لواحق الوجود
(١) تعدادها
إذا تأملنا معنى الوجود وأمعنا التأمل، رأينا أن كل موجود فهو واحد نوعًا من الوحدة، أي إنه غير منقسم في ذاته، ولا في العقل من جهة ما يعتبر موجودًا واحدًا. ورأينا أن كل موجود فهو حق نوعًا من الحقيقة، أي إنه هو ما هو وليس شيئًا آخر، وأنه من ثمة معقول؛ إذ إن الحق نسبة إلى العقل. ورأينا أن كل موجود فهو خير نوعًا من الخيرية، أي إنه من الصلاحية بحيث يتعلق به ميل واشتهاء؛ إذ إن الخير نسبة إلى الإرادة. ورأينا أخيرًا أن كل موجود فهو جميل نوعًا من الجمال، أي إن من التناسق والبهاء بحيث يروق للعقل وللميل معًا.
هذه المعاني الأربعة لازمة من معنى الوجود لزومًا مباشرًا، تدل على خصائص للموجود بما هو موجود، وليست قاصرة على كلي آخر أخص من الموجود؛ هي وجهات له لا تتمايز منه تمايزًا حقيقيًّا، ولا تزيد عليه شيئًا حقيقيًّا، بل كل ما تزيده عليه اعتبار عقلي فقط. وتقال مثله بالتشكيك أي بطريق التناسب؛ إذ إن كل موجود فهو واحد بحسبه، حق بحسبه، خير بحسبه، جميل بحسبه. فهي تلائم الموجود إطلاقًا، وتعلو على الأنواع والأجناس التي ينقسم إليها الوجود فتقال عليها جميعًا.
(٢) الواحد
وبذلك يتضح أن الوحدة إما جوهرية أو عرضية: الوحدة الجوهرية هي ذات الموجود وعدم انقسامها من جهة ما هي ماهية معينة، وهي تلائم الموجود البسيط أولًا وبالذات؛ فإن البسيط غير منقسم ولا قابل للقسمة كما أسلفنا، وتلائم المركب الطبيعي المتقوم بأجزائه الخاصة به بالطبع؛ مثل الإنسان مع تركيبه من قوى وأعضاء مختلفة، فإنه غير منقسم من جهة كونه إنسانًا، فهو من هذه الجهة واحد بالذات. والوحدة العرضية هي ارتباط كثرة من الجواهر المتمايزة فيما بينها وعدم انقسامها من جهة هذا الارتباط: فههنا كثرة بالفعل، ووحدة بالتركيب، مثل السفينة أو أي مركب صناعي؛ فهذا المركب ليس له وجود واحد، وإنما الوجود الواحد لكل جزء من أجزائه.
وتتبين القضية الثانية بالنظر في الكثرة المتباينة الآحاد العادمة وحدة شاملة لها؛ فإن مثل هذه الكثرة لا تقدر ولا تجمع في عدد: وهذا شأن الأشياء المجموعة بالتشكيك. فلا يقال مثلًا: إن الله والإنسان اثنان، أو إن الفرس والفارس اثنان؛ إذ ليس الوجود متواطئًا متساويًا حتى يصلح أساسًا لوحدة تامة تتكرر بعينها. فالجمع ههنا لا يعني إلا أنه يوجد مرتين موجود غير منقسم في ذاته منقسم من غيره، دون التعبير بحال عن مساواة يرجعان إليها. وإذا عددنا آحاد مثل هذه الكثرة المتباينة نتج لنا عدد زائف من حيث إن واحدًا من آحادها لا يمكن أن يعتبر وحدة تقديرية ومقياسًا مشتركًا.
