تمهيد
(١) لماذا «ابن عربي» الآن؟
ماذا يمكن أن يقول لنا ابن عربي في القرن الواحد والعشرين من وراء ستار القرنين السادس والسابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين) في العالم الإسلامي عمومًا وفي الأندلس على وجه الخصوص؟ لنلق أولًا نظرة على حالنا في بدايات القرن الحادي والعشرين، قبل أن نبدأ رحلتنا مع الشيخ الأكبر في القرن الثاني عشر.
مضى القرن العشرون بكل ما له وما عليه، لكنه خلف وراءه مجموعة من الظواهر الممتدة، لعل أهم ما يجمع بينها، ويلفت النظر فيها، هو ذلك «القلق» العظيم الذي يشغل المفكرين والفلاسفة وأهل الرأي حول مستقبل البشرية في هذا القرن الحادي والعشرين. لقد حققت «الحداثة» إنجازاتها في شكل تقدم تكنولوجي مذهل، وصل إلى تحويل العالم الفسيح الممتد إلى فضاء مترابط الأجزاء، وذلك بفضل ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. ولكن بفضل هذا التقدم نفسه وما حققه من وحدة العالم أمكن للتناقضات أن تنكشف وتظهر، بين الأغنياء والفقراء من جهة، وبين المستغِلين والمستغَلين من جهة أخرى. برز «الظلم» — والذي كان محصورًا من قبل داخل حدود الأقطار القومية — بوصفه ظاهرة عالمية لا بين أقطار «الشَّمال» وأقطار «الجنوب» فقط، بل بين الشرق والغرب في الشَّمال نفسه كما بين «أغنياء» الجنوب وفقرائه.
لا يمكن نسيان أن القرن العشرين الذي شهد ذلك التقدم العلمي والفكري المذهل الذي تجاوز ما حققته البشرية من تقدم في تاريخنا كله، حقق ما حققه بفضل «الحداثة» التي تمتد جذورها إلى عصر الأنوار في القرن الثامن عشر. كان سعي فلاسفة التنوير يتركز على تحرير الإنسان «الفرد» من سيطرة سلطة الكنيسة ليسعى بإرادته الحرة إلى اكتشاف قوانين الطبيعة بتجريبية العلم، ولاكتشاف قوانين الوجود الإنساني بعلوم التاريخ والجغرافيا والاجتماع والأنثروبولوجي. لكن التحرر من سلطة الكنيسة وقوانينها ذات الطابع الفكري الإطلاقي أدى إلى الطرف النقيض بجعل «النسبية» مفهومًا مطلقًا بدوره. وأدى التركيز على «الفردية» بوصفها قيمةً مطلقة إلى إسناد قيمة مطلقة أخرى لقوانين «العقل». ولا شك أنه لم يدر بخَلد فلاسفة التنوير أن إنجازاتهم الفكرية ستكون حاملًا أيديولوجيًّا للسياسة الإمبريالية وللرأسمالية الوليدة، ومن خلالها سعت لامتلاك العالم لضمان «المواد الخام» و«الأيدي العاملة» الرخيصة من جهة، والأسواق المستهلِكة من جهة أخرى.
كانت حركة المد الإمبريالية — الحامل الأيديولوجي لفلسفة «التنوير» — تنظر لشعوب الجنوب بوصفها شعوبًا تحتاج للتنوير؛ ذلك أن المفهوم المطلق للعقل عند التنويريين يفترض النقيض «اللاعقل» بوصفه يمثل تهديدًا مباشرًا لسلطة العقل. وقام التوظيف السياسي الاستعماري الإمبريالي لهذه الثنائية بتصنيف البشر إلى «متحضرين» — هم أبناء حضارة الغرب — و«همج» هم سواهم من البشر، أبناء الشعوب والثقافات غير الغربية. وأصبح من واجب «المتحضرين» أن يسعوا لتنوير الهمج.
كانت الكنيسة التي فقدت سلطتها تدريجيًّا بفعل فلاسفة التنوير في المجتمعات الغربية، تحاول أن تستعيد قوتها من خلال استثمار العوامل والمتغيرات الجديدة في ظل حركة المد الاستعماري؛ تمثل ذلك في حملات التبشير التي صاحبت الحملات العسكرية أحيانًا، ومهدت لها أحيانًا أخرى. تحددت رسالة التبشير المسيحي في تخليص الهمج من وثنيتهم بإدخالهم، ولو قسرًا، في ملكوت السيد المسيح، وبإدماجهم تحت سلطة الاستعمار والكنيسة. ولا داعي للإطالة في ذكر الجروح العميقة التي تركتها فترة المد الإمبريالي في ذاكرة شعوب العالم الثالث بصفة عامة، وشعوب العالم الإسلامي بصفة خاصة.
