تصدير
يرى الكثيرون أن الفلسفة لا تنفصل عن التأمل النظري، ويعتقدون أن الفيلسوف لا يستطيع استخدام مناهج تُتيح البرهنة على المعرفة، سواء أكانت معرفة وقائع أم علاقات منطقية، وأن عليه أن يتحدث بلغةٍ لا تقبل التحقيق؛ أي إن الفلسفة، بالاختصار، ليست علمًا. وهدف الكتاب الذي نقدِّمه ها هنا هو إثبات الرأي العكسي؛ فهذا الكتاب يرتكز على الفكرة القائلة إن التأمل النظري الفلسفي مرحلة عابرة، تحدث عندما تُثار المشكلات الفلسفية في وقتٍ لا تتوافر فيه الوسائل المنطقية لحلها. وهو يذهب إلى أن هناك، على الدوام، نظرة علمية إلى الفلسفة، ويودُّ هذا الكتاب أن يُثبِت أنه قد انبثقت من هذا الأصل فلسفة علمية، وجدت في علوم عصرنا أداةً لحل تلك المشكلات التي لم تكن في العهود الماضية إلا موضوعًا للتخمين. وبعبارة مختصرة: فهذا الكتاب قد أُلِّف بقصد إثبات أن الفلسفة قد انتقلت من مرحلة التأمل النظري إلى مرحلة العلم.
ومن الضروري أن يكون مثل هذا العرض نقديًّا في تحليله للمراحل الأقدم عهدًا في التفكير الفلسفي؛ لذلك أخذ هذا الكتاب على عاتقه، في الباب الأول منه، اختبار نواحي النقص في الفلسفة التقليدية. ويهدف هذا الجزء من بحثنا إلى إيضاح الجذور النفسية التي نما التأمل الفلسفي منها، ومن هنا فهو يتخذ صورة هجوم على ما أطلق عليه فرانسس بيكن اسم «أوهام المسرح». والواقع أن هذه الأوهام، المتعلقة بالمذاهب الفلسفية الماضية، ما زال لها من القوة ما يكفيها لكي تظل تتحدى النقد بعد ثلاثة قرون من وفاة بيكن. أما الباب الثاني من هذا الكتاب فينتقل إلى عرض للفلسفة العلمية، ويحاول جمع النتائج الفلسفية التي ظهرت نتيجةً لتحليل العلم الحديث واستخدام المنطق الرمزي.
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يتناول المذاهب الفلسفية والتفكير العلمي، فإن مؤلفه لم يفترض في القارئ معرفة بالاصطلاحات الفنية للموضوع الذي يعالجه؛ فهو يتضمن على الدوام شرحًا للمفاهيم والنظريات الفلسفية، يسير جنبًا إلى جنب مع ما يُوجَّه إليها من نقد. ومع أن الكتاب يبحث في التحليل المنطقي للرياضة والفيزياء الحديثتَين، فإنه لا يفترض في القارئ أن يكون رياضيًّا أو فيزيائيًّا، فإن كان لدى القارئ من الحس السليم ما يكفي لكي يبعث فيه الرغبة في أن يعرف أكثر مما يمكن أن يعرفه بالحس السليم وحده، فإنه يكون قادرًا على تتبُّع مناقشات هذا الكتاب.
على أن الناس لم يُدرِكوا بعد، بما فيه الكفاية، أن مثل هذه الفلسفة العلمية موجودة بالفعل، فما زالت هناك غشاوة عن الغموض، متخلِّفة عن عهود الفلسفة التأملية، تحجب كل معرفة فلسفية عن أعين أولئك الذين لم يتدربوا على أساليب التحليل المنطقي. ولقد أخذت على عاتقي كتابة هذه الدراسة أملًا في تبديد هذه الغشاوة بالهواء المُنعِش للمعاني الواضحة؛ أي إن هدف هذا الكتاب هو البحث في جذور الخطأ الفلسفي، وتقديم الأدلة التي تُثبِت أن الفلسفة قد ارتفعت من الخطأ إلى الصواب.
جامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس