مُقدِّمَة المؤلف
مُهْداةٌ إلى مَنْ لا يُحِبُّون المقدمات
ويتطلب تاريخ البحر أسلوبًا غيرَ ما يقتضيه تاريخ النهر، ويمكن وصف سيرة النيل كما تُوصف حياة بطلٍ من ولادته إلى مماته، ويغدو البحر الذي يودُّ الجميع أن يسيطر عليه ميدانَ صراعٍ روائيٍّ بين الأمم التي تعيش على شواطئه، ويُعارَض النهر الفَحْلُ الذي يشق طريقه من خلال الصخور والصحارى بالبحر الأنثى، وكلٌّ يبغي حيازتَه، شأن هيلانة فيما مضى، وهو كهيلانة ينتقل من سيد إلى سيد.
وغدا سبيلُ الحضارة، وغدا البحرُ المتوسطُ، مركزَ التاريخ الروحِيِّ الذي ظهر من العالم الهمجيِّ في العالم الغربيِّ، وهنالك نشأت جميعُ أدياننا وفلسفاتنا وعلومنا وفنوننا وتَحَوَّلت وكافحت ونَضِجت، ومن هنالك اقتبست نفوسُ أوروبة وأذهانُها طُرُزَ حكوماتها وأفكارها وفنونها، ومن البحر المتوسط أيضًا أتت عقائدُ أمريكة ودساتيرُها ومعابدها، ولَم يتَّجِه خيال الشعوب نحو البِحَار المحيطة الأخرى إلَّا بعد الاكتشافات الكبرى. ولذا سيكون لقصتنا لونٌ آخر منذ سنة ١٥٠٠؛ أي من الجزء الرابع، فيُعْنَى بالتجارة والبيع والشراء أكثر مما بالحركة الذهنية؛ وذلك لأن ذلك التاريخ الذهنيَّ الطويل لا يزيد مع القرون بل ينقص في كل دور، وللتاريخ القديم في البحر المتوسط أن يكون أطول مما هو عليه ثلاث مرات؛ ولهذا التاريخ في الرسم الابتدائيِّ أن يُوَسَّع بأكثر مما تجده هنا.
وإذ إن تاريخ البحر المتوسط حتى القرون الوسطى هو تاريخ أوروبة من الناحية العلمية، فإن من الممكن أن أُطبق هنا من التاريخ الوصفيِّ ما كانت تفصيلاتُه غيرَ مألوفة منذ زمن طويل. ولَمَّا اخترت في سنة ١٩١٩ ذلك الأسلوبَ العصريَّ في التراجم كان الفكر الأساسيُّ الذي يساورني يقوم على حَتْمِيَّة العوامل البشرية، ومن ثَمَّ على ارتباط كلٍّ من الحياة الخاصة والحياة العامة في الأخرى وعلى إيضاح كل منهما للأخرى. وكان يلوح لي أن اكتشاف الإنسان خلف أعماله أمتعُ من أعماله نفسِها، وإذا كان تاريخ الملوك قد دُرِس أكثرَ من دراسة تاريخ العُمَّال فلِعَدم كفاية ما هو موجود من الوثائق عن العمال لا ريب.
ولا نرى ما يسوِّغ دراسة التاريخ إذا لم تَهْدِف إلى استخراج ما ينطوي عليه كلُّ حادث من رمزٍ، والرمْزُ وحدَه هو المهمُّ، وذلك لأنه مرآةٌ لِمَا بين مَنَازع الناس وقُوَى القَدَر من تنازع، وذلك لأنه يَفْرِض مقابلةً بين زماننا وانتصاراتنا وهزائمنا في حياتنا العامة كما في حياتنا الخاصة، ومن لم يكن في صميم الإنسانية التي نستدعي ظلَّها فإنه لا يطَّلع على غير الوقائع ولكن من دون أن يستنبط شيئًا خصيبًا إنماءً لنَفْسه.