(٣) الحق
ومن جهة المعرفة يحد الحق إجمالًا بأنه المطابقة بين المعرفة والأشياء على أن هذه المطابقة تختلف، فقد تكون مطابقة المعرفة للأشياء متى كانت الأشياء أصولًا وأشبهتها المعرفة، وقد تكون مطابقة الأشياء للمعرفة متى كانت المعرفة أصلًا وأشبهتها الأشياء المكونة عنها، سواء في ذلك الأشياء الطبيعية والمصنوعات الإنسانية، فإن المصنوعات توصف بالحقيقة حين تجيء شبيهة بتصور العقل وصنع الفن. لكن النسبة بين عقلنا والأشياء الطبيعية نسبة عرضية، على حين أن النسبة بين عقل الصانع الإنساني ومصنوعاته نسبة جوهرية أو بالذات من حيث إن وجود هذه المصنوعات متعلق بالعقل. فإذا قلنا إن الموجودات الطبيعية حقة من جراء حصولها على ماهياتها أو مطابقتها لمعانينا، لم يعتبر هذا القول تفسيرًا نهائيًّا لحقيقتها؛ إذ إن الأشياء لم تصنع أنفسها وتتلبس بماهياتها، وليس الإنسان مقياسها، وإنما هو قابل لصورها وحسب، فلا بد أن نرجعها إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما أن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها. ومن هذه الوجهة العليا نقول إن الحق موجود حقيقة في العقل فقط: موجود أولًا في العقل الإلهي مصدر الحق، وثانيًا في العقل الإنساني صورته، وبينهما الأشياء صورة علم الله ومصدر علم الإنسان، فتلحقها الحقية من الناحيتين: من ناحية العلم الإلهي؛ وهذه نسبة ذاتية، ومن ناحية العلم الإنساني المكون عنها بالتجربة والاستدلال؛ وهذه نسبة عرضية إن وجدت لم تزد عليها شيئًا، وإن عدمت لم تنقص منها شيئًا. وبذا يتضح قولنا: إن كل موجود فهو حق، أو إن الحق مساوق للوجود، فإن كل موجود فهو مطابق للعقل الإلهي، وكل موجود له ماهيته، وكل موجود فهو كفء لأن يولد الحق في كل عقل حالمًا يُعلم.
(٤) الخير
الصفة الثالثة هي الخير. وقد تناقل الفلاسفة تعريفًا للخير أورده أرسطو في مفتتح كتاب «الأخلاق النيقوماخية»، ناسبًا إياه إلى بعض القدماء دون تخصيص، قال: «الخير هو المقصود من الكل». وهذه ترجمة حرية نقرؤها في «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه (طبعة القاهرة ص٩٠)، بينما نقرأ في «النجاة» لابن سينا: «الخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده» (ص٢٢٩). وليس هذا تعريفًا بمعنى الكلمة، أي حدًّا علميًّا، وإنما هو رسم يدل على الخير بقصد القاصد إليه، لا بخاصية جوهريته فيه. أجل ليس بعد المعاني والمبادئ الأولى معانٍ ومبادئ أبين منها تفيد في بيانها، فلا يبقى إلا أن تبين بآثارها كما تبين العلة الخفية بمعلولاتها، والخير من المعاني الأولى، وأثره تحريك النزوع، فيرسم بهذا التحريك. ولا معنى لدعوى منكري الماهيات من حِسيين وتصوريين أن ليس للأشياء خيرية بالذات مقصودة بالذات، وإنما نحن نسمي الشيء المقصود خيرًا لكونه مقصودًا منا، أي إن النزوع الإنساني إلى شيء ما هو الذي يضفي عليه الخيرية: لا معنى لهذه الدعوى من حيث إن المقصود لا يقصد إن لم تكن له خيرية، أو أن القاصد لا يقصد إلا ما ترى فيه خيرًا حقيقيًّا أو مظنونًا.
وهذا الرسم يفضي بنا إلى حد إذا لاحظنا أن القاصد إنما يقصد إلى شيء بسبب كمال في هذا الشيء مفقود عند القاصد ومطلوب منه «ليتم به وجوده» كما يقول ابن سينا. فالخير كمال في الوجود، أو هو الموجود باعتباره أساسًا لنسبة ملائمة بينه وبين النزوع، وهذه النسبة ذهنية صرف لأن ميل القاصد لا يغير من المقصود شيئًا، بينما الكمال خاصية للموجود، فبالكمال يحد الخير. وهنا يجب الاحتراز من بعض المزالق، فقد يقال: إن من الناس من يقصدون إلى الشر، فلا يعرف الخير بالمقصودية. والجواب أنهم يقصدون إلى الشر لا باعتباره شرًّا، بل باعتباره خيرًا. فإراداتهم قاصدة بالذات إلى الخير، لكن قد يكون كذلك في الظن فقط لا في حقيقة الشيء، فتقع الإرادة على الشر عرضًا.
وقد يظن أن تعريف الخير بالمقصودية لا يتفق مع قولنا «الكل» أو «كل شيء»؛ لأن القصد لا يحدث إلا بعد إدراك، فهذا التعريف يقصر الخير على الموجودات المدركة. والجواب أن هذا التعريف يشمل أيضًا الموجودات عادمة الإدراك؛ فإن لها هي أيضًا نسبة إلى أفعال معينة نراها تفعلها، وإلى أشياء معينة نراها تتوجه إليها، وفي الحالين النتيجة خير لها أي كمال يتم به وجودها، وتحقيق للنظم العام، وإذا كانت لا تدركه ولا تتوجه إليه بالإرادة، هذا دليل على أنها موجهة من مدرك أعلى ركب فيها هذا النزوع الطبيعي، لا على أنها خارجة عن الخيرية الكلية؛ فالقصد وما يفترضه من إدراكٍ متوافران ههنا على هذا الوجه.
وقد يظن أن إطلاق التعريف على «الكل» من شأنه أن يحصر الخير في الله وحده وينفيه عن سائر الموجودات؛ لأن الله وحده غاية الكل، ويلوح أن ابن مسكويه إنما ردد هذا المعنى حيث قال: «الخير الذي يقصده الكل هو طبيعة تقصد ولها ذات، وهو الخير العام للناس من حيث هم ناس، فهم أجمعهم مشتركون فيها.» والجواب أن هذا التأويل سائغ من جهة أن الله هو الخير بالذات وعلة الخير في الموجودات، وأن النزوع إلى أي خير جزئي هو من ثمة نزوع إلى الخير الأعظم، بحيث يكون هناك خير واحد ينزع إليه الكل. بيد أن هذا التأويل لا يستلزم سلب الخيرية عن المخلوقات، وليس موضوع التعريف خيرًا معينًا، بل هو الخير إجمالًا أو بالجملة كما يقول ابن سينا.
ومما تقدم يتضح أن الخير والوجود متساوقان، أعني أن كل خير موجود وكل موجود خير، وتزداد هذه القضية اتضاحًا بملاحظة الأدلة الآتية. الدليل الأول: أن كل موجود فهو كامل نوعًا من الكمال؛ لأنه منظم في نفسه حاصل على ماهية متسقة العناصر قابلة للوجود، لذا هو يجب أول ما يجب وجوده الخاص، فيعمل على نمائه ويحميه من كل عدوان، فكل موجود بمجرد كونه موجودًا هو موضوع محبة من ذاته لذاته، أي إنه خير. الدليل الثاني: أن كل موجود فله إلى آخرين نسبة مطردة طبيعية بها يلتئم النظام العام، وهذه النسبة غاية له وغاية للآخرين، والغاية خير، كما أن تحقيق النظام خير. الدليل الثالث: أن كل موجود فهو فاعل، وهو إنما يفعل ويحقق النسبة التي يقوم عليها خيره والنظام، لا اتفاقًا ولا قسرًا من خارج، بل بميل طبيعي باطن فيبين عن قوى فاعلية يؤثر بها في غيره إلى جانب قوى انفعالية تتأثر من الغير، وهذه القوى بما يلحقها من انفعالات أو يصدر عنها من أفعال هي خير من حيث إنها وسائل لتحقيق خيره وخير الموجودات المتصلة به. فجملة القول: أن الخير والموجود متحدان ذاتًا، غير أن الخير يزيد على معنى الموجود نسبة ملائمة بين الخير والنزوع؛ تلك الملائمة التي أساسها كمال الموجود. لذا يجيء ترتيب الخير بعد الحق الذي لا يزيد على الموجود شيئًا.
وينقسم الخير إلى مأثور لأجل ذاته، ومأثور لأجل غيره، ولذيذ: فالمأثور لأجل ذاته قد يكون غاية قصوى أو يتخذ واسطة ووسيلة إلى غاية أبعد منه، وهو مأثور لأجل ذاته على كل حال؛ لأنه يختم حركة النزوع. والمأثور لأجل غيره هو الذي يختم حركة النزوع نسبيًّا، أي باعتباره نافعًا ومفيدًا في سبيل خير آخر. واللذة هي الرضا والاطمئنان عند الحصول على خير مقصود، أو هي الشعور بالموافقة والملائمة بين قوانا وموضوعاتها. ولما كان الخير مساوقًا للموجود، فإنه يطلق على أقسامه كما يطلق الموجود على أقسامه، أي بطريق التناسب والتقديم والتأخير، لا بطريق التواطؤ الذي يصدق بالسواء. فالخير يصدق أولًا على المأثور لأجل ذاته لأن له في ذاته ما لأجله يؤثر، ويصدق ثانيًا على اللذيذ لأن ليس له من سبب القصد إلا اللذة، وقد يكون ضارًّا وغير جدير بالإيثار، ويصدق ثالثًا على النافع أو المفيد لأن ليس له في ذاته ما لأجله يؤثر، بل إنما يؤثر كوسيلة إلى خير آخر، كتعاطي الدواء الكريه لأجل الصحة.
