المقدمة
في وقت مُبكِّر من حياتي تعلَّمت ماذا يعني أن يكون المرء عالمًا. وفقط في السنوات السبع الماضية ناضَلتُ عن وعي وتصميم بشأن ماذا يعني أن يكون المرء امرأة، وامرأة في رحاب العلم.
في فترة مراهقتي كنتُ توَّاقة لاكتشاف مَن سيكون زوجًا لي فأرتِّب حياتي مع حياته ومَسار عملي مع مَسار عمله، وأقف في صَفِّه وأُشاركه اهتماماته. ولما كنتُ أستمتع بكل المواد الدراسية في المدرسة وأحصُل في الغالب على تقديرات امتياز، فإن الاعتداد بالذَّات المُصاحب للمراهقة أوْعَز لي أنني أستطيع أن أفعل أي شيء. ثم بدأْتُ أتواعد مع جون. كان يقضي أمسياته وعُطلات نهاية الأسبوع وعُطلاته الصيفية في الطابق السفلي من مُختَبَره. وفي مُختبَره الكيميائي ناضَل لإعادة تخليق الظروف الابتدائية على الأرض التي تأدَّتْ إلى تَشكُّل الأحماض النووية، بشائر الحياة. وفي خِضمِّ مَتاهة من مُعدَّات إلكترونية بالية، خَطَّط مع صديقه توم لجذب الأطباق الطائرة عن طريق ملف تِسلا لديهما، وهو أنبوب تصريف مَلفوف بسلك وردي وأبيض. يُولِّد قوسًا كهربيًّا ضخمًا.
كانت فكرة أن أكون أنثى تَعنِي لي أن أرتدي شرائط وسُترات ذات ثنيات، ومُتابعة أنشطة وادعة؛ مثل: الطهو والحياكة. وعلى الرغم من اكتسابي مهارة في هذه الأنشطة، فإنها بدَتْ رتيبة وغير ذات مَغزًى وخِلوًا من المعنى. في الواقع، لا شيء تُمارسه المرأة — الإنجاب، التعليم، التمريض، أن تكون سكرتيرة — يَبدو مَوضِع تقدير. ومن الناحية الأخرى، كان العلم يَتلألأ بِوهَج السُّلطان.
برفقة الغالبية من جِيلي، شَببتُ عن الطوق مَشدودة إلى الإطار العلمي. كان العِلْم يرسم حدود عالَمي، دون أن أُدرك هذا اعتقدتُ أن شيئًا لم يُثبِته العلم، هو شيء لا وجود له إذن. وكان لديَّ إيمان بأن العلماء، إذا أتيح لهم الوقت والمال الكافِيَيْن، فسوف يستطيعون حل كل مشاكلنا والإجابة على سائر تساؤلاتنا. ومع كلٍّ، استطاع العلماء أن يهبطوا بالإنسان على القمر.
ذهبتُ أنا وجون إلى الجامعة معًا، وتَزوَّجْنا والْتحَقْنا بكلية الدراسات العليا لدراسة الكيمياء الحيوية. ولم يخطر على بالي أبدًا أن أي شيء أُنْثَوي يمكن أن يكون ذا علاقة بالعلم. العلم في نهاية الأمر درس نظامي موضوعي وعقلاني. والمنهج العلمي هو الطريقة المُحكَمة للحصول على المَعارف. ما هي الأدوار المُحتملة التي يمكن أن يلعبها الشعور والرعاية؟ كيف يمكن أن يكون للحب أي شأن بالعلم؟ فإما أن النظرية مُصدَّقة ومقبولة، أو أنَّ تجارب لاحقة قد دَحضَتْها.
