مجالس السلطان الغوري: صفحات من تاريخ مصر في القرن العاشر الهجري

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الروضة السادسة في مجالس ربيع الأول

(١) المجلس الأول

طلعت يوم السبت ثاني ربيع الأول وقعدوا في المقعد عشرين درجة، ووقع فيه لغز ومسائل:

اللغز الأول: 
وآكلة بغير فم وبطنٍ
لها الأشجار والحيوان قوتُ
إذا أطعمتها نعشت وعاشت
وإن أسقيتها ماء تموتُ

قال: هو النار.

السؤال الأول: قال مولانا السلطان: لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، فلأي حكمة ما بيَّن حقيقة الروح في جواب: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ؟

الجواب: قال الشيخ برهان الدين بن أبي شريف: اليهود قصدوا تعجيز النبي وتغليطه؛ فسألوا عن مشترك بين المعاني، وقصدوا أنه مهما يقل لهم النبي يقولوا في الجواب: ما قصدنا هذا المعنى. وأما اشتراك الروح فإنه قد يطلق ويراد به جبرائيل وقد يطلق ويراد به عيسى أو الملَك، وقد يطلق ويراد به قوة في الحيوانات وهي مبدأ الحس والحركة، فقال الله تعالى في جوابهم شيئًا يصلح لجميع هذه المعاني.

الجواب الثاني: قال مولانا السلطان بعد قراءتنا الفاتحة: جواب آخر: وهو أن يقول الله: ما ينفعكم معرفة حقيقة الروح؛ لأنه لا يتعلق به أحكام الشريعة، والأولى لكم معرفة مسائل يتوقف عليها التكليف.

(٢) من المجلس الثاني

طلعت يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الأول وهذه الليلة كانت ليلة كسر النيل، وفي تلك السنة أوفى البحر عشرين ذراعًا وعشرة أصابع، ووقع في تلك الليلة ألغاز، والمماليك الصغار في تلك الليلة قرءوا قدام مولانا السلطان.

قال ابن النحاس: كنت في خدمة قاضي كاتب السر فقال لي: تعال إليَّ تفرج كسر النيل، وأنا ما رضيت؛ لأن مولانا السلطان هو البحر الكبير، وبحر النيل بحر الكسر في هذه الليلة، وهذا البحر له جبر الخواطر.

قال مولانا السلطان:

اللغز الأول: أي شيء تلف محض بلا نفع؟ عجزوا عن الجواب فقرأنا الفاتحة.
الجواب: قال مولانا السلطان: تودير١ المصريين في هذه الليلة.
اللغز الثاني: 
وطائرة أمست عديمة أربع
عظام ولحم والدماء وريش
فيؤكل منها البعض والبعض طائر
ويحرق منها البعض وهي تعيش؟

قال: هو النحل.

اللغز الرابع: 
ما اسم شيء قد غدا نزهة
للنفس، محبوب لدى الأزمنه
وإن ترد تصحيف مقلوبه
تجده شهرًا من شهور السنه
قال: هو البحر.٢

المناسب لهذا المجلس

قيل لإسكندر: إن في عسكر داراب الملك ثلاثمائة ألف رجل. فقال إسكندر في الجواب: بكثرة الغنم لا تخوِّفوا القصَّاب.

قيل لأنوشروان: إن في عسكر سلطان الحبوش والسودان أربعمائة ألف رجل. فقال أنوشروان لهم: لا تخافوا؛ لأن النار القليل تفني الحطب الكثير.

المناسب لهذا المجلس

أنه سئل أفلاطون: ما علة ملوحة البحر؟

فقال لهم: بينوا لي فائدة العلم بهذا حتى أبين لكم علته.

وتوقيعه من كلام سيد الأنام عليه السلام أنه قال: من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه.

الخاتمة

قال إسكندر: ينبغي للعاقل أن يكون مع سلطانه كراكب سفينة البحر؛ إن سلم جسمه من الغرق لم يسلم قلبه من الخوف.