هذه القسمة هي باعتبار مفهوم الخير، أما باعتبار اتحاده ذاتًا مع الموجود فإنه ينقسم إلى المقولات العشر التي تستوعب كل الموجودات، وينقسم أيضًا إلى خير طبيعي وخير خلقي، وأيضًا إلى خيرات النفس وهي العلوم والفضائل، وخيرات البدن من صحة وجمال، وخيرات خارجية وهي الأهل والمال والجاه، وإلى غير ذلك تبعًا للوجهة الملحوظة.
(٥) الشر
والخير يتميز بضده الذي هو الشر. والكلام هنا على الشر الطبيعي لا الشر الخلقي، كما كان الكلام على الخير الطبيعي المساوق للموجود. فنقول: إن طبيعة الشر تظهر أولًا بعض الظهور باستعراض أنواعه، وهي تقابل أنواع الخير. فمن الشرور ما ليس يؤثر باعتباره شرًّا، وقد يؤثر لوجه خير فيه: كالضار المقابل للنافع أو المفيد؛ فإنه ليس يطلب من جهة كونه ضارًّا. وقد يطلب كوسيلة إلى غاية ارتضيناها: مثل السم أو الحريق أو الغرق عند الذي عقد العزم على الانتحار، وكالمؤلم المقابل للذيذ؛ فإنه هو أيضًا ليس يطلب من جهة كونه مؤلمًا. وقد يطلب في سبيل الوطن أو الدين أو غاية أخرى. ففي هذه الأقسام الثلاثة يظهر الشر كأنه غير مؤثر لذاته، أي من جهة كونه شرًّا. وهذا اسم سالب يؤذن بأن الشر نقص وحرمان كمال ما مثل الجهل والضعف وتشويه الخلقة، وأنه لذلك يثير في النفس عزوفًا وإباء، على حين أن الخير وجود وكمال يثير في النفس الرغبة لملاءمته وموافقته للنزوع الطبيعي.
وهذا الرسم السالب يؤذن باستحالة التأدي إلى حد موجب كما تأدينا في تعريف الخير؛ فإن «الشر لا ذات له»، ولكننا نخلع عليه شبه ذات بنسبته إلى الذات التي تنتقص به أو تفسد: كتصورنا العمى عدم الرؤية، وتصورنا الصمم عدم السمع … وعلى هذا النسق نتصور كل شيء على أنه عدم خير. ولا عبرة بهيئة الألفاظ المستعملة في اللغات؛ إذ إن كثيرًا من هذه الألفاظ ما له هيئة محصلة، ومعناه معدول: كالألفاظ المذكورة الآن. «فالشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته»، أو «يقال شر لنقصان كل شيء عن كمالهن وفقدانه ما من شأنه أن يكون له».
وبناءً على هذا التعريف يجب استبعاد ما أسماه ليبنتز بالشر الميتافيزيقي وأراد به فقدان كل مخلوق كمالات كثيرة بسبب تناهي طبيعته، مثل ألا يكون للإنسان جناحان، وغير ذلك مما يسهل تأليفه من الأمثلة. ولكن إذا سلمنا بهذا النوع من الشر لزم أن يحصل كل مخلوق على كل الكمالات فيجمع العالم في واحد، وإلا كان العالم مجموعة شرور ميتافيزيقية. والحقيقة أن هذا ليس فقدان ما من شأنه أن يوجد، وإنما هو محض نفي؛ فإن لكل موجود ماهيته وطبيعته، فشره فقدانه شيئًا مستحقًّا ومقتضى لماهيته وطبيعته. وإذا لم يكن للشر ذات وقوام فإن له دائمًا موضوعًا يحل فيه؛ إن جاز هذا التعبير، أو يبتلى به، وهذا الموضوع هو موجود، وهو خير بما فيه من وجود ولو أنه منقوص بالشر، بحيث نستطيع أن نقول بدقيق القول إن الشرء لا يجيء إلا في الخير.
