الخلق والتأمل «ختام»
(١) النشاط التكنيكي الشعوري
إن الدور الرئيسي الذي يلعبه اللاشعور في كل فكر إستطيقي دور لا سبيل إلى إنكاره ولكنه دور يجب مجابهته في حذر؛ لأنه قد بولغ فيه مبالغة وصلت إلى حد الخرافة.
(١-١) الحاستان الإستطيقيتان١
(١-٢) وحدة قوانين الفكر الإستطيقي أو تعددها
ليست ثروة الأحاسيس الإستطيقية سوى شيء أولي لا أكثر؛ فالفكر الإستطيقي بأشكاله المركَّبة يعمد إلى تحليلات وتركيبات مجموعاتية تخضع لقوانين عقلية كلية.
«نقد الحكم الذوقي» عند كانط
والنصر المألوف الذي تحققه المذاهب النظامية هو التعبير عن الفروق الباهتة العابرة بعبارات ثنائية الألفاظ قوامها كلمات جامدة ثابتة تعارض الواحدة منها الكلمة الملاصقة لها. مثال ذلك عبارات: الشكل والمضمون، الفكر والمادة، ويكون في مقدورنا أن نضع في كفَّتَي هذه العبارات الثنائية التناقضية كل الفروق الطفيفة؛ فتصبح بهذه الطريقة أكبر تأثيرًا نتيجة لصلابة هيكل العبارة الذي بني خارجًا عنها.
(١-٣) القانون الأساسي للمقولات التسعة الإستطيقية
يستبعد كثير من الفلاسفة العقليين «الاتجاه التعديدي» الجامد الذي يقسم إلى «مقولات» عديدة على طريقة أرسطو وكانط، ويرون أن كل صور الفكر ما هي إلا تطبيقات منوعة لاتجاه أساسي واحد يهدف إلى السير بالمتباينات نحو الوحدة.
وهذا القانون الاقتصادي الذي هو مطمح الفكر الإنساني في المجال العلمي المختص بالوقائع وفي المجال الخلقي الخاص بالفعال هو نفسه القانون الرئيسي المختص بلعبة التراكيب البوليفونية التي هي روح الحياة الإستطيقية.
والعقل من وجهة عمله الإستطيقي هو قبل كل شيء إدراك للعلاقات الحسية، أما الفعالية فهي إيحاء من الإرادة الحرة أو من الجبرية، والوجدان هو انطباع مستحب لنماء الحيوية الشخصية أو الجماعية. ولسنا بحاجة إلى القول بأن نزعتنا التشبيهية الطبيعية تنقل ملكاتنا بطريقة رمزية إلى الكائنات الدنيا وإلى الأشياء غير الحية.
الانسجام المحقق: الجميل – الهائل – الطلي
الانسجام المطلوب: الرائع – التراجيكي – الدراماتيكي
وأمثلة ذلك في العمارة: الكاتدرائية القوطية وتمثل الرائع. أما أطلال أثر قديم صارع القرون ففيه شيء من التراجيكي، وأما الدراماتيكي فيمثله بيت اضطرمت فيه النيران أو نسفته القنابل.
هذه المقولات الثلاثة الجديدة قد حددت وعُرِّفت حسب الانسجام أيضًا، ولكنه انسجام مطلوب مرغوب نود تحققه أي أنه لم يتحقق تمامًا. إنه انسجام لا يمكن أن يصنع أو يتحقق في عالمنا هذا؛ ولكنا نحسبه ممكنًا أو محتملًا في عالم عالٍ، إلا أننا لا نفهمه كل الفهم.
الرائع بالنسبة للعقل صراع بين أفكار مطلوب البت فيها، هو لغز مطلوب حله «من أعلى» بحل ينبغي أن يكون خارجًا عنا وعن الكائنات الممثلة، بل خارجًا عن الطبيعة ذاتها. إن الرائع باتصاله بما وراء الطبيعة وباللانهائي له مسحة من الدين أو الميتافيزيقا.
والتراجيكي إيحاء بصراع ضد مصيبة مقدرة، هو عراك يقوم به كائن يعتقد أنه حر ضد جبرية خارجية لا مفر منها ولا رادَّ لها. ورغم ذلك يرفرف عليها إيمان بانسجام لا يعرفه هذا العالم. فالملحمي والبطولي أنواع أخرى تدخل ضمن هذه المقولة المتسامية نفسها.
