تمهيد
هل جرَّبت أن تقف أمام رسمٍ أو تمثال أو صورة فتحس كأنها تُحَدِّثك بلسان شاعر أو تسكب في أُذنَيك الأنغامَ والألحان؟ ربما قلت لنفسك متعجبًا: حقًّا! إنها لفكرة غريبة، لكنها فكرة عابرة خطرت لعابر سبيل. وتواصل جولتك في المتحف أو المعرض أو المرسم الذي تزوره متأملًا الرسوم والصور وأعمال النحت. قد تستغرق فيها وتتركها تؤثر على وجدانك وعقلك دون أن يتدخل بينك وبينها شيء، وقد تُزاحمك في لحظة التأمل أفكار وآراء ونظريات حصلت عليها من هنا ومن هناك، لكنك في أغلب الظن ستمضي لحالك دون أن تعيد النظر في تلك التجربة، أو تطيل الوقوف عند تلك الفكرة، ولو تصادف وفعلت لتبيَّن لك أن مئاتٍ من الشعراء والفنانين التشكيليين على مدى المئات من السنين قد تبادلوا التأثير والتأثر، فاستلهم الشاعر اللوحة والصورة والنقش والتمثال، والمعبد والمسلة والزهرية والأيقونة، وسجَّلَ إلهامه في قصيدة، كما استوحى الرسام والمصوِّر والمثَّال والخطَّاط ومصمم البناء والمعمار … إلخ، قصيدة شاعر من الشعراء، فرسم وصوَّر وخطَّط وجسَّمَ ما كان الشاعر قد تخيَّله وصوَّره بالكلمة والوزن والإيقاع …
وقصة هذا التأثير المتبادل بين الفنون — خصوصًا فن الشعر وفن الرسم — قصة طويلة يُقَدَّر عمرها بثلاثة آلاف سنة في تاريخ الأدب والفن، لا الغرب والشرق. وهي قصة مثيرة ومُحيِّرة تطرح أكثر من سؤال وجواب عن تلقي الشعراء لأعمال الفن، واستقبال الفنانين لفيض الشعراء، عن العلاقة بين الفنون الجميلة بوجه عام، وفني الشعر والتصوير بوجه خاص، عن البنية أو التكوين الأساسي الذي تشترك فيه كل الفنون بحيث يجعل منها إخوةً وأخوات، أو الاختلافات الجوهرية التي تُميِّز كلًّا منها عن الآخر تمييزًا صارمًا لا يسمح بالمقارنة بينها حتى لا تشيع فيها الفوضى والاضطراب … ومن هوميروس وفيرجيل إلى كيتس ورامبو ورلكه وجئورجه وأودين … إلخ، في الأدب الغربي، ومن امرئ القيس وذي الرُّمة وشعراء «الديارات» وأبي نُوَاس والبُحتري والمتنبي وابن الرومي وابن المعتز وابن زيدون، إلى شوقي ومطران وأحمد زكي أبو شادي وبعض شعراء حركة «أبولو»، وصلاح عبد الصبور وحجازي والبياتي وحميد سعيد وسعدي يوسف في شعرنا العربي الجديد، ومن شعراء في الشرقَين الأقصى والأدنى يصعب حصرهم من العصور الوسطى حتى يومنا الحاضر، سنجد من استلهم أعمال الفن التشكيلي في الرسم والتصوير والنحت والعمارة بل والموسيقى وسجَّلها في قصائد، كما سنجد — بدرجة أقل — رسومًا ولوحات وآثارًا فنية أخرى يمكن أن نصِفها تجاوزًا بأنها قصائد شعرية مُصوَّرة أو مُجَسَّمَة أو مُنَغَّمَة.
لا سبيل إذن لإنكار العلاقة بين الفنون، سواء تصوَّرناها علاقة توازٍ أو تبادلٍ وتفاعل وتأثير وتأثُّر عبر العصور والآداب. غير أن المسألة لا تبدو بديهيةً حين نتأمَّلها بشيء قليل من التفكير، وحين نبحث نوع هذه العلاقة بين الفنون من حيث طبيعتها ووظيفتها ووسائلها وأشكالها الجمالية. ولو حاولنا تتبُّع الأمر في تاريخ الأدب والفن والنقد لوجدنا أحكامًا متضاربة وآراءً متفاوتة إلى حد الخلط والاضطراب أو التشكُّك والارتياب؛ فأديب الرومانطيقية الألمانية وناقدها أوجست فيلهلم شليجل — على سبيل المثال — يرى أن الأدب الكلاسيكي أقرب بطبيعته إلى النحت، على حين أن الأدب الحديث والرومانطيقي أقرب إلى الرسم والتصوير. والناقد الفني المشهور هربرت ريد (في مقالته عن التوازي بين الرسم الإنجليزي والشعر ضمن كتابه في الدفاع عن شيللي ومقالات أخرى ١٩٣٦م) يذهب إلى أن أوزان الشعر عند الأنجلوسكسونيين يمكن أن تُقارَن بزخارفهم، وأن منظرًا طبيعيًّا رسمه الفنان جينز بورو «١٧٢٧–١٧٨٨م» في شبابه يذكِّرنا بقصيدة كولينز «١٧٢١–١٧٥٩م» أنشودة للمساء، بينما تذكِّرنا المناظر الطبيعية التي رسمها ذلك الفنان في أواخر حياته ببعض خصائص شعر وردزورث «١٧٧٠–١٨٥٠م». ومن النقاد من اكتشف تأثيرات من عمارة عصر الباروك على قصائد شعراء مثل طومسون ويونج وجراي وكولينز، بل لقد حيَّرَنا بعض هؤلاء النقاد عندما راح يقارن شعر كيتس «١٧٩٥–١٨٢١م» بالتصوير مرةً والنحت أخرى والموسيقى مرةً ثالثة!
فأنشودته المشهورة عن وعاء أفريقي تسمح بالمقارنة بينها وبين النحت البارز وبينها وبين الرسم. ولقد قال عنه الشاعر الأيرلندي الكبير «ييتس» إنه يرسم في شعره صورًا لا تُنسى، غنية بالإيقاع غِنى الرسم الصيني. ويأتي ناقد آخر فيُشبِّه اللون الأزرق عنده باللون الأزرق في لوحات المُصوِّر الإنجليزي رينولدز (١٧٢٣–١٧٩٢م)، كما يربط ناقد ثالث بين أنشودته إلى عندليب وبين الحركة البطيئة (الإندانتي) في السيمفونية الأولى لبرامز، ويُشبِّه ناقد رابع تأثير أشعارهما على نفوس قُرَّائها بتأثير صور تيرنر «١٧٧٥–١٨٥١م» على من يشاهدها ويتذوَّق جمالها.
هذه الأمثلة وغيرها تُبيِّن أن العلاقة بين الشعر والرسم قد شغلت الشعراء والنقاد أكثر بكثير من العلاقة بين الشعر وسائر الفنون. ولسنا بحاجة للجوء إلى الإحصاءات لنعرف أن الشعراء قد كتبوا عن الرسم والرسامين أكثر ممَّا كتبوا عن النحت والنحاتين والبناء والبنائين، وإن كان هذا لا يمنع أن تكون الفنون الأخيرة قد ألهمت عددًا من الشعراء طائفةً من أجمل قصائدهم، نذكر منهم هلدرين، ورامبو، ورلكه، وستيفان جئورجه. وتبقى الحقيقة مع ذلك ناصعةً ساطعة الضوء؛ إن الشعر قد استوحى الرسم أكثر ممَّا استوحى غيره من الفنون، ولن نجد — في الأدب الإنجليزي مثلًا — قصيدةً عن الرسم تفوق في روعتها وبساطتها قصيدة كيتس سابقة الذكر عن الوعاء الإغريقي، ويكفي أن نستشهد بأبيات من هذه القصيدة التي تبدأ هذه البداية:
ويتساءل الشاعر عن الأسطورة التي صُوِّرَت على جوانبها، هل هي لآلهة أم لبشر أم لعذارى متمنِّعات؟ وعن الطراد المجنون، والنضال للهرب، والمزامير والدفوف التي يسمع نغماتها العذبة في نشوة عارمة، يسمعها بأذن الروح لا بالأذن الحسية. ويبدأ في تصوير المشاهد التي يراها ويسمعها في آنٍ واحد؛ فهناك الفتى الجميل الذي يجلس تحت الأشجار، لا يستطيع أن يترك أغنيته، كما لا تستطيع تلك الأشجار أن تتجرَّد من أوراقها. إنه هو المحب الجسور السعيد، وجسارته وسعادته ينبعان من قدرته على أن يعزف إلى الأبد أغاني جديدةً أبدًا. وإذا استحال عليه أن يُقبِّل حبيبته فلا ينبغي عليه أن يستسلم للحزن، فسيظل يحب، وستظل هي جميلةً إلى الأبد، وسيبقى حبه دافئًا فتيًّا متساميًا فوق كل العواطف الإنسانية، وسيبقى جمالها ربيعيًّا متجددًا إلى الأبد. ثم يستطرد في وصف الموكب الذي يقوده كاهن غامض لتقديم التضحية على المذبح:
وتنتهي القصيدة بمناجاة الشكل الجميل الذي يفيض بحركة الحب والحياة كما يُجسِّم في صمته سكون الأبدية:
وتُختَتَم الأنشودة بعناق نادر يحتضن فيه الشعر الفكر، ويتلاحم الأدب والفلسفة:
ولا تلبث أن ترد على الخاطر تلك العبارة من كتاب «فن الشعر» للشاعر الروماني هوراس (٦٥–٨ ق.م.)، وهي التي يُشبِّه فيها القصيدة بالصورة (كما يكون الرسم يكون الشعر، فن الشعر، ٣٦١)، كما يطالب ببذل الجهد لصقل البيت الشعري وتشكيله.