لكن الجروح والندوب الناتجة عن تحويل «التنوير» إلى أيديولوجيا لم تُصب شعوب العالم الثالث فقط، بل طالت شعوب أوروبا نفسها في شكل حربين عالميتين جسدتا مأزقًا حضاريًّا في بنية «الحداثة» وفلسفتها، وكانت النتيجة تقسيم عالم الشَّمال إلى معسكرين أيديولوجيين متنازعين، عاش العالم في ظل الصراع بينهما حربًا باردة كبرى، تظلل حروبًا صغيرة هنا وهناك، دفعت شعوب العالم الثالث مرة أخرى تكاليفها الباهظة.
أدرك أهل الجنوب — خاصة بلاد المستعمرات السابقة في أفريقيا وآسيا على وجه الخصوص — أن أهل الشَّمال صنعوا تقدمهم التقني على حساب استنزاف ثرواتهم واستغلال عرقهم من جهة، والإصرار على التعامل مع بلادهم بوصفها مجرد «أسواق» لمنتجات الشَّمال؛ أسواقٍ يقتصر دورها على أن تمده بالمواد الخام وبالأيدي العاملة الرخيصة، من جهة أخرى. وكان من الطبيعي أن يتحرك أهل الجنوب مطالبين بنصيبهم «العادل» من ثمار «الحداثة»، التي ساهموا في صنعها دون أن ينالوا من ثمارها أي نصيب. وكان من الطبيعي كذلك أن تتوجه ثورتهم أولًا ضد حكامهم المحليين، الذين اعتبروهم وكلاء لقوى الاستعمار الشَّمالي مخلصين لقيمه ولو تعارضت مع قيم وأخلاقيات الثقافات المحلية.
في بلاد العالم الإسلامي اتخذت تلك الثورات شعاراتها من الرأسمال الرمزي للإسلام بوصفه «عقيدة وشريعة ومنهج حياة». بلغت هذه الثورات أوجها بالنصر الذي حققته الثورة في «إيران» بزعامة الإمام «الخميني» ضد نظام «الشاه»، الذي يُعتبر من أعتى الأنظمة الدكتاتورية في الجنوب. في الوقت نفسه تقريبًا بدأت القوى الإسلامية في «تركيا» — الدولة المسلمة الوحيدة التي اختارت «العلمانية» الغربية صيغة سياسية وثقافية لأيديولوجيا الدولة منذ سنة ١٩٢٥م تقريبًا — تكتسب أرضًا جماهيرية واسعة مكنتها من الوصول إلى «الحكم». كانت التطورات في «ماليزيا» و«إندونيسيا» و«السودان» و«الجزائر» و«مصر» تتخذ المسار نفسه — مسار التوجه الإسلامي كصيغة محلية لتحقيق «العدل» سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا — مع اختلاف في الأسباب والتفاصيل رغم الاتفاق في المنحى العام.
يمكن القول بصفة عامة إن «الثقافات المحلية» في الجنوب — بل وفي بعض أجزاء دول الشَّمال الشرقي — رغبت في مقاومة «سيطرة» ثقافة الشَّمال، التي صارت رمزًا للظلم والعدوان بكل معانيهما. وقد أجج من ثورة المقاومة ضد الشَّمال، وضد قيمه ومفاهيمه، تسارُع خطوات «العولمة» الاقتصادية حتى أصبح خطرها ملموسًا متعيِّنًا في الحياة اليومية لمواطني دول «الجنوب»، في سياق اعتبار «السوق» إلهًا جديدًا له قوانين لا يجوز مخالفتها، بل هي القوانين الوحيدة التي على الجميع — شمالًا وجنوبًا — الانصياع لها دون مساءلة أو احتجاج. وإذا كانت قوانين الإله الجديد ليست اقتصادية فقط، بل هي سياسية واجتماعية وثقافية، فما الذي تفعله الفئات التي يتهدد وجودها الخطر من قوانين ذلك الإله؟
هكذا تطرح «العولمة» نفسها سياسيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا بوصفها «الدين» الأخير؛ الدين الذي يمثل فيه «السوق» وشريعتُه الإلهَ الجديد المسلح بأداة «القوة» التي لا تُقهر أبدًا، ويستحيل على البشر مقاومتها أو التفكير — مجرد التفكير — في التصدي لجبروتها. إنها قوة قادرة على كل شيء، فسلاحها المال والعلم والقوة العسكرية، إنها القوة التي تنتهك بسهولة فائقة كل الخصوصيات. أدوات هذا الدين للسيطرة هي: «حرية التجارة وتدفق المعلومات»، ومواعظه هي: «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» على المقاس الغربي الأمريكي بصفة خاصة.