الانسجام المنعدم: الناكت – الكوميكي – الفكاهي
وثمة مجموعة أخيرة من ثلاث قيم تختص بالانسجام؛ ولكنه في هذه المرة انسجام منعدم؛ حيث وحدة ظاهرية كاذبة نكتشف فيها تفككًا خفيًّا حقيقيًّا؛ إنه لغز نحله «من أسفل» بوسائلنا وطرقنا الخاصة.
والهزأة في ميدان العواطف الاجتماعية هو الجزاء الذي تنزله على فرد أو بيئة واطيَين طبقة اجتماعية ضاقت بتعديات هذا الفرد أو البيئة. ونمط الهزأة الجمعي هو ما بطلت وقدمت موضته. هذا والجزاء الذي نتحدث عنه لا يمكن أن نجد له سببًا عقليًّا يسنده ويؤيده؛ فالملبس الذي بطلت موضته هو في الواقع الملبس الذي كنا منذ شهور أو سنوات مضت نلبسه وننظر إليه كدليل على الذوق. ولكننا نستطيع تفسير ذلك أحسن التفسير إذا أرجعنا الهجوم على ما بطلت موضته إلى المجال الذي يسود التصرف فيه قدرٌ من العاطفة والانفعال أكثر من التفكير والحرية؛ تصرف تأثر ضد ذلك المتعنت الذي يرفض أن يظهر دلائل خضوعه للتضامن الاجتماعي المتمثل في الموضة الجديدة.
(١-٤) القبح
ليس القبح في الفن غياب الانسجام فحسب؛ ولكنه أيضًا الاتجاه السلبي أو العدائي حيال الانسجام، إن القبح لاانسجام يمتد إلى حيث كنا ننتظر الانسجام إلى حيث «كان ينبغي» أن يكون الانسجام. والقبيح ليس فقط ما كان بغير بوليفونية؛ ولكنه أيضًا ما كان يفترض فيه وجود بوليفونية «فاشلة». فالفرق كبير بين سطر من النثر وبين بيت شِعر كأنه النثر، بين قطعة من الأثاث جميلة الذوق ولكن قليلة الثمن، وبين قطعة أثاث ثمينة ولكنها مهلهلة وتفتقر إلى الذوق الجميل، بين صورة فوتوغرافية لا تشبه الشخص وبين رسمة رسِمَت بطريقة رديئة، بين ملبس لا موضة له يرجع إلى قرنين من الزمان وبين ملبس بطلت موضته منذ سنتين …
وبنفس الطريقة نقول إنه لكي تكون الطبيعة قبيحة ينبغي أن تبدو وقد أخطأت هدفًا، وأن نكون نحن قد ظنناها — ظنًّا قليل أو كثير الشعورية — قد فشلت في تطبيق تكنيكٍ كائن في الطبيعة ذاتها، وإلا لكانت الطبيعة خارجة عن الميدان الإستطيقي. والقبح في الطبيعة هو مبدئيًّا ما كان مسخة وليس هناك «مسخات جميلة» خارج ميدان الفن إلا في اعتبار أولئك الذين يتخيلون تكنيكًا للمسخ، يتخيلونه لمجرد المعارضة والمناقضة، وليهيئوا لأنفسهم ترف الحكم على هذه المسخ بالنجاح أو بالفشل.
القبح هو رفض مجابهة مشاكل الانسجام غير القابلة للحل، أو هو حل المشاكل الأخرى، أو هو الحياة في هذا الانسجام عندما يكون كل صراع قد حُسم؛ ذلك أنه يوجد قبح للمتحقق وقبح للمطلوب وقبح للمنعدم، وهذه الأنواع هي على التوالي عكس الجميل ثم عكس الرائع ثم عكس الناكت. وكل هذه الأنواع ليست فقط خارجة على الميدان الإستطيقي، إذَن لهانَ الأمر ولكان ذلك من حقها؛ ولكنها لاإستطيقية أي أنها خطيئة كبرى ضد «دين الجمال».