(٦) الجمال
الصفة الرابعة هي الجمال، وأول ما ندرك الجمال، وأكثر ما ندركه يقع في المحسوسات؛ فإنها أيسر معلوماتنا اكتسابًا، تملأ الأبصار والأسماع. وإنما يتحقق فيها الجمال بثلاثة عناصر أو شروط، وهي: التمام والتناسب والبهاء؛ تمام الأجزاء ضروري لقوام الشيء، والشيء الناقص قبيح لمجرد نقصه، وكل جزء تام من أجزائه قد يكون جميلًا وغاية في الجمال في بابه، مثل يد تمثال مهشم. وليس يكفي التمام المادي في شيء أو في جزء منه، بل يتعين أن ينضاف إليه التمام المعنوي، وهو التناسب والتطابق بين الأجزاء؛ فإن المختلط والمهوش غير معقول وغير مستساغ من الحس، على حين أن التناسب جلي متميز، وإن الحس والعقل يغتبطان بالمتناسب ويسكنان إليها. ويختلف التناسب بحسب الأشياء والغايات طبعًا، ولكنه واجب، وواجب بحيث تشرق منه صورة معقولة في أجزاء المادة، سواء الصورة الطبيعية والصورة الفنية، وسواء كانت فكرة أو عاطفة، دون إعنات العقل واضطراره للتفكير والتجريد. ومتى جاء الإشراف في أشكال محكمة، أو في ألوان متسقة لامعة، أو في أصوات منسجمة قوية أو عذبة، كان البهاء الذي يجذب الحس والعقل ويخرجه عن طوره.
فنستطيع أن نُجمل هذه العناصر الثلاثة بقولنا: «الجمال إشراق صورة في أجزاء مادية متناسبة»، أو بعبارة أخصر: «الجمال بهاء التناسب»، وما علينا إلا أن نذكر موقفنا من الشيء المحروم جزءًا أو أكثر، أو عديم تناسب الأجزاء، أو عديم البهاء؛ فإننا نصدف عنه ونصفه بالقبح، فصفات الجمال مضادة لهذه، مثيرة لشعور مضاد. وإلى هذا يرجع تعريف ابن سينا حيث يقول في (النجاة): «جمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له.» وما يجب لأي شيء أجزاؤه وتناسبها فيما بينها كشرطين لوجوده، وبهاء الأجزاء في تناسبها كشرط لجماله.
وإذا كان المحسوس أول ما يتفق لنا أن نرى فيه الجمال؛ فإنه هو يخرج بنا من دائرته الضيقة ويسلمنا إلى المعقول المترامي الآفاق. ذلك بأن النسبة ليست شيئًا محسوسًا، ولكنها ربط معنوي بين شيئين أو أكثر، فلا تدركها حاسة من الحواس، وإنما العقل هو الذي يدركها، فالجمال المحسوس مدرك من مدركات العقل، وقد يظن أن البصر والسمع يدركانه. ونحن نقول بالفعل: «مناظر جميلة، وأصوات جميلة»، ولا نقول: «طعوم جميلة أو روائح جميلة»، بيد أن هذا محض ظن: فإن البصر ينفعل انفعالًا فيزيقيًّا بزهو الألوان، كما ينفعل الأطفال والحيوانات باللون الأحمر وما إليه من ألوان شديدة التأثير. والانفعال الفيزيقي بوقع الأصوات أشد ظهورًا؛ فإن تأثيرها يدفع بنا وبالحيوان دفعًا تلقائيًّا إلى الحماسة أو الطرب أو الحزن، ثم ينبت في العقل معنى الجمال بالرجوع على الألوان والأشكال والأصوات وتأمل ما بينها من نسب. فالبصر والسمع يخدمان العقل بأن يقدما إليه المادة، والعقل هو الذي ينفذ إلى ما وراء المادة من نسبة ومعنى، كما أن العقل هو الذي يدبر المخيلة المبدعة في الفن، فيبتكر المعنى المراد التعبير عنه بالمصنوع الفني، ثم يستدعي من بين الصور المختزنة في المخيلة تلك التي تفيد في التعبير دون سائرها، ولولا هذا التدبير لذهبت المخيلة كل مذهب على ما تفعل في أضغاث الأحلام وهذيان الحمَّى، فجمال المحسوس جمال معقول.
