مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
اطَّلعت منذ سنين على كتاب في دار الكتب المصرية اسمه «الكوكب الدري في مسائل السلطان الغوري»، يتضمن آراء السلطان الغوري آخر سلاطين المماليك المصريين في مسائلَ من الفقه والتفسير وغيرهما عرضت في مجالسه. والكتاب نسخة مصورة عن نسخة في إستانبول هي نسخة السلطان التي كتبت له في القاهرة وأهديت إلى خزانة كتبه.
قرأت الكتاب وتقرَّيت سيرة السلطان في العلم والأدب، فعثرت على أبيات له بالعربية والتركية، وألقيت محاضرة في الجمعية الجغرافية موضوعها «مكانة السلطان الغَوري في العلم والأدب»، ثم دأبت على استقراء سيرة هذا السلطان، فأخبرني بعض العلماء أن الشاهنامة ترجمت نظمًا إلى التركية بأمر الغوري، وأن نسخة من هذه الترجمة في إحدى دور الكتب بإستانبول، فكتبت إلى أحد العلماء هنالك فأجابني أنه لم يجد الكتاب في المكتبة التي سميتها له، ومرت سنوات قبل أن أعثر في مكتبة الأمير إبراهيم حلمي — التي أهداها الملك فؤاد رحمه الله إلى مكتبة الجامعة المصرية — على مجلد فيه نصف الكتاب المفتقد. شرعت أقرأ الكتاب فرحًا بهذا الظفر، متعرفًا اللغة التي نظم بها، متبينًا فرق ما بينها وبين اللهجات التركية الأخرى.
ثم عرفت بعد قليل أن نسخة كاملة من هذه الترجمة في مكتبة المتحف البريطاني، فعزمت على أن أنقل صورتها إلى مكتبة الجامعة.
ثم سافرت إلى إستانبول عام ١٣٥٦ﻫ / ١٩٣٧م؛ لأنقب في مكتباتها عن الشاهنامة التركية، شاهنامة الغوري، وعن كتب أخرى، وانتهى البحث إلى أن عثرت في مكتبات السلاطين العثمانيين في سراي طوب قبو على نسخة من الكتاب في مجلد واحد ضخم فيه صور ملونة جميلة.
ويستطيع القارئ أن يقدر اغتباطي ودهشتي إذا علم أن هذه النسخة التي عثرت عليها بعد طول البحث والتحري هي النسخة الأم من هذا الكتاب — النسخة الأولى التي كتبها المترجم بيده في القاهرة وقدَّمها إلى السلطان الغوري.
زاد اطلاعي على مقدمة الكتاب وخاتمته معرفتي بعناية السلطان بالأدب ورعاية أهله، فزدت إعجابًا بالرجل وإعظامًا له.
واطلعت من بعد على كتاب آخر يتضمن طرفًا من آراء السلطان ومحاوراته في مجالسه اسمه «نفائس المجالس السلطانية»، وهو نسخة في دار الكتب مصورة عن نسخة في إستانبول هي النسخة التي كتبت للسلطان.
وينبغي أن أقول؛ اعترافًا بالفضل لأهله: إن الذي أطلعني على هذا الكتاب وكتاب الكوكب الدري هو العالم الفاضل الشيخ محمد عبد الرسول، جزاه الله خيرًا.
اجتمع لي كتب ثلاثة ألِّفت للسلطان، واجتمع لي الأمهات من هذه الكتب — النسخ الأولى التي كتبت للغوري وقدمت إلى خزانة كتبه؛ فجعلت هذه الكتب الثلاثة موضوع بحث ألقيته في مؤتمر المستشرقين، الذي اجتمع في بروكسل سنة ١٩٣٨.
ورأيت أن أطبع «نفائس المجالس السلطانية» كله، ثم بدا لي أن أختار منه ومن الكتاب الآخر «الكوكب الدري» ما يفي بالمقصود، وأن أعفي القارئ من كثير من المسائل التافهة المتشابهة التي يتضمنها الكتابان، فاخترت من الكتابين مسائلَ وافيةً بتصوير مجالس الغوري وتبيين آرائه وآراء العلماء والكبراء الذين كانوا يغشَون مجالسه؛ لتكون صفحات من تاريخ بلادنا في القرن العاشر الهجري.
(١) مدخل: السلطان الغوري
مكانة مصر بين الممالك الإسلامية أواخر عصر المماليك، وموقفها في تباشير العصور الحديثة بين الشرق والغرب، وصلاتها بدول أوروبا والدول الإسلامية؛ وخاصة دولة بني عثمان، وقوة أساطيلها في بحر الروم والبحر الأحمر إلى الهند، واحتلالها بعض سواحل الهند لتأمين التجارة، واصطدامها بأساطيل البرتغاليين في المحيط الهندي، ثم نظام السلطان في مصر إذ ذاك، وأحوال مصر العلمية والأدبية والاقتصادية — كل أولئك مجال واسع لبحث عويص مفيد ممتع ذي خطر في تاريخ مصر والبلاد العربية والإسلامية، وتاريخ العالم كله. وعسى أن يوفق مؤرخونا إلى درس هذه المسائل وبسطها؛ فهي جديرة بالدرس والبسط، وهي من الواجبات الأولى على المؤرخين المصريين.
(٢) مُلك الغوري
كان السلطان الغوري يدبِّر ملكًا واسعًا هو ملك مصر والأقطار التي تتبعها في أكثر العصور — الملك الذي ذكره أبو الطيب المتنبي وهو يمدح كافورًا الإخشيدي:
كانت مصر والشام وبلاد العرب، وبعض الجزيرة الفراتية، وبلاد العواصم، وهي القسم الجنوبي من آسيا الصغرى، في سلطان ملوك مصر في معظم العصور الإسلامية، وكانت كذلك أيام الغوري، وكان بنو رمضان الذين تسلطوا في أذنة وطرسوس وما يليهما يولَّون من قِبَل سلاطين مصر.
وبلغت الأساطيل المصرية سواحل الهند، وبنت عليها قلاعًا لحماية التجارة، وقد اجتهد الغوري زمنًا في الاحتفاظ بسلطان المصريين في تلك الأرجاء، على رغم البرتغاليين، وكان بعض أمراء الهند يستنجده على الفرنج فيرسل الأساطيل والجند في الحين بعد الحين.