ومتى شَعَر القارئُ بالأهواء التي أثارت «الأبطال» كما تُثيره، تَمَثَّلَ رجلَ التاريخ وفحصَ نفسه سِرًّا لِيَعْلَم كيف يَسِير لو كان في مكانه، غير أن تغيير المكان هذا يَغْدُو ممكنًا بفضل المؤلِّف الذي يَتَمثل ذلك الرجلَ مُقَدَّمًا. وإذا ما استطاع القارئ أن يستفيد من مقادير الرجال والأمم في سلوكه الخاص على ذلك الوجه، أمكنه أن يقابل بين قَدَره الخاصِّ وأقدار رجال التاريخ، وهنالك يصير التاريخُ مستشارَه.
وقد حاولتُ تطبيقَ هذا البيان، الذي يَجْعَل من العامل الإنسانيِّ قطبًا للتاريخ، على حياة الأمم مع مراعاة ثلاثة مبادئ، وهي: أن كلَّ حركة روحية ذاتُ معنى، فالأنبياء والمشترعون والمفكرون والمتفننون عواملُ جوهريةٌ في التاريخ، وأنه «لا أصل للسياسة بلا تاريخ، ولا ثمرة للتاريخ بلا سياسة.» فهذا هو من الأهمية ما لا يزال مؤثرًا في زماننا، وأن من الضروريِّ إنعامَ النظر في العظماء، فإذا كانت المآثر خاصةً بمُتْحَف التاريخ فإن أكابر الرجال، فإن العاملين والمفكرين، قِوَامُ أفئدة الناس وعقولهم.
وتبقى آثار الذهن والفنِّ بعد مبدعيها، ويمضي الملوك وأقطاب السياسة والبابوات والرؤساء والقُوَّاد، الذين أعاروا أدوارَ التاريخ من أسمائهم، وما عَمِلُوا أَوْ لم يعيشوا بعدها غيرَ زمن قليل، ولم تبقَ واحدةٌ من الإمبراطوريات الأجنبية التي تُتْعِب حولياتُها ذاكرةَ التلاميذ.
وصارت جميع المعاهدات والمحالفات قُصَاصةَ ورق، والروحُ التي صدرت عنها وحدَها، والرمزُ الذي تُمَثِّلُه وحدَه، هما اللذان بَقِيا، ويُعَدُّ النفوذ الإغريقيُّ والنفوذ النصرانيُّ اللذان مارسهما الإسكندر والصليبيون في آسية من الأهمية كنفوذ العرب في أوروبة، ومع ذلك تَبْدُو لنا صورةُ المعارك الماضية من المهازئ التي لا يستفيد منها حتى الضابط الذي يَدْرُسها، وتدور معاهدات السَّلْم المختومةُ رسميًّا حَوْلَ ولاياتٍ أو مرافئَ خُرِّبت منذ زمن طويل أو غَيَّرَت مالكيها.
وما الذي يستحقُّ الذكر إذَنْ؟ ليست معاركَ البحر المتوسط التي قام بها تِمِسْتُوكل وأَغْرِيبا ومحمد وسليمان ونِلْسُن وغَرِيبالْدي، ولا معاهداتِ السَّلْم التي عقدها تيودوز وغريغوار وفليب وكافور، وإنما الذي يُعَيِّنُ أهميةَ أحد الأدوار هو الذي يتركه هذا الدور كالحكمة والفنِّ ومرآةِ جيلٍ ساطع أو خُلُقِ رجلٍ عظيم، وللأَكْرُوبول وحدَه من الشأن في حياة البحر المتوسط ما هو أعظمُ من تاريخ مَرَّاكِش بأَسْرِه، وإذا وُجد تاريخٌ آخرُ غيرُ تاريخِ الذهن فإنه يتجلى في تصوير السِّمَات الإنسانية جوهَرًا وتصوير أخلاقِ أكابر الرجال.
