الخلق والتأمل
(١) معركة الملكات
إن هذه النظرة المغرية التي عرضناها هي للأسف أبسط من أن تشمل كل الحقائق، وسنرى أن في عمليات تأمُّل وخلق الجميل تتدخل كل وظائف شخصيتنا تدخلًا يكبر أو يصغر بحسب الظروف.
(٢) الفن والجمال كتكشُّفات لحقيقة عليا أو لحياة عميقة
(٢-١) النزعة الحيوية الإستطيقية Le vitalisme esthétique
افترض كثير من أصحاب النظريات أن وجداناتنا العادية تصبح إستطيقية عندما تكشف لنا عن الجوهر العميق للأشياء، وأن هذا الكشف يفوق كشف الطبيعة التي لا تقدِّم إلا مظاهر سطحية، ويفوق كشف العلم الذي لا يستخلص إلا مجردات مصطنعة.
أما تين فقد اتجه اتجاهًا أكثر إيجابية وإن كان لم يبعد عن الاتجاه العقلي؛ فطلب فقط من العمل الفني أن «يُظهر صفة أساسية أو بارزة بشكل أكمل وأوضح مما تُظهره الأشياء الحقيقية.»
ولنبعد الآن أقل البعد عن الميدان السيكولوجي، ولنقُل مع جويو إن هذا الإحساس بحقيقة أكثر جوهرية ليس إلا شدة حياتنا بتمامها. «إن مبدأ الفن هو في الحياة ذاتها.» «وإن الجميل يرجع إلى الشعور بالحياة شعورًا ممتلئًا شديدًا.» «وإن الحياة حياة ممتلئة وقوية هو في ذاته شيء إستطيقي.» «إن الفن هو الحياة مركزة.» ثم إن جويو لا يتردد إزاء هذه النتيجة التي لا تخلو من تناقض، «إن الإيهام ليس شرطًا للجميل في الفن، بل هو تقليد له، أما الحياة والحقيقة فهما الغاية الحقَّة للفن، وإن عدم بلوغه هذه الغاية هو نوع من الفشل.» «كلما كان هناك إحساس بحياة أكثر شدة ويسرًا كان هناك جمال.»
وأخيرًا نرى بعض تلاميذ برجسون — ولعلهم لا يتنكرون كثيرًا لفكر أستاذهم — يقولون إن تأمل أو خلق الجمال هو ازدهار لحياتنا العميقة ولمعطياتنا المباشرة ولحريتنا اللاعقلية التي تخلق نفسها بنفسها في وسط الميكانيكية العالمية التي تسيطر على عالم النشاط العملي والذكاء النفعي.
والواقع أن هذه النظريات تستوحي كيانها من اتجاه شعري أكثر منها من اتجاه علمي، وأن التأثيرات الضوئية التي يراها الفنان تأثيرات عميقة ليست إلا سطحية في نظر الطبيعيين أو الميتافيزيقيين. وكثيرًا ما يقال إن عملًا فنيًّا يكون جميلًا لأنه حي، حتى ولو كان يمثل ألعاب أشكال غير حية أو يمثل حتى الجمود الشاحب لجثة من الجثث. فالتكنيك وحده هو الحي العميق. ينبغي علينا إذَن ألا نأخذ الاستعارات الجميلة المنمقة على أنها حقائق ولا حتى على أنها تفسيرات أو تعليلات. وينبغي علينا كذلك ألا نأخذ علم الجميل على أنه «نشيد للجمال»، وإن «عبادة الجمال» ينبغي ألا تكون خرافة الجمال.
(٣) التعاطف الإستطيقي أو الاستشعار Einfühlung
غير أننا لا يمكننا القول بأن هذه المحاكاة النفسية تميز الفكر الإستطيقي؛ لأنها عامة عمومية زائدة عن اللازم. إننا نعطي ببساطة أو بالضرورة حياة أو روحًا لشيء من الأشياء حتى نفهمه فهمًا علميًّا أو على الأقل فهمًا مبهمًا؛ ولكننا لا نفعل ذلك بالذات لكي نجده جميلًا أو قبيحًا. إنني لا أستطيع تمثُّل مرونة هذه الورقة إلا على أنها تُماثل قوتي أنا، وهذا التواصل شرط أولي لكل إدراك، وهذا الإدراك بدوره شرط لكل عملية من عمليات التقييم؛ ولكنه ليس شرطًا لعملية التقييم الإستطيقي بالذات. ويحدث في كثير من الأحيان أنه يكون أقل شدة بكثير عند المتذوقين الحقيقيين منه عند الجهلاء المنعدمِي الذوق الذين يبحثون عن انفعالات خارجة عن المجال الإستطيقي ومرتبطة بالتكنيك أكثر من بحثهم عن الانفعالات التكنيكية ذاتها.
