الفن والحياة
(١) موضوع الإستطيقا السيكولوجية: المؤلف والمتذوق
هناك سؤال نمهد به للموضوع هو: هل تهتم الإستطيقا بوجه خاص بسيكولوجية المؤلف؛ صاحب الدور الفعال الإيجابي في الخلق، أو بسيكولوجية المتذوق؛ صاحب الدور السلبي الذي هو التأمل؟ هل الإستطيقا السيكولوجية على الخصوص سيكولوجية للعبقرية والإبداع أم سيكولوجية للإعجاب وللذوق وللحكم؟
والحق أن الإجابة ظلت إما هذا وإما ذاك. ولكن ينبغي علينا أن نفهمها فهمًا يضم الجانبين جميعًا. ذلك أننا — دون أن نتجاهل الاختلافات التي لا مناص من الاعتراف بها — يجب أن نلاحظ أن الفنان الخالق هو في نفس الوقت حَكمٌ على نفسه، ويتضح هذا عندما يعيد الكاتب قراءة مسوداته ليصححها، وعندما يتراجع المصور بضع خطوات ليرى لوحته في مجموعها ويضيف إليها من لمساته، ثم عندما يؤدي الموسيقي سيمفونيته على البيانو أو يستعيدها على الأوركسترا. أما الناقد أو المتذوق فهما شخصان فعَّالان إيجابيان على طريقتهما حينما يستعيد الواحد منهما العمل الفني في فكره ويجعله خالصًا له محاولًا فهمه عن طريق فهم وسيلته الفنية. فالإستطيقا الحديثة إذَن تهتم بهذين الجانبَين المتشابكَين غاية الاشتباك في الحياة الفنية.
(١-١) الشخصية – الأمانة – الإيهام
غير أنه كثيرًا ما يراد بهذا القول الإشارة إلى أن العمل الفني أو الجمال الحائز على الإعجاب يعبِّران تمام التعبير عن الطبيعة الشخصية أو عن خلق وعادات الفنان أو المتأمل وهذا بقدر ما لهما من الجمال. إن الجمال إذَن هو الشخصية، هو الشخصية التي يُنظر إليها بطريقة جِد تعسفية على أنها مطابقة للوجدان. ويبدو في الواقع أن هذا الزعم ليس إلا رأيًا قديمًا باطلًا أبقى عليه غرور كثير من الفنانين الذين يرَون من صالحهم المبالغة في قدر الالتباس المقصود الذي يدخل ضمن كل إعجاب إستطيقي.
(١-٢) العلاقات الخمس الرئيسية بين العمل الفني وحياة المؤلف أو المتذوق
إن أقوى الأسباب التي تعتمد عليها أهم نظريات الإستطيقا في تدعيم وجودها هو تعبيرها عن وظيفة من الوظائف التي يقوم بها الفن في الحياة، وظيفة تختارها النظرية وتحبِّذها وتدعو لها. ولكن الخطأ الذي تقع فيه هذه النظريات هو أنها تجعل من الوظيفة التي اهتمت بها شيئًا مطلقًا، متجاهلة في ذلك الأنماط السيكولوجية الأخرى للإبداع والتأمل. وهذا التعميم الذي تتورط فيه النظريات يختلف اختلافًا بيِّنًا من مذهب إلى مذهب وينتهي إلى نوع من تمييز لنماذج وأنماط سيكولوجية وسسيولوجية.
وظيفة اللهو La fonction de diversion
تطهير الانفعالات La purgation des passions
وقد أعطى أرسطو للوظيفة الثانية للفن الاسم المجازي «كاثرسيس» أي «تطهير (أو تنقية) الانفعالات». قال أرسطو: إن التراجيديا تُفرغ على صور غير ضارة حاجة الإنسان للإحساس بانفعالات عنيفة حادة لا تعطينا الحياة الاجتماعية في المعتاد الفرص الكافية المناسبة لها. من هذه الانفعالات: الفزع والشفقة والحب وكثير غيرها.
والعمل الفني من هذا النوع يؤدي وظيفة إيجابية في التخليص والتحصين النفسي للإنسان، ومثله في ذلك مثل خراج التثبيت أو مثل فعل حقنة من المصل المخفف.