أليس من الطبيعي، وقد صارت «العولمة» دينًا، أن يسعى البشر لمقاومة هذا «الدين» الجديد، والتصدي للاهوته المضمر، باستدعاء «الدين» في كل الثقافات بلا استثناء، حتى داخل المجتمعات التي صنعت «الحداثة»؟ أليست الأديان التي جربتها البشرية خيرًا ألف مرة من هذا الدين الجديد؛ دين العولمة؟ إن «آلهة» الأديان التي عرَفتها البشرية على امتداد تاريخها الطويل ليست في قسوة وفظاظة إله «العولمة» — السوق — لأن إله الأديان يتمتع بصفات تجمع بين صفات القوة والقسوة و«الجلال» من جهة، وبين صفات «الجمال» والرحمة من جهة أخرى. على العكس من ذلك ليس في صفات إله العولمة جمال أو رحمة، إنه إله قُدَّ من قوانين صارمة صنعها الأقوياء، إنه تجسيد سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي لأسطورة مصاص الدماء «دراكولا».
إن إله العولمة قادر على إعادة إنتاج نفسه في أشكال وصيغ وملامح لا تخلو من جاذبية. إنه «شيطان» لا تؤثر فيه التراتيل ولا عبارات الاستعاذة ولا تلاوة الآيات. وهكذا تصبح دعوات «العودة إلى الدين» في كل الثقافات — مسيحيةً ويهودية وإسلامية وبوذية وكونفوشيوسية … إلخ — أشبه بمحاولات استخدام «الصليب» أو تلاوة «التعاويذ» لمقاومة شر الشيطان الجديد؛ إله العولمة. إنها أسلحة قديمة تَحصَّن الإله الجديد ضدها مستوعبًا إياها في بنية لاهوته. ليس معنى ذلك أنه لا سبيل لمناجزة الشيطان بأسلحة دينية، بل إن سبيل المنازلة الممكن لا يكفي فيه استخدام الأسلحة الدينية التقليدية، بل لا بد من شحذ أسلحة دينية جديدة لم يتحصن ضدها إله «العولمة» بعد. وهكذا يعود الدين، باعتباره أداة أساسية في الصراع، محملًا بمفاهيم التعصب والانغلاق، بدل التسامح والانفتاح، ورغم ما بدا من تراجعه في المرحلة السابقة يعود إلى الواجهة، وتُستعاد لغة دينية في حروب لا هدف لها سوى السيطرة، ويتراجع إلى الخلف حتى شعار شرق-غرب ليقف في الواجهة شعار الخير والشر، الحضارة الغربية المسيحية والإسلام.
(٢) العودة للدين، أي دين؟
في تعريف الدين يتم التركيز غالبًا على مفهوم «النظام» و«النسق»؛ أي على البعد الجمعي للدين، فيهتم الفلاسفة ورجال اللاهوت بمسائل «العقائد» و«الوجود» بوصفها أنساقًا معرفية أو بوصفها قضايا إيمانية، ويكون تركيز «الفقهاء» بصفة خاصة على «الدين» بوصفه نسقًا من الأوامر والنواهي، وعلى أساس طاعة «الأوامر» واجتناب «النواهي» يتحقق خلاص الإنسان فردًا كان أو جماعة. أما علماء الاجتماع والأنثروبولوجي فيهتمون بالدين بوصفه ظاهرة اجتماعية إنسانية. أما الدين بوصفه تجرِبة «روحية» ذاتية فهو التصور الذي يمثل «بؤرة» اهتمام كل الروحانيين في كل الأديان والثقافات.