(٣) من المجلس الثالث

طلعت نهار الخميس سابع شهر ربيع الأول، وقعدوا في المقعد ثلاثين درجة، ووقع فيه المسائل ولغز:

اللغز الأول: 
ألا خذ وعد موسى مرتين
وضع أصل الطبايع تحت ذين
وركب بيت شطرنج فخذها
فركبها٣ خلال الموعدين
فذاك اسم لمن يهواه قلبي
وقلب جميع من في الخافقين

الجواب: قال مولانا السلطان: وعد موسى أربعين وهو بحساب الجمل ميم، وأصل الطبايع أربعة وهي دال، وبيت الشطرنج ثمانية وهي الحاء، والمجموع هو اسم محمد، وهو حبيب قلوب من في الخافقين.

المناسب لهذا المجلس

أنه قال الشيخ الرباني علاء الدولة السمناني قدس الله روحه، وكتب في وصيته: إذا دخل الكافر أيضًا في زاويتي فأطعموه؛ لأن كل من يستحق عند الله التشريف بجوهر الروح اللطيف، فهو يستحق عندنا أيضًا قرص الرغيف.

وتوقيع هذا: أكرموا الضيف ولو كان كافرًا.

الخاتمة

قال المأمون لأمرائه: عليكم بأهل السخاوة والشجاعة، فإنهم من أهل حسن الظن بالله تعالى، ومنع الجود سوء الظن بالمعبود.

إنعام حضرة السلطان

نزَّلني في المدرسة الغورية وأعطاني وظيفة التصوف فيها، اللهم كما سلمت بيده زمام الدين، وجعلته من أفضل الملوك والسلاطين، شرِّف مسامع مجامع المسلمين، بصيت فتحه المبين، يا رب العالمين، آمين.

واقعة

في يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأول دخل في القاهرة مفخر الأمراء والأكابر، صاحب المناقب والمآثر، الواثق بالملك الحي، أمير سيباي، وشرف بتقبيل العتبة العلية، الغورية، شيد الله أركان قواعدها.

(٤) من المجلس الرابع

طلعت يوم السبت تاسع ربيع الأول وقعدوا في الأشرفية عشر درجات، ووقع فيها المسائل والألغاز.

اللغز الأول: 
مولاي شمس الدين يا رب الحجا
ما اسم ثلاثي له وجه يسر
لم يبق لي في العشق لو ما قلبه
صحف وذق إن لم يكن حلوًا «فمر»

قال: هو القمر.

اللغز الثاني: 
أتى بلغز ثلاثي يعجزني
وظن ذلك بحرًا لست أسلكه
وقال فسره شمس الدين قلت له
مولاي لغزك ليس الشمس تدركه٤

قال: هو القمر.

مولد السيد الأعظم

الليل لما عسعس، والصبح حين تنفس، خرج سلطان ممالك الأفلاك من خيمته الأزرق،٥ وهربت منه جيوش حبوش الليل الغسق، ونزل عساكر أنواره على وجه الأرض، واستولى على جميع الممالك بالطول والعرض، أمر السلطان الأعظم، والخاقان المعظم، سليمان الزمان، إسكندر الدوَران، وارث ملك يوسف الصديق، خليفة الحق٦ بالحق والتحقيق، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري خلد الله تعالى ملكه وسلطانه، وأفاض على العالمين بره وإحسانه — رب كما جعلت شموس معدلته رافعة لظلام الظلم عن كافة الأنام في العالم، اجعل خيام بقائه مشيدة بأوتاد الأبد، وأطناب الدوام المؤبد، بجاه محمد، يا واحد يا أحد — أمر٧ بضرب خيمته الزرقاء، على فرش مسطَّح الغبراء، التي كان الفلك الأطلس يتمنى أن يكون من سقوف قبابها، وترتجي النجوم والكواكب أن تكون من مسامير أبوابها، ما كانت الكواكب في تلك الليلة ظاهرة، بل كانت عيون الملائكة من الملأ الأعلى لأجل تفرُّجها ناظرة، وبواسطة هذه الخيمة السلطانية صارت السموات السبع ثمانية، وكأن أشارت سماء الدنيا بأنملة الأهلة إلى الملِك، وقالت: هل رأيتم مثل هذا الفلك؟ والشمس والقمر يدوران حولها ويرميان روحهما من المنافذ حتى يتفرجا المجلس العالي، وفلك القمر فتح أعين الكواكب الثواقب، حتى ينظر وجوه الأكابر والأهالي.

