مقدمة
(١) من «الفناء والبقاء» إلى «العقل والنقل»
-
(أ)
جاء «من الفناء إلى البقاء» في جزأين؛ الأول «الوعي الموضوعي» والثاني «الوعي الذاتي». وهي نفس قسمة «من النص إلى الواقع» في جزأين؛ الأول «تكوين النص»، والثاني «بنية النص». ويبدو أن قصر الوقت بين العملَين لم يُتِح الفرصة للتغير والنسيان والبداية الجذرية الجديدة. وربما أن «التكوين» و«البنية» قسمةٌ منهجيةٌ صرفة لا شأن لها بعملٍ معين، أصول الفقه أو التصوف، أو بطول المدة وقصرها بين العملَين. فالأشياء إما متحولة أو ثابتة، تاريخًا أو بنية، والوحي كذلك يتطور من أول مرحلة حتى آخرها ثم يثبت في آخر مرحلة، وإذا كان ذلك ينطبق على العلوم العقلية النقلية الأربعة، الكلام والفلسفة وأصول الفقه والتصوف فإنه لا ينطبق على العلوم النقلية الخالصة. فلم تنقسم علوم القرآن هذه القسمة وإن بقيت قسمةً ثلاثية في الأبواب. ومع ذلك هناك تشابه غير مباشر بين القسمة إلى تكوين وبنية، وبين الموضوع والذات. فالتكوين هو الموضوع، والبنية هي الذات. وقد يمكن ذلك في القسمة الثلاثية في «علوم القرآن»: الحوامل الموضوعية، الحوامل الموضوعية الذاتية، الحوامل الذاتية.
-
(ب)
خرج «الوعي الموضوعي» استعراضًا وعرضًا وتحليلًا لأسماء كتب الصوفية مرتبةً طبقًا لأشكالها الأدبية التي تعبر في نفس الوقت عن أبعاد الوعي الموضوعي. أولًا: الوعي التاريخي، والوعي التاريخي الخالص، والوعي الموضوعي الخالص. ثانيًا: الوعي النظري؛ تطور الوعي النظري من المعرفة إلى الوجود، تقنين المصطلح، مناهج التفسير، الأشكال الأدبية، تأثير البنية، الشروح، الملخَّصات. ثالثًا: الوعي العملي؛ العودة إلى التاريخ، العودة إلى علم الكلام، العودة إلى العلوم النقلية علوم الحديث والسيرة، الاغتراب في المعجزة والخرافة، المناقب والكرامات، الطريق والطريقة والشيخ والمريد والمجتمع المثالي. رابعًا: الوعي العلمي وهو البُعد الوحيد الذي تجاوز تصنيف الأعمال إلى تصنيف الموضوعات بداية بمقاييس التصنيف وعلوم الذوق وعلوم التصوف، ومع ذلك جاء العرض وكأنه أقرب إلى الفهارس العامة وشبكات المعلومات، خاليًا من أي إبداع في الأبعاد الثلاثة الأولى للوعى الموضوعي؛ الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي، وهي نفس أبعاد الوعي في «بنية النص» في علم أصول الفقه.٢
كان الهدف هو تفكيك النص الصوفي القديم، وضياع رهبته وقدسيته ببيان تركيبه كصنعة، وبنيته كرؤية لإفساح المجال لنصٍّ صوفيٍّ جديد، «من الفناء إلى البقاء». الهدف نبيل إلا أن الوسيلة كانت مدرسيةً مكتبيةً «أرشيفية»؛ مما يصيب القارئ بالملل نظرًا لغياب الرؤية الكلية التي في عنوان الباب وأقسامه.
ومع ذلك كانت الفائدة جمة من أجل إعادة الوعي بالنص الصوفي، شكله الأدبي وتطوره. وإذا سقط نصٌّ هنا أو هناك فإنه لا ينفي الشكل الأدبي ومراحله نظرًا لكثرة النصوص. فالنصوص وقائعُ متتالية، تاريخ يكشف عن بنيةٍ ممكن أن تستكمل التاريخ وتكتشف مواطن نقصه.
-
(جـ)
وفي الجزء الثاني «الوعي الذاتي» يظهر نقد القدماء مبينًا أثناء العرض طبقًا لآليات التخفِّي. لم تكن هناك ضرورة لذلك نظرًا لأن التصوف ليس عقيدة. وهو نفسه متهم بالخروج عليها كما وُجِّه إليه النقد في الحركات الإصلاحية خاصة محمد إقبال.٣ لذلك صعب التمييز بين الجديد والقديم بعد أن توارى الجديد في ثنايا القديم على نحوٍ طبيعي. تكفي الولادة دون نمو الجنين حتى لا يترك الناس الأم ويجهضوا الجنين. فالأم هي الأساس. ويمكن أن تلد أكثر من مرة حتى لو تم إجهاض الجنين الأول.