وكان للغوري، ولسلاطين المماليك من قبله، الزعامة بين ملوك المسلمين؛ لتوليهم خدمة الحرمين الشريفين، ولمكان الخلافة العباسية في مصر، ومن يتتبع الرسائل التي كانت بين ملوك مصر وغيرهم من الملوك المسلمين، ويتعرف أحوال الأقطار الإسلامية في تلك العصور يعرف أن ملوك مصر لم يكونوا ينازَعون في هذه الزعامة. وحسب الباحث أن يقرأ الرسائل التي تراسل بها سلاطين آل عثمان ومماليك مصر. وكثير منها محفوظ في منشآت السلاطين التي جمعها فريدون بك في القرن الحادي عشر الهجري.
ولهذا نجد في تاريخ الغوري كثيرًا من أخبار الرسل أو القُصَّاد الذين كانوا يترددون بينه وبين الأقطار الإسلامية، وغير الإسلامية؛ نجد رسلًا من الهند وإيران والعراق ومن قِبَل السلاطين العثمانيين، وأمراء آسيا الصغرى، ومن بلاد السودان والحبش، ومن بلاد الكرج وأوروبا وجزر بحر الروم، وكثير من الأمراء المغلوبين على أمرهم كانوا يلجئون إلى مصر؛ ليستنجدوا سلاطينها، أو يقيموا فيها آمنين.
ولا أريد أن أبين هنا مكانة مصر وعلاقتها مع بلاد الشرق والغرب إذ ذاك؛ فإن من أصعب المباحث التاريخية وأوسعها وأكثرها إمتاعًا أن يُدرس التنافس بين الدول الإسلامية المتجاورة: الدولة المصرية، والدولة العثمانية، والدولة الصفوية، وموقف مصر بين جارتيها وبين الدول الأوروبية التي تنافسها في بحر الروم وبحر العرب إلى الهند، وتعرف الأسباب التي مكنت سليمًا من أن يهزم إسماعيل الصفوي وقانصوه الغوري، والأسباب التي أخَّرت الدول الإسلامية عامة عن منافسة الأوروبيين في مغامراتهم في بحار الشرق.
إن هذه المباحث وما يتصل بها ليست مما يتسع لتفصيله أو إجماله هذه المقدمة؛ وإنما ألمعت إلى هذه الحوادث؛ لأبين مكانة مصر وسلاطينها في ذلك العصر، وأبين العبء الذي اضطلع به الغوري في تدبير أمور مصر الداخلية والخارجية.
وسأذكر في الأوراق الآتية طرفًا من سيرة السلطان الغوري أجعله إيضاحًا وتكملة لما يستفاد من الكتابين اللذين أقدم لهما هذه المقدمة.
وعمدتي في هذا تاريخ ابن إياس المؤرخ المعاصر المدقق، وقد حرصت على أن أدعه يحدث القارئ بلغته، كلما أمكن هذا؛ لأن آراء ابن إياس ولغته وأسلوبه صور من تاريخ ذلكم العصر.
(٣) كيف تولى الغوري الملك؟١
تولى أمر مصر في أواخر القرن التاسع الهجري سلطان من أعظم سلاطين المماليك همة، وأحسنهم سياسة، وأكثرهم برًّا، هو الملك الأشرف قايت باي، ملك من سنة ٨٧٢ إلى سنة ٩٠١؛ فاستقرت به الأمور في مصر بعد الاضطراب الذي عقب وفاة الظاهر خوشقَدم.
وقد شغل زمنًا بمحاربة العثمانيين في عهد السلطان بايزيد الثاني ابن الفاتح وظفر عليهم في أكثر الوقائع، ولكنه صالحهم آخر الأمر سنة ٨٩٦ على أن يرد إليهم مدينتي أذنة وطرسوس.
ولا تزال آثار هذا السلطان الكبير ظاهرة في مصر والحجاز.
وتلا وفاة قايت باي عهد من الاضطراب تداول فيه أمر مصر وما يتبعها خمسة سلاطين: خلفه ابنه محمد، وخلع بعد ستة أشهر، ثم عاد إلى الملك بعد خمسة أشهر فملك ثمانية عشر شهرًا، ثم قتل سنة ٩٠٤، وتوالى بعده ثلاثة سلاطين في ثلاثين شهرًا.
فلما اختفى السلطان طومان باي؛ هربًا من المماليك، اجتمع رؤساء الدولة ليختاروا سلطانًا ينتهي بولايته هذا الاضطراب.
فلما طال المجلس انفضَّ العسكر من الرملة، ونزل غالب الأمراء الذين كانوا قد اجتمعوا في الحراقة بباب السلسلة، وكان يوم عيد الفطر، فاختار كل أحد عوده إلى داره حتى يقع اختيار الأمراء على من يولونه السلطنة، فأعرض غالب العسكر عن الأتابكي تاني بك الجمالي، ولم يرضَ به أحد منهم، وكان الأتابكي تاني بك الجمالي أرشل معكوس الحركات في أفعاله، وطاش لمَّا ذُكر للسلطنة، ثم آل أمره بعد ذلك إلى كل سوء، فلم تُقم له السلطنة، وكانت من نصيب قانصوه الغوري …
ثم أحضر إليه شعار السلطنة، وهي الجبة والعمامة السوداء فأفيض عليه ذلك، كل هذا وهو يمتنع ويبكي، فلقبوه بالملك الأشرف، وسما في علوه وأشرف، وكنوه بأبي النصر قانصوه الغوري، وبه صارت مصر مشرقة بالنوري، وقيل:
(٤) الغوري قبل السلطنة
الغوري جركسي من مملوكي السلطان قايت باي، أعتقه وولاه بعض الأعمال في حاشيته حتى جعل كاشفًا للوجه القبلي سنة ٨٨٦، ثم جعل أمير عشرة السنة التالية، ثم ولي بعض الولايات في الشام وما يتصل بها من بلاد العواصم، وما زال يتقلب في المناصب ويرتقي أيام محمد بن قايت باي ومن بعده حتى ملك طومان باي وهو بالشام والغوري في صحبته، فلما رجع إلى القاهرة ولي الغوري ما كان يليه هو من الأعمال: الدوادارية الكبرى والوزارة والأستادارية.
(٥) حليته وأخلاقه وطرف من سيرته
وكان فيما وصفه ابن إياس: «طويل القامة، غليظ الجسد، ذا كرش كبير، أبيض اللون، مدور الوجه، مشحَّم العينين، جهوري الصوت، مستدير اللحية، ولم يظهر بلحيته الشيب إلا قليلًا.
