التطورات الجمعية للفنون
(١) شروط التطور الخارجة عن الميدان الإستطيقي
(١-١) الفلسفة القديمة للفن
(١-٢) نشأة الفنون، البدائيون
وهذا الفن البدائي له — تقريبًا على الدوام — غايات دينية أو حربية فهو يشكِّل طواطم طقوسية ويؤلف منشدات سحرية. ولكنه قلما يؤلف لذاته. أما صياغاته الأسلوبية المهوشة؛ فإن لها في الغالب معاني لا ندركها نحن ولا يدركها أصحابها أنفسهم بمرور الزمن. وهذا الفن أخيرًا يحب أن يخلط الأنواع والفنون — على سبيل المثال — في الرقصات الجمعية المسرحية أو الموزعة أوركستراليًّا أو المنشدة أو المؤداة بتعبيرات حركية أو المقنَّعة، وهي كلها الصورة الأكثر بدائية لكل فن، الصورة التي تتولد منها الأنواع المختلفة في المستقبل.
ولهذه الدراسات التي أصبحت الآن مزدهرة أكثر من ذي قبل فائدة تاريخية واضحة. ولكننا لا يمكننا أن نطلب منها رغم تقدمها أن تتوصل إلى الكشف الكامل القاطع عن أصل وطبيعة ووظائف الفن الخاصة. فالأعمال الفنية البدائية التي يمكن أن نعرفها ونرى أنها عريقة في البدائية، بعيدة أشد البعد عن التلقائية وعن السذاجة وعن النقاوة العذرية التي تُنسب إلى مثل هذه الأعمال في بعض الأحيان. هذه الأعمال أعمال لها تاريخ؛ أعمال مرت عليها مؤثرات وهجرات، وأكثر من هذا أنها تكون أحيانًا تدهور فن كان من قبل ناميًا مترعرعًا. ثم إن جانبًا كبيرًا من هذه الأعمال أعمال غير نقية أو خارجة عن المجال الإستطيقي.
فموضوع النشأة المدعاة للفنون البدائية يجب ألا يكون في الإستطيقا الحديثة أكثر من مقدمة — مقدمة لا مناص منها — لملاحظة ودراسة الأشكال الإستطيقية الأكثر تقدمًا ونقاوة. إنها دراسة تمكننا — كما يقول ليفي بريل — من أن نشخص في هذه الأشكال المتقدمة البواقي البعيدة «لفكر بدائي صوفي سابق على المنطق»، ونضيف نحن إلى هذه الأوصاف «وسابق على الإستطيقا». وقد ذكرنا من قبل لماذا لا نبحث في هذه العقلية البدائية وفي نهضاتها المتأخرة عن جوهر الفكر الإستطيقي ذاته.
(٢) قانون اختلاف مستوى القيم الإستطيقية١
منذ قرن من الزمان وديماجوجية إستطيقية منكرة للمراتب مستوحاة من الرومانسية تدعو إلى وضع كل الأنواع الفنية في مستوًى واحد، جميع الأنواع «ما عدا النوع الممل» كما قد قال من قبل فولتير.
«ليس ثمة كلمات وضعية! ليس هناك كلمات عظيمة! لقد ألبستُ القاموس القديم قبعة حمراء!»
ليس من شك في أن الترتيب السلمي للقيم يتطور، ولكن هذا التطور لا يمنع أن يكون من بين القيم قيمة أكثر أو أقل وضوحًا من غيرها وأن يكون هناك فن عظيم وفن وضيع، فن علمي مثقف أي مهذب وفن شعبي، أشكال حية أو موضة وأشكال أخرى محتضرة أو بطلت موضتها. وهذه الظواهر الاجتماعية إستطيقية في جزء منها وخارجة عن المجال الإستطيقية في الجزء الآخر.