كانت طريقة عرض مادة القدماء تركها تتحدث بنفسها عن نفسها من خلال التعريفات الكثيرة للتصوف وموضوعاته. أولًا: التصوف الخلقي، الفقه والأخلاق، الفضائل والرذائل. وثانيًا: التصوف النفسي، النفس وأنواعها، المقامات والأحوال والتوحيد ومستوياته. وثالثًا: التصوف الفلسفي والإنسان الكامل والحقيقة المحمدية، النبوة والمعاد. ورابعًا، التصوف العملي، الطريق والوحدة والطريقة. غلب فيها القديم على الجديد، والتعريفات القديمة على التأويلات الجديدة؛ فغاب الهدف من «تثوير» التصوف، ولم يتم التعرف على كيفية التحول من «الفناء» إلى «البقاء» كما يصرح العنوان، ولم يظهرا إلا كحالَين أو مقامَين في فصل المقامات والأحوال في التصوف النفسي. ربما كان السبب تقديس القديم وتعظيم القدماء والتواضع أمامهم أكثر من إبراز الجديد والاعتزاز به لدرجة الغرور عند بعض المجدِّدين، وإبراز الذات على حساب الموضوع.
-
(د)
تاه الجديد في الحضور الطاغي للقديم، وأصبح من الصعب العثور عليه إلا بعد تفتيش وتدقيق وقراءة ما بين السطور. ربما فرض ذلك طبيعة الدراسات التكوينية التي يهمُّها رجُّ القديم وهزُّه ونفضه من الغبار الذي تراكم عليه عبر السنين. وجلاء المرآة في حد ذاته عملٌ جديد أفضل من صنع مرآةٍ أخرى لا تعكس إلا صورها. ومن كثرة ضغط القديم على الجديد، وضغط الرحم على الوليد حدث في النهاية ضيقٌ شديد لدرجة الاختناق. كان الحل هو الانتظار حتى ينتهي «من الفناء إلى البقاء» دون العودة إلى طريقته في العرض، وأساليبه في التخفِّي. ربما كان السبب أن المؤلف نفسه من القدماء، خارجًا من بين القبور، بالرغم مما يبدو عليه في مقاصده من التوجه نحو الجديد كما تدل عليه أجزاء مشروع «التراث والتجديد» وعناوينها «من … إلى». فالأم هي الأصل. والوليد هو الفرع. ربما لأن المؤلف، باعتباره كائنًا تراثيًّا، ماضوي الروح، سلفي النزعة كما يتهمه العلمانيون، ربما كانت روح الحضارة الإسلامية كلها ما زالت متجهة إلى الماضي؛ نظرًا لأزمات العصر وانسداد التاريخ، ربما توقفه كليةً وانقسام الأمة إلى غالبيةٍ سلفية وأقليةٍ علمانية، وكلما زاد انسداد الحاضر وانعدام المستقبل اشتدَّ التوجه نحو الماضي الذي تجد فيه الأمة هويتها وسبب انتصارها، والحافظ لها من الاندثار.
-
(هـ)
حدث نوع من التكرار نظرًا لعشرات التعريفات للموضوع الواحد وإيثار عرضها كلها، قصدها واحد وصياغاتها وفروعها متعددة، لم يُنسَب كل قول لصاحبه إلا أحيانًا في الهوامش حتى يبقى الموضوع مستقلًّا عن صاحبه، وأحيانًا يوضع التعريف بنصِّه وقصده، وأحيانًا تُعاد صياغته بعبارةٍ شارحة أطول أو أقصر حتى يسهل توليد الجديد منها. فغلبت تعريفات القدماء وتكررت حتى أجهضت الموضوعات وغلَّفتها بعشرات من الصياغات. وفي نفس الوقت غابت التحليلات الذاتية، ووصف التجارب الشعورية، وهو منهج الصوفية، طريق الذوق. فبدأ التصوف نصوصًا وتعريفات وصياغات يفهمها القارئ بعقله ويتوه فيها لكثرته أكثر منها تجارب وحقائق يشعر بها شعورًا مباشرًا ويدركها بحدسه.