ومهما يكن الأمر فإن عبارة «هوراس» المشهورة قد نجحت في تأكيد العلاقة القائمة بين الشعر والرسم وغيرهما من الفنون، وأثَّرت على نظريات الشعر والفن عبر العصور، وهدت العديد من الشعراء والفنانين التشكيليين على دروب الإلهام ومسالكه الغامضة، وحفزتهم على مواصلة نشاطهم الإبداعي المثمر.
نعم! ما أكثر ما ينظر الشعر بعينه إلى الفنون الأخرى ويستعير منها، كما تنظر هي أيضًا إليه وتستعير منه! والأمثلة على هذه الصلة المتبادلة في الآداب المختلفة أمثلة كثيرة لا حصر لها، ويكفي أن نذكر هذا العدد القليل منها على صورة رءوس موضوعات لا يسمح المجال بالدخول في تفصيلاتها؛ وَصْف هوميروس لدرع أخيل في الإلياذة (النشيد ١٨، السطور من ٤٧٨ إلى ٦٠٨)، ووصف فرجيل في النشيد الثامن من الإلياذة لدرع إنياس (السطور من ٤٧٨ إلى ٦٠٨)، ووصف فرجيل في النشيد الثامن من (السطور من ٦٢٥ إلى ٧٢١)، وصف دانتي «وحديثه المرئي» عن تمثال البشارة لمريم العذراء، وتمثالَي داود وتراجان في النشيد العاشر من المطهر (أو الأعراف) من كوميدياه الإلهية، الموت المنتصِر والموت المهزوم في فن الكلمة وفن التصوير في عصر الباروك، تصوير الأعمال الأدبية منذ العصور الوسطى والرومانطيقية إلى التكعيبية في عصرنا الحاضر في أعمال ديران وبيكاسو ودوفي، الصور التي رسمها شكسبير في مسرحياته، الصور الرمزية والشعارات «الإمبليمات» التي ارتبطت بنصوص شعرية وازدهرت في القرنَين السادس عشر والسابع عشر بوجه خاص، قصيدة كيتس التي قدَّمناها قبل قليل عن الوعاء أو الزهرية الأفريقية بجانب قصائده التي كتبها متأثرًا بلوحات تسيان وبوسان، الأبنية الرمزية والشكلية في شعر والت ويتمان ومشابهتها للأبنية الموسيقية، تأثير الفنون التشكيلية الحديثة، وبخاصة أعمال رودان وسيزان وباوكليه وبيكاسو على شبر «رلكه» المتأخِّر إلى حد التناظر في التعبير عن الشعور عنده وعند أولئك الفنانين، بجانب قصائده عن الكاتدرائيات، السمات التصويرية في التعبير الشعري لدى بعض الشعراء التعبيريين الألمان مثل جورج هايم، وجورج تراكل، وأرنست شتادلر، القالب السيمفوني في رواية هيرمان بروخ «موت فرجيل»، السمات القصصية في صور الفنانين السيرياليين كيريكو وماكس أرنست، قصائد «الفردوس غير المفقود» التي كتبها الشاعر الألماني أرنست شونفيزة لرسوم المصور والمثال إرنست بارلاخ على الحجر، مدرسة التصويريين في الشعر الإنجليزي والأمريكي الحديث التي تزعَّمها عزرا باوند، وبرز من أبنائها ت. س. إليوت، وكلاهما قد نهل من معين الحداثة (المودرنية)، أو بالأحرى الثورة المعرفية التي جاءت مع الفنون البصرية والتشكيلية الحديثة في النظرية والتطبيق وخصوصًا مع التكعيبية والدوامية والسريالية، ناهِيَك بعد هذا كله عن اجتماع فنَّين في شخصية مبدعة واحدة مثل مايكل أنجلو، وفاجنروت. أ. هوفمان، ووليم بليك، وجبران خليل جبران، وجبرا إبراهيم جبرا، ورمسيس يونان، وحسن سليمان، وصلاح جاهين، وأحمد مرسي، وغيرهم ممن لا تحضرني الآن أسماؤهم. ومن الصعب أن نحصر عدد القصائد التي «وصف» فيها الشعراء لوحات الفنانين وصفًا شعريًّا، وخصوصًا لوحات الطبيعة كما صوَّرها الفنانون الرومانطيقيون مثل كلود لوران «١٦٠٠–١٦٨٢م»، وسلفاتور روزا «١٦١٥–١٦٧٣م». وأصعب من ذلك أن نحصر عدد القصائد التي استلهمت صورًا ورسومًا وتماثيل ونقوشًا وأعمالًا نحتية منذ العصور الإغريقية والرومانية حتى القرن العشرين الذي ازدهر فيه هذا الفن الشعري إلى حد مذهل، وساهم فيه شعراء كبار مشهورون وآخرون مبتدءون لم يكد يسمع عنهم أحد! والعكس كذلك صحيح؛ فعدد الفنانين الذين رسموا وصوَّروا قصائد لشعراء مشهورين — من هوميروس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وملتون ولافونتين وجوته وبيرون وبودلير إلى الشعراء المعاصرين — عدد يفوق الحصر. وما أكثر القصائد التي ألهمت أكثر من فنان فلحَّنها مؤلف موسيقي، ورسمها رسام، وعبَّر عنها مثَّال! ويكفي أن نذكر قصيدةً للشاعر الرمزي مالارميه (١٨٤٨–١٨٩٢م)، وهي قصيدة «عصر إله الغاب» التي صوَّرها الرسام التأثيري مانيه، ولحَّنَها الموسيقي التأثيري ديبوس، وحوَّلها فنان الباليه نيجنسكي سنة ١٩١٢م إلى باليه …
وأخيرًا فقد كشف هذا الناقد نفسه (وهو ماريو براز) عن العلاقة الوثيقة بين الفن التجريدي وقصائد الشاعر جيوم آبوللينير «كاليجرام»، كما ذكرته قصائد الشاعر كمنجز (١٨٩٤–١٩٦٢م) برسوم وصور موندريان وكاندنسكي وباول كليه، بل لقد وصف بعض قصائد هذا الشاعر بأنها شعر ورسم في آنٍ واحد، وأنها تطبيق جديد للمبدأ القديم الذي عبَّر عنه هوراس عندما قال «كما يكون الرسم يكون الشعر» …
ومهما يكن من تحذير بعض نُقاد وفلاسفة الفن من الغلوِّ في هذه المقارنات بين الفنون إلى درجة الاضطراب والغموض وتذويب الحدود بينها (مثل رينيه ويليك، وإتيين سوريو وجيمز مربمان)، فلا يمكن أن نتجاهل التأثيرات المتبادلة بينها، ولا أن نُجَرِّد رؤية الفنان للقصيدة من كل قيمة، ولا أن نُغفل الثمار التي جناها الأدب والفن التشكيلي من التجاوب الروحي والعملي بينهما. ولا شك في أننا مهما ميَّزنا الفنون بعضها عن بعض وأبرزنا الفروق البنيوية التي تجعلها تُعبِّر عن عوالم مختلفة بوسائل مختلفة، فإن الوظيفة الرمزية واحدة في كل أنواع التعبير الفني (كما تقول الفيلسوفة سوزان لانجر)، كما أن كل التقسيمات والتصنيفات والتصورات الجمالية المختلفة تنتهي في أعماقها العميقة إلى وحدة واحدة (كما يقول كروتشه في كتابه عن الشعر). وسواء فهمنا من هذه الوحدة الأخيرة أن جميع الفنون تطمح إلى أن تصبح انسجامًا وموسيقى، أو أن تتحوَّل في النهاية إلى عبادة وصلاة، فإن هذه الوحدة المأمولة تدل في كل الأحوال على الصلة الحميمة بين جميع الفنون …
ولا بد من القول بأن تأكيد هذه الصلة الحميمة لا يعني ببساطة أن القصيدة الشعرية يمكن أن «تمثِّل» الصورة أو العمل التشكيلي بحيث تكون مطابقةً لها، أو أن هذَين الأخيرَين يمكنهما أن يترجما المشاعر والأخيلة، والمواقف النفسية والعقلية التي تنطوي عليها القصيدة؛ فمن الفنانين أنفسهم من يحدِّثنا عن صعوبة استيحاء المضمون الشعري وتحويله إلى صورة. وقد اعترف الفنان الألماني «باول كليه» بأن من العسير إيجاد تشكيل فني يطابق الموضوع (أو الموتيف) الشعري مطابقةً تامة. والعكس كذلك صحيح؛ فمن الصعب أن نعثر على الأعمال الفنية اللغوية (أي القصائد) التي تناظر الصور والتماثيل، أو تعكس على الكلمة ما أظهره الفنان في اللون والظل والخط والتشكيل. وسوف يتبيَّن لنا بعد قراءة عدد من «قصائد الصور» أن من الشعراء من اكتفى بوصف الصورة، ومنهم من راح يمجِّدها ويمجِّد صاحبها، أو ينقدها ويتهكَّم عليها، ومنهم كذلك من أخذ يخاطبها ويناجيها أو تركها تخاطبه وتناجيه، ومن ذَكرَ مضمونها وروى قصة نشأتها وحياتها، ومن استخدمها مناسَبةً للاسترسال في تأملاته وتجاربه الشخصية. وربما فوجئنا بالشاعر الذي يكتب عن صورة فيُخَيَّل إلينا أنه هبط إلى ذلك الأساس أو الأصل الخفي الذي تكمن فيه قوانين الوجود، وتتلاقى الرياضيات والأحلام، وتنبثق كل الصور والكلمات كأنها تتدفَّق من نبعٍ جياش. ولا بد أن نحس عندئذٍ كأن الشاعر الفريد قد جرَّبَ ذلك الانسجام الأصلي ومعه ذلك الانشقاق الأصيل اللذَين تصدر عنهما الحياة الواعية واللاواعية التي تعمل عملها في كل الفنون …