النشاط التكنيكي L’activité technique
إن ثالث وأهم وظيفة للفن هي الوظيفة التكنيكية وهي تعني بالنسبة للموسيقيِّ «ممارسة فكرة موسيقية» لا تعبِّر عنها سوى الأنغام والأصوات، وتعني بالنسبة للشاعر الحياة الخاصة بالإيقاعات، ثم تعني بالنسبة للمصور العالَم التشكيلي؛ حيث لا حقائق إلا الأشكال والألوان. والفنانون الموهوبون يمارسون هذه المهام؛ لأن لديهم التكوينات العضوية التي تؤدي إليها دون أن يكون في ممارستهم لها أي هدف آخر سوى تشغيل هذه الأعضاء البدنية والعقلية، وهذا النشاط التكنيكي له استقلاله النسبي بين صور النشاط الأخرى الموجودة في الحياة الواقعية، فهو لا يختلط بأي نشاط آخر.
وعلى هذا النحو يكون الأخَوان جونكور فنانَين خالصَين يهتمان فقط بالتكنيك فيما يمارسان من فن. ونرمي أمثلة كثيرة غيرهما في تاريخ «الموسيقى المطلقة» التي لا كلام فيها ولا فعال.
وقد اعتقدت مدرسة «الفن للفن» في القرن التاسع عشر إمكان إقامة هذا المعيار الأرستقراطي كقاعدة وحيدة لا ثاني لها تتحكم في الكل.
وظيفة التحسين La fonction de perfectionnement
والعلاقة الرابعة التي تربط الفن بالحياة الواقعية هي علاقة السمو بها إلى الكمال أو المثالية.
ومنذ أيام أفلاطون، وبرغم وجود أنواع فنية واقعية، ونحن نرى نظريات عديدة مثالية تقول إن هذه الوظيفة التحسينية هي الوحيدة الخليقة بالفن. وهذا الرأي هو عكس ما تقول به الوجودية المعاصرة المندمجة على الدوام في الواقع ولو مبدئيًّا.
وظيفة التكرار La fonction de redoublement
وآخر مهمة للعمل الفني الجميل قد تكون تكرار أو تدعيم الحياة الواقعية كما هي؛ قاصدين من ذلك إلى أن نحفظ صورتها أو عند الحاجة إلى تقويتها دون أن نغير منها إلا بقدر. وهذا على عكس فكرة تطهير الانفعالات، تلك الفكرة التي تهدف إلى تخليصنا من هذه الحياة الواقعية. والحق أن العمل الفني عندما ينهمك في عملية التكرار هذه يزيد الشر شدة، وهو قد كان يدَّعي أنه إنما يهدف إلى علاجه. والخلط بين هاتين الوظيفتَين المتناقضتَين كان السلاح الأول الذي استخدمه أعداء المسرح ابتداءً من آباء الكنيسة حتى بوسويه وتولستوي. وقد قال روسو في هذا المعنى: «إن المسرح يطهر انفعالات ليست فينا ويؤجج ما لدينا من انفعالات.»
وهنا نلمس التعقيد الشديد والإبهام الذي تتصف به النتائج النفسية والاجتماعية التي يمكن أن يؤدي إليها مثل هذا التحليل السيكولوجي.
إن الفن إذا عبَّر على الدوام عن شخصية المؤلف أو المتذوِّق يسلك على الأقل خمس سبل مختلفة للتعبير عن هذه الشخصية، ومن هذه السبل ما يدعو إلى الابتعاد عن الشخصية أكثر الابتعاد. إن العمل الفني الجميل لا يقتضي أن تكون وراءه على الدوام نفس جميلة. وإن تاريخ حياة عظماء الرجال كثيرًا ما يظهرهم صغارًا من الناحية الخلقية في خارج حدود مؤلفاتهم الممتازة التي تتسم وحدها بالعظمة. وإن من النفوس الممتازة من إذا أرادت التعبير لم تجد إلا أشياء تافهة تعبِّر بها. والحق أن هذا الاختلاف الواضح الشائع بين الفن والحياة يثير دهشة واستنكار القضاة البسطاء الذين لا يرَون فيه إلا لؤمًا وتكلُّفًا كاذبًا جديرًا بالاستنكار أو شيئًا مختلًّا وغير منطقي.
وليس هناك من الأحكام الإستطيقية المتحيزة ما هو أكذب من «النقد على أساس تاريخ الحياة» الذي يرى أن «هذا العمل الفني من ذاك الرجل الذي خلقه» وأن العكس صحيح . والحق أنه كثيرًا ما يحدث أن الرجل بدلًا من أن يضع في عمله الفني ما هو عليه، يضع ما يعتقد أو ما يودُّ أن يكون أو ما يمكن أن يصبحه أو ما يخشى أن يئول إليه وفي هذه الحالة علينا أن نقول: «هذا الرجل خلاف هذا العمل الفني.»