تمثل التجرِبة الصوفية في التراث الإسلامي، في جانب منها على الأقل، ثورة ضد المؤسسة الدينية التي حولت الدين إلى مؤسسة سياسية اجتماعية مهمتها الأساسية الحفاظ على الأوضاع السائدة ومساندتها من خلال آليات إنتاجٍ معرفيةٍ ثابتة يقف على رأسها «الإجماع» ويليه «القياس». وإذا كانت مصادر المعرفة — وهي القرآن الكريم والسنة النبوية — مصادر لا خلاف عليها بين المتصوفة والفقهاء والمتكلمين المسلمين، فإن الخلاف بين الاتجاهات الثلاثة يتمثل في ترتيب آليات استنباط المعرفة وإنتاجها من هذه المصادر. ففي حين يركز المتكلمون على أهمية «العقل»، على خلاف بينهم في ترتيب العلاقة بينه وبين «النقل»، يضع الفقهاء «العقل» في درجةٍ أدنى من درجة الإجماع. ولا مجال عند المتكلمين والفقهاء للتجرِبة الروحية، وهي محور الخلاف بين المتصوفة وغيرهم؛ إذ يعتبر المتصوفة أن «التجرِبة» الروحية الشخصية الذاتية هي أساس المعرفة الدينية. وفي حين ينشغل المتكلمون والفقهاء بقضايا سياسية واجتماعية وينخرطون في إطار إنتاج معرفة مؤسسية، يلوذ المتصوفة بتجارِبهم الروحية التي تحاول استعادة تجرِبة «النبوة» ذاتها في إطار «تأويلي» للشريعة النبوية.
وبعبارة أخرى يسعى الصوفي من خلال التجرِبة إلى محاولة التواصل مع «مصدر المعرفة» بدلًا من الانشغال بنصوص الشريعة التي مزقت الاختلافات المذهبية دلالتها. وفي رأي الصوفي أن «نصوص» الشريعة تعبيرات لغوية تتسم بالغموض والإجمال في حالات كثيرة، ويرى أن جلاء غموضها وإزالة إبهامها وتفصيل مجملها إنما يمكن الوصول إليه عبر السعي إلى معانقة مصدرها من خلال تجرِبة تترسم خطى التجرِبة النبوية التي هي أصل «الوحي» المعبر عنه في «النصوص».
ومن الضروري لفهم ذلك الانشغال الصوفي بمعانقة المصدر، بدلًا من الانشغال بتأويل «التعبير»، أن نتأمل ما آلت إليه عمليات التأويل من اختلافات وصراعات من شأنها أن تشوش على المؤمن البسيط صفاء المعنى الديني الذي لا غنى عنه له. كان الفكر الديني قد تمحور قبل عصر ابن عربي حول مجالات «الفقه» و«علم الكلام» و«الفلسفة»، حيث كان مجال عمل الفقهاء استنباط أحكام «الحلال» و«الحرام» و«الواجبات» الدينية الفردية والاجتماعية. أما «المتكلمون» فقد كان هاجسهم الأساسي محاولة تقديم شرح عقلاني للعقيدة في مجالاتها الأساسية: مثل مفاهيم «الألوهة» و«التوحيد» و«النبوة» و«الوحي» … إلخ. وعلينا أن ندرك أن محاولات المتكلمين لشرح العقيدة شرحًا عقلانيًّا كانت في جانب منها استجابةً للتحديات اللاهوتية المسيحية، خاصة في مجال مفهوم «الكلمة» و«الجبر والاختيار» و«الأقانيم والصفات» … إلخ. وسنجد أن ابن عربي ينخرط انخراطًا عميقًا في مناقشة هذه القضايا من منظور معرفي مغاير.