إن تجميع الصور والقصائد على النحو الذي تراه في هذا الكتاب سيُتيح لك المقارنة بين الصورة والنص الذي كُتب عنها، كما سيتيح لكلٍّ من الشعر والرسم أن يُلقي أحدهما الضوء على الآخر ويتواصل معه؛ فالنص الشعري لا يُفَسَّر بنص نثري، وإنما يُفَسَّر بشيء مستقل عنه ينتمي لميدان فني آخر، شيء يمكن أن يُرَى وأن يُقارَن بالنص. ولمَّا كانت قصيدة الصورة تقوم على أساس الاختلاف القائم بين الفن اللغوي وفن التصوير، ولا تمس الحواجز الفاصلة بينهما، فإنها تستطيع بوسائلها اللغوية والإيقاعية أن تفسِّر ما تمثِّله الصورة بوسائلها العِيانية في وسط آخر. ولا تخفى الفائدة التي يمكن أن يجنيها الفن والأدب من أمثال هذه المقارنات، بل إن الأمر ليتخطى حدود الفن والأدب لينعكس على علوم الاجتماع والنفس واللغة والأدب المقارن والجمال؛ ففي إمكان المهتم بأحد هذه العلوم أن يقوم بهذا اللون الفريد من البحث المقارن ليلتمس فيه الإجابة على مشكلة تشغله. في إمكان عالم الاجتماع — على سبيل المثال — أن يعرف كيف تلقَّى الناس عملًا من الأعمال الفنية في عصر مُعيَّن بكل ما ينطوي عليه تلقي الفن من مضامين اجتماعية ودلالات على روح العصر وثقافة المجتمع وميول الطبقات المختلفة. وفي استطاعة عالم النفس أن يتوسَّل بالنص الشعري للتغلغل في نفسية الفنان والاطلاع على أسرار صنعته وإبداعه. ولن يتردَّد عالم اللغة عن دراسة القصيدة ليكشف عن دلالة الكلمات والصور والتكوينات اللغوية والإيقاعية، وهل اقتصرت كلمة الشاعر على الإشارة والوصف، أم حملت قوة الرمز وقدرته على الإشعاع والإيحاء والتلوين. أمَّا مؤرخ الفن وناقد الأدب وفيلسوف الجمال فسيجدون في هذه المقارنات موضوعات للبحث لا تنفد، وربما وجدوا فيها حلولًا لمشكلات لم يكن من السهل الإجابة عليها قبل ولوج هذه الأرض الحرام التي كانت تفصل بين الفن التشكيلي والأدب، فإذا بها تزدحم أمامه بعشرات من الفنانين والشعراء الذين تجمَّعوا من بلاد وعصور مختلفة، واخترقوا حدود الجنسيات واللغات لكي يلتقوا على هدف إبداعي وإنساني واحد …
ولكن ما العمل إذا كانت القصائد لا تُقَدَّم في لغاتها الأصلية؟ وإذا كانت الترجمة تضحى مضطرةً بصوت اللفظ الذي هو جزء لا يتجَّزأ من معناه، بل تنقل اللفظ الأصلي بجرسه الخاص إلى نظام لغوي آخر ينقُله إلى لفظ آخر إلى صوت وجرس مختلفَين؟ أليس معنى هذا أن تُصبح قراءة النص الشعري أمرًا مستحيلًا لمجرَّد أنه نص مُترجَم؟
كل هذه مشكلات وأسئلة تطرح نفسها على الترجمة الأدبية بوجه عام وترجمة الشعر بوجه خاص. وليس هذا هو مجال مناقشة هذه المعضلة التي تتفرَّق حولها الآراء من قائل إن الشعر لا يُترجَم — كالجاحظ في عبارته المُشْهَرَة — أو إن جوهر الشعر نفسه هو الذي يذهب مع الترجمة، أو إن ما يبقى منه بعدها أكثر ممَّا يضيع منه … إلخ. ولا خلاف على أن ترجمة الشعر — حتى لو قُيِّض لها أشعر الشعراء في لغاتهم الأصلية! — تُمثِّل العقبة الكبرى أمام قراءته قراءةً حقيقية يصحبها الفهم العميق والذوق الدقيق لدلالات الألفاظ وإيحاءاتها الصوتية والصورية والرمزية. ولقد تمنَّيت لو جاءت الترجمة العربية في مواجهة النص الأصلي في لغته التي قرأته بها، لكن ظروف النشر في عالمنا العربي لا تسمح بهذا العمل الواجب، وربما يزيد من أعباء النشر والطبع التي لا ضرورة لزيادة ثقلها. أضف إلى هذا أن القراءة المثالية إذا كانت قد أصبحت مستحيلةً أو بعيدة المنال، فإن فرصة القراءة الممتعة التي تتيحها المقارنة بين النص والرسم بجانب مقارنة النصوص الشعرية بعضها ببعض لم تنعدم ولا يمكن أن تنعدم.
ولنجرب الآن — بوسائلنا النثرية الفقيرة — أن نقرأ بعض الصور التي ستجدها في هذه المجموعة المختارة، ولنحاول أن ننظر إليها بعيون الشعراء الذين عرفوا كيف ينظرون، فربما نتعلم منهم شيئًا من فن الرؤية الذي برعوا فيه، بينما نسير نحن في دروب هذا العالم كالذين يفتحون أعينهم ولا يرون …
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن العمل الفني الحقيقي أشبه بمنجم غني بكنوز الأسرار وأسرار الكنوز، وكل من يتأمل ذخائره لا بد من أن يفعل هذا من وجهة نظر معينة تتحكَّم فيها عوامل لا حصر لها، ويستخرج منه هذا الجوهر الثمين أو ذلك حسب قدرته وموهبته وثقافته وخبرته ونظرته للحياة والكون والفن. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نقف أمام جميع الصور والأشعار التي يقدِّمها هذا «المتحف» الصغير؛ لأن ذلك يفسد الغاية من إتاحة الفرصة لكل قارئ لكي يتذوَّق ويُجرِّب بحريته الكاملة؛ ولذلك سأكتفي بمحاولة النظر إلى ثلاث لوحات اخترتها من أكثر من أربعين لوحة، مع علمي أن المحاولة لا تخرج عن إلقاء بعض الأسئلة التي تُحفِّز القارئ على الدخول في عالم هذه القراءة الفريدة، وتُشجِّع على القيام بالمغامرة، وتغري الشاعر والمصوِّر بمد أيديهما إلى بعضهما …
وربما ينتقل القارئ إلى أسئلة أخرى أكثر ارتباطًا «بحرفية» القصيدة وصنعتها فيسأل: كيف عالج الشاعر قصيدته و«وظَّفَ» كلماتها وعباراتها وصورها ورموزها؟ هل سلك طريق الوصف المباشر، أم سار على درب القصة والحكاية، أم لجأ إلى الحوار بينه وبينها؟ هل اتبع الأسلوب الغنائي أم التقريري أم أسلوب التعليم وضرب المثل؟ وهل أوجز وكثَّف أم أسهب وأطنب؟ في أي قالب وضع قصيدته ورتَّبَ أبياتها ومقاطعها؟ وهل التزم أوزانًا من بحر مُعيَّن ونوع القوافي، أم فضَّلَ الشعر الحر وبالغ في بعض الأحيان وكتب على طريقة الشعر المُجَسم (الذي كان آخر صيحة في عالم الشعر وتنظيم سطوره حتى عهد قريب)؟! هل يغلب على النص طابع التعبير العاطفي، أم طابع الإيماء والإيحاء، أم الدعوة إلى انفعال أو فعل مُعيَّن؟ وهل يتكلم الشاعر عن الصورة نفسها أم عن الفنان الذي رسمها أم عنهما معًا؟ وهل وُفِّق آخر الأمر في «توصيل» تجربته أو «رسالته» أو «كلمته» والملاءمة بين أسلوب القصيدة وبنائها وبين الحقائق التي تمخَّضت عنها الإجابة على الأسئلة السابقة؟ إن هذه الأسئلة تصب كما ترى في تذوُّق القصيدة وتعيُّن الإجابة عليها على تحقيق غاية المتعة الجمالية التي لا يختلف حولها أحد …
فلنحاول أن نقرأ معًا بعض الصور القليلة التي تجدها في هذا الكتاب على ضوء القصائد التي قيلت عنها. ولنتذكر أن قراءتنا ليست سوى قراءة واحدة من بين قراءات أخرى ممكنة؛ أي إنها تُقدِّم تفسيرًا واحدًا ولا تزعم أنه هو التفسير الوحيد. ولنبدأ ﺑ «الجوكوندا» أو «الموناليزا» التي تُعَد من أشهر كنوز الفن، كما تُعَد ابتسامتها المميَّزة لغزًا أبديًّا ربما يفوق في غموضه وحنانه وسخريته ابتسامة أبي الهول …
ماذا تقول هذه الابتسامة التي لا تنطق؟ وبماذا تتحدَّث هذه النظرة الهادئة المُفعمة بالتعاطف والأسى والدعابة والتعالي؟ إن الرزانة والصبر تحيطان هذه السيدة الإيطالية البيضاء المُنعَّمة، ويداها المشبوكتان على صدرها كحمامتَين تتناجيان فتزيدان من الإحساس بالرضى والاستسلام والحنان. كل شيء فيها ومن خلفها يكرِّس هذا الإحساس ويُقلقه في آنٍ واحد؛ المنظر الطبيعي الساكن الذي يوشك أن يحيلها هي نفسها إلى طبيعة ساكنة، البحر البعيد والصخور البلَّورية والسماء المتلاشية الزرقة، والماء الفضي المنحدر من الجبل، والشجر وجذوع الشجر ناصعة البياض، والظل الراسخ الداكن الذي يتحدَّد على «الخلفية»، ولا يفلح لمعان الماء الفضي ولا نصوع الجبين الوضاء والصدر المرمري وأنوار الفجر المتوهِّج من بعيد، لا تفلح كلها في زحزحة هذا الظل الجاثم ومعه الأُفول والنضوج والحكمة المترفِّعة.