(٣) قانون الأحوال الثلاث الإستطيقية٣
إن القانون الكبير للحركة الفنية هو الحاجة إلى عدم النقل حتى يمكن تجاوز عبودية المهنة تجاوزًا يتم عن طريق خلق أشكال جديدة؛ ولهذا فإن كل جيل جدير بالحياة حياة إستطيقية يفضل شيئًا آخر غير الذي كان للجيل السابق. غير أن وضع القانون بهذا الشكل يجعله مبهمًا سلبيًّا؛ لأن الأجيال ينفُذ بعضها في البعض الآخر بواسطة انتقالات غير محسوسة، ويظل اتجاه هذا التطور التحرري الضروري الذي نتحدث عنه بعيدًا عن التحديد بعدًا يجعله غير مناسب لأهواء الموضة إلا أقل المناسبة غير متفق إلا أسوأ اتفاق مع قوانين الفن الحق؛ غير أن تتبع تاريخ التكنيكات يؤدي بنا إلى تدقيق أكثر من هذا.
ولقد قرر أغلب مؤرخِي الفنون المختلفة أن فترات التكوين والنضج والتدهور تتتابع الواحدة بعد الأخرى تتابعات قليلة أو كثيرة الانتظام. وهذه الحقيقة العامة هي ما يمكن أن نسمِّيه قانون الأحوال الإستطيقية الثلاث. إن كل فن سائر في طريق نمو مستقبل استقلالًا ذاتيًّا نسبيًّا لا توقفه أو تغير اتجاهه بعض الأحداث الخارجة عن المجال الإستطيقي، هذا الفن يمرُّ عادة في مراحل ثلاث تتوسطها المرحلة أو العصر الكلاسيكي ويكون العصر قبل الكلاسيكي والعصر بعد الكلاسيكي طرفيها. وأهم ما يميز هذه الفترات الثلاث هو نقاء الأذواق وأمانة التكنيكات وفصل الأنواع ثم صفة الوضوح والعقل التي تتميز بها المؤلفات في العصور الكلاسيكية. أما العصران المتطرفان فيتميزان بالإفراط في الخلط وبانعدام النقاء أو بوجود تأثيرات معقدة مشكوك في ذوقها.
وقد انتهت هذه الحركات العشوائية إلى العصر الكلاسيكي في القرن التالي، ثم أدت عظمة الكلاسيكيين الكبار — كما هي العادة — إلى ظهور فترة من النقل والخلط الأكاديمي بقي فيها الفن الكلاسيكي حيًّا؛ ولكن حياته لم تكن حياة حقيقية، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، قرن شبه الكلاسيكية.
ثم جاء رد الفعل الرومانسي فأعاد الحياة إلى هذا التكنيك المنهوك خصوصًا عندما رفع إلى مصاف الفن العظيم الأنواع الفنية التي قيل عنها في الأجيال السابقة إنها وضيعة. ثم انتهى الهوج والسرف الرومانسي إلى مرحلة تدهور في الفترة التالية التي خلطت في غير تماسك الواقعية والرمزية، وهما اتجاهان شقيقان متعاديان ينتجان مؤلفات غاية في التعقيد.
وهذه التطورات الكبيرة ليست فردية ولكنها اجتماعية؛ فليست هناك شخصية مهما كانت من العبقرية تستطيع أن تخلق حركة جمعية في جوهرها أو أن تخلق حركة دولية مثل الحركات الكلاسيكية أو الرومانسية أو الأساليب القوطية والنهضية أو الحديثة. في مقدور هذه الشخصية فقط أن تضيف طابعها الشخصي إلى إنتاج هو في أصله اجتماعي.
إن كل عمل من الأعمال الفنية إنما يكون في آخر المطاف نسبيًّا إلى هذا التطور الباطني للفن. وإن آخر سؤال ينبغي علينا أن نسأله لنحدد بطريقة منهجية قيمة من القيم هو: هل العمل الفني آخذ وضع نكوص، أو أنه بقية حية لاتجاه مضى، أو أنه في مكان السوي في لحظة من لحظات الإيقاع الثلاثي للفن؟
وإن أعلى نهاية لسلم العلاقات التي يمكن أن ينتظمها قانون بعد الدراسة السيكولوجية هو المستوى السوسيولوجي، هذا السلم الذي ينتظم كل قيمة فنية أو جمالية في إستطيقا نسبية.
(٣-١) السلطات الثلاث الإستطيقية
- السلطة التشريعية: ومَهمتها وضع قواعد اللعب «أساليب – أنواع – مدارس» الخاصة بكل لحظة من لحظات التطور.