(٤) الفن واللعب L’art et le jeu
وقد وسَّع سبنسر هذا الرأي بقوله إن الفن نوع من رفاهية الحياة والتطور، وأنه مصبٌّ للتخلص من الزائد من القوى غير المستخدمة والتي يحس إنسان ما ممتلئ بحيوية زائدة بأنه في حاجة إلى استهلاكها دون أن يكون له هدف سوى هذا الاستهلاك. وعلى هذا يمكن القول بأن الأجزاء العاملة الهامة من أعضاء الحيوان هي أجزاء مفيدة ولكنها ليست جميلة، وأن لمعة الوبر والريش ودرقة السلحفاة إنما تكون جميلة عندما تكون غير مفيدة. وإن أبراج ومتاريس القصور الحصينة كانت أشياء قبيحة أو لا معنى لها في نظر أولئك الذين كانوا يعيشون في العصور الوسطى ويعرفون الأغراض والمصالح التي تؤديها تحت أبصارهم، وقد أصبحت نفس هذه الأبراج والمتاريس أشكالًا زخرفية في نظرنا عندما فقدت وظيفتها. وإن شاعرية الأطلال لتفسَّر جزئيًّا بهذا اللعب الشارد الذي ينطلق فيه خيالنا المتحرر.
وأخيرًا يبين جروس أن اللعب ليس على الدوام بغير ذي فائدة؛ فهو يقوم بوظيفة التعليم والتكرار التمهيدي وهذا شيء له أهمية لدى الكائن الصغير الذي لم يبلغ بعدُ القدرة على ممارسة غرائزه ممارسة جدية. وهذا يفسر لعب القطة الصغيرة وجريها وراء وُريقات ميتة، إنها تُعِد بذلك العدة لما ستفعله فيما بعد بالفيران، وإن الطفل ليلعب بفطرته عسكريًّا أو فارسًا أو لصًّا، وإن الطفلة لتلعب بفطرتها سيدة أو بلعبة الزيارات، وهي أعمال تعتبر في الواقع تمثيليات حقيقية مؤداة بالحركات والكلام. وإن الألعاب الحربية أو القنصية والدينية والفنية التي تقوم بها الشعوب البدائية لتمثل وظائف وانتقالات مماثلة.
وفي هذه الاتجاهات المختلفة التي تتناقض أقل مما تتكامل تكوِّن الإحساسات الإستطيقية — من ناحية المبدأ — أشكالًا منوَّعة من اللعب؛ تكوِّن لعبة سامية تأمُّلية يسهم فيها الذكاء، وأما الألعاب العادية المعروفة؛ فتكوِّن فنونًا سفلى مهمتها تدريب النشاط وحسب.
ومن بين النظريات التي عرضناها حتى الآن تبدو نظرية اللعب أكثرها إرضاءً؛ لأنها تبذل جهدًا موفَّقًا إلى حد كبير لاستخلاص ما هو نوعيٌّ في الإستطيقا؛ لذلك كان دورها التاريخي رئيسيًّا هامًّا في الفلسفة الحديثة ويشبه الدور الذي كان لمدرسة «الفن للفن» في تاريخ الفن في القرن التاسع عشر. لقد كان مبدأً جوهريًّا القول بأن الفن شيء والحياة الجادة شيء آخر.
ولكن هذه النتيجة يغلب عليها الطابع السلبي. ويُعترض على النتائج الإيجابية التي توصَّل إليها هؤلاء المفكرون — اعتراضًا سليمًا إلى حدٍّ ما — بأن أغلب الألعاب تتطلب منافسة وجهدًا ولا تكون في المعتاد مجردة عن الغرض، بل على العكس يكون لها على الدوام غرض يسيِّرها، وبأن نسبة الألعاب التي تعتبر نوعًا من تدريب الغرائز ليست هي نفسها نسبة الألعاب الإستطيقية الحقة، وبأن الصفات النوعية الخاصة بالفن يجب أن تضاف إلى اللعب ولكنها لا يمكن البتة أن تُستخلص منه لا بواسطة المنطق المجرد ولا بواسطة التطور الواقع. إن اللعب صورة منحطة من صور الفن، لِيكُن؛ ولكن الشيء الذي يميز الفن أصدق تمييز هو النواحي التي تجعله أسمى وأعلى من اللعب وليس هو اللعب نفسه. وأخيرًا فنحن قد رأينا أن اللعب — أو الترف — ليس إلا نمطًا من الأنماط السيكولوجية الممكنة للفنان وللمتذوق وليس بالمرة تفسيرًا كليًّا لكل الجميل أو لكل الفن عند كل الناس. وإن خلاصة جهد تحليلنا يجب أن تهدف إلى تحديد أنواع النظم السيكولوجية والسوسيولوجية التي تعطي لنشاطنا الخرافي قيمة إستطيقية.
⋆لعل من الممكن تأديته في اللغة العربية ﺑ «استشعار».