ثم سلطان الحرمين الشريفين، في يوم الاثنين، عمل مولد سيد الكونين، ورسول الثقلين، وسلطان قاب قوسين.

وكان هذا اليوم مصداق: ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ؛ لأنه يوم معراجه ووفاته، ويوم المولود.٨

وكان هذا اليوم موكب عظيم، لا فيه لغو ولا تأثيم، وفي هذا اليوم اكتسبت السماء من الأرض استفاضة النور، وهذا الخبر عند أهل الأثر معروف ومشهور.

وكان مولانا السلطان في الخيمة كالشمس في وسط سماء الدولة، أو بدر كامل في فلك أطلس السعادة، في طرفيه اثنا عشر منزلًا، وفي كل منزل مقام مقدَّم ألف، وهو كقمر كامل بلا نقصان، أو بدر لامع بلا خسران، فأمر حضرة مولانا السلطان بإحضار السادات العظام، والعلماء الأعلام، وقضاة الإسلام، والأمراء الكرام، ووزراء الأنام، ووجوه الناس من المباشرين والحكام، والصلحاء والفقراء والمشايخ والزهاد، والعباد من جميع البلاد، والفقهاء والفضلاء والمدرسين، وأجواق القراء والحفاظ والمؤذنين، من العرب والعجم، والترك والديلم.

ومد سُمُطًا عجيبة كبيرة، مع أطعمة غريبة كثيرة، بحيث لا يقدر لسان الإنسان على ذكر بيانه، أو كأن: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا نازل في شأنه، أو نزلت مائدة من السما، على جميع من في الدنيا.

لما فرغوا من الطعام، وقرءوا كلام الملك العلام، وذكروا مولد سيد الأنام، عليه السلام، بالكمال والتمام، ألبس أعظم سلاطين الإسلام الخلع على الجميع، من الشريف والوضيع، وصار الحوش من مآثر الأولياء، وميامن بركات الأتقياء، ومن كثرة ازدحام الخلق، شبيهًا بموقف عرفات، بل بعرصة العرصات.٩
وأنعم عليهم إنعامات بلا غاية، وإحسانات بلا نهاية، (درر الكواكب، لو ما كانوا متوهمين أن يبخششهم مثل الليالي، على الأهالي الأعالي، لكانوا منتظمين في خزينته العامرة، والشمس والقمر، لولا كان خوف أن يفرقهم بدل النقدين، بوجه إنعامات القراء، لكانا منسلكين في ذخيرة القاهرة، الدر والدري، خافا من جوده فتحصنا بالبحر والأفلاك.)١٠
وأنا كنت قاعدًا في الدُهَيشة، في دهشة عجيبة من مشاهدات الرايات السلطانية، ومطالعات غرائب الألطاف السبحانية؛ لأني رأيت مجلسًا لا عين رأت، وسمعت مولدًا لا أذن سمعت، فخطر ببالي ما لم يخطر ببال أحد، وهو أنه يمكن بحسب تخيلات الشعر، وموجب تصرفات الفكر، تشبيه هذا اليوم بيوم الجزا، وتشبيه هذه النعمة بنعمة تُجزى، وتشبيه الخيمة الزرقاء بسماء يوم الدين، وتشبيه قرب شمسه بقرب سلطان السلاطين، ولله المثل الأعلى في السموات والأرض، سبحانه منزه عن الشِّبه والنظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، ثم بعد الفراغ من المولد، وكان قريب وقت المغرب، جاء أسْود الليل الغاسق، بزي السراق العائق، فسرق زر الذهب، من جيب الفلك الأطلس المذهب، فانهزم عسكر الروم من جيش الحبش،١١ وصار عين الفلك من هذا الهم أعمش، فنوروا القناديل والشموع، من أول الليل إلى وقت الطلوع.

