مقدمة
يحاول هذا الكتاب التحقق من الأمور التي نعتقد أننا نعرفها عن شكسبير، وهذا البناء المعرفي نطلق عليه اسم «خرافات». لماذا «خرافات»؟ يُعزى استخدامنا لهذا المصطلح فيما يتعلق بالمحتوى الشكسبيري في كل فصل من فصول الكتاب إلى أن «الخرافة» هي التي تسبق فعل الحَكي؛ لأنها تُبرز العمل الثقافي الذي تؤديه هذه الحكايات وليس دقتها؛ لأنها لا تتعلق بنقطة جوهرية محددة، وإنما تتعلق بالمعتقدات المقبولة؛ لأنها تتعلق بالأشخاص الذين يقبلون هذه الحكايات أو يختلقونها أو يحتاجون إليها، بقدر ما تتعلق بالحكايات نفسها. ليست خرافاتنا كلها بعيدة عن الصحة؛ وإذ نسمي هذه المعتقدات «خرافات» فإن ما يُهمنا بالقدر الأكبر ليس وصمها بأنها خرقاء وغير مؤكدة، وإنما أن نفهم كيف أصبحت تلك الخرافات جامدة، وتُعَوِّق تفسيرَنا أعمالَ شكسبير بدلًا من أن تُيَسِّره.
الخرافات التي تحوم حول شكسبير زاخرة. ويرجع ذلك، جزئيًّا، إلى الدراسات الأكاديمية شبه المنسية أو التي عفا عليها الزمن من أيام الدراسة، ولأن شكسبير الإنسان هو بمنزلة ملكية ثقافية كاريزمية مُحَيِّرة، ولأن المداخلات في دراسات شكسبير، ولا سيما البيوجرافية والمسرحية منها، تتصدر عناوين الأخبار: انظر «مسألة التأليف» (الخرافة الثلاثين)، أو التخمينات المتعلقة بمعتقدات شكسبير أو ميوله الجنسية (الخرافتان السابعة والثامنة عشرة). ببساطة، تُحْكَى الخرافات مرارًا وتكرارًا عن شكسبير؛ لأنه ما من مؤلف في العالم أجمع أهم منه: شهدت ألمانيا في القرن التاسع عشر نقدًا أكاديميًّا مزدهرًا لشكسبير قبل إنجلترا، وأقامت الهند جمعية معنية بشكسبير، متقدمةً بذلك على إنجلترا. وكثيرًا ما تُعرض مسرحيات شكسبير على مستويَيِ الهواة والمحترفين على حد سواء، مُترجَمةً في شتى بقاع العالم. وشكسبير ليس إنجليزيًّا وحسب (تشهد على ذلك العبارة الألمانية «شكسبيرنا»). ولذا فإن الخرافات المحيطة بشكسبير تَشِي لنا، نوعًا ما، بقصص عن أنفسنا.
قصة تقليدية تتضمن، عادةً، كائنات أو قوًى خارقة للطبيعة، تُجسِّد وتقدِّم تفسيرًا أو تعليلًا أو: تبريرًا لشيءٍ من قبيل التاريخ المبكر لمجتمع ما، أو لطقس أو معتقد ديني، أو لظاهرة طبيعية.
ورغم أن شكسبير ليس كائنًا «خارقًا للطبيعة»؛ فكثير من الخرافات التي نناقشها تفسر، أو تبرر، معتقدات معتنَقة على نطاق واسع، وغير مطروقة غالبًا، عن الفن والتأليف والقيمة الثقافية. التعريف الثاني الوثيق الصلة للخرافة هو أنها: «تصور شعبي لشخص أو لشيء، يُغَالِي في الحقيقة، أو يُظْهِرها على نحوٍ مثالي.» وكثير من خرافاتنا تُطابق هذا التعريف؛ فهي شعبية، وغالبًا ما تُرِدِّد أفكارًا ربما كان لها أساس في الواقع، ولكنها تُغالِي في تأكيد الدليل المُتاح، أو تتبنى التخمين لسد الفجوات في السِّجِل الوثائقي. إن الجواب الصادق عادةً لأسئلتنا عن شكسبير يجب أن يكون أننا لسنا واثقين، وبدلًا من هذا الشك، تقدم الخرافات «حقائق» مريحة وإيجابية حول الموضوع. ونحاول في هذا الكتاب أن نَنْزِع هذا الغطاء المريح، ولو أن النتيجة المثيرة للقلق أحيانًا تتمثل بأن معارفنا أقل مما ظنناها.