العلم هو ما يخطر بالذهن، والخواطر جزء من تحليلات النفس عند الصوفية، ولكن ضاع في خضم المعلومات. كان الأولى الإبقاء على الخواطر ذاتها، والمعلومات معروفة، وإبراز الجديد وتواري القديم، ووضعه بصياغاته ونصوصه بين معقوفتَين في الهوامش فصلًا بين الجديد والقديم، الجديد أعلى الصفحة والقديم أسفلها. وبهذه الطريقة يُفصل الوليد عن الأم بعد ولادته في غرفتَين منفصلتَين أو يظهر الوليد بالتبنِّي لغياب عملية الولادة.
حدث تكرار بين أبواب الجزأين. فأبواب الجزء الأول ثلاثة: الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي، وزاد رابعًا: الوعي العلمي. وأبواب الجزء الثاني: التصوف الخلقي، التصوف النفسي، التصوف الفلسفي، التصوف العملي. فالوعي التاريخي يقابل التصوف الخلقي لأن التصوف في مرحلته الأولى كان علم أخلاق. والوعي النظري يعادل التصوف الفلسفي، والوعي العملي يشبه التصوف العملي. ودخل التصوف النفسي في الوعي النظري، كما دخل الوعي العملي في التصوف العملي. ويبدو أن تسلط البنية على الموضوع جعلها تفرض نفسها عليه، وهو نوع من «الهيجلية» السائدة. نظرًا لغلبة المنهج على الموضوع.
-
(و)
عنوان الجزأين واحد «الوعي»، مرة الوعي الموضوعي أي التصوف كتاريخ، ومرة الوعي الذاتي أي التصوف كتجربة. فالوعي أحد ركائز الإصلاح. ومشروع «التراث والتجديد» هو أحد مشاريع الإصلاح الثاني بعد نهاية الإصلاح الأول بأجياله الخمسة.٤
الغاية إعادة بناء التراث القديم على بؤرةٍ جديدة هي الوعي الفردي والجمعي تحولًا من «الثيولوجيا» إلى «الأنثروبولوجيا» لبداية مرحلةٍ جديدة في الحضارة الإسلامية بعد مرحلتَيها السابقتَين؛ عصر الازدهار في القرون السبعة الأولى حتى ابن خلدون، والمرحلة الثانية مرحلة الشروح والملخَّصات والموسوعات في القرون السبعة التالية لابن خلدون، وبداية المرحلة الثالثة في القرن الخامس عشر لإكمال حركتَي الإصلاح والنهضة في القرنَين الأخيرَين. وتشبه بداية العصور الحديثة في القرن السابع عشر في الغرب عند ديكارت وبيكون وما سبقها من إصلاح في القرن الخامس عشر ونهضة في القرن السادس عشر.
وقد تكرر أيضًا لفظ «النص» في «من النص إلى الواقع» في جزأيه؛ الأول «تكوين النص»، والثاني «بنية النص». وقد أمكن تلافي ذلك في «من النقل إلى العقل» في أجزائه الخمسة: «علوم القرآن»، «علوم الحديث»، «علوم التفسير»، «علوم السيرة»، «علم الفقه». بالرغم من أن كل جزء له هدف أيضًا وهو الانتقال من مرحلة إلى أخرى كما حدث في «علم الكلام» في «من العقيدة إلى الثورة». «فعلوم القرآن» «من المحمول إلى الحامل» أو من اللغة والبلاغة إلى العلوم الإنسانية، و«علوم الحديث» «من نقد السند إلى نقد المتن». و«علوم التفسير» «من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي (العرضي)». و«علوم السيرة» «من الشخص إلى المبدأ» أو «من الرسول إلى الرسالة». و«علم الفقه» «من فقه العبادات إلى فقه المعاملات» أو «من الفقه الشرعي إلى الفقه الطبيعي» أو «من فقه الأحكام إلى فقه الوجود».٥ -
(ز)
استمر منهج تحليل المضمون المستخدم في «من النقل إلى الإبداع». كان الهدف هو معرفة اتجاه النص نحو النقل أم نحو الإبداع، نحو اليونان أم نحو القرآن عن طريق تحليل عناصره ومكوِّناته دحضًا لشبهة النقل عن اليونان.٦ واستمر المنهج في «من الفناء إلى البقاء» لإثبات أن المصدر الأول في التصوف هو المصدر الداخلي للكتاب والسنة وباقي العلوم الإسلامية بالإضافة إلى ظروف العصر، وغياب المصدر الخارجي كليةً باستثناء مراتٍ نادرة يُشار فيها إلى سقراط أو أفلاطون في النصوص المتأخرة. وقد لا يحب ذلك من لا يُقدِّر المناهج الإحصائية، مع أنها مناهجُ مضبوطة وأدلةٌ حسية على صدق الافتراض النظري. وبقي قليل منه في «من النص إلى الواقع» والأقل في «علوم القرآن» باستثناء المكوِّنات العامة لمصنفاته الرئيسية مثل «البرهان» للزركشي و«الإتقان» للسيوطي. واستُعيض عنه بمنهج إعادة قراءة النص القديم وإعادة بنائه طبقًا لظروف العصر وتحدياته الرئيسية.