- السلطة القضائية: ومَهمتها الحكم على الجولات الرابحة أو الخاسرة الملغاة أو المغشوشة «جمال – قبح – إسفاف – أكاديمية» وتأكيد النجاحات التي ضربت الرقم القياسي والمباريات التكنيكية «درر الأعمال الفنية الثابتة أو المهدرة القيمة أو التي رد إليها اعتبارها».
- السلطة التنفيذية: توجيه المكافآت والعقوبات الإستطيقية «نجاح أو فشل حاليَّين، نسيان أو عظمة متوقعة في المستقبل».
ونظرًا لعدم وجود أية وضعية للجمال الخيالي المطلق — الذي هو حدٌّ لا يمكننا إلا أن نهدف إليه ونسلك سبيله على الدوام دون أن نستطيع أن نبلغه أو حتى أن نعرفه، وطبعًا دون أن نستطيع أن نحياه؛ فإن الوظائف الثلاث السابقة هي الضمانات الوحيدة التي يمكن التحقق منها لكل قيم الفن في كل تطوراتها المعاشة فعلًا، وبفضل هذه الوظائف الثلاث لن تكون تقديراتنا خاصة بعقل وحيد في الدنيا «وإلا لكان عقلًا مجنونًا»، بل ستكتسب الموضوعية الوحيدة التي تناسب البناءات الروحية.
وقد تمت البوليفونية في العصر الوسيط بإدخالها في الفن الكنائسي الخاص موضوعات بعيدة عن الدين بُعدًا فاضحًا مثل «الرجل المسلح l’Homme armé»، وكانت ثورة الأوبرا الفلورنسية في حقيقتها — وراء مظاهر الهلينية — استخدامًا للحن الشعبي المصاحب الذي كان العصر البوليفوني يحتقره. ثم المتتابعات les suites التي خرجت منها السوناتا والسيمفونية الكلاسيكية ليست إلا مجموعات من الرقصات التي كان الفن الراقي فيما سبق ذلك يستهجنها. ومن قبيل هذا أيضًا ما يحاوله بعض السيمفونيين الشبان هذه الأيام من مدينة جازباند الزنوج الأمريكيين بتكييفه مع جو الكونشرتات الكبيرة عندنا.
القانون الذي نقترحه هنا يختلف اختلافًا كبيرًا عن «قانون الأحوال الثلاث» الذي قال به أوجست كونت، والذي يودُّ لو ينطبق على كل النظم الإنسانية وفقًا لتسلسل مستقيم يبدأ من أصل الإنسان. غير أن أصل الإنسان هذا يستدعي القول فيه توقع استئنافات وتسلسلات عديدة غير متجانسة؛ تتوازى أحيانًا وتتداخل أحيانًا أخرى وتحدث في أوقات مختلفة في البلاد المختلفة والفنون المختلفة والوظائف الإنسانية العديدة القائمة بذاتها قيامًا نسبيًّا. ولنأخذ مثالًا لذلك العصور التي يسمِّيها مؤرخو الفنون «بدائية» «الملاحم الهندية والإغريقية والفرنسية، وبدائيو التصوير الإيطالي والفلاندري … إلخ.» هذه العصور لا تتطابق إطلاقًا والأنماط الاجتماعية التي توصف بأنها بدائية حسب ما يراه علماء السلالات «قبائل الصيادين الأستراليين والهنود والبوشمان … إلخ.» والحق أنه ينبغي — في سوسيولوجية نوعية نسبيًّا فيما يتعلق بالوظائف الفردية — أن تتميز الوظائف الاجتماعية المختلفة النوعية نسبيًّا بعضها بالقياس إلى البعض الآخر أي الوظائف الاجتماعية التي لا تتصادف نظمها وتطوراتها معًا بالضرورة. وقد أكدت الحربان العالميتان (١٩١٤و١٩٣٩م) الاستقلال الذاتي النسبي للفن. لقد أمكن لمصائب الحرب أن تصيب الحياة السياسية والاقتصادية لكثير من الدول بالاضطراب؛ ولكنها لم تصل إلى مثل ذلك في حياتها الفنية. قد تكون نجحت في إبطاء مجرى هذه الحياة؛ ولكنها لم تتلفها في أعماقها؛ فإن المدارس التي كانت موجودة قبل الحرب ظلَّت بعد أن وضعت الحرب أوزارها.