لكن روعة المنظر الطبيعي الملتف في ثوب الغروب أو في ثوب الحداد لا تستطيع أن تشغلك عن النظر إلى العينَين اللتَين لا تتحوَّلان عنك، ولا يمكنك أن تُحول عينَيك عنهما! وهي تعجز بالتأكيد عن تشتيت انتباهك إلى الابتسامة التي لا تدري هل تفتَرُّ عن الحب أم عن القسوة؟ وهل هي ابتسامة الأنثى الخالدة التي تجذبك إليها، أم ابتسامة النمرة المتربصة التي تُغوي ضحيتها وتُهلِّل لقرب انتصارها عليها؟ …
وتهز رأسك حيرةً وعذابًا، ثم ترفعه وتُثبت عينَيك على عينَيها وشفتَيها. لا شك في أنها تريد أن تقول شيئًا أو أشياء، لكن هل تقوله للفنان الذي كان عاكفًا على رسم صورتها، أم تقوله لكل من سيقف أمامها في مستقبل الأيام والأجيال، أم تخاطب به نفسها في عزف منفرد يصمت في نطقه وينطق في صمته؟ إن النظرة الممتلئة بالحياة — على الرغم من سكونها الظاهر — والبسمة التي تختلج على الشفتَين محاولةً الإفلات من اللون والظل والمكان الذي قُيِّدَت فيه منذ أكثر من خمسة قرون، لترقص وتهتز وتتحرك في الزمان، إنها جميعًا لتحيِّرك فلا تدري هل تتوقَّف أمامها وتملأ عينَيك من جمالها وحنانها وحبها ودفئها، أم تلوذ بالفرار قبل أن تُعرَّى من ثياب عاداتك، وتنفذ في صندوق أسرارك، وتفضح تفاهة عالمك المزهو بغروره وسخافاته وظلماته، وتُجرجر لنفسك «نسخة» منها قبل أن تخرج من الباب. وتظل الحيرة من لغز الموناليزا أو ألغازها تطاردك؛ هل كنت أمام المرأة أم العروس أم «الهولي» أم القديسة البتول؟ هل تكلَّمت إليَّ بصوت العرَّافة القديمة، أم رتَّلت صلوات المؤمنة الراضية؟ هل ضحكت أم بكت؟ وهل رحَّبت بزيارتي أم طردتني من بيتها؟ أتُراها حملتني بهداياها — النور مع الموسيقى زادًا لبقية عمري — أم أثقلت روحي برموزها وأسرارها، وأرهقت ضميري بالبحث عن سري ورمزي ولغزي؟ وليت شعري هل اقتربت منها أم ابتعدت؟ وإذا وضعت صورتها في بيتي — كما يفعل ملايين الناس — فهل ستكون نعمةً أم نقمة؟ وهل أتمكَّن يومًا من فض اللغز الأبدي؟ إن الفنان العظيم قد رسم «فلسفته» عندما رسم هذه المرأة — الهولي أو هذه الحواء — الملاك، ولكنه — شأنه شأن كل فيلسوف حق — قد دعانا للمشاركة والحوار، وصان رؤيته من التمذهب والتحجُّر والتعصُّب … وليت صغار المتسلِّطين والمستبدِّين في الأدب والفن والعلم والحياة يعرفون أخيرًا أن هذه المفاهيم نفسها تُناقض التسلُّط والاستبداد ولا تليق إلا بالبهيم والجماد …
وننتقل في الزمان سنوات قليلةً بعد ليوناردو دافنتشي (١٤٥٢–١٥١٩م) والجوكوندا التي صوَّرها حوالي سنة ١٥٠٣م، لنقف أمام لوحة هي آخرُ ما رسم فنان آخر من أصحاب الرؤية، وهو بيتر بروجل الأكبر (من حوالي ١٥٢٥م إلى ١٥٦٩م). إن العميان الستة (وقد رسمها حوالي سنة ١٥٦٨م) يجتاحهم الرعب، ويتحسَّسون الطريق واحدًا بعد الآخر متشبثين بعصًا أو قضيب طويل يمسك أولهم وآخرهم بطرفَيه. كلٌّ منهم يضع يده على كتف المتقدم عليه في الصف، والذي يستند عليه قد ارتُج جسده واختل توازنه. ما السر وراء الزلزلة أو العاصفة أو الموت الداهم؟ إن الثاني في الصف يعرف وإن كان مثلَهم لا يرى؛ فلقد وقع الرائد والقائد في حفرة، وانهار فوقع التالي وانهار عليه، أمَّا الأربعة الباقون فقد استشعروا الخطر وفتحوا المحاجر الجوفاء على اتساعها كأنهم يريدون أن يرَوا الظلمة المُطبقة ويتأكدوا من أنها ازدادت كثافةً وإطباقًا … من هم هؤلاء الرجال الستة؟ أيسيرون على طريقهم المعتاد كل يوم؟ هل وقعوا في هذه الحفرة من قبل أم فاجأتهم على غير توقُّع؟ من بعيد تظهر بعض بيوت القرية والكنيسة الريفية الصغيرة والأشجار الراسخة والبحيرة. ولمَ يسعَون أو يوشكون على السقوط في الحفرة دون أن يشعر بهم أحد؟ كيف اندفعوا في الليل الأعمى؟ مَن حرَّكهم؟ هل هو مثلهم قدرٌ أعمى؟ ولماذا يتخلَّى عنهم؟ ولماذا لم ينتظروا أن يُشرق فجر أو تطلع شمس نهار؟ هل دار بخاطرهم أن الرؤية بالليل تكون أتمَّ؟
الأعمى، يتبعه أعمى، يمسك بعصًا يمسكها أعمى، يضع يدَيه على كتفَي أعمى … والكل تعثَّر وسيسقط حتمًا في الحفرة … أهي رؤية ونبوءة؟ هل رسم الفنان هؤلاء العميان أم كان كأفلاطون في أسطورة الكهف (آخر الكتاب السادس وبداية الكتاب السابع من الجمهورية) يُقدِّم رمزًا أو أُمثولة؟ هل نحن العميان المقصودون، والموت أو القدر الأعمى أو ما شئت من المِحن الكبرى هو تلك الحفرة؟ ألَا تنطبق الرؤية أو النبوءة علينا نحن في هذا العصر، عصر الاضطراب الشامل الذي نشقى به، والكوارث الكبرى والصغرى التي تتجسَّد أمامنا في كل مكان، عصر يشن فيه الجميع الحرب على الجميع، ويتوقَّعون الكوارث كل يوم، ويقتاتون عليها كل صباح، ويأخذونها إلى نومهم كل مساء؟ ألَا يمكن أن نقول مع أحد الشعراء الذين «قرءوا» العميان إنها ليست مجرَّد صورة، بل وصية، في زمن جمع أصحاب الرؤية من أمثال بروجل (رابليه ومونتني وشكسبير)، وجسَّدَ الرعب من المجهول وما أفظع تخريبه للأفراد والشعوب؟ أم نقول أخيرًا إن عميان بروجل يرَون بأعينهم أكثر ممَّا نرى، ويُحسُّون بنا أكثر ممَّا نُحس بأنفسنا؟ هم أسرى القيد المجهول. من فينا إلا وهو اليوم أسير مثل العميان، سجين أو مشنوق؟
هل كان هذا الفنان يتضرَّع لله أن يُخلِّصه من يأسه فكانت الصورة هي نشيجه وبكاءه، وكانت الألوان هي صَلاته، لكن الفنان قد أطلق آخر سهم في جَعبته، والسهم اتجه إليه وغار في لحمه، وانفتح الجرح كما تنفتح الهاوية السوداء. هل هو جرح وجود الإنسان على الأرض، في زمن الجوع، القسوة، والتعذيب، أم هو جرح الفنان البائس، جرح العين التي «رأت» من هول الحقيقة أكثر ممَّا تطيق عين البشر؟ وها نحن أولاء نرى بعض ما أصابها بالدوار فيصيبنا الدوار …
بقي علينا أن نعرج على أدبنا العربي ونطرح هذا السؤال: هل نجد أثرًا لقصيدة الصورة في تراثنا الشعري والنقدي قديمه وحديثه ومعاصره؟ وإذا صحَّ توقُّعنا للجواب فهل يمكننا — إزاء التراث العريق ومراعاةً لمقتضى الحال في مثل هذا التقديم! — أن نتتبع الخيوط الأساسية للاهتمام بالصورة في جانبها الذي يؤكِّد المقارنة القديمة بين الشعر من ناحيةٍ والتصوير أو الرسم من ناحية أخرى؟
من الطبيعي أن نجد الصورة الفنية على اختلاف أنواعها ومستوياتها ووظائفها في الشعر العربي، شأنه في ذلك شأن كل شعر آخر؛ فقد كانت الصورة ولم تزَل هي جوهر الشعر الثابت ووسيلته التي لا يُستغنى عنها في الكشف عن الحقائق الشعرية والإنسانية التي تعجز اللغة العادية واللغة العلمية عن الكشف عنها وتوصيلها. ومن الطبيعي أيضًا أن يحظى بحث الصورة بعناية النقاد والبلاغيين القُدامى، وأن يستفيد من جهود اللغويين والمفسرين والمتكلِّمين في تحديد مفاهيم التشبيه والاستعارة والمجاز، كما يستفيد من شروح الفلاسفة المسلمين لنظرية المحاكاة لأرسطو على ضوء كتبه في الشعر والخطابة والنفس وما بعد الطبيعة.