-
(ﺣ)
ما زالت المحاولات تتسم بالضخامة في عدة أجزاء، على الأقل في جزأين وليس تسعة مثل «من النقل إلى الإبداع» أو في خمسة مثل «من العقيدة إلى الثورة». أو في جزأين مثل «من النص إلى الواقع». كان من الصعب ضغط «من الفناء إلى البقاء» في أقل من جزأين، الأول «الوعي الموضوعي» عن التصوف التاريخي، والثاني «الوعي الذاتي» عن التصوف كطريق. الأول عن تاريخ النص الصوفي وأشكاله الأدبية، والثاني عن التجربة الذوقية الصوفية.
وفي هذه المرة «من النقل إلى العقل»، بدأ المران على الضغط؛ فلم يعد في عمر الكاتب الكثير للكتابات المطوَّلة، ولم يعد وقت القارئ الكثير ليقرأ المجلدات أمام ضغوط الحياة وسرعة الحصول على المعرفة من شبكات المعلومات والكتيبات الصغيرة والمجلات والصحف. فالنية ألا يتعدى كل علم من العلوم الخمسة جزءًا واحدًا. حتى ولو كان ضخمًا. فهو أفضل من جزأين أو خمسة أو تسعة. ومع ذلك ما زال مشروع «التراث والتجديد» يغلب عليه الضخامة. فهذا الجزء «من النقل إلى العقل» في النهاية خمسة أجزاء. وما يشفع ذلك أن كل علم جزءٌ واحد. وقد يكون السبب اللاشعوري في ذلك أن المؤلف من القدماء خارج من ثنايا القبور، يحمل عبق التاريخ.
(٢) العلوم النقلية
بعد أن أُعيد بناء العلوم النقلية العقلية الأربعة، علم الكلام في «من العقيدة إلى الثورة»، علوم الحكمة في «من النقل إلى الإبداع»، علم أصول الفقه في «من النص إلى الواقع»، علوم التصوف في «من الفناء إلى البقاء»؛ جاء دور العلوم النقلية الخالصة. وهي خمسة: القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. تركها القدماء دون إعمال العقل فيها لأنها كانت في مرحلة التجميع والرواية والتدوين. وضع القدماء أسسها بناءً على معطيات عصرهم. ولم يُطوِّرها أحد بعدهم، قدماءَ أو محدثين باستثناء بعض الفرقعات الحديثة من بعض مدعي التجديد أثر مقالات بعض المستشرقين عن تاريخية القرآن، ووضع الحديث، وذاتية التفسير، والنيل من حياة الرسول الشخصية، والقطيعة من الشريعة والفقه القديم.
والعلوم النقلية هي أكثر العلوم أثرًا في الثقافة الشعبية والموجودة بوفرة في المكتبات العامة والخاصة وفي المساجد والمعاهد الدينية، والمتوافرة بطبعاتٍ عدة في معظم العواصم العربية بأزهى الألوان، وأجمل الإخراج، وأفخر أنواع التجليد، في عدة مجلدات. وتكتب العنوان على مكعبات الأجزاء كلها بالخط المذهَّب. يوحي ذلك كله بدرجة التقديس لهذه العلوم والهالة التي تحيط بها. علم أصول الدين نخبوي، أحجمت العامة عنه لإبعادها عن المعترك السياسي كما فعل الغزالي في «إلجام العوام عن علم الكلام». وعلوم الحكمة علومٌ نخبويةٌ متهمة في مصادرها اليونانية والفارسية، وفي مناهجها العقلية البرهانية، وفي نتائجها «إنكار وجود الله وخلق العالم وحشر الأجساد». وعلم أصول الفقه علمٌ نخبوي للسادة الفقهاء. إنما علوم التصوف خاصة بمقاماتها وأحوالها وتحوُّلها إلى أمثالٍ عامية عن الصبر والرضا والقناعة والزهد والتوكل؛ تحولت إلى ثقافةٍ شعبية للناس في حياتهم اليومية وفي حلقات الذكر والطرق الصوفية. أما العلوم النقلية فهي العلوم الشعبية التي يستمد منها الخطباء والوعاظ أحاديثهم، وهي التي يصعب إعمال العقل فيها، بل تحولت إلى علومٍ مقدسةٍ موروثة لا يجوز للخلف أن يغير فيما وضعه السلف شيئًا.