وفي ذلك سِرُّ بلوتارك الذي هو من أعظم مُهذِّبي الإنسانية، ولا ينبغي أن يؤلَّف تاريخُ العالم وَفْقَ المباحث العلمية الحاسمة، بل في سبيل فَتْنِ ألوف القلوب التي تَهُزُّها تلك العوامل، وسيوضَعُ بعض العظماءِ الأفذاذ المعتزلين الذين وَجَّهُوا التاريخ تحت الرَّصَد كما في كُتبي السابقة، ولو لم يُقْتَلْ قيصرُ وهنري الرابعُ، ولو مات أَتِّيلا وشارْلكِنْ ولويسُ الرابعَ عشرَ قبل تاريخ وفاتهم، لاختلف لَوْنُ قرونٍ بأجمعها، أوَلَم نَرَ بأعيننا كلَّ ما يتوقف على حياة ثلاثة رجال أو أربعة رجال؟ أَجَلْ، إن الاقتصاد السياسيَّ يُقَدِّم بأرقامه مُعْطَياتٍ مهمةٍ، ولكنه لا يُسْفِرُ عن نتائجَ، وتُعْوِزُنا الإحصاءاتُ الصحيحة في بَدْءِ هذا الكتاب، ولم يَبْرُزْ اقتصاد البحر المتوسط وتجارتُه مُحْكَمَيْن إلَّا من القرن التاسعَ عشرَ، وذلك إلى أن الأقاليم والأنهار والمُنْتَجات عُرِضَت مُعَيِّنَةً لأخلاق مختلف الشعوب.
ويُسْفِرُ هذا السِّفْر عن خلاصةٍ للسياسة العالمية، وهذا هو الرسم الذي جَعَل منه فرديٌّ آمَنَ دَوْمًا، آمَنَ في الماضي كما في الحاضر، بأن الروحيَّ أفضلُ من الماديِّ، ولكن مع النظر إلى ما في تحقيق هواجس المبشرين من بطوء، ولا يستطيع المصلِحُ أو الفيلسوفُ أو الخياليُّ أن يَصْنَع زمنَه، وما بعضُ الرجال، كبرِكْلس ومارْك أُورِيل وصلاحُ الدين، إلَّا من الشواذِّ في بلاد البحر المتوسط، وأقطابُ السياسة المفكرون، كمحمد، هم الذين رَضُوا بالأمور كما كانت فكُتِبَ لهم الفوز، ومع أن أفلاطون ودانتي أكبرُ من ذلك لم يتفق لهما مثلُ ذلك قطُّ، وقد نُسِيَ الفاتحون الذين أهملوا الفكر كأَتِّيلَا. والواقعُ أن العظماءَ الذين ذُكِروا في هذا الكتاب جَلَبُوا أفكارًا إلى الأمم التي قهروها كما صنع الإسكندر، أو تَلَقَّوْا دروسًا من المغلوبين كما فعل بعض رؤساء الرومان والعرب، ومن بينهم مَنْ ظهر مشترعًا كجُوسْتِنْيَان ونابليُون، أو سائرًا بالحضارة قُدُمًا كبعض البطالمة والبزنطيين أو بعضِ البابوات أو بعضِ رؤساء جِنَوَة والبُنْدُقية. قال فولْتِير: «أُطْلِق كلمة «العظماء» على الذين امتازوا في ميدان النفع والإنشاء، وأما الذين خَرَّبوا ولاياتٍ وفتحوها فهم من الأبطال فقط.»
ويستدعي هذا التاريخُ مقابلةً بالأَزْمَة العالمية الحاضرة على الدوام، ولا نستطيع أن نَتَعلم شيئًا من الثَّوْرات القديمة لا ريب، وذلك لأنها خاصةٌ بحياة أخرى، ولكن مما يفيد أن نَعْرِف الوجه الذي أَلَّفَ به طُغاةُ الماضي شِيعتَهم.
سنتا باربارا
كليفورنية
يناير سنة ١٩٤٢