وربما يكون «الجاحظ» هو أول من التفت إلى طبيعة الشعر من حيث هو «ضرب من النسيج وجنس من التصوير»، وأول من طرح في تاريخ النقد العربي بعض الأفكار الهامة التي سيطرت على أجيال طويلة من البلاغيين والنقاد من بعده، ولو قرأنا عبارته المشهورة في كتاب الحيوان (٣ / ١٣١–١٣٢) لتبينَّا الدلالات المختلفة التي يفهمها من كلمة التصوير، والمبادئ التي يقوم عليها هذا الفهم: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجَودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير.»
هل يمكننا الآن أن نلتقط من تراثنا القديم بعض النماذج الشعرية التي توضِّح الآراء النظرية السابقة، وتقترن برسم أو تصوير أو عمل فني محدد؟
إن أول ما يخطر على البال هو سينية أبي نُوَاس (من ١٣٠ﻫ/٧٤٧م إلى ١٩٠ﻫ/٨٠٦م تقريبًا)، التي سبق أن أشرنا إلى أن الجاحظ قد أُعجب بها وفضَّلها على غيرها من شعر أبي نُواس نفسه، ولا يُستبعد أن تكون وراء عبارته الشهيرة التي أكَّد فيها الصلة بين الشعر والتصوير، وقدَّمَ الشعر الذي يرسم المشاهد ويجسِّم المناظر على غيره.
وكان أبو نُواس قد أخذ بعض صحبه ومرَّ على المدائن مقر الأكاسرة، فرأى بعض حاناتهم ودُور لهوهم وأنسهم التي لم يبقَ منها غير أطلال، فكتب قصيدته الشهيرة:
والأبيات الثلاثة الأخيرة تصف الكأس الذهبية الحافلة بألوان من التصاوير الفارسية؛ ففي أسفلها صورة كسرى، وعلى جوانبها صور بقر وحشي وفوارس تختلها، وتحتال عليها لترميها بالنشاب. وقد مُلِئَت الكئوس بحيث بلغت الخمر إلى مواضع الجيوب، أو الحلوق من تلك الصور، وصُبَّ الماء عليها حيث الرءوس التي تدور عليها القلانس، أو أغطية الرأس الشائعة في ذلك الحين. ومع أن الكأس التي وصفها أبو نُواس قد زالت بما نُقِش عليها من تصاوير، زالت الدار والندامى الذين كانت تُدار عليهم، ومع أن فرصة المقارنة الجمالية بين صور القصيدة والتصاوير الفارسية قد ضاعت إلى الأبد، فإن المشاهد التي رسمتها أبياتها الثلاثة الأخيرة لم تزَل متدفقةً بالحياة. وإن وضعناها في سياق القصيدة وفي علاقتها بالأبيات الثلاثة المتقدمة عليها، لاستشعرنا «جدلية» الحياة والموت بكل قسوتها وصدقها. لقد خلت الدار وصارت أطلالًا دارسة، لم يبقَ فيها من الندامى الذين هجروها سوى آثارٍ من جَر الزقاق على الثرى، وبقايا ريحان جَنِي ويابس. وفي إطار الزوال والفناء، الذي زاده الرحيل حزنًا على حزن، وضع الشاعر أحداث الماضي في صورة تثبته، وتجعله حاضرًا في خيال كل ناظر إليه أو قارئ لسطوره أو مستمع لشعره. تُرى كيف كان يبدو كسرى في قرار الكأس؟ هل كان يجلس على العرش؟ وكيف بدت ملامح وجهه ونظرات عينَيه. والفوارس والمها، وفعل الصيد بمختلِف عناصره ومكوِّناته وزخارفه وحركاته وظلاله؟ … لا جدوى من الأسئلة التي كان يمكن أن تُثري الإجابة عليها إحساسنا بالقصيدة وتذوقنا لها؛ فنحن أمام قصيدة تصوُّر، لا قصيدة صورة أو تصوير لم يبقَ لهما للأسف أثر!
يمكننا أيضًا أن نقف عند رائعة البُحتري (من ٢٠٤ إلى ٢٨٤ﻫ تقريبًا)، الشهيرة في وصف إيوان كسرى بالمدائن ومطلعها:
وسنكتفي منها بالأبيات (من ٢٢ إلى ٢٨) التي وقف فيها البُحتري أمام صورة مُسَجَّلة على جدران القصر الذي كان فيه الإيوان. وهي صورة معركة حربية دارت عند مدينة أنطاكية بين الفرس والروم سنة ٥٤٠م. ويبدو أن المصوِّر قد أجاد التصوير حتى شعَر البُحتري بالرهبة أمامها، وخُيِّل إليه أن الموت ماثلٌ فيها، بينما كان أنوشروان واقفًا تحت علمه الكبير يُحرِّض جنده على القتال. وكان المصوِّر أو النحات (إذ لا ندري هل كان الشاعر يصف مشاعره ورؤاه أمام صورة، أو يصف نحتًا بارزًا على جدار!) لوَّن ثوب كسرى باللون الأخضر، كما صبغ جواده بالأصفر، وصوَّر القتال الدائر في صورة بلغت من الحيوية أن وصفتهم عين الشاعر بأنهم «جد أحياء». ولولا أنهم كانوا مُقَيَّدين على الجدار بألوان الصورة وخطوطها وظلالها أو مأسورين في بروز النحت ونقوشه الحجرية، لَمَا أحسَّ خفوت صوتهم وسكون جرسهم، ولا خُيِّل إليه أنهم خرس يتبادلون الإشارة. ولقد بلغ التصوير من الحيوية حدًّا جعل الشاعر يندفع إلى الصورة بيده ليرى أصورةً هي أم حقيقة!
ولا بد أن نذكر قصيدة المتنبي (٣٠٣–٣٥٤ﻫ/٩١٥–٩٦٦م) التي قالها في مدح سيف الدولة أثناء مقامه في أنطاكية (جمادى الأولى ٣٣٧ﻫ/تشرين الثاني ٩٤٨م)، وهي التي وصف فيها فازة — أي خيمة أو مظلة — من الديباج نُقِشَت عليها صورة ملك الروم، وصور أنواع مختلفة من الوحش والحيوان، حيث جلس سيف الدولة لاستقبال وفود أنطاكية.