والعنوان «من النقل إلى العقل» دالٌّ على مضمون الأجزاء الخمسة، إعمال العقل فيما تركه القدماء للنقل وحده، وجعل هذه العلوم الخمسة: القرآن والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه، علومًا واقعيةً خالصة كما تحوَّلت العلوم العقلية النقلية الأربعة التي تمت إعادة بنائها من قبلُ إلى علومٍ عقليةٍ واقعيةٍ خالصة أخذًا بالتدرج في مهام الأجيال حتى يتعود الناس على إعمال النظر فيها.
«من النقل إلى العقل» هو العنوان الجامع لهذه العلوم الخمسة. وكان من الصعب وضع عنوانٍ آخر لكل جزءٍ يدل على هذا المسار «من … إلى». كان يكفي «علوم القرآن»، «علم الحديث»، «علم التفسير»، «علم السيرة»، «علم الفقه». القرآن وحده هو «علوم» بالجمع؛ لاعتماده على علوم اللغة والتفسير والفقه وأصول الفقه. في حين أن باقي العلوم «علمٌ» واحد؛ الرواية في علم الحديث، وفهم القرآن في علم التفسير، وحياة الرسول في علم السيرة، والشريعة في علم الفقه. كما أن كسر الرتابة في العناوين أقرب إلى التجديد الداخلي، وحتى لا يتساءل أحد القراء: «تاني من … إلى». وبالتالي تنتهي النمطية من حيث الشكل وإن لم تنتهِ الغاية والقصد. ومع ذلك فرض العنوان «من … إلى» نفسه على العلوم النقلية الخمسة كعناوينَ فرعية.
ويقسم الحفاظ إلى طبقات طبقًا لمدى قربها من النبوة، الصحابة والتابعون، وتابعو التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ويقسم التابعون إلى طبقاتٍ كبرى ووسطى وصغرى طبقًا لقربهم من طبقة الصحابة، وتجمع الطبقة بين العلم والسلوك. وفيها تتفاضل الطبقات. تخلو حياة العلماء من حوادثَ دالةٍ أثرت عليهم أو تجاربَ حية مرُّوا بها وكأن الحفاظ مجرد آلات تسجيل أو أوعية للتخزين والحفظ، تفيد في التاريخ ومعرفة المؤلفين وأسماء مؤلفاتهم وتواريخ وفاتهم، وتدل على احترام القدماء وضرورة الأخذ عنهم وربما تقليدهم.
والغاية التأصيل النظري أكثر من إعطاء الأمثلة من الآيات والأحاديث حتى لا يتحول العلم إلى أمثلةٍ تطبيقية كما يفعل الأزهريون. فالغاية تحويل العلوم النقلية إلى علومٍ عقلية يتم حولها الحوار، والعلوم النصية إلى علومٍ فلسفية.
(٣) علوم القرآن
وتكثر الشواهد الشعرية بعد الآيات القرآنية؛ فالشعر ديوان العرب، والقرآن نزل بلغة العرب، وكثير من الاختلافات في التفسير يمكن حلها بالعودة إلى الشواهد الشعرية. ويمكن دراسة التعبيرات الشعرية في القرآن وبيان كيفية استعماله لها لأن الشعر أسبق. والمسافة بين القرآن والشعر ليست كبيرة، فالشعر قرآن لأنه من نفس النوع البلاغي، والقرآن شعر لأنه حُمل عليه. الإبداع الشعري مثل الإبداع القرآني إعجازٌ أدبي يثير الخيال؛ لذلك كان تفسير القرآن بالشعر ضمانًا لغويًّا. ولا يُفسَّر الشعر بالقرآن لأن الشعر أسبق، الشعر حامل والقرآن محمول. لذلك عقدت فصول في الإعجاز لمقارنة أساليب البلاغة في القرآن والشعر.
وتعتمد علوم القرآن على مصدرَين؛ الأول: الروايات الشفاهية، والثاني: النصوص المدونة. وكلاهما مصدران نقليان.
وإذا ظهرت دلالةٌ فقصيرة، والأمثلة عليها كثيرة، الدلالة واحدة وتذكر عليها كل الأمثلة؛ مما جعل علوم القرآن ثبتًا بالآيات وإعادة تبويب لها طبقًا لموضوعات العلم، أشبه بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن طبقًا لكلماته، وفي وقت لم تكن دُوِّنت فيه المعاجم بعدُ.
وهناك قدرة على إبداع المصطلحات ووضع المناهج وتأسيس العلوم بعيدًا عن الوافد. بعضها مستمَدٌّ من علومٍ أخرى خاصة مثل علوم اللغة والبلاغة.