وفي تلك الليلة، كان وجه الأرض أنور من السما، من كثرة الشموع والثريا؛ لأن شمس فلك السعادة من برج الإقبال كانت فيها طالعة، وكواكب عساكره المنصورة من مدارج الجاه والجلال لامعة.

ثم قام مقدمو الألف، وجاءوا كالملَك صفًّا على صف، بالطول والعرض، كلهم باسوا الأرض، فقدم عليهم أكبر أولاد قريش، ووارث المملكة والجيش، ابن عم النبي العربي، الهاشمي المطَّلبي، أمير المؤمنين يعقوب المستمسك بالله، خليفة مصر، باس الأرض، كفرض العين وعين الفرض، وقال الخليفة:

إن الخلافة ثوب قد خصصت به١٢
إذا لبست فلم يفضُل ولم يعزِ
ما أودع الله في أحداقنا بصرًا
إلا لنفرق بين الدر والخرز

فميزه مولانا السلطان بجبر الخاطر، وفضله على جميع الأفاضل والأكابر.

ثم جاء من أصحاب اليمين، ذو التمكين، أتابك العساكر المنصورة، في أعظم بلاد المعمورة، صاحب الرأي والتدبير، الأمير الكبير، وباس الأرض، كأداء الفرض، وفتح اللسان١٣ بمدح مولانا السلطان، وقال الأمير الكبير:
إن الفضائل في الدنيا مشتَّتة
وما جُمعن مرورَ الدهر في فِقَرِ
لكنهن بحمد الله قد جمعت١٤
أشتاتها عندكم في أحسن الصورِ

قال حضرة مولانا السلطان: الحمد لله الذي جعل شكره سببًا للمزيد، وأجرى من ينابيع القلوب إلى مجاري الألسنة زُلال الشكر والتحميد.

ثم جبر خاطره بتحسينات وافرة؛ وتعريفات متكاثرة، بحيث تنفس أمير قُرقماش شمائم روائح جبر الخاطر، ونسيم امتيازه على البادي والحاضر.

ثم جاء خلاصة الأمراء والأخيار، وحاكم البلدان والأمصار، الواثق برحمة الملك الحي، الأمير سيباي، باس الأرض وقال هذا النظم:

الحمد لله على كل حال
قد ذهب الهجر وجاء الوصالْ
وصلتُ من لم ينله المنى
وكنت أرضى بطواف الخيالْ

ثم حضرة مولانا السلطان جبر خاطره، فزين باطنه وظاهره، ثم جاء الأمير عالي القدر، أمين الملوك والسلاطين، مقبول الخلائق أجمعين، حافظ الأسلحة والأرماح، محب أهل الصلاح أمير السلاح، باس الأرض وقال هذا الشعر:

يا من أعاد رميم الملك منشورًا
وضم بالعدل شملًا كان منشورا
لا زال قاليك بالمنشار منشورًا
وصدر واليك للزوار منشورا

فامتازه مولانا السلطان، بجبر الخاطر بين الأعيان.

ثم جاء الأمير رفيع المقدار، مغيث المظلوم عند الاضطرار، مهندس قواعد المملكة والمؤسس، وأمير المجلس، باس الأرض وفتح اللسان، بثناء مولانا السلطان وقال:

جنابك فردوس جرى من خلاله
كياس أياديك العزيزة كوثر
سأشكرها ما دمت حيًّا وإن مت
فإن رميم العظم في اللحد يشكر

فجبر خاطره، وزين ظاهره.

ثم جاء الأمير الأعظم الأكرم عماد الدولة، وناظر أمور المملكة، الواثق بالملك القدير، أمير آخور الكبير، باس الأرض وقال هذا النظم:

توجَّهَ وفدُ الفتح والنصر حيثما
توجه في عين الإله لواؤه
وكل مكان مسَّ حافر خيله
تخلص من داء الفناء فِناؤه

فجبر مولانا السلطان خاطره.