وللمعقولات أنفسها جمالها يفوق الجمال المحسوس: فإننا إذا ارتقينا من المحسوسات بما هي كذلك بلغنا إلى الرياضيات التي تسقط من اعتبارها الألوان والنسب الواقعة بين الأشياء، وتقبل على نسب مطلة بين عناصر معقولة صرف فنلقى في تأملها وفي ابتكار تأليفاتها متعة روحية غير متعلقة بمادة أصلًا. وإذا ارتقينا من الرياضيات بلغنا إلى الحكمة التي هي علم الوجود بمبادئه العليا، أي قوانينه الكبرى، وبخاصة المبدأ الأعظم، والعلة الأولى والقانون الأوحد. فحينئذ يجد العقل من سمو تعقله طرازًا من الجمال الخالص الصافي يفعمه بهاء ونشوة، فيغتبط بالمعقول والتعقل معًا، ويدرك أن الترتيب الطبيعي في تعريف الجمال هو البدء بمطلق الجمال، ثم النزول إلى جمال النسب المعقولة، وأخيرًا إلى جمال النسب المحسوسة. فيعرف مطلق الجمال تعريفًا مطلقًا خلوًّا من ذكر التمام والتناسب كالذي أوردناه عن ابن سينا، ثم يخصصه في الدرجتين التاليتين بما يلاءم كلًّا منهما، فيذكر التمام والتناسب تارة على أنهما تمام عناصر معقولة وتناسب بينها، وطورًا على أنهما تمام عناصر محسوسة وتناسب بينها.
ولما كان الجمال إدراكًا والتذاذًا معًا، كان مشاركًا في معنى الحق والخير معًا، ولذا يجيء بعدهما في تسلسل لواحق الوجود ابتداء من الوجود عينه. فالجمال إدراك حق ما، لكنه يزيد على الحق أنه معجب لاذ، وقد يصير الحق كذلك فيعتبر جميلًا. والجمال يصير نزوعًا كالخير، ولكنه نزوع العقل الذي يدركه، أو البصر أو السمع اللذين يتأثران به؛ فإن هذه القوة طالبة له، لكنها لا تطلب امتلاكه في ذاته ووجوده كما يطلب الخير، بل يتجه نزوعها إلى تأمله فقط، وقد يطلب بعد ذلك في ذاته ووجوده فيصير خيرًا مطلوبًا. فالجمال بمثابة نوع من الخير قد يصير خيرًا؛ فبين الجمال من جهة، والحق والخير من جهة أخرى، اتفاقٌ، وبينه وبينهما اختلاف: لكن الاتفاق بين الجمال والحق أقوى منه بين الجمال والخير، والاختلاف بين الجمال والحق أضعف منه بين الجمال والخير. والمعاني الثلاثة متساوقة لا تختلف إلا بالاعتبار. وقد فطن الفلاسفة، بل فطن الناس عامة إلى ما بينها من قرابة، فوصفوا الحق والخير بالجمال، نعني الخير الخلقي — أو الفضيلة — الذي هو الخير الحق، مثل أفلاطون في قوله: «إن تَحمُّل الظلم أجمل من ارتكابه.» والشواهد عنده وعند سائر الفلاسفة والشعراء والكُتاب والمُشرِّعين أكثر من أن تُحصى، ونحن بالعربية ندعو الفضيلة أو الإحسان أو المعروف بالجميل، وندعو الرذيلة بالقبيح، كأنما الأخلاق جزء من علم الجمال.
ومن هنا نرى أن الجمال من لواحق الوجود حقًّا، أي إن كل موجود فهو جميل. لكن هنا يقوم اعتراض قوي على هذه القضية يؤيد بالقبح المنتشر في العالم. فنلاحظ أولًا أن معنى الجمال ليس مكتسبًا بالتجريد البسيط الذي يصعد من آحاد متفقة بالماهية النوعية أو الجنسية إلى الكلي الذي يشملها، كمعنى الإنسان بالنسبة إلى أفراده. ولكن الجمال أحد المعاني التي تتحقق باختلاف في كثيرين مختلفين بالماهية النوعية أو الجنسية؛ فهو فوق الأنواع والأجناس، يلائم الموجود من حيث هو كذلك، فيطلق على أفراده بطريق التشكيك والتناسب لأنه يتحقق في كل موجود بحسبه، وإن قيل إن هذا لا يعني فقط أن الجمال ممكن التحقق في موجودات مختلفة بالنوع أو بالجنس، ولا يستلزم تحققه في كل موجود، قَدَّمْنا الملاحظة التالية.