المكان
(١) المكان كحاملٍ موضوعي
وتعني الحوامل الموضوعية كل ما هو خارج الوحي، كل ما يستند عليه الوحي للنزول، وإظهار نفسه قبل تمثل الذات له، روايةً وقراءةً وتدوينًا أو فهمًا وتذوقًا وتفسيرًا. هي الحوامل التاريخية مثل المكان والبنية الاجتماعية والزمان. ومن ثم تكون مقولة التاريخ هي الأنسب للتعبير عنها. فالتاريخ حاملٌ موضوعي. ويضم الجغرافيا. فتاريخ المدن مثل مكة والمدينة أو تاريخ شبه الجزيرة العربية الممتدة من صحراء الشام إلى جبال اليمن لا ينفصل عن جغرافيتها.
الوحي بهذا المعنى ظاهرةٌ تاريخية، يظهر في التاريخ ويتجلى فيه، والتاريخ هو الواقع والمكان والزمان والمجتمع والبشر؛ فلا محمول بلا حامل، ولا وحي بلا جسد يتحقق فيه الوحي. الوحي ليس طائرًا في الهواء بل يهبط على الأرض ليستقرَّ فيها كما يستقرُّ الماء فتهتز وتربو وتُنتج من كل زوجٍ بهيج. الماء محمول والأرض حامل. وماء بلا أرض يتبخر ويعود إلى السماء من جديد، لا ينبت ولا يسقي ولا يروي.
ونظرًا لاستعمال مقولة «الواقع» من قبلُ في «من النص إلى الواقع» فإن مقولة «التاريخ» هذه المرة تكون البديل الدال عن «الواقع» حتى تتعدد المفاهيم من حقلٍ دلاليٍّ واحد أو حقولٍ دلاليةٍ مختلفة.
ويصعب التمييز بين الحوامل الموضوعية، والحوامل الموضوعية الذاتية والحوامل الذاتية، فالحوامل الموضوعية المكان والزمان والبيئة الاجتماعية، وهي لا تنفصل عن الحوامل الموضوعية الذاتية في الرواية، الخبر والقراءة والكتابة. وهي لا تنفصل أيضًا عن الحوامل الذاتية في اللغة: الألفاظ والمعاني، والبلاغة، والتفسير. الموضوع والذات واجهتان لعملةٍ واحدة، بُعدان لقصدٍ واحد. الموضوع بلا ذات وجودٌ مصمت، مجرد شيء، مادة بلا حياة. والذات بلا موضوع فراغٌ أجوف، الأول بدن بلا نفس، والثاني نفس بلا بدن.
ويعني المكان التجمع البشري قبيلة أو رهطًا أو لقوم أو لشعب أو لمدينة، وكلها مفاهيمُ قرآنية؛ فالوحي في حاجة إلى مخاطب، ينزل إلى أناس. الوحي رسالة في حاجة إلى مُرسَل إليهم مثل الخطاب مرسِل ومرسَل إليه، منه وإليه. الوحي موضوع في حاجة إلى ذات لإدراكه، الوحي محمول والذات حامل.
(٢) التمييز بين المكي والمدني
- (أ) كل سورة فيها من القصص فهي مكية.٧ فالقصص ترويح عن النفس. هو تحقق صدق العقائد في التاريخ عن طريق وصف المراحل السابقة للوحي لدى الأمم السالفة لأخذ العظة والعبرة. فالوحي واقع وتاريخ، صدقه تحقُّقه، وتحققه صدقه. اكتمال الوحي مرتبط بتطوره، وبنيته تحققٌ لتكوينه، فالحقيقة بنتُ التاريخ، والاكتمال تحقق الماضي في الحاضر. وظيفة القصص هو إظهار البُعد التاريخي في الوحي من أجل بلورة الوعي التاريخي في الوعي الإنساني، ليست وظيفة القصص التحول من الحاضر إلى الماضي، ومن الواقع إلى المتخيَّل بل العكس، التحول من الماضي إلى الحاضر، ومن المتخيل إلى الواقع من أجل العظة والعبرة والتعلم. فالوعي التاريخي بُعد من أبعاد الوعي الذاتي. وكل سورة فيها قصة آدم وإبليس، باستثناء البقرة، فهي مكية. فهي نموذج القصة الخيالية التي تُصوِّر نشأة الخلق والتحدي بين الإنسان وأعدائه، وتسليح الإنسان بالوحي حتى يقوى به في معركته. هي قصة الغواية واتباع الأهواء التي قد تؤدي بالإنسان إلى التهلكة، واعترافه بالخطأ، وتوبته، وبداية حياته من جديد صفحةً بيضاء بعد تعلمه من التجربة السابقة.٨