يوضح عدد المقالات التي يحويها هذا الكتاب — وهي ٣٠ مقالًا، مقابل ٨٩ مقالًا في كتاب ويلز، و٥٠ مقالًا في كتاب «أشهر ٥٠ خرافة في علم النفس» — بؤرة تركيزنا المختلفة. كثير من خرافات ويلز موجزة في فقرة واحدة، أو حتى، بحسب ما تسعفنا الذاكرة، في جملة واحدة. أما نحن فقد خصصنا ما يتراوح ما بين ٢٠٠٠ كلمة و٢٥٠٠ كلمة لكل خرافة من خرافاتنا. وليس من قبيل المصادفة أن هذا هو نفسه طول المقالة القياسية لطلاب الجامعة (أو مقالات الصحف). وانطلاقًا من صفتنا الأكاديمية، فقد ألِفْنا كتابةَ فصول يتراوح حجمها ما بين ٨٠٠٠ كلمة و١٢٠٠٠ كلمة. ويعنينا هنا أن نرى كَمَّ ما يمكن للمرء فعله في نَسَق المقالات الأصغر حجمًا، وكَمَّ المعلومات التي يمكن أن تحتويها مقالة من ٢٠٠٠ كلمة، وعدد الحجج التي يمكن أن تسعها. وإيجازًا، كيف يمكنها طلب الدليل دون أن تعرقلها التفاصيل. تعلَّمْنا الكثير من هذا التمرين، ونأمل أن يتعلم الطلاب من الاطلاع على أمثلتنا الخاصة بالنسق الذي يطرحون فيه جميع حججهم.
هذا لا يعني أننا وضعنا هذا الكتاب على غرار كتب التعبير المدرسية؛ فنحن نأمل بالقدر ذاته أن يجد عموم قراء شكسبير ومحبيه ما يُشْبِع فُضولَهم فيما طرحناه من مادة علمية، وأن يعثروا على دَرْبٍ من الأفكار المشهورة والمتكررة غالبًا، إلى المسرحيات والمناهج والزوايا الأقل أُلْفَة لهم. وغايتنا، في كل فصل من فصول الكتاب، أن نطرح معالجات موثوقًا بها وحديثة وموضوعية للنقاط الجدلية والخلافات الأكاديمية. إن منهجنا في الكتاب استقصائي وليس وصفيًّا؛ فاهتمامنا ينحصر في تقويم الدليل الذي يُقِيمُه كل طرف من طرفي الخلاف، والنظر في كيفية إقامة الحجة في كل الحالات. وتَعنينا اللحظات التاريخية التي تَتَجَمَّد عندها التخمينات المبدئية، فتتحول إلى حقائق بدهية. والأهم من ذلك أننا نحاول أيضًا فهم جاذبية الخرافات، وقدرتها على استقطاب أنصار متحيزين بشَغَف. يقيِّم الكتاب الدليل المؤيد للخرافات والدليل المعارض لها، لا ليُبَيِّن وحسب كيف يمكن تفسير المادة التاريخية — وغيابها — وإساءة تفسيرها، ولكن ليبين أيضًا ما تكشفه تلك العمليات حِيال استثمارنا الشخصي في تلك القصص التي نَقُصُّها عن شاعرنا القومي (والعالمي). بالتأكيد لا نحاول أن نَحُوم، مدعين التحلي بمعرفةٍ كلية، فوق تلك القصص؛ فنحن مُتورطون مثل كل قراء شكسبير في طرح فرضيات مُسْبَقة، وحينما نحاول فهم تلك الخرافات، فلربما ننشر حينئذٍ بعض الخرافات الأخرى. ونحن مُمْتَنُّون للقارئ المجهول بمؤسسة وايلي-بلاكويل الذي سَلَّطَ الضوء على عدد من تلك اللحظات المتناقضة، وحَمَلَنا على الإقرار — بمباشرةٍ أكبر — بمواقفنا.