وبسبب هذا انشرح صدره، وازداد قدره.

ثم جاء الأمير الأشجع، الأرفع، حامي شرع أحمد المختار، المؤيَّد بتأييد الملك الغفار، أمير دوادار، باس الأرض وقال هذا الشعر:

ولو أن البحار لنا مداد
ودجلة والفرات وكل وادي
ونَبت الأرض أقلامًا جميعًا
نخط بها إلى يوم التنادي
إذن أستطع إحصاء ما بي
من الشكر المدخَّر في فؤادي

فامتازه حضرة مولانا السلطان، من بين الأقران، بتحسينات لائقة، وتمديحات شائقة.

(بعده) ثم جاء الأمير الأعظم، الأكرم، حافظ أبواب الملوك والسلاطين، مقرب أمير المؤمنين، صاحب العز والرفعة، نائب القلعة، باس الأرض وقال أمير طقطباي:
بقيت مدى الأفلاك ملكُك راسخ
وظلك ممدود وبابك عامر
يردُّ سناك البدرَ والبدرُ زاهر
ويقفو نداك البحرُ والبحر زاخر

فجبر خاطره حضرة مولانا السلطان، فامتازه من بين الأقران.

(بعده) ثم جاء الأمير الواقف، العارف، خلاصة الأمراء والأعيان، مقرَّب حضرة السلطان، زين الحجَّاج، أمير الحاج، باس الأرض وقال الشعر:
أيا كعبة الآمال وجهك حجتي
وعمرة نسكي إنني فيك والع
بمزدلفات في طريق غرامكم
عوائق من دون اللقاء قواطع

فامتازه بتحسينات لطيفة، وتمديحات شريفة.

(بعده) ثم جاء تاج رأس أرباب العمائم، ورأس تاج أركان الأعاظم، سلالة الأكابر في العالم، صاحب السيف والقلم، مفتاح أبواب البر، ومصباح مشكاة الخير، كاتم سر حضرة الإله، وكاتب سر ظل الله، صاحب الرياستين، ناظر الديوانين، المختص بعناية الملك الودود، القاضي محب الملة والشريعة والحقيقة، والتقوى والفتوى والدين، محمود، صانه الله تعالى من شر كل حسود، وضر كل حقود، وكان جميع أكابر الأعاظم، وجمهور أرباب العمائم، في حوالي المخدوم العالي القدر، كالهالة حول البدر في ليلة القدر، ووقف في موقف العرض، وباس الأرض، وفتح اللسان، بمحامد مولانا السلطان، وقال القاضي:
سجاياك من طيب أعراقها
تُباري النجوم بإشراقها
وما للعفاة غياث سواك
كأنك ضامن أرزاقها

قال حضرة مولانا السلطان: الحمد لله الذي فضلنا على عباده، وخصصنا بتشبث أهل وداده، فجاء له جبر الخاطر من سلطان السلاطين، ما لم يؤتَ أحدٌ من العالمين.

(بعده) ثم جاء قضاة الإسلام، والعلماء العظام، الذين هم خلاصة أمة محمد، وأساس بناء دين أحمد، فحركوا ألسنتهم بالثناء، وفتحوا الأيادي بالدعاء، ثم فتح اللسان، بثناء مولانا السلطان، قاضي القضاة الشافعي الذي هو كان صاحب الرفعة، وخطيب القلعة، وقال شعرًا:
ففي كل عضو فيَّ كل صبابة
إليكم وشكر جاذب لزمامي
أصلِّي فأشدو حين أتلو بشكركم
وأطرب في المحراب وهو أمامي

فباسوا الأرض، ثم حضرة مولانا السلطان كان كالصبح الصادق على وجوه الوجوه متبسِّمًا، وهم برياح أنفاسه الشريفة متنسِّمًا.