- (ب) كل سورة افتُتحت بالحروف سوى البقرة وآل عمران فهي مكية. وفي «الرعد» خلاف. فوظيفة الحروف التنبيه والإيقاظ والتأثير في النفس، وهي وظائف التصورات وليست التشريعات التي تقوم على رعاية المصالح. الحروف خاضعة للتأويل، والتأويل فهم وتصوير، وهو من جانب العقائد. في حين أن النظم أنساقٌ موضوعية تحقق المصالح العامة.٩
- (جـ) كل سورة فيها «كلا» فهي مكية. وهي حرف تنبيه ونفي. وهي من أساليب البلاغة وفنون القول. الغاية منها التأثير في النفوس، وليس تحقيق المصالح العامة. هما حرفا تنبيه وإيقاظ من أجل إثارة الانتباه لمعانٍ وأفكار، وليس لنُظُم وتشريعات.١٠
- (د) تبدأ السور المكية بنداء: «يا أيها الناس» وليس «يا أيها الذين آمنوا»؛ فهو خطاب للناس جميعًا بصرف النظر عن معتقداتهم وإيمانهم. الأول خطابٌ عام، والثاني خاص، الأول للبشر من حيث هم بشر، والثاني للبشر من حيث هم مؤمنون. فالوحي يخاطب الناس جميعًا بصرف النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم، يتوجه إلى إنسانيتهم من حيث هم بشر؛ فالإنسانية تسبق الإيمانية، والبشرية تسبق العقائدية.١١
(٣) التداخل بين المكي والمدني
ولا يعني المكي والمدني الفصل التام بين الزمان، بل قد يتداخل الزمان في المكان. فالمكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها. وقد يتجاوز الخطاب المكان والزمان معًا فيصبح المكي خطاب أهل مكة والمدني خطاب أهل المدينة بصرف النظر عن المكان والزمان. فالخطاب مرتبط بالبشر.
ولا تهم الأمكنة الفرعية الأخرى، الطائف، الطريق بين مكة والمدينة، الحديبية، وما حمل من المدينة إلى الحبشة. فهذه أماكنُ فرعية. فمكة والمدينة ليسا شرطَي الوحي بل مجرد وعاءَين له. ينزل الوحي طبقًا للحاجة. ومكة والمدينة هما المكانان الرئيسيان أي البيئة الاجتماعية. والطريق من مكة إلى المدينة ساعة الهجرة طريقٌ مؤقت، وطريق العودة من المدينة إلى مكة عام الفتح طريقٌ مؤقت كذلك، والحديبية مكانٌ مؤقت للقاء المسلمين بالكفار لعقد صلح بينهما وليس مكانًا دائمًا. والأماكن العرضية ليست تجمعاتٍ عمرانية لها مشاكلُ اجتماعية تحتاج إلى نزول الوحي.
(٤) من الحامل إلى المقدس
ونزول الوحي بمكة والمدينة لا يجعلهما مدينتَين مقدستَين، محطتَين للزيارة، والتبرك والمجاورة فيهما. فالمقدس هو المحمول وليس الحامل، والزيارة ليست للمكان بل لاستعادة الذاكرة ولتفعيل الوحي في القلوب. زيارة المكان سياحة وتجارة وتأشيرات دخول وتحكُّم للنظم السياسية وللدول في المكان. تقديس المكان عود إلى الوثنية القديمة وإلى الكعبة عندما كانت مكانًا للآلهة وتجمُّعًا للأصنام، تمامًا مثل تقديس المصحف ورقًا وحبرًا وتجليدًا وقطيفةً مذهَّبة وليس الكلام المدوَّن فيه، ومثل تقديس سجادة الصلاة والسبحة والجلباب والذقن والطاقية، وليس شعائر الصلاة والاستفادة منها في الحفاظ على الوقت وتأدية الواجبات في أوقاتها على الفور وليس على التراخي، أداءً وليس قضاءً.