وعلوم القرآن هي علومٌ تجميعية من علوم اللغة والنحو والبلاغة، معظم أبوابها وفصولها في اللغة؛ فاللغة هي الحامل الأول للوحي قبل الزمان والمكان؛ لذلك هي «علوم» بالجمع مثل «علوم» التصوف و«علوم» الحكمة وليست علمًا بالمفرد مثل «علم أصول الدين» و«علم أصول الفقه». هي علومٌ موسوعيةٌ شاملة ظهرت في عصرٍ متأخر استطاعت تجميع العلوم السابقة عليها، وتعتمد على مئات من الاقتباسات مع علامة «انتهى».
والعلم الثالث هو علم أصول الفقه الذي يعتمد بدوره على علم الحديث في الرواية وعلى علوم اللغة في مباحث الألفاظ، وعلى الفقه في المقاصد والأحكام. فعلم اللغة هو المصدر المشترك بين علم أصول الفقه وعلوم القرآن. ويدخل الفقه في علوم القرآن في معرفة الأحكام الشرعية.
ولا تعتمد علوم القرآن على علم السيرة لأن الرسول مجرد مُبلِّغ للوحي وليس موضوعًا بشخصه كما حدث في علم السيرة، وفي الحقيقة المحمدية في التصوف النظري المتأخر ولدى الطرق الصوفية في الدين الشعبي. ونادرًا ما تظهر علوم التصوف أو علوم الحكمة لأن القرآن علمٌ نقلي في حين أن التصوف تجربةٌ ذوقية، وعلوم الحكمة علومٌ عقلية.
ولما كانت علوم القرآن علومًا داخليةً محضة لبيان حوامل الوحي اللغوية والأدبية والمكانية والزمانية والاجتماعية والثقافية فإن علوم الحكمة التي تعتمد على تفاعل الداخل والخارج لم تكن بذي فائدة ولو أنه تظهر إشارات بين الحين والآخر إلى إخوان الصفا أي إلى ممثلي علوم الحكمة في الداخل وليس إلى سقراط أو أفلاطون أو أرسطو.
وعلوم القرآن ليست علومًا مقدسة بل تُبين الحوامل اللغوية والثقافية والاجتماعية والزمانية والمكانية للوحي. الوحي المقدس هو العلم الإلهي وحده قبل التدوين. ومنذ تدوينه في اللوح المحفوظ، بصرف النظر عن لغته، أصبح مدوَّنًا في اللغة والزمان والمكان، له حوامله المخلوقة، ومنذ نزول جبريل به في ذهنه واللغة العربية التي تكلم بها وسمعها الرسول، وقد تعين الوحي أكثر فأكثر حتى فهم الرسول له ثم فهم الناس من الرسول بعد سماعه منه. ففي كل مرحلة يزداد التعيُّن، وتكثر الحوامل وتبتعد عن المحمول الأول وهو كلام الله في العلم الإلهي.
ودُوِّنت علوم القرآن في عصر متأخر، كانت الأشعرية في العقائد والشافعية في الفقه قد أصبحتا ثقافةً شعبيةً عامة للعامة والخاصة؛ مما يفسر طغيان الغزالي والشافعي في «البرهان» للزركشي.
وإذا كانت البداية تحليل القدماء فليس لنقله وعرضه بل لتأويله وتجاوزه. نقل القدماء عن بعضهم البعض نصًّا، واقتبس المتأخرون عن المتقدمين نصوصًا بعلامة «انتهى» وزادوا عليها كمًّا. والبداية هنا من مادة القدماء معنًى وتقسيمًا لتأويلها وإعادة بنائها. وقد استعملت طريقة النص الأم، مثل الدولة-القاعدة في السياسة، ثم إضافة باقي النصوص قبله وبعده عليه بعد أن اكتملت بنيته ووضعت معالم العلم. والنص-العمدة في علوم القرآن هو «الإتقان» للسيوطي، ويليه «البرهان» للزركشي، وهي نفس الطريقة التي اتُّبعت في «من النص إلى الواقع» حيث كان النص النموذج «المستصفى» للغزالي، يليه «الموافقات» للشاطبي، في حين اتُّبع في «من الفناء إلى البقاء» تطور النصوص كلها من البداية إلى النهاية، منذ «الرسالة القشيرية» حتى «جامع الأصول» للنقشبندي.
(٤) تطور علوم القرآن
وقد استمرت موضوعات علوم القرآن متناثرةً جزئية قبل اكتمالها في «البرهان» و«الإتقان» وبعدها. وزاد التأليف فيها أكثر من علوم القرآن المكتملة وما زال حتى الآن لدرجة أنها أصبحت موضوعات أو حتى علومًا مستقلة بذاتها عن علوم القرآن.