وإبَّان السبعينيات، استمتعْتُ بالتضارب في كوني امرأة في رحاب العلم. على أن تعبيري الواعي عن أي شيء أُنْثَوي قد انحصر أحيانًا في ارتدائي ثوبًا وجوارب طويلة، أن يكون لي شَعر مُسترسِل، أن أُعِد الشاي والشطائر لجون، وأُنظِّف له الآنية الزجاجية. خلال المُحاضرات والعمل في المُختبَر، وأنا مُحاطة بالعلماء العقلانيين، أصبحتُ كذلك أكثرَ تَوشُّجًا في النظرة العلمية للعالَم. في بعض الأحيان ثَمَّة أشياء قد لا يكون لها مَغزًى، أو فروض مُعيَّنة لا تبدو صحيحة، لكني أشعر أن المشكلة فيَّ أنا؛ أي إنني لا أعرفها بما يكفي، على لرغم من أنني لم أبحث مِصداقِيَّتها.
وبرفْقَة لَفيف من النساء المِهنِيَّات في جيلي، رأيتُ قوة حضارتنا تَصطفُّ في إطار الأشياء التي يفعلها الرجل؛ العلم، الأنشطة الاقتصادية، القانون، السياسة. ولكي أُثبِت ذاتي وأنجح في مجال العلوم الذُّكُوري تَبنَّيتُ المقارَبة العقلانية التحليلية التَّراتُبيَّة. أردتُ إثبات أنني أستطيع أن أكون ذات وجاهة وكفاءة تمامًا كالرجال.
وحتَّى سبع سنوات خَلتْ لم أكن قد طَرحتُ بجدية السؤال حول ما يَعنيه لي أن أكون امرأة. أنا وجون انفصَلْنا ولم يكن لديَّ أطفال، وبالتالي لم أكن أقوم بالأدوار التقليدية للزَّوجة والأم، وعلى الرغم من أنني كعالِمة في شركة للتكنولوجيا الحيوية جَنيتُ أموالًا أكثر من كل ما جال بخاطري؛ شعرتُ بأن وظيفتي عَقيمة ولا تُشبِعني. شَعرتُ أنني منهوكة القوى. تَلهَّفتُ لممارسة عمل يعني الأكثر بالنسبة لي، شيء ما يصنع اختلافًا.
حين مُراجَعة هذا الكتاب للنشر، مُحرِّرون كُثر أسَرتْهم الفكرة لكنهم طلبوا تعديلًا في اللغة للتَّخلُّص من ثنائية الأُنْثَوية / الذُّكورِيَّة من أجل استبعاد الأثقال التي يحملها الناس تجاه كلمة الأنوثة. أحَد المُحرِّرين اقترح عليَّ التعالي على الاستقطابية باستعمال مُصطلح محايد بينهما يشمل كليهما، هذه المسألة اللغوية بَرَّحَت بي لعدة أسابيع. لاحظتُ أن مُؤلِّفِين آخرين واجهتهم هذه المسألة نفسها فلجئُوا إلى مُصطلَحات ذات شحنات عاطفية أقل، من قبيل المخ الأيسر / المخ الأيمن، أو المَفُهومين الصِّينِيَّين «للين» و«اليانج». وأخيرًا وصلتُ إلى استنتاج مُفاده أنَّنا لا نستطيع أن نَتعالى على هذه الاستقطابية ما دُمْنا نُقدِّر قيمة كلا الجانبين على السواء، وإلا سنَظل نُنكر الأُنْثَوية.
حين نقع في شراك إطار تراتبي هرمي من هذا القبيل سوف نقوم تلقائيًّا بتصنيف الشخص أو المهنة أو العِرق أو الجنس أو الجَنْوَسة ترتيبًا تفاضليًّا. وإذ نفعل هذا نخفق في تقدير دهشة التنوع وجماله ومنافعه. وبينا تتوقَّف طاحونة العمل في المختبَرات حين تعطب غسَّالة الأدوات، يمكن أن تستمر التجارب في غياب باحث رئيسي لأسابيع من وقت العمل. لن تنجح الشركة أو المشروع بغير الأداء الجيد لجميع الجوانب على قدَم المساواة، ومع هذا نستمر في تصنيف بعض الناس على أنهم أكثر أهمية في هذا المسعى أو ذاك من الآخَرِين.