أهمية مكة تاريخيًّا أنها أول مدينة وضع فيها أول بيت لله؛ البيت الحرام، أقام فيها إبراهيم القواعد، وأصبحت مركزًا للحجيج وطُرقًا للتجارة ومكانًا مقدسًا قبل الإسلام وبعده، وفيها كانت تلتقي القبائل بصرف النظر عن ديانتها، يهوديةً أو نصرانيةً أو صابئةً أو مجوسيةً أو عبادة الأصنام. وليست أهميتها أن بها منازل الصحابة ودورهم وأماكن لقائهم؛ فكثير منها اندثر، وما بقي أصبح تجارةً وسياحة، وكثير من الزوار يأتون تجارة للربح أو للتهادي بملابسَ مباركةٍ من مدينة الرسول وزمزمياتٍ مملوءة بمياه زمزم لشفاء المرضى ببركة إبراهيم.
وأهمية المدينة تاريخيًّا؛ ففيها تحول الوحي من عقيدة إلى تشريع، ومن تصوُّر إلى نظام، ومن دعوة إلى دولة، ومن نبوة إلى حكم، وفيها أُعلن «ميثاق المدينة» لبيان تعددية الأمة. فكل أصحاب دين أمة لها استقلالها الذاتي؛ تحكم بشريعتها. وتتساوى الأمم جميعًا داخل الأمة الإسلامية في الحقوق والواجبات. وهو ما سمي فيما بعدُ أثناء الدولة العثمانية «نظام الملة» والذي انحدر في الدولة الحديثة إلى نظام الطائفة ضد المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وهو المقصود من نظام الملة القديم.
ليست أهميتها أن بها قبر الرسول «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة.» فلا تجوز زيارة القبور أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ وكما وضحت الوهابية؛ كبرى الحركات الإصلاحية الحديثة. ليست أهمية مكة والمدينة أنها تجعل الدولة الحديثة تحتضنها دولة خلافة كما كانت دمشق وبغداد والقاهرة وإسطنبول قبل إلغاء النظام. ولا تجعل لهذه الدولة أي ميزة بالنسبة للعقيدة أو الشريعة في الفهم بالتوجيه. ولا تجعل في عَلَمها الوطني به شعار التوحيد أو سيفًا؛ فقد انقضى عصر السيوف التي أصبحت رمزًا للقوة والعنف والقتل والإرهاب، بتعبير أعداء المسلمين. والأعلام الوطنية رموز بألوانها الأحمر والأزرق والأبيض والأسود، وبرسومها ورقة شجرة أو شجرة أرز أو بنجمة أو هلال أو بمطرقة ومنجل رمزَين للعامل والفلاح. ولا تشرعان ألقابًا لرؤساء دولها مثل «خادم الحرمين الشريفين». فكل سلوكٍ بشري من قمار وتبذير وانحراف وتسلُّط وتبعية للأجنبي يُحسَب على السلوك الديني. ويتساءل الناس حول التناقض بين المثال والواقع، بين القول والعمل.
وإذا كانت مكة والمدينة مكانَين لظهور الحق والإعلان عن العدل فالمدن كثيرة اليوم التي يضيع فيها الحق ويُنتهَك فيها العدل مثل دارفور وكردفان ومقديشو وكيسمايو. وكل مدينةٍ مهمَّشةٍ مملوءة بالعشوائيات، يكتنفها الفقر والضنك والبطالة وتجارة المخدرات والجنس مثل سكان المقابر والنجوع وأكواخ الصفيح، وهي كل مدينة يموت سكانها من الجوع والعطش أو يغرقون تحت مياه الفيضان أو يُغتالون في الحروب الأهلية بين أمراء الحروب في النزاع على السلطة.
ما يظنه الناس مقدسًا في سلوكهم الشعبي هو الدنس مثل المدن المقدسة، وما يظنه الناس دنسًا هو المقدس، الجوع والعطش والمرض والجهل والبطالة وتجارة الجنس لمقاومة الفقر والحفاظ على الحياة. أحبار اليهود وكهنتهم ليسوا مقدسين بل مريم المجدلية هي المقدسة «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.» التجار في المعبد ليسوا مقدسين بل هم الذين حوَّلوا بيت الله إلى متجر. أشراف مكة وسدنة قريش ليسوا مقدسين بل هم العبيد والمستضعفون. ليس أغنياء اليهود والكتبة هم المقدسين بل المرضى والبرصى والصُّم والعُمي الذين شفاهم المسيح.
المكان، مكة والمدينة، ليس قسمًا كبيرًا في علوم القرآن، بل هو أصغر الأقسام. ومع ذلك هو حاملٌ موضوعي للوحي مع البيئة الاجتماعية والزمان. والثلاثة أبعاد للتاريخ.