والقصيدة من أصعب شعر المتنبي المعروف بصعوبة تركيبه وتعقيده، وهي مُتْقنة الصنع إلى حد التصنُّع كما يشهد على ذلك مطلعها الشهير:
إن المتنبي يتطيَّر إلى سيف الدولة الجالس في خيمته ويترقَّب جُوده وكرمه كما يترقَّب الناظر إلى السحاب ذي البرق اللامع ما يجود به من المطر. وهو يبدأ في وصف الصور المرسومة على قبة الخيمة أو ما نسميه اليوم الطبيعة الصامتة، فيتعجَّب لرياض لم يُنبتها غيث من السحاب، وأغصان شجر عظيم عليها حمائم لا تُغنِّي، وبذلك يومئ منذ البداية إلى أنها صور مُمَثَّلة، ونسيج حاكته يد الإنسان لأيدي الطبيعة. ثم يجول بعينَيه في حواشي الأثواب التي اتُّخِذت منها الخيمة، فيرى عليها دوائر ونقوشًا بيضاء كأنها قلائد من الدرِّ الذي يثقبه ناظمه لأنه ليس بدرًا حقيقيًّا، كما يشاهد صور وحوش وحيوانات متحاربة بطبيعتها، يستدرك على الفور فيتذكَّر ويذكِّرنا بأنها تبدو في الوقت نفسه حيوانات مسالمة؛ لأنها مجرَّد صور لا روح فيها. ومع ذلك فإن اللوحة الدرامية التي صوَّرها في قوله «يحارب ضدَّه ويسالمه»، لا تلبث أن تُغريه بحيويتها وحركتها فيقول إن الريح إذا ضربت تلك الثياب ماجت وكأن الحيل المسنَّة (المُذاكي) التي عليها تصول وتجول، وكأن الأسود تختل الظباء لتصيدها. وقد كان من الممكن أن نعيش التجربة وأن يستغرقنا المنظر المائج بالحركة والصراع، لولا أن الشاعر قد استخدم «إذا» و«كأن» ليذكرنا مرةً أخرى بأنها صور محاكية. وهو يسارع إلى تأكيد هذا في البيت التالي الذي يبدأ بصورة ملك الروم وهو ساجد لسيف الدولة. ومع أن الملك متوَّج فإن التاج الحقيقي هو العِمامة التي تُزيِّن رأس سيف الدولة؛ لأن تيجان العرب هي عمائمها. ثم يزيد الشاعر في تصوير ذلِّ الملوك الذين يغلبهم سيف الدولة كما غلب هذا الملك، فيقول إنهم يُقَبِّلون بساطه لأنهم لا يقدرون على تقبيل كمه أو يده. ولا ندري إن كانت الصورة التي سجَّلَها لنا المتنبي قد حوت إلى جانب ذلك الملك الرومي ملوكًا آخرين أذلَّهم سيف الدولة وشفاهم من غيِّهم وطغيانهم، وترك عليهم آثار قهره لهم، أم إن سجود ملك الروم المرسوم على الخيمة قد ألهب خياله فابتداع صورًا أخرى في تمجيد ممدوحه وتعظيم شجاعته وقوته. ومهما يكن الأمر فيبدو أن التفاصيل السابقة هي كل عناصر الصورة التي رآها المتنبي، وأن كل ما تلاها صور فنية من إبداع خياله لا من وحي الصورة المرسومة على قبة المفازة التي جلس تحتها سيف الدولة ليستعرض وفود الأسرى والشعراء …
الواقع أن «أبا شادي» ظاهرة أدبية وعلمية وفكرية نادرة في تاريخ أدبنا الحديث. لقد أوجد مُناخَ التجديد وبشَّرَ به بحماس وهمَّة لا نظير لهما، ولكن موهبته في الابتكار وريادة الآفاق المجهولة — سواء في تجديد الشعر والأدب، أو في الدجانة والنحل اللذَين خصَّهما بمجلتَين أخريين! — قد فاقت موهبته الشعرية الفقيرة إلى حدٍّ مأساوي مؤلم، فامتزج في شعره الغزير المتسرِّع قدر هائل من الفكر والعلم والتصوف والفلسفة جعله في الغالب الأعم نظمًا خاليًا من كل أثر لسحر الشعر وصدقه وتصويره وتعبيره عن الذات — أي من كل القيم التي دعا إليها وحارب من أجلها بشجاعة وتضحية وصدق — حتى ليندر أن تجد في دواوينه الكثيرة بيتًا واحدًا يمكن أن يتسلَّل إلى القلب، ويؤثِّر عليه بنغمة شجية أو صورة موحية. لقد كان شاعرًا مرحليًّا لم يتعدَّ عمرُه الفني عمرَه الزمني، من أولئك المنظِّرين الذين يُتقنون كتابة البيانات ووضع المشروعات الكبيرة ويُخفقون في تحقيقها في إنتاجهم الذي يُكَذِّب في معظمه مبادئهم وغاياتهم؛ ولذلك لم تبقَ لابتكاراته في المسرح الشعري والأوبرا والشعر التصويري نفسه إلا قيمة تاريخية لا يُحس بها إلا من يكلِّف نفسه مشقة تقليب صفحات التاريخ، أو متابعة قضية التأثير والتأثر بالشعر الغربي ليكتشف أن قصائده التصويرية قد وقفت عند التقليد المباشر والمحاكاة السطحية، ولم تبلغ مرحلة التوليد والإبداع الناضج التي بلغتها في نماذج عديدة من شعر المجدِّدين الكبار في حركة الشعر الحر منذ أوائل الخمسينيات.
ولا جدوى من اقتباس نماذج أخرى من هذا الشعر التصويري؛ لأنه لا يختلف كثيرًا عن هذه المنظومة. وإذا كان من الواجب علينا أن ننوِّه بفضل أبي شادي رحمه الله في التنبيه إلى هذا النوع الأدبي وريادة طريق التفاعل المتبادل بين فنَّي التصوير والشعر، فإن قصيدة الصورة لم تبدأ بدايتها الشعرية الحقيقية ولم تصبح الصورة موضوعًا متكاملًا للقصيدة إلا مع حركة الشعر الحر …
مضى الشعر الحر على الطريق الذي بدأه أبو شادي فيما بعد الستينيات (وربما يرجع السبب في هذا إلى انشغال الحركة الجديدة في الخمسينيات بتحسُّس طريقها والدفاع عن حقها في الوجود إزاء الهجوم الضاري عليها، والصراع بين بعض أعلامها حول أسبقيتهم إلى ريادتها!) وظهرت قصيدة الصورة التي تصف اللوحة الفنية أو التمثال فتستوحي مضمونهما أو شكلهما، أو تجعلهما مناسبةً لتقديم رؤية الشاعر للعالم، أو نقده للعصر والمجتمع، أو تأملاته عن وجود الإنسان ومعناه. وتعدَّدت أشكال هذه القصيدة وأنماطها المختلفة؛ فمن قصيدة يحاول فيها الشاعر أن يستلهم طريقة الفنان التشكيلي بوجه عام والرسام بوجه خاص في تشكيل القصيدة وبنائها، إلى قصيدة مُوَجَّهة إلى أحد كبار الفنانين والمُصَوِّرين العرب أو الغربيين، إلى قصيدة مُستوحاة من صور ولوحات فنية مُحدَّدة.
أمَّا النمط الأول فيطالعنا في قصيدة للمرحوم الشاعر صلاح عبد الصبور (من ديوانه شجى الليل) يدل عنوانها على أسلوبها ومنحاها «تقرير تشكيلي عن الليلة الماضية». الشاعر هنا — بقدر ما نعلم — يصف ولا يستوحي عملًا فنيًّا محدَّدًا، وإنما يشكِّل بكلماته وإيقاعاته وبنية عباراته صورةً مؤلَّفة من ثلاثة مقاطع، يقدِّم أولها عناصر الصورة من اللون والحركة، وإطار الاكتئاب المحيط بها:
عناصر الصورة:
الحركة:
الإطار:
وليست هذه هي القصيدة الوحيدة التي يتحوَّل فيها الشاعر إلى رسام بالكلمات، ويغدو القلم ريشةً تلوِّن وتظلِّل، وتصبح البنية اللغوية والإيقاعية تشكيلًا فنيًّا نكاد نلمحه بأعيننا ونتحسَّسه بأيدينا. لقد جرَّب الشاعر هذا في قصائد أخرى عديدة (مثل رؤيا وتوافقات، واللوحات الأولى من مسرحيته الشعرية الأميرة تنتظر)، ولكن الجسارة والأصالة تتجليان في هذه القصيدة الفريدة التي يعترف فيها بأنه يقدِّم تقريرًا تشكيليًّا عن ليلة ماضية. ولسنا ندري — كما سبق القول — إن كان الشاعر قد تأثَّر بصورة لم يذكرها، فراح يحاكي ألوانها وخطوطها ومساحاتها محاكاةً توشك بما تحويه من كلمات اسمية أن تكون صورةً مطابقة للأصل الذي لا نعرفه ولا نؤكِّد وجوده — لاحظ تكرار كلمة كأن في المقطع الأول! — ولولا ورود فعل واحد (تنبض) في المقطع الأول، والإشارة إلى الحركة في المقطع الثاني — وإن تكن هي حركة السكون الهامد الثقيل — لرجَّحْنا أن تكون القصيدة نسخةً شعرية من صورة أصلية لا نراها. والواقع أن الشاعر قد وضعَنا في موقف يستعصي تحديده، فهل نقول إن قصيدته نمط جديد غير مألوف من قصيدة الصورة، أم نُخرجها من هذه الفئة بأكملها لمجرَّد أنها لا تقترن — مثل قصائد الصور في هذا الكتاب — باللوحة أو العمل الفني الذي تصفه أو تستوحيه؟ أم نقول إن همَّ الشاعر كان مقصورًا على رسم صورة فنية للاكتئاب الذي ملأ قلبه وروحه ومدينته، وأنها لا تخرج في النهاية عن أن تكون إحدى الصور الفنية التي يزخر بها شعره؟
ومن الصعب أن نفترض وجود لوحات أصلية صوَّرها الشاعر، أو استلهمها في رسومه الثلاثة بالألوان المائية. ويزيد من هذه الصعوبة أن الشاعر يعزف ألحانه المألوفة على أوتاره المعروفة — كالمنفى والرحيل والتحول — ويطلق منها ذكريات وأحداثًا زمنية يستحيل على المصور والرسام أن يمسكا بها في ألوانهما وظلالهما وخطوطهما. ولا شك في أنه وُفِّق غاية التوفيق عندما سمَّى هذه الصور الشعرية رسومًا مائية؛ فالماء والميناء والسفن والمنفى والرحلة والتحول دالات حية على هذا السندباد الثائر الذي حاول تشكيل المقاطع الثلاثة في أغنيته على نحو ما يشكِّل الرسام رسومه المائية، بحيث امتزجت الكلمة باللون إلى الحد الذي أوشكت معه مقاطع القصيدة أن تُصبح رسومًا بالكلمة، وكادت الألوان تُصبح ألحانًا مُلوَّنة …
من الواضح أن هذه الرسوم الشعرية لا تقصد إلى إثارة خيال المتلقي، أو التأثير على حسِّه الجمالي، وإنما تستفزُّه إلى التمرُّد على زمن السقوط والانهيار، وتتوسَّل بالمبالغة والسخرية والخطاب المباشر لتثبيت صور الضياع في عقله ووجدانه؛ ولهذا لم يجد الشاعر نفسه بحاجة إلى إعمال خياله الخلَّاق أو اللجوء للوسائل الفنية والحيل البلاغية لرسم صوره؛ فالصور مُحدَّدة وواضحة لكل عربي، ولم يكن على الشاعر إلا أن يزيدها وضوحًا وتحديدًا، ويثبتها على جدار الضمير المذنب بمسامير الحقيقة القاسية!