وكان يميل إلى الأبهة في ملابسه ومواكبه، كما كان ميَّالًا للتنعم، مولعًا بالفنون الجميلة.
قال ابن إياس: «وكان يلبس في أصابعه الخواتم الياقوت الأحمر والفيروز والزمرد والماس وعين الهر.
وكان مولعًا بشم الرائحة الطيبة من المسك والعود والبخور، وكان ترِفًا في مأكله ومشربه وملبسه، ويحب رؤية الأزهار والفواكه.
وكان مولعًا بغرس الأشجار، وحب الرياضات، وسماع الأطيار المغرِّدة، ونشق الأزاهر العطرة والبخور.
هذه صفات تدل على رقة الطبع، ودقة الإحساس، والولوع بالجمال، والاستمتاع بالعيش.
ومن كانت هذه صفاته يبعد أن يكون ظالمًا جبارًا سفاكًا للدماء، قاسيًا على الضعفاء.
ونحن نجد في تاريخ الغوري ما يصدق هذه الخلال، فأما كلفه بغرس الأشجار والأزهار واقتناء الطيور، وما يتصل بهذا من تشييد الأبنية وتجميلها فسيأتي بيانه.
(٦) حبه الموسيقى والغناء
وأما ولعه بسماع الموسيقى والغناء ومعرفته بهما؛ فقد اتفق على ذلك المؤرخون وشهدت به سيرته، فهو إذا أراد الاستراحة من عناء الملك خرج إلى مقياس الروضة أو قبة الأمير يشبك، التي في حدائق القبة الآن، وأحضر خواصه وبعض المغنين والعازفين، وكثيرًا ما كان يستصحب المطربين في أسفاره.
يقول ابن إياس في حوادث ذي الحجة سنة ٩١٥: «وفيه كان موكب العيد حافلًا، وأوكب السلطان على العادة، فلما انقضى يوم العيد نزل السلطان في اليوم الثاني من العيد، وتوجه إلى قبة الأمير يشبك الدوادار التي بالمطرية، وأقام هناك إلى بعد العصر، ووافق ذلك اليوم عيد النصارى وأول الخماسين، فانشرح هناك، ومد أسمطة حافلة، وحضر عنده جماعة من المغاني وأرباب الآلات، ورسم لبعض الأمراء العشرات بأن يرقص؛ فقام ورقص بين يدي السلطان فرسم له بمائة دينار.»
ويقول في حوادث المحرم سنة ٩١٨: «وفي يوم الأحد وهو يوم عاشوراء، نزل السلطان وتوجه إلى نحو المقياس، وجلس في القصر الذي أنشأه هناك، وكان معه جماعة من الأمراء، فأقام هناك إلى قريب المغرب وانشرح في ذلك اليوم إلى الغاية، ومد هناك أسمطة حافلة، وأحضر بين يديه مغاني وأرباب آلات، ثم إن شخصًا مضحكًا يقال له علي باي، الذي يعمل عفريتًا في المحمل، قام فرقص، ثم سحب الوالي كِرْتباي فرقَّصه، ثم سحب أمير آخور ثاني آقباي الطويل فرقَّصه، ثم سحب بركات بن موسى المحتسب فرقَّصه، ثم سحب عبد العظيم الصيرفي فرقَّصه، وكان جسيمًا؛ فضحك عليه السلطان، ونثروا بين يديه أشياء من أنواع الورد والزهر والفاكهة ومجامع الحلوى؛ فتخاطف ذلك المماليك، وابتهج في ذلك اليوم.»
وذكر الشريفي مترجم الشاهنامة عناية السلطان بالموسيقى، واستصحابه كبار الموسيقيين.
وللسلطان موشحات وألحان كان يغنَّى بها في عصره، سنذكر بعضها بعد.
(٧) ألعابه
وكان يلهو أحيانًا بنطاح الكباش والثيران.
يقول ابن إياس في حوادث ربيع الآخر سنة ٩١٢: «وفي يوم الثلاثاء خامسه، كان ختام ضرب الكرة بالميدان، فلما انتهى ذلك أحضر السلطان ثيرانًا وكباشًا يتناطحون قدامه.»
«وفي يوم الأربعاء ثامن رمضان نزل السلطان وتوجه إلى نحو المطعم بالريدانية، وجلس على المصطبة التي هناك، وأطلقوا قدَّامه الكلاب والصقورة والفهودة، وانشرح في ذلك اليوم، ثم عاد إلى القلعة من يومه.»
وكان السلطان مواظبًا على لعب الكرة في موسم معروف، وكذلك كانت عادة سلاطين المماليك وكثير من ملوك مصر والدول الإسلامية. نجد في حوادث كل سنة من تاريخ ابن إياس: «وفي يوم كذا بدأ السلطان بضرب الكرة، وفي يوم كذا كان ختم الضرب بالكرة.»
(٨) موائده
وأما احتفاله بالطعام وموائده؛ فيظهر من وصف مآدبه للسفراء ولأعيان مملكته، ومن مآدب أعيان الدولة له.
يقول ابن إياس في حوادث المحرم سنة ٩١٥: «ومن الوقائع اللطيفة أن في يوم الخميس ليلة الجمعة خامس عشره، نزل السلطان إلى الميدان، ونصب به خيمة كبيرة مدوَّرة، وملأ البحرة التي أنشأها هناك من ماء النيل، من المجراة التي أنشأها، ثم رسم بجمع كل ورد في القاهرة ووضعه في تلك البحرة، وجمع قرَّاء البلد قاطبة والوعاظ، وعلَّق أحمالًا بها قناديل، وفرش حول البحرة الفرش الفاخرة، وعزم على القضاة الأربعة، وسائر الأمراء من كبير وصغير، وأرباب الوظائف من المباشرين، وأعيان الناس قاطبة، وبات السلطان تلك الليلة بالميدان، وبات عنده الأتابكي قرقماس، وجماعة من الأمراء.
(٩) مواكبه وزينته
وكان الغوري يميل إلى الأبَّهة في زينته وموكبه على شدة حاجته إلى المال.
ووددت أن أمتع القارئ بوصف أحد المواكب بلغة ابن إياس لولا ضيق المجال، فليرجع من شاء إلى الجزء الخامس ص٢٧٦، ٤٢١.