وطالمَا تَسود هذه النظرة الشاملة المتراتبة هرميًّا، فأن تكون مختلفًا عن الرجل الأبيض المهني يعني أن تكون الأدنى. فإما أن يتم تصنيفك على أنك الأول ورقم واحد أو يتم استبعادُك بوصْفِك غير ذي أهمية. ولهذا السبب وُجِدَت نساء كثيرات — حتى من بين النسويات — تَتوتَّر أعصابهن من جَرَّاء تعريف شخصياتهن بأي شيء أُنْثَوي، ما دُمْن قد عَمِلن بجدية لإثبات مساواتهن بالرجال. وكنتيجة لهذا يُنكرْن جوانب من نفوسهن تَختلف عن الرجال ويَنفرْن من استكشاف أية كيفية يمكن تصنيفها على أنها أدنى، من قبيل الشعور أو الرعاية. إن مجرد التأمل في الفكرة القائلة إن النساء يَختلفْن عن الرجال يواجه تهديدًا. مثلا، حين ذكرتُ عنوان هذا الكتاب لمُؤرِّخة عِلم نِسْوية، أشاحَت بوجهها بشيء من الانزعاج. سألْتُها لماذا أثارَتْها هكذا كلمة «أُنْثَوية»، أجابت: «بسبب من الحتمية البيولوجية.» بعبارة أخرى، إذا كانت الخصائص الأُنْثَوية مُحتَّمة بيولوجيًّا، فإن النساء مُدانات بأن يَبقَين إلى الأبد في منزلة أدنى في العالَم المتراتب هرميًّا (الهيراركي). من الناحية الأخرى، فإن النظرة التي تَنتعِش بالتَّنوُّع وترى الاختلاف تَتامًّا، يلقى تقديرًا متساويًا، ونافعًا للكل، هي نظرة تُتيح احتواء الاختلافات والاحتفاء بها. إن الانفتاح على التَّعدُّدية حاسم لقراءة هذا الكتاب. ولذلك أسأل القارئ أن يُعلِّق على سبيل التجريب أفكاره حول التصنيف التلقائي لشيء أو لشخص فوق الآخَر، وأن يأخذ في اعتباره كيف سيبدو عالَم يُقدِّر قيمة الإمكانيات الخلَّاقة المفطورة في التَّنوُّع.
تُعلِّق ماكْكورماك على هذا قائلة: «إذ تَتغيَّر الطُّرُز الشائعة لتأريخ العلم، تَتغيَّر الصفات التي يُنظَر إليها بوصفها ضرورة لا مَحيص عنها للتفوق، لكن الوضع الخاضع المُتدنِّي للمرأة بَقِي كما هو … في مرحلة أسبق، حين تَحدَّدَت الخاصَّة الجوهرية للعقل العلمي بالقُدْرة التحليلية، سادَ الاعتقاد بأن النساء لاعقلانيات، مُصابَات بِاعْتِوَار في قُدرتِهن على التفكير. حلَّت اللعنة بالنساء؛ لأنهن عاطفيات وحِسِّيَّات، وبُخِس تقدير ما يبدو من هِبَة طبيعية لهن في الاستبصار الحَدْسي، وهي مهارة مرغوبة لكن من الواضح أنها ذات مُستوًى أدنى من ذلك الذي يحمله ورثة ديكارت. في الوقت الراهن تُعاد كتابة تاريخ العلم في إطار وَثبات باراديم توماس كون الخلَّاقة، ويُوصف العقل العلمي المتألِّق وصفًا مختلفًا: نمط من التركيز الفضفاض، حَدْسي، مُندفِع إلى حدٍّ ما، إن لم يكن مُريدًا، إذا أرادت المرأة قطْف ثمار هذا التَّحوُّل، قيل إن المرأة تُفرِّط في الحذر، وشديدة الارتباط بالمُعطَيات التجريبية، وعلى الإجمال مُتعقِّلة جدًّا.»