(بعده) ثم جاء المخدوم المعظم، زين الوزراء في العالم، أسعد أولاد عثمان ذي النورين، وناظر جيش سلطان الحرمين الشريفين، آصف العهد والزمان، أشرف ذرية عثمان بن عفان، المختص بعناية الملك القاهر، القاضي عبد القادر؛ باس الأرض، وأمر١٥ بخطيب اللسان، بثناء مولانا السلطان، وقال: نظم:
وإنك لَلمولى الذي بك أقتدي
وإنك لَلنجم الذي بك أهتدي
وأنت الذي بلَّغتني كل رتبة
مشيتُ إليها فوق أعناق حُسَّدي

فامتازه بجبر الخاطر بين الأعيان، حضرة مولانا السلطان.

(بعده) ثم جاء أعظم الوزراء والمباشرين، مفخر الأمناء والمعتمدين، مقرَّب سلطان السلاطين، صاحب العز والاختصاص، القاضي ناظر الخاص، وباس الأرض بالصدق والإخلاص، وقال: نظم:
اشكر مآثره ولسن مآثرًا
لكنهن قلائد الأعناق
والثم أنامله ولسن أناملًا
لكنهن مفاتح الأرزاق

فامتاز حضرة السلطان القاضي ناظر الخاص، من بين الخواص.

(بعده) ثم جاءت العساكر المنصورة حزبًا بعد حزب، وفوجًا بعد فوج، كلجي البحر في الموج، بعدِّ أقطار الأمطار، وأوراق الأشجار، من أمراء الألوف الأربعينيات، والخاصكيات والعشروات، الذين عجز بنان البيان عن إظهار شمائلهم، ولا يقدر لسان الإنسان على بيان فضائلهم، جاءوا بأدعية وافرة، وأثنية متكاثرة، فجبر خاطرهم، بقدر مراتبهم.
وأيضًا: ثم بعد العشاء أمر حضرة مولانا السلطان أولاد الرقاع، بالسماع؛ فلبسوا خرقة واسعة الأكمام والذيل، ورقصوا إلى نصف الليل، لما وصل غُلغُلة١٦ الرقص بمسامع الملك، فرقص معهم سكان صوامع الفلك، ولبس شيخ الفلك١٧ بزيهم خرقة المرقع الأزرق، وتشدد بشد الأحمر من الشفق، ورقص معهم، ودار حولهم، حتى طلع النهار، بأمر فاطر الليل والنهار.

لما فرغوا من السماع، قُرب طلوع الشمس والارتفاع، اجتمعت المشايخ والعلماء والفقهاء، والزهاد والعباد والفقراء، وقالوا: اللهم أيد دولة هذا السلطان الأعظم، وشيد أركان معدلة الخاقان المعظم، واجعل راياته مرفوعة فوق خيمة الفلك الزرقاء، وأحكامه نافذة إلى أصقاع بقاع الغبراء، بحق محمد عين أعيان الإنسان، وآله وصحبه أصحاب الشهود والعيان.

(٥) من المجلس الخامس

طلعت نهار الثلاثاء ثاني عشر شهر ربيع الأول وقعدوا في صُفَّة الدُّهَيشة خمسًا وعشرين درجة، ووقع فيه المسائل والألغاز.

اللغز الأول: 
ما اسم شيء حسن شكله
تلقاه عند الناس مخزونا
تراه معدودًا فإن زدته
واوًا ونونًا صار «موزونًا»

قال: هو الموز.

اللغز الثاني: 
ما اسم شيء طاب أكلًا
ناعم في الحلق لين
كيف يخفى عنك هذا
وهو في التصحيف «بين»
قال: هو التين.١٨

(٦) من المجلس السادس

طلعت يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الأول، وقعدوا في الأشرفية ثلاثين درجة، وخسف القمر، ووقع فيه مسائل:

السؤال الأول: قال مولانا السلطان: ما الحكمة في الكسوف والخسوف؟

الجواب: قلت: هما آيتان من آيات الله، كما ورد في السنة.