ويدخل الشاعرُ نفسه تجربةً أخرى مع الرسام عدلي رزق الله. ولوحات هذا الفنان بحار لونية تهدر فيها أمواج الأحمر والبرتقالي والأخضر والأصفر، يصوِّر فيها إحساسه بالطبيعة وتكويناتهما الأصيلة، ويعبِّر عن تفجُّر ينابيعها العميقة، ودفء جذورها العريقة، مع رهافة أضوائها وأوراقها وزهورها الشفافة، وتدفق صيرورتها المرتعشة بنبضات الحياة وتوتراتها الخلَّاقة. وهي تكوينات متكرِّرة يتفاعل فيها وهج الألوان الساطعة الفاقعة مع الألوان والخطوط والإيقاعات المتماوجة الحالمة، وكأنك أمام سيمفونية لونية تسمعها بالعينَين — إن جاز هذا التعبير — وتراها بالأذنَين، وتُفَاجَأ في كل مرة بأنغامها اللاهبة أو الشاحبة، وإيقاعاتها القاتمة أو الفاتحة: «قطرتان من الصحو، في قطرتَين من الظل، في قطرة من ندًى». ولمَّا كان اللون الأحمر بتدرجاته المختلفة هو الغالب على صور هذا الرسام، فقد استنبط منه الشاعر دلالات معنويةً على الحياة الحرة والثورة المنتظرة، وعبَّرَ عنها في إيقاعات قرآنية:
وعندما يسيل هذا اللون بالحياة والخصب، وتنطلق الأغاني الخضر، سيُفاجَأ «السادة الأغراب» بقنابل موقوتة «كان أسلافنا خبئوها مع الخبز والخمر في خشب الموميات؛ لكي تتفجَّر في غرف الدفن حين تحين مواعيد عودتهم للحياة». وهكذا يفتقد الشاعر اللون الذي يتنفَّس بالحياة والحرية في عالمه الذي طغى عليه الأخضر الطحلبيُّ أو الأصفر المعدني … ولا عجب بعد ذلك أن يهيب بقُرَّائه أن «تعالَوا نلوِّن كما نشتهي هذه الأرض، أو نُشعل النار فيها»، فلعلها تحملنا وتطير، ثم «تُسقطنا مطرًا قزحيًّا، وتزرعنا شجرًا موقدًا».
والقراءة الأولى لقصيدتَي الشاعرَين حميد سعيد (محاولة إعادة رسم الجيرنيكا، ص٤٣٩ من ديوانه)، وأحمد عبد المعطي حجازي (جيرنيكا أو الساعة الخامسة من ديوانه كائنات مملكة الليل، ص٧١)، تكشف عن عدم تقيدهما بعناصر اللوحة، أو موضوعها الأصلي، على نحو ما فعل الشاعر الفرنسي إلوار في قصيدته المشهورة عنها. لقد استلهما عالمها المخيف الذي لا يزال يُطلق طاقات وإشعاعات تُنذر بالويل القائم مع كل الكوارث المشابهة. وقصيدة الشاعر حميد سعيد لا توحي بأي علاقة تربطها بلوحة بيكاسو؛ فما من شيء أو وصف أو رمز مباشر يذكِّر بها، وعبثًا نبحث عن الأشلاء المتضخِّمة المنشورة فيها، أو عن رأس الحصان الذي يصرخ من التمزُّق، أو رأس الثور المرعب، أو الأم التي تحمل طفلها الميت. سنجد في المقطع الأول عصافير قلقةً تتنقل من مكان إلى مكان، وتبدأ مشوارها بالحوار الصباحي وقراءة أشعار غارثيا لوركا (أعذب قيثارة في الشعر الإسباني المعاصر اغتالها الفاشيون). وننتقل إلى المقطع الثاني الذي يقرِّبنا من مجال اللوحة في جذبه وطرده؛ فقد بدأ السجناء القدامى «يحلُّون في الذاكرة، وراحت العصافير تبحث عن فرح واحد لم يرَ الحزن، عن مدن لم ترَ الشفرة القاطعة». وتظل العصافير على قلقها وبحثها عن «مقعد فارغ» وعن «ألكسندرة» التي كانت تسقيها الشاي؛ فتترجَّح من بعيد أن الاسم الأخير ربما ينوب عن المرأة التي مات طفلها. ونصل إلى المقطع الرابع فنجد الأرض تبحث منذ ثلاثين عامًا عن الفعل الذي «يخرج من دمها الضاحك»، كما تنتظر السيد «الذي يرث الجسد المترمِّل»؛ فقد كان أحد السجناء الذين ذكرهم المقطع الثاني يطرق أول باب يصادفه فتفتح الباب ألكسندرة. والقصيدة كما نرى أشبه بمحارة مُغلقة على أسرارها، ولا بد من أنها تحمل من تجربة الشاعر في إسبانيا مضامين ورموزًا لم يساعدنا على الاقتراب منها. ومع ذلك فنحن نُحس أنها تدور في عالم خرب ضاع منه الفرح، وهجره الأهل وسيطر عليه الحزن، وخيَّب أمل العصافير في الحب والمأوى، ولعل ضياعها في «خيخون» التي يرد ذكرها في المقطع الثالث ينطوي على الدلالة الأساسية التي أوحت بها اللوحة للشاعر: لم تعد ثمة مدن لم ترَ الشفرة القاطعة، ولا ثمة مدن يمكن أن تطمئن إليها العصافير …
ومهما يكن الأمر فلا يبقى أمامنا إلا أن نتأمَّل تكوين القصيدة نفسها ونتابع جدل الصراع المحتدم بين عناصرها التي يُحتَمل أن تكون شبيهةً بعناصر الصورة. والمحور الأساسي الذي يدور حوله الصراع ويتخذ وجهته ويحدِّد هدفه هو الفقراء الجالسون في ساحة الطيران، يمدُّون أذرعهم للمقاول المستغل الذي سيشتري كدَّهم وعرقهم. وتبدأ القصيدة بالحمامات التي تطير في ساحة الطيران، معبِّرةً عن أحلام المناضلين ببناء مدينتهم الفاضلة:
«تطير الحمامات في ساحة الطيران، البنادق تتبعها، وتطير الحمامات، تسقط دافئةً فوق أذرع من جلسوا في الرصيف يبيعون أذرعهم.»