إن كتابًا كهذا يَحْمِل في طَيَّاتِه إغْواءَ التركيز على سيرة حياة شكسبير؛ فسيرة حياته حافلة بالخرافات، بدايةً من قصة الصيد الجائر للغزلان في شبابه (التي وصفها نيكولاس رو في بداية القرن الثامن عشر)، مرورًا بتفاصيل زواجه (المُثْبَتَة في السجلات)، وصولًا إلى السنوات الضائعة (التي لم تُوَثَّق في أي مكان). ضمَّنَّا بعض هذه الأمثلة بالطبع، لكننا حاولنا، حيثما استطعنا، الانتقال بالنقاش إلى المسرحيات والقصائد عينها. وبينما ينطوي أغلب خرافاتنا على طبقات من التراكم التفسيري بيننا وبين الحقبة الإليزابيثية، فإن الاطلاع على أعمال شكسبير نفسها يمكن أن يختصر الطريق، متجاوزًا بعض هذا الحشو السردي. ولكننا نجد القليل من اليقينيات في تحليل كلمات شكسبير أيضًا. ولا يسعنا أن نعرف، أبدًا، إلى أي مدى كان طاقم تمثيل شكسبير واقعيًّا في أدائه، على سبيل المثال؛ لأن «الواقعية» مفهوم نسبي. ولا يسعنا توصيف تجربة مشاهدة مسرحية «الليلة الثانية عشرة» عام ١٦٠١، لكننا نستطيع اقتراح سُبُل تمنحنا من خلالها إنتاجات أحدث وأوثق مدخلًا إلى بعض احتمالات الأداء فيها. وبإعادة أعمال شكسبير — لا معتقداته الشخصية أو حياته الخاصة — إلى سياقها، باعتبار أن هذه الأعمال هي المنطقة الأكثر إثمارًا وإثارة للعديد من التفسيرات، فإننا نحاول اقتراح بعض السبل التي يَلتقي بها الانفتاحُ على مَعانٍ مختلفة وتلك النصوص المعقدة وفقًا لشروطها الخاصة.
لقد تخيلنا كل خرافة على هيئة قصة مستقلة بذاتها، حتى بعد أن حاولنا الحد من التكرارات قدر المستطاع. وإقرارًا منا بأن النثر الأكاديمي المُنَمَّق غالبًا ما يَطْمِس بقدر ما يُوَضِّح، فقد حاولنا أن نقدم المادة بما يُلائِمها من أسلوب سَلِس، وألا نَتَعَثَّرَ في شبكة من الإحالات المرجعية. ونقدم للقارئ قراءات مقترحة مُوسَّعة ومُوَجَّهة بنهاية الكتاب، لمزيد من الاستقصاء. وأملنا أن تقدم تلك المقالات، تراكميًّا، للقارئ مجموعة «مهارات دَحْض الخرافات» التي وجدناها نموذجًا جذَّابًا في كتاب «أشهر ٥٠ خرافة في علم النفس»، وأن يُطَوِّع القارئ هذه المهارات في نقد زلاتنا وافتراضاتنا.
•••
هذا الكتاب مُهْدًى إلى كاثرين دنكان-جونز، واحدة من أعظم المحققين في خرافات شكسبير. ولا نتوقع أن توافقنا الرأي في كل النقاشات الواردة بهذا الكتاب، لكننا نود أن نُقر بمدى تأثر تفكيرنا في هذا الكتاب، وفي أعمال أخرى، وتَشَكُّله بمحاوراتنا لها على مدار سنوات عدة.
إيما سميث
أكسفورد، ٢٠١٢