ولكني لا أستطيع إغفال زينة من زينات الغوري، يرى القارئ في وصفها صورة من معيشة القاهرة في ذلك العصر: يقول ابن إياس في الحديث عن ذهاب السلطان إلى المقياس وإقامته هناك يومين في جمادى الآخرة سنة ٩١٨: «ثم إن السلطان أوقد في قاعة المقياس وقدة حافلة، باطنًا وظاهرًا، وعلَّق أحمالًا بقناديل في القصر الذي أنشأه هناك، وعلى شرفات المقياس قناديل في أحمال وأمشاط حتى أوقد جامع المقياس والمئذنة.
(١٠) عماراته
وأما كلفه بتشييد الأبنية والتأنق فيها؛ فتدل عليه آثاره القائمة اليوم، وما حدَّث التاريخ عن آثاره التي درست.
أنشأ الجامع والقبة والمكتب والسبيل التي في الغورية، وجامعًا عند القلعة، وبنى خان الخليلي، وخانًا وأحواضًا في طريق الحاج عند العقبة، ورباطًا ومارستانًا في مكة، وقصرًا عند المقياس في الروضة، وأنشأ الميدان عند القلعة، وأحواضًا وأبنية فيه.
وعمَّر قاعة البَيْسرية وقاعة العواميد والدُّهَيشة في القلعة، وأنشأ قناطرَ وأبنيةً أخرى.
فأما الجامع فلا يزال قائمًا بالغورية، ملتقى شارع الغورية (الذي سمي شارع المعز لدين الله)، وشارع الأزهر، وتحته السوق المعروفة باسم التربيعة.
وننقل هنا ما يروي ابن إياس في إتمام هذا الجامع والصلاة فيه أول مرة: «وفي ربيع الآخر (٩٠٩) في يوم الجمعة مستهله خُطب في جامع السلطان الذي أنشأه في الشرابشيين، وقد تم بناؤه وجاء في غاية الحسن والتزخرف، وصنع به مئذنة لها أربعة رءوس، وهو أول من اتخذ ذلك … فكان أول من خطب بهذا الجامع قاضي قضاة دمشق الشهاب أحمد بن فرفور الدمشقي الشافعي. فلبس السواد وخطب، وكان المرقي قدامه القاضي عبد القادر القصروي، وحضر في ذلك اليوم الخليفة المستمسك بالله يعقوب والقضاة الأربعة؛ وهم: برهان الدين بن أبي شريف الشافعي، وعبد البر بن الشحنة الحنفي، وبرهان الدين الدميري المالكي، والشهاب الشيشيني الحنبلي. وحضر غالب الأمراء المقدمين، وولد السلطان المقر الناصري، وأعيان المباشرين قاطبة، والجم الغفير من الأمراء العشرات والخاصكية، وأعيان الناس، وزينت الشرابشيين في ذلك اليوم، وكان يومًا مشهودًا، وأخلع السلطان في ذلك اليوم على قاضي القضاة عبد البر بن الشحنة؛ كونه حكم بصحة الخطبة في هذا الجامع، وأخلع على إينال شادِّ العمارة خلعة حافلة، وأنعم عليه بإمرة عشرة، وأخلع في ذلك اليوم على عدة من المهندسين والبنائين والمرخمين والنجارين وغير ذلك من أرباب الصنائع ممن كان بالجامع، وأنعم على الفعلاء لكل واحد بألف درهم.
وفي حوادث جمادى الآخرة سنة ٩١١ يقول ابن إياس: «وفيه مالت مئذنة جامع السلطان الذي أنشأه بالشرابشيين، فلما تشقَّقت وآلت إلى السقوط رسم بهدمها، وقد ثقلت من علوها؛ كون أنها بأربعة رءوس، فلما هدمت أعيدت على الصحة، وقد بني علوها بالطوب، وصنعوا عليه قاشاني أزرق.
وتجاه جامع الغوري يرى الآن بناء آخر يساميه ويشابهه فيه قبة الغوري وقاعة كبيرة للدرس، وسبيل وكتَّاب وحجرات قليلة، وتحت هذه الأبنية مخازن، ووراءها فناء به قبور بجانب الجدار القبلي، ويؤخذ من ابن إياس أن بعض زوجات السلطان وأولاده والسلطان طومان باي الأخير دفنوا هناك.»
وفي ابن إياس أخبار كثيرة عن أبنية الغوري، ومما قاله عن المدرسة: «ووقع للغوري أشياء غريبة لم تقع لغيره من الملوك؛ منها أنه نقل الآثار الشريف النبوي من مكانه الذي كان به المطل على بحر النيل فجعله في مدرسته حتى عد ذلك من النوادر.
وقد وقع للأشرف قانصوه الغوري في مدرسته من المحاسن ما لا وقع لأحد قبله من الملوك، وحاز فيها أشياء غريبة عزيزة الوجود.
ولما نقل الآثار الشريف والمصحف العثماني إلى مدرسة السلطان كان له يوم مشهود ونزل قدامه القضاة الأربع والأتابكي قيت، وجماعة من الأمراء المقدمين والفقراء أرباب الزوايا والأعلام وهم يذكرون …
ويقول في السبيل الذي يلاصق الخانقاه: «وبجانب الخانقاه سبيل كأن ماءه سلسبيل؛ يشرب الناس منه ليل نهار، وفيه خدام لا يغيبون نهارًا ولا ليلًا؛ فإذا غاب أحد السقاة أناب غيره.»
ويقول في المكتب الذي فوق السبيل: «وبنى فوق السبيل مكتبًا يقرأ فيه الأيتام إلى العصر، وفيه مؤدب يعلمهم ويربيهم.»
(١١) ولعه بالحدائق والأزهار
وأما ولعه بالحدائق والأزهار وإجراء المياه في الحدائق واتخاذ الأحواض والنافورات فيدل عليه ما فعل في ميدان القلعة.
وهذا الميدان وصفه الشاعر الشريفي، وذكره ابن إياس كثيرًا، يقول في حوادث جمادى الآخرة سنة ٩١٤: «وفيها كان انتهاء العمل من المجراة التي أنشأها السلطان كما تقدم فدارت هناك الدواليب وجرى الماء في المجراة حتى وصل إلى الميدان الذي تحت القلعة.
ثم إن السلطان صنع هناك سواقيَ نقالة، وبنى ثلاثة صهاريج تمتلئ من ماء النيل برسم المماليك الذين يلعبون الرمح في الميدان، وشرع في بناء بحرة في وسط ذلك البستان الذي أنشأه بالميدان فكان طول تلك البحرة نحوًا من أربعين ذراعًا، وقيل أكثر من ذلك، وبنى هناك عدة مقاعد ومناظر مطلات على ذلك البستان.»