ونشأت محاولاتٌ تجميعيةٌ كلية مثل «البرهان» و«الإتقان» في «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز» لأبي شامة المقدسي (٦٦٥ﻫ) و«الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان» لابن قيم الجوزية (٧٥١ﻫ). لقد نظرت علوم القرآن نفسها بنفسها، وبنت نفسها بنفسها بتطور العلم من المتقدمين إلى المتأخرين، من المشارقة إلى المغاربة، ومن المصاروة إلى الشوام.
(أ) «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز» لأبي شامة المقدسي (٦٦٥ﻫ)
فالكتاب على وعي بالحوامل الموضوعية الذاتية أي الرواية والخبر والقراءة والتدوين دون الحوامل الموضوعية، المكان والزمان والوضع الاجتماعي أو الحوامل الذاتية وهي اللغة، اللفظ والمعنى، وأساليب البلاغة، والتفسير، ولا يقل فيه التحليل النظري عن الشواهد النقلية؛ مما يدل على قرب التحول إلى علوم القرآن.
(ب) «الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان» لابن قيم الجوزية (٧٥١ﻫ)٢٣
(ﺟ) «مناهل العرفان في علوم القرآن» للزرقاني
وأهم مؤلَّفَين كاملَين في علوم القرآن: «البرهان» للزركشي (٧٩٤ﻫ) و«الإتقان» للسيوطي (٩١١ﻫ).
(د) «البرهان» للزركشي (٧٩٤ﻫ)
(ﻫ) «الإتقان» للسيوطي (٩١١ﻫ)
- (١)
ابن الجوزي: فنون الأفنان في علوم القرآن.
- (٢)
علم الدين السخاوي: مجال القرآن.
- (٣)
أبو شامة: المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالقرآن العزيز.
- (٤)
شيذلة: البرهان في مشكلات القرآن، الإتقان، ج١، ١٨.
(أ) المكان: (أ) المكي والمدني، وما نزل بمكة وما نزل بالمدينة وترتيب ذلك. (ب) الزمان: ٣٤ ناسخة ومنسوخة. (ﺟ) الموقف: (١) أسباب النزول.
(٢) النص:
(أ) الرواية: (١٣) جمعه وحفظه من الصحابة. (ب) القراءة (١١) على كم لغة نزل. (٢٣) توجيه القراءات ووجه ما ذهب إليه كل قارئ. (٣٤) الوقف والابتداء. (ﺟ) التدوين: (٢) المناسبات بين الآيات. (٣) الفواصل ورءوس الآي، (١٠) أول وآخر ما نزل. (١٢) كيفية إنزاله. (١٤) تقسيمه بحسب سوره وترتيب الآيات والسور وعددها، أسماؤه واشتقاقاتها. (٢٥) مرسوم الخط (٣٩) تواتره. (٤٠) معاضدة السنة للقرآن.
(٣) اللغة:
(أ) الألفاظ والمعاني: (١٦) ما وقع فيه من غير لغة أهل الحجاز وقبائل العرب. (١٧) ما فيه من غير لغة العرب. (١٨) غريبه. (١٩) التصريف. (٢٠) الأحكام من حيث الإفراد والتركيب. (٣٢) أحكامه. (٣٣) جدله. (٣٦) المحكم والمتشابه. (٣٧) كلمة الآيات المتشابهة الواردة في الصفات. (٤٢) وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن. (٤٣) حقيقته ومجازه. (٤٧) المفردات من الأدوات.
(ب) أساليب البلاغة: (٢١) كون اللفظ والتركيب أحسن وأفصح. (٢٢) اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير حركة أو إثبات لفظ بدل لفظ. (٣١) أمثاله. (٣٨) الإعجاز. (٤٤) الكناية والتعريض. (٤٥) أقسام معنى الكلام. (٤٦) أساليب القرآن وفنونه البليغة.
(ﺟ) التفسير: (٣٥) الموهم والمختلف. (٤١) تفسيره وتأويله.
(٢) الزمان: النهاري والليلي، الصيفي والشتائي، الفراشي والنومي، الناسخ والمنسوخ.
(٣) النزول: الأسباب، أول ما نزل، آخر ما نزل، ما نزل على لسان الصحابة، ما تكرر نزوله، ما تأخر حكمه على نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه، ما نزل مفرَّقًا وما نزل مجمَّعًا، ما نزل مشيَّعًا وما نزل مفردًا، ما أنزل على بعض الأنبياء وما لم ينزل منه على أحد من قبلُ في كيفية إنزاله، من نزل فيهم.