الجواب الثاني: قيل: سبب الخسوف حيلولة الأرض بينه وبين الشمس، والقمر مظلم، فبقي القمر بلونه الأصلي أسود.
قلت: هذا مخالف لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا.
السؤال الثاني: قال: ما الفرق بين الضوء والنور؟

الجواب: قال مولانا السلطان: الضوء هو النور الغالب القاهر المحرق بخلاف النور، فإنه يطلق على غير المحسوس أيضًا كنور القلب ونور الإيمان، دون الضياء.

السؤال الرابع: قال مولانا السلطان: لأي حكمة وقت الخسوف يضربون الطاسات؟

الجواب: قلت: لأن المنجمين حكموا بخسوف القمر في ليلة معينة عند هُلاكو خان، وكان الخان منتظرًا لتفرُّجه، ولما انخسف القمر كان هلاكو خان نائمًا، فعمل المنجمون حيلة لأجل استنباهه ودقوا الكاسات وقالوا: دق الكاسات عند الخسوف واجب. ثم بعد ذلك صار هذا بدعة في الدنيا.

(٧) من المجلس التاسع

طلعت يوم السبت سلخ ربيع الأول، وقعدوا في الأشرفية ثلاثين درجة، وكان الإمام الشيخ عبد الرزاق، ووقع فيه المسائل والألغاز:

اللغز الأول: 
أتعرف طائرًا في الأرض يُلفى
وفي جو السماء مع الجواري
به عجب لأن الرأس حوت
وآخره ترى ذنب الحمار؟

قال: هو النسر.

اللغز الثاني: 
لي جمع أصحاب أعشقهم وأهواهم
ولا أشتهي قط أنظرهم ولا راهم
أقسم بما خلقهم ثم سواهم
ما طاب لي عيش في الدنيا برؤياهم

قال: هو الأسنان.

اللغز الثالث: 
وذات ذؤابة تنجرُّ طولًا
تراها في المجيء وفي الذهاب
وما لبست مدى الأيام ثوبًا
وتكسو الناس أنواع الثياب؟

قال: هو الإبرة.

درة

قرأ مولانا السلطان لروح صاحب العقائق سورة الفاتحة ثلاث مرات.

خاتمة

قال إسكندر: أفضل الملوك من بقي بالعدل ذكره، واستملى من بعده فضائله.

والحمد لله والمنة أن هاتين الصفتين موجودتان في السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، حاكم بسيط الأرض، بالطول والعرض، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، عزيز مصر، الملك الأشرف أبي النصر، قانصوه الغوري، اللهم اجعل شجرة رجائه مثمرة المراد، وأظهر صورة عدله في مرايا قلوب العباد.

١  يقال في اللغة العامية المصرية: ودَّره، أي أتلفه أو أهلهكه.
٢  يعني إذا قلبت كلمة بحر وصحفت فهي: «رجب».
٣  في الأصل: فكسبها.
٤  إشارة إلى الآية الكريمة: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ.
٥  يريد خيمته الزرقاء، وسلطان ممالك الأفلاك: الشمس.
٦  الحق: الله تعالى.
٧  يعني السلطان الغوري.
٨  المولود: المولد، وهي بهذه الصيغة في اللغة الفارسية والتركية والأوردية.
٩  أظنه يعني المحشر.
١٠  أبقيت الأسطر التي بين القوسين بغير إصلاح؛ ليرى القارئ مثلًا من إنشاء المؤلف حين يتكلف.
١١  كناية عن إقبال الليل.
١٢  أظنه بفتح التاء خطابًا للسلطان.
١٣  هذه ترجمة العبارة الفارسية: زبان كشاد، وفي الكتاب كثير منها.
١٤  في الأصل: لكنها بحمد الله قد اجتمعت. وأظنها من تحريف المؤلف.
١٥  أمر: بمعنى قال، وهي ترجمة فرمود بالفارسية أو بيوردي بالتركية، والأمر في هاتين اللغتين يوضع موضع الفعل للتعظيم.
١٦  غلغل وغلغلة تستعملان في الفارسية بمعنى الضوضاء.
١٧  أظنها ترجمة «بير فلك» الفارسية وهي كناية عن زُحَل.
١٨  يعني أن «تين» تصحَّف إلى «بيِّن».