هذه هي الأربعة الشروط الصورية التي ينبغي على كل فرد أن يخضع لها إخضاعًا سابقًا على الخبرة كل لعبة حرة تقوم بها حساسيته لتتفق مع فهمه في حكم ذوقي أيًّا كان «المضمون» أو المادة الحسية التي تقدمها التجربة سواء كان موضوعًا طبيعيًّا أو عملًا فنيًّا؛ رمزًا للتوافقات الأخلاقية وفوق الحسية.
انسجام | محقق | مطلوب | منعدم |
---|---|---|---|
عقلي | جميل beau | رائع Sublime | ناكت spirituel |
فعالي | هائل grandiose | تراجيكي tragique | كوميكي comique |
وجداني | طَلي gracieux | دراماتيكي dramatique | فكاهي humouristique |
هذا الفهم للجميل على أنه أقصى وحدة منسجمة مع أقصى تعدد قد أحس به منذ العصور القديمة أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وأكده القديس أوغسطين ثم عاد إليه الديكارتيون وليبنتس وكروزاس والأب أندريه، حتى أصبح في عصرنا الحاضر فكرة عادية. وهذا الفهم يحاول بصفة عامة أن يفسر المقولات الإستطيقية التي نحاول نحن تمييزها هنا بوجهة نظر واحدة وبدون الإشارة إلى الفروق التي لا مفر منها؛ لذلك يمكننا أن نُنحي باللائمة على بعض هذه العبارات؛ لبعدها عن الوقائع ولقبولها تطبيقات تعسفية. من هذا القبيل التعريف الذي قال به ديديرو Diderot في الموسوعة l’Encyclopédie «الجمال لفظي نسبي يدل على القدرة على إثارة علاقات مستساغة في نفوسنا، وقلت مستساغة لأطابق المعنى العام الشائع للفظة الجمال؛ ولكني أعتقد من الناحية الفلسفية أن كل ما يمكنه أن يثير فينا إدراك العلاقات فهو جميل.» وهذه عبارة تمتاز بأنها توحي بأن العلاقات غير المستساغة الرذلة القبيحة في الطبيعة يمكن أن تصبح جميلة في الفن؛ ولكننا نضيف فقط إلى عبارة ديديرو «… بشرط أن تكون العلاقات بوليفونية بما فيه الكفاية.»
ويرى شللر وفولكلت في الطلاوة: «تعبيرًا عن نفس جميلة في الظاهر.» أما سبنسر وفيرون وغيرهما؛ فيجعلون منها اقتصادًا للقوى وسهولة بلا جهد، قريبة من الحرية «برجسون» وتابعة لاستمرار للحركة يسمح بالتنبؤ بسهولة بالمراحل التالية بناء على المرحلة السابقة لها؛ مثال ذلك: إيقاعٌ ما أو خط منحنٍ، والملاحظ أن الفهم الأول واسع بإفراط بينما الثاني ضيق بإفراط، وهما ليسا إلا أشكالًا غير صريحة للوحدة في التعدد تنسى أثر سيادة الحساسية والضعف اللذين يضفيان صفة الأنوثة على كل طلاوة حتى غير الحية منها. «والطلاوة كما يقول باير كأقصوصة متفائلة تحكي القوة وتخلد لحظة الجهد الأقل.»
انظر: Ch. Lalo, l’Esthétique du Rire. Flammarion.
هذه النظريات في العادة ناجحة ولكنها تفسر إما حالات كثيرة جدًّا وإما حالات قليلة جدًّا. أليست المقابلات contrastes توصف أحيانًا بأنها «هابطة»؛ لأننا نضحك منها، لا أننا ضحكنا منها بسبب أنها كانت أولًا في حالة انحدار وهبوط؟ أليس إلصاق صفة الحياة على ما هو ميكانيكي يسبب ضحكنا، كما أن عكس ذلك يسبب الضحك أيضًا؟ ثم المجتمع هل يتطلب منا الحياة أي التلقائية la spontaneité والتحرُّك على غير تصميم سابق أم يتطلب منا التكيُّف مع البيئة والنظام الوسط التقليدي ونصف الميكانيكي الذي يتضح في العرف والعادات الموروثة؟ وإذا كان هناك ضحكات فرح واطمئنان، أليس هناك ضحكات المرح الفياض والاندهاش؟