(٤) النقل الشفاهي: الحُفَّاظ والرواة، المتواتر والمشهور والآحاد والموضوع والمدرج.
(٥) القراءات: الوقف والابتداء، الموصول لفظًا المفصول معنًى، الإمالة والفتح، الإدغام والإظهار، الإخفاء والإقلاب، المد والقصر، تخفيف الهمزة، كيفية تحمُّله، آداب التلاوة.
(٦) التدوين: فواصل الآي، فواتح السور، خواتم السور، مناسبة الآيات والسور، رسوم الخط، آداب كتابته.
(٧) الأسماء والجمع والترتيب والعدد للسور والآيات والكلمات والحروف.
(٨) اللغة: الغريب، وما وقع بلغة الحجاز وبلغة غير العرب، والوجوه والنظائر، الإعراب، المحكم والمتشابه، المقدم والمؤخر، الخاص والعام، المجمل والمبين، المشكل والموهم، الاختلاف والتناقض، المطلق والمقيد المنطوق والمفهوم، وجوه المخاطبات، الحقيقة والمجاز، التشبيه والاستعارة، الكناية والتعريض، الحصر والاختصاص، الإيجاز والإطناب، بدائع القرآن، الآيات المتشابهات، والمبهمات، إعجاز القرآن.
(٩) التفسير: أداوته، وقواعده، تأويله وشرط الحاجة إليه، شروط المفسر وآدابه، غرائب التفسير، طبقاته.
(١٠) العلوم: العلوم المستنبطة منه؛ الأمثال، الأقسام، الجدل، الأسماء والكُنى والألقاب.
(١١) الفضائل: أفضله وفاضله، مفرداته وخواصه.
(٢) السند: المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبي، الرواة والحفاظ (٦).
(٣) الأداء: الوقف، الابتداء، الإحالة، المد وتخفيف الهمزة، الإدغام (٦).
(٤) الألفاظ: الغريب، المعرب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، التشبيه (٧).
(٥) معاني الأحكام: العام، العام المخصوص، العام الذي أريد به مخصوص، خصوص الكتاب بالسنة، خصوص السنة بالكتاب، المجمل، المبين، المؤول، المفهوم، المطلق المقيد، الناسخ، المنسوخ، نوع الناسخ والمنسوخ وهو ما عمل به في مدة أو أحد من المكلفين (١٤).
(٦) معاني الألفاظ: الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب، القصر (٥) (الإتقان، ص٥–٦، ١٤–١٧).
(٢) النزول: (المكان، الموقف)، أسبابه، أول ما نزل، آخر ما نزل، ما عرف وقت نزوله، ما أنزل فيه وما لم ينزل على أحد من الأنبياء، ما أنزل منه على الأنبياء، ما تكرر نزوله، ما نزل مفرقًا، ما نزل جميعًا، كيفية إنزاله (١٠).
(٣) النقل المدون (السند): المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبي، الرواة والحفاظ، العالي والنازل، المسلسل، أسماء (الأداء) من نزل فيهم القرآن (٧).
(٤) القراءة (النقل الشفاهي) الابتداء، الوقف، الإحالة، المد، تخفيف الهمزة، الإدغام، الإقلاب، مخارج الحروف، آداب القارئ (١٠).
(٥) اللغة (الألفاظ): الغريب، المعرب، المجاز، المشترك، المترادف، المحكم والمتشابه، المشكل، المجمل والمبين، الاستعارة، التشبيه، الكناية والتعريض، العام الباقي على مجموعه، العام المخصوص، العام الذي أريد به الخصوص، ما خص فيه الكتاب والسنة، ما خصت فيه السنة والكتاب، المؤوَّل، المفهوم، المطلق والمقيد (٢٠).
(٦) البلاغة (البيان والبديع): الإيجاز والسلوك، الأشباه، الفصل والوصل، القصر، الاحتباك، القول الموجب، المطابقة والمناسبة والمجانسة، التورية والاستخدام، اللف والنشر، المبهمات (١٠).
(٧) التدوين: الالتفاف، الفواصل والغايات، كتابة القرآن، شبيه السور، ترتيب الآي والسور، الأسماء والكني والألقاب، التاريخ (٧).
(٨) الفضل: أفضل القرآن وفاضله ومفضوله (٢).
(٩) الموضوعات (الأساليب): الأمثال، المفردات (٢).
(١٠) التفسير: آداب المفسِّر، من يُقبَل تفسيره ومن يُرَدُّ، غرائب التفسير، معرفة المفسرين (٤). السابق، ج١، ٧–١٠.