وفي حوادث ذي الحجة سنة ٩١٥: «وفي هذه السنة أينعت الأشجار التي غرسها السلطان بالميدان وأخرجت ما شتله بها من الأزهار ما بين ورد وياسمين وبان وزنبق وسوسان وغير ذلك من الأزهار الغريبة. ولقد عاينت به وردًا أبيضَ ذكيَّ الرائحة وهو غير أنواع الورد التي بمصر، وقد نقل من الشام، وكان يَطرح في أوان الصيف والنيل في قوة الزيادة، وهو نوع غريب لم يوجد بمصر.
فكان السلطان يوضع له دكة كبيرة مطعمة بالعاج والأبنوس ويفرش فوقها مقعد مخمل بنطع، ويجلس عليه، وتظله فروع الياسمين، وتقف حوله المماليك الحسان بأيديهم المذبات ينشون عليه، ويعلق في الأشجار أقفاص فيها طيور مسموع ما بين هزارات ومطوق وبلابل وشحارير وقماري وفواخت وغير ذلك من طيور المسموع، ويطلق بين الأشجار دجاج حبش وبط صيني وحجل وغير ذلك من الطيور المختلفة — إلى أن يقول — وقد صار هذا الميدان جنة على الأرض.»
(١٢) تدينه وبره بالفقراء
كان الغوري دينًا محافظًا على فروض الدين، شديدًا على من يفرط فيها، وكان يعد من علماء الدين في مصر، كما يتبين فيما يأتي.
وكان كلما حزبه أمر أو حلت بالبلاد قارعة أو خُشي عليها نازلة فزع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى قراءة القرآن والحديث والدعاء، وكان البخاري يقرأ في رمضان ويحتفل بختمه في القلعة، وهي سنة قديمة.
يقول ابن إياس في حوادث رجب سنة ٩١٥: وفي رجب نادى السلطان بألا يتجاهر الناس بالمعاصي، ولا يمشى بسلاح بعد المغرب، وأن الناس يواظبوا على الصلوات الخمس في الجوامع.
وفي حوادث ذي الحجة سنة ٩١٥ أن النيل زاد في هاتور ثمانية أصابع فتضرر الناس، «فرسم السلطان للقضاة الأربع بأن يتوجهوا إلى المقياس، ويدعوا إلى الله تعالى في هبوطه، فتوجهوا هناك وباتوا بالمقياس، وقرأ السلطان تلك الليلة ختمة شريفة ومد أسمطة حافلة، فانهبط في تلك الليلة نحو من نصف ذراع، فعد ذلك من الوقائع الغريبة.»
وكان برًّا بالفقراء كثير الصدقات؛ أنشأ رباطًا ومارستانًا في مكة ورباطًا في مصر، وأجرى فيها الصدقات.
وكان يجب أن يتصدق على الفقراء بيده؛ نجد في ابن إياس مثل هذه الحوادث:
المحرم سنة ٩١٢: «وفيه في يوم عاشوراء أمر السلطان بأن تجمع الفقراء والحرافيش عند سلم المدرج فاجتمع هناك الجم الغفير من الفقراء والحرافيش ونزل السلطان بنفسه ووقف وهو راكب على فرسه تحت سلم المدرج، وصار يعطي لكل إنسان من الفقراء من رجل وامرأة وكبير وصغير أشرفي ذهب، فوقع الازدحام بين الفقراء حتى قتل منهم ثلاثة أنفار، من شدة ازدحامهم، فكان كما يقال في المعنى:
وقيل: إنه فرق في ذلك اليوم نحوًا من ثلاثة آلاف دينار فارتفعت الأصوات له بالدعاء، فلما رأى ازدحام الفقراء لم ينزل مرة أخرى ولم يفرق شيئًا، وكان قصده يفرق على الفقراء مرة أخرى.»
في رمضان سنة ٩١٥: «نزل السلطان إلى الميدان فوقف إليه جماعة من المغاربة نحو من سبعين إنسانًا ما بين رجال ونساء وقد قصدوا الحج في هذه السنة، فرسم لهم السلطان بأشرفي لكل واحد منهم ثمن بقسماط.»
(١٣) وفاؤه
وكان وفيًّا برًّا بأصحابه وأولياء نعمته؛ بقي طول عمره يذكر سيده قايتباي بالخير ويعظمه. قال ابن إياس في حوادث ذي القعدة سنة ٩١٥: «نزل السلطان وسيَّر وتوجه إلى نحو تربة الأشرف قايتباي فنزل عن فرسه ودخل وزار قبره وبكى هناك وتمرغ على قبره، وقرأ له الفاتحة ثم رسم للبوابين وللصوفية بمائة دينار.»
ونجد في موضع آخر حزنه على أحد رجال دولته وهو الأشرف قرقماس، يقول ابن إياس في وصف جنازته (رمضان سنة ٩١٦): «فلما وصل إلى سبيل المؤمني خرج السلطان من الميدان وهو راكب وأتى إلى سبيل المؤمني، فنزل عن فرسه ودخل للصلاة؛ فلما وضعوا نعشه بين يديه قبَّله وهو في النعش وبكى عليه بكاءً كثيرًا، فلما صلوا عليه حمل نعشه ومشى به خطوات حتى أخذوه منه الأمراء.»
(١٤) محاسن الغوري كما أجملها ابن إياس
(١٥) مساوئ الغوري
كان الغوري في حاجة إلى مال كثير ينفق منه على الجند؛ ليسكن ثوراتهم المتكررة، وليزود الجيوش التي يرسلها إلى أطراف المملكة وإلى الهند، كما يتفق في بناء الأساطيل، وكانت التجارة قد كسدت بما أخاف الفرنجة سُبل البحار، وفي صفحات ابن إياس أمثلة من الحادثات التي أكسدت التجارة في عهد الغوري؛ في حوادث المحرم سنة ٩٢٠: «وكان في تلك الأيام ديوان المفرد وديوان الدولة وديوان الخاص في غاية الانشحات والتعطيل، فإن بندر الإسكندرية خراب ولم تدخل إليه البضائع في السنة الخالية، وبندر جدة خراب بسبب تعبث الإفرنج على التجار في بحر الهند فلم تدخل المراكب بالبضائع إلى بندر جدة نحوًا من ست سنين، وكذلك جهة دمياط.»
