ثمة على إثبات وجود العقل، وبقي علينا الفحص عن مسائل كثيرة. وللحسيين في كل مسألة رأي، وإن تكن آراؤهم فطرية هزيلة من الطراز الذي عرفناه للآن، وقد نجمل تهافت مذهبهم بقولنا: إنه من الجهة الواحدة يزعم مشايعة التجربة ومتابعة الواقع المحسوس، ومن الجهة الأخرى ينكر كلية القوانين الطبيعية وضرورتها، فيدع العلم بلا سند.