لقد طار المناضلون في المدينة كما تطير الحمامات التي أرادوا أن يُقيموا لها جدارًا ليس تبلغ منه البنادق، أو شجرًا للهديل القديم، وارتفعوا معًا في سماء الحمائم، وصاغوا من الحجر المتألِّق وجه الجدار، وقالوا لسعف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوان الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا أوان الرحيل إلى المدن المقبلة. ولكن الحمامات رفضت أن تلوذ بالجدار؛ فقد رأت في سمائها ما لم يرَوه، وعرفت أن بلادهم هي بلاد البنادق، وأن المقاول الذي يشتريهم يجيء ومعه الجنود وأصحاب الحقائب الثقيلة: «المقاول يأتي، ويأتي إلى الجنود، وتهوي على الوطن المقصلة.» وتطير الحمامات مذبوحة، ويسقط دمها الأسود فوق الجدار الذي بنَوه، وأرادوا أن يكون بيتًا وملاذًا للحمام. ويقضي المُتعبون زمانًا يلمُّون فيه دماء الحمائم، ويرسمون في السر أجنحةً يطلقونها في القرى، ويرمِّمون الجدار قطعةً قطعة وحجرًا حجرًا، ويبنون «على هاجس الروح» مملكةً فاضلة لا يكادون ينتهون من بنائها حتى يهدمها المقاول والجنود الذين يساندونه فيبدءون من جديد … يغادر منهم من يغادر، ويُقتل من يُقتل، ويسقط من يسقط تحت الجدار، ولكنهم يبقَون على حبهم للوطن، وولائهم لزمان الجذور، وإصرارهم على بناء المدينة كلما خرَّبها المخربون.
تلك نماذج من القصيدة التصويرية في شعرنا القديم والحديث، ومن قصيدة الصورة في شعرنا الجديد. ربما غابت عني نماذج أخرى لم تصل إلى علمي، ولكنني لم أقصد إلى الإحصاء والاستقصاء بقدر ما قصدت إلى تتبُّع الفكرة نفسها جهد الطاقة. ولعلنا نخلُص من هذا الغرض السريع إلى نتيجة مشجِّعة على السير في الطريق، بحيث يكون لنا نوع أو نمط أدبي مستقل يُقبل عليه المبدعون والمتلقُّون على السواء، ويحقِّق المتعة الجمالية التي يوفِّرها التفاعل بين الفنون، ويعمل على نضوج قصيدة الصورة التي لم تحظَ حتى الآن بما تستحقه من عناية في أدبنا وفننا الحديث …
وأخيرًا فإن الصور والرسوم والتماثيل التي تطالعك في هذا الكتاب تتيح لكل عين وعقل أن يقرأها كما يشاء. ولقد تأمَّل شعراء غربيون من مختلِف العصور والجنسيات واللغات والآداب هذه الصور وغيرها. والشعراء أقدر على الرؤية مني ومنك (إلا إن كنت واحدًا منهم)؛ ولهذا تعدَّدت محاولاتهم للغوص في أغوار العمل الفني وفك طلاسم «شفرته». وتفاوتت بطبيعة الحال قدراتهم على ذلك بدءًا من الوصف المباشر، أو السخرية الفجة، إلى التأمل الهادئ ورؤية «الحقيقة» التي تجلَّت لهم من خلال الصورة أو التمثال. لا شك في أن قراءة كلٍّ منهم لا تخرج في النهاية — كما سبق أن قلت — عن أن تكون تفسيرًا واحدًا لا يحجر على تفسيرات أخرى ممكنة، ولا يُقيِّد حريتك في التأمل والتذوُّق والمقارنة. فتعالَ معي نقف أمام هذه اللوحات ونجرِّب حظَّنا في المتعة الحرة الصافية قبل كل شيء، ثم في التفكير والتأمل والحكم. ولنتذكَّر معًا أننا أحوج ما نكون إلى عالم الجمال بعد أن تراكم علينا القبح من الداخل والخارج. تشوَّهت نفوسنا في السنوات الأخيرة والتشوه قبح، فاض السيل من الألسن البذيئة والقلوب المريضة والصدور الجشعة المسعورة حتى أصبحنا نتصادم — لا في حندس كما قال أبو العلاء — بل في غابة القبح الكريه. ومن الغفلة بطبيعة الحال أن نتصوَّر خلاصنا الفردي أو الاجتماعي عن طريق تأمل صور في متحف أو معرض أو كتاب. إن ذلك لن يكون إلا وهمًا يتعزَّى به الطيبون والمتوحِّدون ويلوذون به من حصار القبح. ولا بد من أن يشارك كل من لا يزال يتذكَّر الجمال في إعلان الحرب على القبح بكل أشكاله (بدءًا من قبح النفس؛ لأن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم)، ولا مفر من أن يصبح الجمال وتربية الإحساس بالجمال في مقدمة همومنا القومية التي تكافح في سبيلها إرادة عربية. آن الأوان لكي تتحد وتنتبه وتصرَّ على الجمال وتحقِّقه في السلوك والحياة وفي البيت والشارع ومكان العمل إصرارها على الحرية والعلم والتقدم والتحضر؛ بذلك نؤكِّد وحدة القيم التي قلبنا سلمها قبل أن نغتالها وندوس على جثثها، ثم ننساها ونألف الحياة مع أضدادها ونقائضها من الشر والكذب والتزوير والادعاء والتظاهر وغيرها من أشكال القبح التي أصبح أربابها المُزَيَّفون يمارسونها وينفثون سمومها ويتباكَون عليها تباكي القاتل على قتلاه …
لكن فتح العين يمكن أن ينبِّهنا إلى البشاعة التي استقرَّت عناكبها في الباطن وأطبقت على الظاهر — فتح العين هو الدرس الخالد الذي نتعلمه من أصحاب الرؤية في الفن والفكر والحياة — إذ يمكننا أن نتذكَّر أو ننسى، أن نذهب أو نبقى، أن نتكلَّم أو نصمت. أمَّا الرؤية فهي الكلمة التي لا بديل لها ولا عنها؛ لأنها كالتنفس، لأنها كالحرية. بشرط أن نتعلم كيف نفتح أعيننا ونرى، وبشرط ألَّا نقتصر على أن نفتح عين الجسد، بل عين البصيرة والضمير التي طال نومها الثقيل.
وفي النهاية تقتضيني الأمانة وأداء واجب العرفان والامتنان أن أذكر أهمَّ المصادر التي استقيتُ منها نصوص القصائد، وهما كتابا الأستاذ جِسبِرت كرانس — أحد المختصين القلائل في قصيدة الصورة في الأدب الغربي عامة، والألماني بوجه خاص — والكتاب الأول «قصائد على صور»، مختارات ومعرض صور، ميونيخ، دار الجيب الألمانية، ١٩٧٥م (انظر الهوامش في المقدمة وثبت المصادر). قد كان نعم العون وبداية الطريق، وقد ساعدني مساعدةً لا تُقَدَّر في التعرف على هذا النوع الأدبي. والكتاب الثاني «صور ألمانية في القصيدة الألمانية»، قد أكمل بعض جوانب النقص في الكتاب الأول. أمَّا كتابه الثالث الذي قدَّم فيه محاولاته الطيبة في تفسير قصيدة الصورة وقراءتها وهو «سبع وعشرون قصيدة مفسَّرة»؛ فقد تعلَّمت منه ما لم يكن الشعراء والمصوِّرون أنفسهم ليستطيعوا تعليمه، وعشت مع تجاربه وتحليلاته الدقيقة الرقيقة التي جمعت علم الناقد إلى بصر الفنان وبصيرة الشاعر. وقد حرصت على التعريف بالمصوِّرين والنحاتين والشعراء ما وسعني الجهد، مع العناية بطبيعة الحال بتقديم نبذة طيبة عن الأعلام المؤثِّرين على تطور الفن والشعر، وإن كنت قد عجزت في بعض الأحوال عن التعريف الكافي بعدد من شعراء الشباب الذين لم تستوعبهم بعدُ معاجم الأدباء! ويمكن أن يرجع القارئ إلى الجزء الثاني من كتابي المتواضع «ثورة الشعر الحديث» (القاهرة، هيئة الكتاب ١٩٧٢م)، ليجد فيه المزيد من المعلومات والنصوص لعدد من كبار الشعر المذكورين في هذا الكتاب، وإلى الجزء الأول ليتعرَّف على بناء الشعر العربي الحديث والمعاصر الذي انعكس على العديد من قصائد الكتاب. أمَّا عن القصائد التي جاءت موزونةً على طريقة الشعر الجديد، أو شعر التفعيلة، فأعترف بأنها فرضت نفسها علَي، وتوخَّيت الأمانة والدقة في نقلها إلى العربية، مع وضع كل زيادة من عندي اقتضتها الصياغة أو القافية بين قوسَين، وهي محاولات وتجارب لا تجعل مني شاعرًا بطبيعة الحال بعد أن تخلَّيت إلى الأبد عن هذا الطموح.
وأخيرًا أتقدَّم بعاطر شكري إلى زميلة الدراسة السيدة إيفا بُومَر-بيلز التي أمدَّتني بكتب الأستاذ كرانس وبغيرها من المصادر الهامة، كما يطيب لي أن أشكر أخي الكريم الأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي غمرني بعلمه وفضله. أمَّا راعي هذه السلسلة المرموقة الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، فله مني خالص الامتنان والتقدير على كريم تشجيعه وإتاحته الفرصة لهذا الكتاب لكي يرى النور.
ولله الحمد أولًا وأخيرًا، ومنه الهداية والتوفيق.
Gisbert Vranz (Hrsg), Gediclte auf Bildet. Authologie und Galerie. München, DTV., s. 9–13.
Kranz, Gisbert, Deutucle Dildwepke im deutschen Gediclt. München, M. Hueber Verlag, 197 s. 90.