ويقول في حوادث ذي الحجة من السنة عينها، أثناء الكلام في سفر السلطان الغوري إلى الإسكندرية: «ولم يكن بثغر الإسكندرية يومئذ أحد من أعيان التجار لا من المسلمين ولا من الفرنج، وكانت المدينة في غاية الخراب بسبب ظلم النائب وجور القبَّاض؛ فإنهم صاروا يأخذون من التجار العُشر عشرة أمثال؛ فامتنع تجار الفرنج والمغاربة من الدخول إلى الثغر؛ فتلاشى أمر المدينة وآل أمرها إلى الخراب حتى قيل: طلب الخبز بها فلم يوجد ولا الأكل، ووجد بها بعض دكاكين مفتحة والبقية خراب لم تفتح.»
لهذا اشتدت حاجة السلطان إلى المال واشتد حرصه على جمعه وكثرت مصادراته، وأسف فيها إلى درك لا يلائم همته وسيرته.
يقول ابن إياس في حوادث جمادى الأولى سنة ٩١٦: «وفي هذا الشهر كثرت مصادرات السلطان للمباشرين، حتى إنه صادر عرب اليسار الذين يسكنون تحت القلعة، وقرر عليهم مال له صورة وقال لهم: إنتو عملتو كيمان تراب تحت القلعة من عفشكم ما يشتال ولا بعشرة آلاف دينار، وجعل ذلك حجة عليهم.»
وكان المال وسيلة إلى المناصب حتى مناصب القضاء أحيانًا.
في حوادث ربيع الآخر سنة ٩١٠: «وفيه أخلع السلطان على شخص يقال له طراباي، وكان طراباي هذا ولي الأتابكية بحلب، ثم حضر إلى مصر وسعى في نيابة صفد بمال له صورة حتى تولاها.»
وفي ذي الحجة سنة ٩٠٦: «وفي يوم الخميس ثامن ذي الحجة عزل قاضي القضاة زين الدين زكريا الشافعي عن القضاء، وهذا كان آخر عزله وولايته، وقد كف بصره عقب ذلك.
فلما عزل زكريا سعى محيي الدين بن عبد القادر بن النقيب في عوده إلى القضاء، وقد أورد مال له صورة، فأخلع عليه، وأعيد إلى القضاء.»
وأكثر مساوئ الغوري ترجع إلى كثرة نفقاته وقلة دخله واضطراره إلى أخذ الأموال بكل الوسائل.
(١٦) مكانة الغوري من معارف عصره
لم تكن المعارف منتشرة مزدهرة في مصر في عصر الغوري، وإذا نظرنا إلى الأبحاث والمجادلات التي كانت في مجالس هذا السلطان، عرفنا ضيق الأفكار وقلة المعارف، والولع بسفاسف الأمور والقصور عن جلائلها.
ولكن ينبغي ألا نعد هذه المجالس مصورة معارف علماء مصر في ذلك العهد، فإن كبار العلماء كانوا يتورعون عن هذه المجالس؛ فقد عاش بمصر في عصر الغوري علماء كبار مثل جلال الدين السيوطي، والسخاوي، والقسطلاني، وزكريا الأنصاري، ولم تذكر أسماؤهم في هذه المجالس؛ بل القضاة الأربعة الذين يذكرون كثيرًا في شئون ذلك العصر، ولهم بالدولة والسلطان صلة مستمرة، قل أن يذكر أحدهم في مجالس الغوري.
ويتبين من تاريخ الغوري، ومن أقواله التي يتضمنها الكتابان: «نفائس المجالس» و«الكوكب الدري»، ومما كتبه الشريفي مترجم الشاهنامة، أن السلطان كان ذا حظ من العلوم الدينية: التوحيد والفقه والتفسير، مشاركًا في علوم العربية: النحو والبلاغة وغيرهما، وأنه كان مولعًا بقراءة كتب التاريخ والسير والقصص، وأنه كان ذا ملكة يتفهم بها الأدب وتزين له أن يشارك في النظم أحيانًا، وأنه كان مولعًا بالموسيقى والغناء، وكان له نظم وألحان يُتغنى بها، وأنه كان يعرف لغات عدة.
وعناية السلطان بالعلم والأدب ومشاركته فيهما، وولعه بمطالعة الكتب، مهَّدت السبيل لمبالغة المادحين، وتخيل الشعراء، يقول الشريفي في خاتمة الشاهنامة:
«ما تذكر كلمة من العلم والمعرفة إلا أنت محيط بها، وقد أوتي قلبك حظًّا من كل معرفة، كأن ضميرك اللوح المحفوظ.»
ويقول:
«لك يدٌ في كل فن، ولك مشاركة في كل موضوع، وكم مشكل لا تناله الأيدي حللته بإدراكك، الإنشاء والشعر والغزل والعلم والبحث والجدل، كل هذا نراها فيك بحرًا زاخرًا، لقد تحير الخلق فيك.»
فأما مشاركته في العلوم الدينية، فدليلها في صفحات الكتابين لا تخلو منه بضع صفحات متتابعة، ولست في حاجة إلى التمثيل هنا؛ فحسب القارئ أن يلقي نظرة على بعض الصفحات، وفي الشاهنامة مدح السلطان بمعرفة الفقه والتفسير، وأنه يديم مطالعة التفاسير.
«تقرأ في صحبته دومًا التواريخ والحكايات والأخبار.»
ويقول في سبب ترجمة الشاهنامة: إن السلطان كان مولعًا بالقراءة وعنده خزانة فيها ضروب الكتب، وكان فيها نسخة من كتاب الشاهنامة، فأمره بترجمتها إلى التركية إلخ.
وأما بصره بالشعر والغناء والموسيقى، وقدرته على المشاركة فيها؛ فقد أخبرنا بهما ابن إياس والشريفي مترجم الشاهنامة، ودل عليهما ما أثر من نظم السلطان وموشحاته.
«ما كان من فن فهو خبير به، قد هداه الله في كل أمر طريقًا، يجيد فن الشعر والمعمَّى، وله غزل مرغوب كالدر.
وقد قال في توحيد الباري ومدح النبي ما بلغ به الغاية.»