(٣) موقع الشيخ الأكبر بين سابقيه ولاحقيه
أما تأثير ابن عربي في الفكر الإسلامي فهو أكثر بروزًا ووضوحًا. لقد بدأ هذا التأثير يتشكل خلال الزيارة الأولى التي قام بها ابن عربي لمدينة «قونية» عام ٦٠٧ﻫ/١٢١٠م ومن خلال تلميذه «صدر الدين القونوي» (ت. ٦٧٣ﻫ/١٢٧٤م)، الذي أصبح واحدًا من أهم شراحه وحاملي فكره، انتشرت تعاليم ابن عربي في شرق العالم الإسلامي. كان «صدر الدين القونوي» صديقًا حميمًا ﻟ «جلال الدين الرومي» (ت. ٦٧٢ﻫ/١٢٧٣م) مؤلف «المَثْنَوي»، النص العظيم الذي يلخص الحكمة الصوفية، كما كان أستاذًا ﻟ «قطب الدين الشيرازي» (ت. ٧١٠ﻫ/١٣١١م) شارح فلسفة «السُّهْرَوَرْدي» العظيم (شهاب الدين أبو حفص عمر المتوفى عام ٦٣٢ﻫ/١٢٣٤م). ومن خلال هذا التأثير ألهمت تعاليم ابن عربي — في قرنٍ لاحق — كاتبًا صوفيًّا عظيمًا آخر هو «عبد الكريم الجيلي» (ت. ٨٣٢ﻫ/١٤٢٨م) مؤلف «الإنسان الكامل». ولم يقتصر تأثير فكر ابن عربي على الجانب النظري في التصوف، بل امتد بعمقه في صياغة الحياة الصوفية كلها، فبتأثير «جلال الدين الرومي» في الشرق و«أبي الحسن الشاذلي» (ت. ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م) في الغرب تشكلت — بتأثير تعاليم ابن عربي — طريقتان من أكبر الطرق الصوفية، هما الطريقة المولوية والطريقة الشاذلية.
إن استدعاء ابن عربي — مع غيره من أعلام الروحانية في كل الثقافات — يمثل مطلبًا، لعلنا نجد في تجرِبته، وفي تجارِبهم، ما يمكن أن يمثل مصدرًا للإلهام في عالمنا الذي سبق أن ألمحنا لبعض مشكلات الحياة فيه. إن التجرِبة الروحية هي مصدر التجرِبة الفنية — الموسيقى والأدب وكل الفنون السمعية والبصرية والحركية — فهي الإطار الجامع للدين والفن. هذه أهمية استحضار ابن عربي في السياق العام. لكن استحضار ابن عربي في السياق الإسلامي — واستعادته من أفق التهميش إلى فضاء المتن مرة أخرى — لا يقل أهمية، وذلك بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن العشرين.
ورغم أن هذا النمط من الخطاب الذي هيمن لبعض الوقت، أنتجته ظروف وملابسات اجتماعية وسياسية وثقافية معقدة، فإن الآلة الإعلامية الغربية قد نجحت إلى حدٍّ كبير في خلق صورة عن الإسلام والمسلمين تعتمد على مفردات وتعبيرات وسلوكيات طارئة من شأنها أن تجعل من الإسلام عدوًّا للحضارة والتقدم والحرية، كما تجعل من المسلمين جماعة من الإرهابيين والقتلة. في هذه الصورة المشوهة لا نجد وعيًا بتعدد آفاق الفكر الإسلامي، ولا إدراكًا لتنوع مصادره المعرفية. ومن المؤسف أن هذا التشويه القائم على التبسيط المخل غير التاريخي قد وجد صدًى لدى قطاعات واسعة في المجتمعات الإسلامية؛ إذ يظل الإعلام الغربي مصدرًا من مصادر تشويه الوعي لا في المجتمعات الغربية وحدها، بل في المجتمعات الإسلامية التي تعتمد قيم الاستهلاك فتبتلع الصورة التي أُنتجَت في قنوات الإعلام دون أي فحص نقدي.
من هذه الصورة المنتَجة في الغرب والمصدَّرة إلى العالم الإسلامي لا يختفي ابن عربي وحده، بل يختفي معه الفلاسفة والمتكلمون والأدباء، ولا تبقى إلا صورة الرجل الإرهابي حامل البندقية والسكين، جنبًا إلى جنبِ صورة المرأة المنقَّبة. ولقد بلغ من سطوة هذه الصورة الإعلامية أن أثرت في الخطاب السياسي الغربي الذي تبنى مفهوم «الصراع بين الحضارات» باعتباره مصيرًا لا فِكاك منه. لكن العقلاء من الجانبين، العالم الغربي والعالم الإسلامي، تصدَّوا لهذه المحاولات بمحاولة ترسيخ قيم «الحوار» «والتفاهم» و«الاحترام المتبادل» محل الصراع والحروب. وفي مجال المساهمة في تأكيد قيم الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل يمثل فكر ابن عربي رصيدًا ثريًّا يستأهل منا تأمله والغَرْف منه لتحرير العقل المسلم المعاصر من آثار المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي سببت حالة التوتر والاحتقان في الفكر الإسلامي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقدم فكرُ ابن عربي للقارئ غير المسلم صورةً أخرى لروحانية الإسلام، ولمفهوم «الجهاد» الذي أصابه من التشوه الكثير.