ابن رشد عند اللاتين – الترجمات اللاتينية الأولى من العربي في القرنين الثاني والثالث عشر
وينبغي لنا أن نشير هنا إلى أمر في منتهى الأهمية، عندما أُنْجِزَت الترجمات في الشرق في القرن الثامن والتاسع الميلادي لم تكن الثقافة اليونانية كلها في قيمتها الإنسانية المألوفة هي التي قصد مترجمو بغداد نقلها إلى العربية، بل المؤلفات في الفلسفة والعلوم فحسب، وكذلك القول في ترجمات العهد الوسيط اللاتينية: إن الآثار العظمى في اللغة العربية مهما تبلغ من القيمة لم تك هي التي نُقِلَت إلى اللغة اللاتينية، فالواقع أنه ليست الثقافة العربية الإسلامية — بحد ذاتها — هي التي عرضها مترجمو إسبانيا وإيطاليا على العالم اللاتيني، بل خصصوا مجهودهم في ميدان الفلسفة والعلوم.
- (١) فهناك الترجمات التي قام بها ابن داود Ibn Dawud وغوندسالفي Gundisalvi ينقل الأول النص العربي شفاهيًّا إلى اللغة الرومانية، وينقل الثاني بالمعنى المسموع من اللغة الرومانية إلى اللاتينية، وكان أهم المؤلفين الذين تُرْجِمَت آثارهم هم: أرسطو المنحول صاحب «سر السرار» والكندي والفارابي وابن سينا والغزالي (المقاصد) وابن جبرول (ينبوع الحياة)، ومنذ هذه الموجة الأولى التي تبتدئ في ١١٢٨م وتمتد إلى ما بعد وفاة رئيس الأساقفة ريمون، كان أخص ما تشتمل عليه الفلسفة الشرقية والأفلاطونية المحدثة قد وصل إلى أيدي المفكرين اللاتين.
- (٢) ثم جاءت الترجمات التي نُقِلَت مباشرة عن اللغة العربية (وعن اليونانية أحيانًا)، ولقد قام بها جرار دي كريمون Gérard de Crémone، عاش من سنة ١١١٤م إلى سنة ١١٨٧م – وها هي ذي: أرسطو في السماء والعالم، في الكون والفساد، الأجزاء الثلاثة الأولى من «الآثار العلوية» و«كتاب البرهان» مع شروح كل هذه الآثار لطامستيوس، شروحات إسكندر الأفروديسي وآثار له مختلفة: أرسطو المنحول، صاحب كتاب «في الخير المحض»، الكندي والفارابي أيضًا، إسحاق الإسرائيلي، القانون في الطب لابن سينا، ومؤلفات علمية مختلفة.
وعلى الصعيد الفلسفي ربما كانت «فلسفة» الإسلام أقل بروزًا هذه المرة من أرسطو، وهو على الوجه الذي قرأه عليه شارحوه اليونان، لقد أصبح الآن معروفًا في نهاية الأمر في كامل أثره المنطقي وفي فلسفته في الطبيعة، ولكنه ظهر أول الأمر مغمورًا في التأويل المادي الذي جاء به إسكندر الأفروديسي.
- (٣) لكن هذا القرن الثاني عشر هو بالذات العهد الذي ازدهرت فيه الفلسفة العربية، تُوُفِّي ابن باجة في سنة ٥٣٢ﻫ/١١٣٨م وابن طفيل في سنة ٥٩٢ﻫ/١١٩٥م، وفي ١١٦٨-١١٦٩م يأتي ابن طفيل بابن رشد إلى السلطان الموحد أبي يعقوب، فيطلب السلطان من ابن رشد — بعد قليل — أن يشرح أرسطو، ولم يمضِ على شروحات ابن رشد بضع سنوات حتى نُقِلَت من العربية إلى اللاتينية، هذه هي الموجة الثالثة في الترجمات، لقد نهضت — في بداية القرن الثالث عشر — مع ميخائيل سكوت Michel Scot الذي عمل في طليطلة وإيطاليا، والنتائج التي وصل إليها الأب دي فو de Vaux في بحثه «عهد اللاتين الأول بابن رشد» (انظر هنا ص٣٣٤ رقم ١٩١) تدل على أنه يجب أن يجعل الإقبال الأول على ترجمة ابن رشد في بلاط فريدريك الثاني في ١٢٣٠م بقليل، ثم إن ميخائيل سكوت «إن لم يكن هو المستأثر بالعمل في هذا الدور فإنه قام فيه بالنصيب الأوفر».
وفي وجه عام لقد اهتم هرمن بالنصوص الأرسطية المهملة عادةً مثل الخطابة وكتاب الشعر والأخلاق والسياسة، وقد لجأ إلى التلخيصات العربية لهذه الكتب، وهي كانت أكثر انتشارًا وأسهل منالًا فترجمها، وهكذا بدلًا من كتاب الخطابة لأرسطو ترجم تعليقات الفارابي عليها، وبدلًا من كتاب الشعر ترجم تلخيصها لابن رشد، وهو يقول: «لقد حاولت أن أنقل كتاب الشعر ولكني وجدت فيه كثيرًا من المصاعب بسبب اختلاف الأوزان اليونانية عن الأوزان العربية مما جعلني أيأس من النجاح؛ ولذا لقد تناولت كتاب ابن رشد حيث أدخل هذا المؤلف كل ما وجده معقولًا ونقلته إلى اللاتينية بقدر المستطاع» (رينان، ص٢١١) وتاريخ هاتين الترجمتين ٧ مارس ١٢٥٦م.
وفي المكتبة الأهلية في باريس يوجد ملخص لاتيني للكتب العشرة للأخلاق النيقوماخية، ترجمها من العربي هرمن الألماني (انظر رينان ص٢١٣).
وهكذا فإن كثيرًا من كتب ابن رشد المهمة تُرْجِمَت من العربية إلى اللاتينية في أواسط القرن الثالث عشر، أما الشروح على المنطقيات و«تهافت التهافت» و«فصل المقال» و«مناهج الأدلة» فلم يعرفها فلاسفة النصارى في القرون الوسطى.
المراجع
بالإضافة إلى كتب: رينان ومنك واستاينشنيدر التي ذكرناها آنفًا (انظر ص٥٥–٥٩) يمكن الرجوع إلى المصادر الآتية:
-
Jourdain (A.), Recherches critiques sur l’orignie des traductions latines d’Aristote et sur les commentaires grecs et arabes, employés par les docteurs scolastiques 2e éd. 1843.
وقد أُعيد طبعه فوتوغرافيًّا.
-
Wüstenfeld (F.), Die Uebersetzungen arabischer Werke ins Lateinische aus den Abhandlungen der Gesellschaft der Wissenschaften zu Gottingen 1877.
-
Steinschneider (M.), Die europaischen Uebersetzuneg aus dem arabischen bis Mittel des 17, Jahrhunderts, Wien 1904.
وقد أُعيد طبعه فوتوغرافيًّا.
-
Haskins (Ch.H.), Studies in the History of Mediaeval Science, Cambridge, Harvard University Press, Second edition, 1927.