وبين أيدينا نماذج قليلة من نظمه، وعسى أن يهدي البحث إلى منظومات أخرى، وفيما يلي إجمال الكلام فيما لدينا من نظمه:
-
(١)
موشح ملمَّع أثبته صاحب كتاب نفائس المجالس في آخر الكتاب، وهو عشرة أبيات، أوله:
يا إلهي بن كنه كارأنت غفار الذنوبعيبمي يوزيمه أورمهأنت ستار العيوبقاموا إشلر ساكه معلومأنت علام الغيوببن فقيره قِل عنايتإنني أرجو رضاك -
(٢)
وقصيدتان وموشحان بالعربية وموشح تركي أثبتها الشيخ محمد راغب الطباخ في كتابه تاريخ حلب، من مجموعة من شعر الغوري عند بعض أدباء حلب.
القصيدة الأولى اثنان وعشرون بيتًا أولها:
بالملك أنعم ربنا الرحمنوهو الكريم المنعم المنانفله علينا الشكر حق واجبيقضيه قلب مخلص ولسانيذكر في هذه القصيدة أمراء دولته وجنده، ويدعو الله أن يؤلف قلوبهم، ويجمعهم حوله.
والقصيدة الثانية ثلاثة وعشرون بيتًا، أنشأها في نصف شعبان، وفيها حث على إحياء ليلة النصف، ودعاء له ولجنده ورعيته، وأولها:
لله في أيامنا نفحاتمن دهرنا تزكو بها الأوقاتفيها ألا فتعرَّضوا وتضرعوافيها، تجاب لكم بها الدعواتهذي مواسمهما لنا قد أقبلتودنا بموعدها لنا ميقاتوأحد الموشحين العربيين من نغم الحسيني، وهو عشرة أبيات، وأوله:
ربنا أدِمْ لنا نعمَاجدت لي بها كرمَافيضها حكى دِيَمَابالغمام مُنْهَلَّهْوالثاني كتب فوقه: «من نغمة المصرية علو محيَّر يهبط على عشاق العجم.»
وهو اثنا عشر بيتًا أولها:
جل من لنا وهباملك مصر واكتسباحيث سبَّب السببافي قديم علم اللهوالموشح الثاني ملمع بين العربية والتركية، وهو عشرة أبيات أولها:
كز لرم يا شينه رحم إيت يا رحيمسائلي رد ايلمز هركز كريمرب هب لي من لدنك رحمةتب علينا أنت تواب رحيمحق جمالن استرز، جنت ندر؟كورُنُر جنت بزه أنسز جحيم إلخ
(١٧) الغوري والشاهنامة
قدم إلى مصر أحد شعراء التركية في أواخر القرن التاسع الهجري وأوائل العاشر، وهو رجل عربي الأصل شريف النسب اسمه حسين بن حسن بن محمد الحسيني الآمدي، ولعله فر إليها؛ إذ كان من المقربين إلى الأمير جم ابن السلطان الفاتح، وبقي في مصر حتى توفي سنة ٩٢٠، ولا ندري متى قدم إلى مصر، ولكنا نعرف أنه اتصل بالسلطان أول سنة من ملكه، فأمره بترجمة كتاب الشاهنامة إلى اللغة التركية، فامتثل أمره، وأتمه في عشر سنين، آخرها سنة ست عشرة وتسعمائة.
وقد نظم الشاعر في مقدمة الشاهنامة فصلًا بين فيه أن السلطان كان مولعًا بقراءة التاريخ والقصص، وكان في خزانته كتاب الشاهنامة فأمره بترجمته إلى التركية، مع أن السلطان يعرف الفارسية.
ولا ريب أن السلطان أراد أن يقرن اسمه بهذا الكتاب الخالد، كما اقترن به اسم السلطان محمود الغزنوي، الذي قدم إليه الأصل الفارسي، وكما اقترن به اسم الملك المعظم الأيوبي الذي أمر بترجمته إلى العربية.
في مقدمة الكتاب وخاتمته نحو ألف بيت، يبدأ المؤلف بالتحميد ومدح الرسول والخلفاء، على سنة شعراء الفرس والترك، ثم يذكر سيرة مماليك مصر منذ سنة ٨٧٠ﻫ؛ يذكر قايتباي والملوك الذين خلفوه في فترة الاضطراب التي بينه وبين الغوري، ثم يفيض في مدح السلطان، ثم يبين سبب نظم الكتاب، ثم يشرع في ترجمة الشاهنامة، وفي الخاتمة يمدح السلطان ويبين أنه نظم الكتاب باسمه وأتمه في دولته، ويتكلم عن أخلاق السلطان وسياسته وشغفه بالعلم والأدب، ومعرفته لغات كثيرة، ومشاركته في الإنشاء والشعر، ونظمه في توحيد الله ومدح الرسول، وإلمامه بالموسيقى، ونظمه موشحًا للغناء، وولعه بقراءة التواريخ إلخ … ثم يصف مجلس السلطان واجتماع العلماء فيه لمذاكرة العلم، ويذكر المغنين والموسيقيين الذين يطربون السلطان في مجالسه.
ثم ينتقل إلى وصف عمارات السلطان وصفًا مفصلًا، فيعدد تسعًا منها.
والخلاصة أن في مقدمة الكتاب وخاتمته ما يكشف عن بعض تاريخ الغوري، ولا سيما الجانب الأدبي منه، ويبين طرفًا من تاريخ مصر، بعد حساب المبالغات الشعرية.
(١٨) مجالس السلطان الغوري
يقول الشريفي، ناظم الشاهنامة باللغة التركية، في مقدمة الكتاب:
«ما أجمل مجلسك أيها السلطان، إنه يشبه الجنة، كل شيء مهيأ في هذا المجلس، إنه في الحقيقة منبع العلوم، ومجمع الأفاضل بلا ريب، مجلس تيسر فيه المشاكل، أي مجلس هذا؟ إنه حديقة وبستان، تقال فيها العبارات بكل اللغات، وتسير على قانونه الرموز والإشارات.»
كان للسلطان مجالس تجمع العلماء والكبراء، وتطرح فيها للبحث مسائل شتى.
وقد سجلت كثيرًا من مسائل هذه المجالس في كتابين يصوران تصويرًا حسنًا كثيرًا من أحوال مصر في عهد السلطان الغوري:
-
(١)
كتاب نفائس المجالس السلطانية، في حقائق الأسرار القرآنية: ألفه حسين بن محمد الحسيني، وهو شريف كما يؤخذ من اسمه ومن عبارات في ثنايا الكتاب، ويظهر أنه ساح في إيران والبلاد الشرقية، وهو يعرف التركية فقد نظم بيتين بالتركية في رثاء ابن السلطان الغوري، وروى من شعر حسين بيقرا.٣٧ وفد على مصر فأقام عشرة أشهر شهد فيها مجالس السلطان الغوري، وجمع في كتابه هذا بعض المباحث التي كان السلطان والعلماء يتكلمون فيها.
والعجمة ظاهرة في كتابته حتى اسم الكتاب؛ فقد سماه «نفايس مجالس السلطانية في حقائق أسرار القرآنية»، فحذف اللام من المجالس والأسرار.
والنسخة التي بأيدينا هي النسخة التي كتبت للسلطان وأهديت إليه.
وقد جعل المؤلف كتابه في مقدمة وعشر روضات، والمقدمة قصيرة تتضمن كلام بعض السلاطين ومنهم الغوري، والروضات العشر يذكر في كل واحدة منها مجالس السلطان في شهر، وكانت المجالس تجتمع في كل أسبوع مرة أو اثنتين أو ثلاثًا.
وأولها مجالس رمضان سنة عشر وتسعمائة، وأول مجلس منها يوم الخميس الثالث والعشرين من الشهر، وآخرها مجالس رجب، فهي عشر روضات في أحد عشر شهرًا؛ لأن السلطان لم يجلس في شهر ذي القعدة؛ لوفاة ولده محمد.
والمؤلف يصف كل مجلس وتاريخه ومدته، ويذكر الإمام الذي يحضر المجلس وكبار الحاضرين، ثم يذكر المسائل التي طرحت للبحث في المجلس.
يبدأ السلطان أكثر الأحيان بسؤال يجيب عنه أحد الحاضرين فيرتضي السلطان جوابه أو يناقشه، وأحيانًا يبدأ أحد الحاضرين الكلام، وأكثر المسائل دينية وبعضها تاريخية ومنها ألغاز في موضوعات شتى، وقصص عن الملوك وغيرهم.
وأحيانًا يصف محافل السلطان، يصف، مثلًا، إحياء السلطان المولد النبوي، ويذكر طوائف الناس الذين اجتمعوا، وما فعلوا في هذا المحفل، ويبين كيف جلس السلطان ليلًا، وكيف يتقدم إليه كبار الدولة وينشد كل منهم شعرًا في مدحه، وكيف يقابلهم السلطان، وقد ذكر أن الخليفة يعقوب المستمسك بالله خليفة مصر تقدم «وباس الأرض كفرض العين وعين الفرض»، وأنشده:
إن الخلافة ثوب قد خصصت بهإذا لبست فلم يفضل ولم يعزما أودع الله في أحداقنا بصرًاإلا لنفرق بين الدر والخرز٣٨وكذلك يمر القارئ بمسائل ذات خطر في التاريخ والسياسة إذ ذاك كقول السلطان: «الجركس من الغساسنة فهم عرب.» وكالبحث في شروط الإمامة في مجلس السلطان وقول مؤلف الكتاب: فإن لم يوجد من يستوفي الشروط من ولد إسماعيل جاز أن يُوَلى واحد من العجم أو من ولد إسحاق، وقوله بعد هذا: الحمد لله والمنة، والجركس من ولد إسحاق، وجميع هذه الشرائط موجودة في السلطان الأعظم.٣٩بل نجد في الكتاب بحثًا صريحًا في نيابة الغوري عن الخليفة العباسي، وهل هذه النيابة لازمة لصحة أحكامه في الأمور الشرعية، ويشتد الخلاف بين المؤلف وأحد العلماء في هذه المسألة، فيحقر المؤلف الخليفة ويعظم السلطان، ثم يذهب يستفتي العلماء ويأخذ خطوطهم بأن نيابة السلطان عن الخليفة غير لازمة.٤٠ويرى القارئ أحيانًا اهتمام السلطان بتعليم المماليك وإحضارهم من حين إلى آخر إلى مجلسه، ليقرءوا أمامه ويمتحنهم.٤١هكذا يجد القارئ في الكتاب مسائلَ مهمةً لا يظفر بها في كتب التاريخ، ويرى صورًا من آراء السلطان وعلماء عصره، ويتبين مقدار اطلاعهم ومدى تفكيرهم.
-
(٢)
والكتاب الثاني اسمه الكوكب الدري في مسائل الغوري: وهو يحتوي على ألفي مسألة وأجوبتها من المسائل التي وقع البحث فيها في مجالس السلطان الغوري أيضًا، ولدينا الجزء الأول من الكتاب وفيه ألف مسألة في ٣٣٨ صفحة، والنسخة مكتوبة في عهد الغوري، ويظهر أنها نسخة المؤلف، وعليها خطوط ثلاثة من علماء وقته المعروفين يشهدون بأنهم اطلعوا على الكتاب، منهم عبد البر بن الشحنة قاضي قضاة الحنفية، وبعض هذه الخطوط مؤرخ بالسنة التي تم فيها كتابة هذا الجزء.
ويقول المؤلف في آخر الكتاب: «وكان الفراغ منه في مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع عشر وتسعمائة.»
وفي مقدمة هذا الكتاب شبه بمقدمة الكتاب الأول، وبعض عباراتهما واحدة، وبين تاريخهما زهاء عشر سنين.
وفي الكتابين مسائل مشتركة مثل سؤال نكاح الشبهة، والإكراه على سب النبي.٤٢وهذا الكتاب ليس مقسمًا على المجالس كالكتاب السابق، بل المسائل فيه متتابعة بغير فصل، والمطلع على الكتاب يرى صورًا من أفكار علماء مصر وأمرائها في ذلك العصر؛ يرى إلى المسائل الدينية — وهي معظم الكتاب — مسائل تاريخية، وجغرافية، ويرى انتقال الحديث من تفسير آية أو حديث إلى السؤال عمن بنى الأهرام، أو عن زرقة السماء،٤٣ أو السؤال عن كيومرث أول ملوك الشاهنامة أكان قبل نوح أو بعده،٤٤ أو عن شهر المحرم لماذا جعل أول التاريخ الهجري، أو هل الأرض أفضل أم السماء؟! ويجد القارئ في الحين بعد الحين فكاهة من السلطان أو نادرة، ويعرض في المجالس ذكر الملوك المعاصرين والأمراء الذين وفدوا على السلطان كأبناء بايزيد وسليم، ويرى بعض المسائل الدينية التي سألها هؤلاء الأمراء وجواب السلطان أو بعض علمائه.لا ريب أن هذا الكتاب، على تفاهة معظم المسائل التي يدور عليها البحث، يصور بعض النواحي الفكرية والاجتماعية في مصر والعالم الإسلامي في ذلك العصر.